المرأة في جميع الأمم

واتِّباع الأمَّة لها في الرقي والانحطاط
إني أتكلم الآن عن تاريخ المرأة في العصور الخالية إجماليًّا، ثم أشرح أحوالها في بعض الأمم؛ لنرى كيف كان الاهتمام بشأن المرأة دخل عظيم في تقدم الأمَّة؛ ولنرى أننا — نحن المصريات — مقصرات فيما يجب علينا في ترقية شأننا، ولو أنَّ هذه الترقية قاصرة علينا لا تفيد غيرنا، لتقاعدنا عنها حتى لا ينسب إلينا حب الذات، ولكنها ترقية تعم الأمة بأسرها؛ لدخول نصفها في الحياة الحقيقية بعد أنْ كان كالعضو الأشل في جسمها قد يعوق غيره عن الإصلاح، فتقاعُدنا عنها جهل بحقوقنا، وجهل بحقوق أبنائنا، وجهل بما لوطننا علينا من الواجبات، ولقد قال السير هنري مين Henri Maine الإنجليزي الشهير: «إنَّ الفرق العظيم بين مدنية الرومان ومدنية الهنود الفاسدة؛ يرجع إلى أنَّ الرومانيين كانوا يهتمون بشأن المرأة، ويسعون في تحريرها، أمَّا الهنود فكانوا يبالغون في استعبادها والتضييق عليها.» ولا عار علينا لما نحن فيه الآن من الجهل والخمول؛ فقد كان كل النساء كذلك، وإنما العار أنْ يعمل غيرنا من النساء ونكسل، فيتقدمن ونتأخر، حتى لقد اتسعت المسافة بيننا وبينهن.

ولقد كان نساء أوروبا منذ قرنين تقريبًا أسوأ منَّا حالًا، وما زلن يعملن حتى أصبحن على ما نعلمه من حالهن الآن، أمَّا نحن فقد تأخرنا عن أسلافنا، إلَّا أننا — ولله الحمد — قد أفقنا من ذلك السبات الطويل، فأصبحنا أحسن من أمهاتنا حالًا، وهذا ما يجعلني آمل فيما أرجوه من الإصلاح لنا في المستقبل.

كانت المرأة في الأزمان الغابرة مُهملة خاملة، لا شأن لها، كانت تحت سلطة الرجل يتحكم فيها ما شاء، وكان يعدُّها من المتاع، فيلهو بها، ويغار عليها أنْ يراها غيره أو يلمسها الهواء، فلم يكن يعتبرها شخصًا كاملًا، ولو اعتبرها كذلك لوثق بها ثقة الصديق بصديقه، وكان لها من نفسها رقيب، ولكنه كان يطعن في ذمتها، ويغار عليها غيرة عمياء، كما يغار الصبي على لعبته من أنْ يمسها غيره؛ ولهذا اجتهد الرجل في إخفائها عن العيون، فانكمشت في زوايا البيت، ولم تتعدَّاه أعمالها، حتى إذا خرجت منه تدثَّت فيما يسترها عن الأنظار، فهذا الحجاب أو الستر لم يكن قاصرًا علينا نحن المسلمات، بل كان مألوفًا في كثير من الممالك الأوروبية وغيرها، إلَّا أنه لم يكن على هذا الشكل المعروف عندنا الآن.

كان اهتمام الرجل بإخفاء زي المرأة من ضمن الأسباب التي جعلتها تبالغ في تحسين شكله، وتنافس في ذلك غيرها؛ لعلمها أنه مطمع أنظار الرجال، ولقد علمت من مثل هذه المعاملة أنَّ الرجل يُقدِّر شكلها فوق كل شيء؛ ولذا اجتهدت في إخفائه عن العيون، ومالت إلى الزينة، وتغالت في تحسين هذا الزي، الذي هو أنفس ما يحرص عليه الرجل فيها؛ سعيًا منها في إرضائه، وقد شغلتها هذه الزينة عن النجاح في أمور كثيرة، حتى أدَّى ذلك أحيانًا إلى أنْ تشوه المرأة خلقتها الطبيعية؛ سعيًا وراء ما تظنه يُجمِّلها، ويختلف هذا النظر باختلاف البلاد.

فالمرأة الصينية تهتم بالزينة أكثر من غيرها، حتى إنها تغير شكل أسنانها الطبيعي، كما تتلف أقدامها بلبس حذاء صغير من الخشب منذ طفولتها؛ ليضغط على أقدامها فلا تنمو؛ ظنًّا منها أنَّ المرأة لا تُعد جميلة لطيفة إلَّا إذا كانت صغيرة الأقدام، ولهذا نرى أنَّ الصينية قد لا تستطيع المشي لصغر أقدامها، فهي عاجزة عن قضاء حاجتها وإصلاح شأنها.

وهذا على ظني من ضمن الأسباب التي ساعدت على خمول الصين؛ لأنها — مع هذا الملك الواسع — بعيدة عن العالم الحديث، لا يكاد يتعدَّى ذكرها حدود بلادها، مع أنَّ أختها اليابان قد سادت جميع الأمم الشرقية، وطبق ذكرها الآفاق، فقهرت روسيا على فخامتها، وأخذت منها بور آرثر، كما أخذت من الصين منشوريا، وهي أخت الصين في الأصل والصناعة، وإنما أهملت الصين شأن النساء، ولم تعدهن إلَّا للزينة، أما اليابان فهي على ضيق أملاكها أمة نشيطة، قد اقتدت بأوروبا في تعليم النساء وإعدادهن للأعمال، حتى لقد خفَّفت المرأة اليابانية من زينتها، وزاحمت الرجال في دور العلم ومعامل الصناعة.

وبعض الزنجيات في جنوب أفريقيا وأواسطها يخرقن أصداغهن، متحمِّلات ما يؤدي إليه ذلك من ألم؛ ليضعن في هذه الثقوب ريشًا للزينة، كما يضعن هذا الريش على رءوسهن في خلال الشعر، وبعضهن أيضًا يثقبن الحاجز الأنفي الذي يفصل فتحتي الأنف؛ ليضعن فيه قطعة من المعدن في سُمك القلم، وتبلغ في الطول من خمسة سنتيمترات إلى عشرة، ولا يخفَى ما في هذا من المضايقة للمرأة، وربما أثَّر في حاسة الشم، فضلًا عن تشويهه للخلقة الطبيعية.

وكلٌّ منَّا تعلم ما كانت ولا تزال تتحمَّله العربيات والقرويات في مصر من الآلام الشديدة في عملية الوشم، إذ يُدخلن في مسام الجلد مادة خضراء، بواسطة عدة إبر منضم بعضها إلى بعض؛ ليصبغن الجلد باللون الأخضر، كما تفعل هذا الحبشيات بلثة أسنانهن، تتحمل النساء كل هذه الآلام مع الصبر، ولا يستفدن منها إلَّا تشويه منظر الجلد، كل هذا تضحية من المرأة في سبيل الزينة لتفرغها، فهي مسكينة عاجزة، أقول عاجزة لا بالفطرة، ولكن العادة أضعفتها، وقد سعى الرجال في إضعافها طمعًا في امتلاكها، وكانوا في هذا يسعون إلى تأخرهم من حيث لا يشعرون.

وكان نساء روسيا يلبسن الحجاب بالمعنى المعروف عندنا اليوم، فلما تولَّى الملك الإمبراطور بطرس الأكبر أمر بترك هذه العادة، فرفعت النساء الحجاب، وترك الرجال الملابس الشرقية، ومن ثَمَّ أخذت روسيا في النمو والاتساع إلى أنْ وصلت إلى ما هي عليه الآن، وقد تولى المُلك بعد بطرس الأكبر عدد من النساء، وفي أيامهن انضم إلى روسيا كثير من الولايات الصغيرة.

أما الهنود فكانوا يبالغون في استرقاق المرأة إلى حدٍّ بعيد، حتى كان من جملة عاداتهم الوحشية أنَّ المرأة إذا مات زوجها؛ أحرقت نفسها يوم وفاته، وهذا مما يدل على أنهم كانوا يعتقدون أنَّ المرأة إنما خُلقت ليتمتع بها الرجل، حتى إذا مات وجب عليها أنْ تفارق الحياة على أثره، وهو غاية حب الذات والاستبداد، وكانت نتيجة هذا انحطاط أمم الهنود، واستعباد الأمم الغربية لهم.

فلم ينتج تغير الحال الاجتماعية في روسيا فجأة ما أنتجه محافظة الهنود على استعباد النساء من سوء العاقبة، وعلى حقائق التاريخ يمكن أنْ تقاس نتائج المستقبل، لا على مُجرَّد الوهم والخيال.

كانت حالة المرأة في جميع الأمم السالفة على ما ذكرت من الضعف، إلَّا أنَّ الضغط عليها وهضم حقوقها، كان يختلف في بعض الجهات عن البعض الآخر، فكانت حالتها في أوروبا أحط منها في جزيرة العرب، وذلك قبل ظهور الإسلام بزمن يسير، واستمرَّت الحال كذلك إلى ما بعد ظهوره، فكانت المرأة الأوروبية تحت سلطة الرجل، لا تتصرف في شيء مدة حياته، حتى أموالها الخصوصية، ولا يُصرِّح لها القانون بالوصاية على أولادها بعد موته، فكانت خاضعة له بحكم القانون.

كان هذا شأن أوروبا عندما نزل القرآن الشريف، وأباح للنساء التصرف في أموالهن، والوصاية على أولادهن، والتمتع بجميع الحقوق المدينة، فكان المسلمات أرقى شأنًا من النساء الأخريات، وما زلن يتأخَّرن ويتقدم غيرهن، حتى أصبحن على ما نراه الآن، وما ذاك إلَّا لانقطاعهن للجهل والفراغ.

التفتت بعد ذلك أوروبا إلى تحرير المرأة وتوجيهها إلى الأعمال، وتعليمها التعليم الصحيح، الذي تشعر معه أنها إنسان يؤدي أعمالًا نافعة في هذه الحياة، لا تمثال يوضع للزينة واللهو، فسبقت غيرها بخطًى واسعة، وإني أضرب لحالة المرأة في الشرق، وحالها في الغرب مثلًا بتاريخ المرأة العربية والإنجليزية.

لم تكن المرأة العربية في الزمن السابق مُنحطَّة عن أختها الغربية، بل كان يهتم بشأنها رجال العرب اهتمامًا عظيمًا، فلم يقل شاعرهم قصيدة إلَّا صدَّرها باسم زوجته أو قريبته، ولم يحضر فارسهم حربًا إلَّا ونساؤه وراء ظهره ينصحن له بالإقدام، فيقدم طاعة لأمرهن، وإظهارًا لشجاعته أمامهن، حتى إذا حارب ولم ينظرنه، جاء يخبرهن بفوزه كما قال عنتر العبسي:

هَلَّا سَألْتِ الخَيْلَ يَا ابْنَةَ مَالِكٍ
كُنْتِ جَاهِلَةً بِمَا لَمْ تَعْلَمِي
يُخْبِرُكِ مَنْ شَهِدَ الوَقِيعَةَ أنَّنِي
أغْشَى الوَغَى وأعْفُ عَنِ المَغْنَمِ

وقال بشر:

أفَاطِمُ لَوْ شَهِدتِّ بِبَطْنِ خبثٍ
وَقَدْ لَاقَى الهَزِيرُ أخَاكِ بِشْرَ

وقال عمرو بن كلثوم:

عَلَى آثَارِنَا بِيضٌ حِسَانٌ
تُحَاذِرُ أنْ تَمرقَ أوْ تَهُونَا
يُقِدْنَ جيَادَنَا ويَقُلْنَ لَسْتُمْ
بُعُولَتَنَا إذَا لَمْ تَمْنَعُونَا
إذَا لَمْ نَحْمِهِنَّ فَلَا بَقِينَا
بِخَيْرٍ بَعْدَهُنَّ وَلَا حَيِينَا

فأين هذا العصر من عصرنا وعصر أمهاتنا؟ إذ يعد الرجل اسم ابنته أو زوجته عارًا، فيتحاشى ذكره!

فكان نساء العرب بمثابة قوَّاد، يشجعن الجيوش على الإقدام أثناء الحرب، ويشتغلن بمعالجة الجرحى، على أنَّ أوروبا لم تصل إلى هذا إلَّا بعد زمن طويل، وقد اشتغلت نساء العرب بكل ما اشتغل به رجالهن، فكان منهن الشاعرات والمحاربات والتاجرات، كالسيدة خديجة — رضي الله عنها — وغيرها، حتى كان منهن المَلِكات أيضًا، ومن أشهرهن الزَّباء، التي قتلت جذيمة الأبرص ملك الحيرة؛ أخذًا بثأر أبيها.

وبالجملة، فالمرأة العربية كانت في مقدمة نساء عصرها، ولعلَّ هذا كان من بين الأسباب في ارتقاء الأمة العربية واجتهادها، حتى جاء الإسلام زادها رُقيًّا على رُقيِّها، وسوَّى بينها وبين الرجل في كثير من الحقوق والواجبات، وقد كان النبي يقرِّب الخنساء في مجلسه، ويحب سماع شعرها من فيها، ويعدها من بين صحابته.

وكان النساء في الحرب التي قامت بين علي ومعاوية يُحرِّضن الرِّجال، ويتطوَّعن لملاحظة الجرحى، مما يدل على أنَّ الإسلام لم يحرِّم عليهن العمل، ولا التدخل حتى في الأمور السياسية، فكانت الأمَّة بتمامها تميل إلى العمل والسعي وراء ما يرفع شأنها، حتى إذا استولت العرب على الأندلس، كانوا مثال النشاط والاجتهاد للممالك الأوروبية، وقامت نساؤهم بكثير من الأعمال، حتى أجرَين العمليات الجراحية العظيمة، وهو ما تسعى أوروبا في الحصول عليه الآن.

وما زالت المرأة العربية تشعر بالحياة الحقيقية إلى أنْ قضى الله على الأمم العربية بالانحطاط، فخملت العقول، واستبد بهم الأعداء، فاستبدوا هم بنسائهم، وأخطئوا في فهم القرآن، فأولوه بما شاءوا، وصادف هذا التأويل هوًى في النفوس، فاتبعوه رغم بعده عن الصواب، فلم يأت في القرآن الشريف نص بحرمان المرأة من العلم والعمل، وخمولها هذا الخمول، ولا قضت العادات الشرقية — كما يزعمون — عليها بالسجن في جوف المنازل، ولولا تلك الأوهام، لكانت الشرقيات أولى بالسبق إلى معالي الأمور من غيرهن لما لهن من التقدم في ذلك.

ولست أضرب صفحًا عن حالة المرأة المصرية قبل دخول العرب في مصر، بل أقول إجماليًّا إنها لم تكن مُنحطَّة عن غيرها من نساء ذلك الزمن، ويدل على ذلك انتظامها في سلك المُلك، فقد كان من ملوك مصر القدماء جوريق ولازلقا من ملوك العمالقة، ودلوكة الملقبة بالعجوز من أشهر ملوك القبط، وكليوباترا من ملوك اليونان، فالمرأة المصرية الآن أحطُّ من أسلافها، سواء في ذلك انتسبت إلى العرب أو إلى فراعنة مصر، في حين أنَّ المرأة الغربية تتقدم مع الزمن، فهي على العموم أرقى من أمهاتها، وتلك سُنة الدهر في الارتقاء الطبيعي، لم تنعكس هذه السُّنَّة إلَّا بالنسبة لنا نحن المصريات — والعربيات بالطبع — وهذا تاريخ المرأة الإنجليزية يشهد لي بما أقول.

كانت المرأة الإنجليزية — كغيرها من نساء أوروبا — خاضعة لسلطة الرَّجل، محرومة من كثير من حقوقها المدنية، لا تتناول من الأعمال إلَّا أعمالًا محصورة، كالتعليم الابتدائي، والتمريض، والخياطة، والولادة، فالتفَتَ كثير من فضلاء الرجال إلى تحريرها، وكان ممن تكلَّم في هذا الشأن السير هنري مين، وقد دافع عن المرأة دفاعًا حسنًا، كما دافع عنها في مصر المرحوم قاسم بك أمين، وهو أوَّل مصري فكر في العواقب.

ومن ثَمَّ التفتت نساء إنجلترا إلى العناية بشأنهن، فقامت مسز براوني ونشرت مقالة سمتها «أروراليز» انتصرت فيها للنساء، وشهد لها بالبراعة وحدَّة الذكاء نفس معارضيها؛ إذ قال المستر إدوراد جيرالد عند موتها: «الحمد لله، لن نرى بعد «أرورا» ثانيًا، ولست أنكر أنها امرأة على ذكاء غريب، ولكن ما فائدة كل هذا؟ ويا حبَّذا لو التفتت برهة ونظيراتها إلى شئون المطبخ.»

تاقت الإنجليزيات بعد ذلك إلى دخول معاهد العلم، ونيل الشهادات العالية، وأوَّل كلية فتحت بابها للنساء، كانت في شمال إنجلترا، إلَّا أنها لم تصرِّح بتلقي الدروس العالية مع الرجال، بل كلفت سيدتين بإلقاء محاضرات نسائية لهن، وكان ذلك سنة ١٨٢٠م.

طالبت النساء بعد هذا بما هو أرقى من تلقي الدروس العالية أسوة بالرجال، وألححن في الطلب، ففُتحت في وجوههن بعض الكليات سنة ١٨٦٥م، وفتحت كلية «كمبريدج» أبوابها لهن سنة ١٨٨١م، وتبعتها «أكسفورد»، ثم «اسكتلندا» و«لوندرا» و«دريين».

ومالت النساء إلى العمل، فنالت أوَّل طبيبة إنجليزية شهادة الطب من الولايات المتحدة، واشتغلت في إنجلترا سنة ١٨٥٩م، وألحَّت النساء في طلب تعليمهن الطب في إنجلترا نفسها، فصرحت لهن الحكومة بذلك، ونالت أوَّل طبيبة شهادة سنة ١٨٦٥م، ودخل بعدها في مدرسة الطب ثلاث فتيات، ونجحن نجاحًا باهرًا، فانعقدت اللجنة الطبية بعد هذا مباشرة، وقررت عدم قبول النساء في مدرسة الطب، لا لسبب آخر سوى غيرة الرجال وحبهم لذاتهم، إلَّا أنَّ هذا لم يثنِ همم الإنجليزيات عن المطالبة بحقوقهن، والسعي وراء ما أردن، بالرغم من كل هذه القوانين، فكن يذهبن إلى الولايات المتحدة فيتعلمن الطب هناك، ثم يعُدن فيفتحن المستشفيات في بلادهن، وأخيرًا وافقت الحكومة على دخولهن في جميع الامتحانات الرَّاقية، وفتحت أبواب عموم الكليات في وجوهن، وكان ذلك سنة ١٨٧٦م؛ أي منذ أربع وستين سنة فقط!

هذه حال إنجلترا منذ قرن تقريبًا، فكان يقال للمرأة إذا تكلمت في المواضيع العلمية: «ما لها ولذلك؟ الأولى بها أنْ تلتفت إلى شئون المطبخ.» وهو ما يقال لنا الآن.

ولكن الآن تغيرت حالهن، فشغلن كثيرًا من المراكز السامية، وكانت نتيجة ذلك رقي الأمَّة رقيًّا بهر العالم.

هذه تجربة جرَّبتها إنجلترا فنجحت، ومن العبث أنْ يقال بعد هذا إننا لو اقتدينا بهم في ذلك انحل نظامنا، أو يقال إنَّ عاداتنا الشرقية لا تسمح لنا بذلك بعد أنْ أظهرت — فيما تقدم — أننا كغيرنا من النساء في بعض العادات القديمة، وها هن أولاء قد تركن تلك العادات، فكان ذلك من أسباب رقيهن ورقي أممهنَّ أيضًا.

هذه أمريكا الشمالية، كان يسكنها الجنس الأحمر، وهم قوم متوحشون، لا فرق بينهم وبين الحيوانات، وأخصَّ بالذكر منها الولايات المتحدة … احتلتها إنجلترا، فاجتهد القوم في العمل — رجالًا ونساءً — حتى سبقوا أسلافهم الإنجليز في الحضارة والعمران، وساروا بالنساء إلى الأمام، فدخلن في جميع الأعمال؛ إدارية كانت، أو علمية، أو سياسية، فمنهن القائدات والرئيسات والمهندسات والكاتبات، ولهن الآن حق الانتخاب في بعض الولايات، فكانت نتيجة رقي المرأة تقدُّم الأمة بتمامها، ولم تعقها هذه الأعمال عن الزواج أو كثرة النسل — كما يقال — بل صارت الأمة هي أوَّل الأمم حضارة وتجارة وعمرانًا.

يعجبني من الإنجليزية حبها للعمل، وترفعها عن الكسل، وميلها إلى بساطة اللبس والاقتصاد في المعيشة، والاعتناء بنظافة المنازل والأطفال، وما أسعدنا نحن المصريين إنْ اقتدينا بها في مثل هذه الأمور؛ وأوَّلها الميل إلى العلم والعمل، خصوصًا أنَّ المصرية ذكية بفطرتها، فلندفع بفتياتنا إلى الاشتغال بالعلم الصحيح والعمل النافع، تاركات تلك الأوهام القديمة من ترك الفتاة متفرغة، والقول بأنها لن تكون قاضيًا أو رئيس مصلحة، فتلك أوهام ذهب بها الدهر، ولقد أصبحت قديمة بالية تضر ولا تنفع …

إننا إذا حبَّبنا إلى بناتنا العمل أصلحن منازلهن، بل أصلحن الأمة بأسرها، فإن العمل يصقل النفوس، ويجلو عنها صدأ البطالة والكسل، كما تجلو الحركة صدأ الآلات المعدنية، فمَن كانت منَّا فقيرة فلتسعَ فيما يصلح شأنها، ومَن كانت غنية فلتعمل لإصلاح غيرها من الفقيرات.

لست أنصح للفتاة بأكثر من الالتفات إلى العلم، والبعد عن الكسل والفراغ، وهذا كل ما يصلح حالها، فإن العلم يفتق الأذهان، ويجعل الفتاة تشعر بما يحيط بها، فتعلم عن خبرة الفرق بينها وبين غيرها من الغربيَّات، فتصلح من شأنها، كما تعرف قيمتها في الحياة، فتحتقر الزينة، وترى أنَّ من النقص تضييع الوقت فيها، خصوصًا إذا كانت مشتغلة بعمل نافع، وليس من يكون له من نفسه دافع إلى الشيء كمن ينصح له غيره به، فقد لا يصادف قول غيره قبولًا من نفسه، وقد يخطئ فهم النصيحة فلا يقبلها، وأوَّل دليل على ما أقول أننا أكثرْنا من النصح للفتاة بعدم التبرُّج، فلم يفدها ذلك، بل ازدادت في الزينة التي نُهيت عنا «… وأحب شيء إلى الإنسان ما منعا.»

نصحنا لها بلبس الحجاب الشرعي، فكانت النتيجة أنْ تفنَّنت في هذا الحجاب، حتى أصبح أشد ضررًا على الآداب من سابقه.

لهذا لا أرى من الحزم أنْ أنصح للفتاة بأي لبس كان، ولكني أقول علموها العلم الراقي؛ لتنصرف إليه عن الزخرف والزينة، وتترفع عن أنْ تكون ألعوبة في نظر المارة، فتظهر بمظهر الحشمة والوقار، ولا يهمنا على أي شكل لبسها، ما دام على هيئة تدل على رقي الآداب، واتِّباع الدين الحنيف من ستر الزينة فقط.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤