مقدمة

قد بحثت في كتابي هذا عن تاريخ المرأة في بعض الأمم، وعن مواهبها الفطرية، وما ينجع في تعليمها — خصوصًا ما يتعلق بالفتاة المصرية — ثم أظهرت ما يعوز مصر من ذلك التعليم، وطرقت بعض مواضيع أخرى لها مساس بعلاقة المرأة بالرجل، مستشهدة في ذلك كلِّه على احتياج المرأة إلى العمل لكسب قوتها، فإننا لا نضمن لكل امرأة وجود من يعولها من الرجال، كما يقول بعض الناس: إنَّ المرأة المسلمة يعولها والدها، فزوجها، فولدها.

فليت شعري، هل أخذنا على الموت عهدًا بذلك، فأغلظ لنا الميثاق أنه لا يختطف روح مسلم إلَّا إذا تزوجت ابنته؟ ثم أمنَّا الدهر بعد ذلك، فعلمنا أنه لا يغدر بفتاة، فتطلق بعد الزواج وتصبح لا عائل لها؟ أو يموت الزوج وأولادها أطفال صغار يحتاجون إلى من يعولهم؟ ومن ينظر إلى الأمور بعين الحقيقة والرؤية، يعلم أنَّ الدنيا على خلاف ما زعم هؤلاء القائلون سواء في ذلك المسلم أو غيره؛ لهذا كان في انحطاط النساء انحطاط للأمم، ولما كنت — كغيري من أبناء الأمة المصرية — يهمني ما يعود عليها بالخير، فقد بحثت في جميع المواضيع التي تتعلَّق بنا نحن المصريات، إلَّا أني لم أتصدَّ إلى البحث فيما يسمونه الآن ﺑ «السفور والحجاب»؛ لأني أعتقد أنَّ هذه التسمية اصطلاحية، فكلاهما اسم نكاد نجهل مُسمَّاه.

فلست أستطيع أنْ أسمي الفلاحة سافرة؛ لأنها لا تلبس ذلك النقاب الشفاف المعروف عندنا نحن المدنيَّات، مع أنها تسير في طريقها محتشمة، لا يكاد يرى الإنسان منها إلَّا جزءًا بسيطًا من وجهها، فيراها الرجال دون أنْ يعيرها أحد منهم نظرة، أو التفاتة، أو يتبعها خطوة؛ ليتمتع بجمالها الطبيعي، كما أني لا أسمي بعض المدنيَّات مُحتجبات مع أنهن يكثرن الخروج متبرِّجات، وعليهن من الزينة والحلي ما يلفت أنظار المارة، وعلى وجوهن نقاب لا يستر إلَّا الحياء، وليتهن مع ذلك لم يظهرن صدورهن وسواعدهن وسيقانهن، هذا فضلًا عن تلك المشية المتصنِّعة التي تبرأ منها الآداب براءة تامَّة، لهذا لم أرَ من حاجة إلى التعرض للسفور أو الحجاب، ما دمت لا أفهم معناهما إلى الآن …

أمَّا الحجاب الذي أفهمه أنا، فهو أنْ تبتعد النساء عن الرجال، ما دام ليس هناك داعٍ قهري إلى الاختلاط بهم أو الخروج أمامهم، فإذا اضطُرت النساء إلى الخروج، خرجن وفي زيِّهن وملبسهن ومشيتهن ما يكفي لهدم مطامع الرجال فيهن، وإبعادهم عنهن، وهذا ما أسميه بالحجاب، ولا يكون ذلك في النساء إلَّا بتعليمهن التعليم الراقي، الذي يَشعُرن معه بمكانتهن الحقيقية؛ فيترفعن عن تلك السفاسف الصغيرة، ويلتفتن إلى العمل النافع، فيشغلهن هذا عن الفتن في الزي، ونكون قد أتينا البيوت من أبوابها، قلت هذا منذ سنة ١٩١٠م؛ أي وأنا لا أزال في عهد الشباب الناضج، وكان الحجاب الذي ذكرته بالطبع موجودًا، وها هو الآن قد ذهب كما توقعت، ولكن لم يحل محله السفور الذي كنت أريده، بل حل محله سفور ماجن، ينحط بالأخلاق بدلًا من أنْ يرقى بها، وما دمنا قد انتقلنا من الحجاب إلى السفور، فقد يكون في المستقبل ما يبعث في عظيم الأمل بالسفور الكامل المحتشم الذي دعوت إليه.

وليس أضرُّ على الأخلاق من الجهل والفراغ؛ ولهذا رأيت أنَّ أفضل خدمة تُقدم لهذا الوطن المفدَّى، هي لفت النساء إلى العلم والعمل، ودفعني هذا الاعتقاد إلى إبراز كتابي هذا، راجيةً أنْ يكون له — على ضعفه — ولو بعض الأثر فيما أروم، ولست أصل إلى الغاية المطلوبة منه، إلَّا إذا أقبل أدباء المصريين وعقلاؤهم على ترويجه، فعسى أنْ ألقى منهم ما أرجوه من ذلك الإقبال، وفَّقنا الله جميعًا إلى ما فيه نفع البلاد.

نبوية موسى

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤