التعليم الأهلي

إنَّ الأمَّة كجسم واحد لا بُدَّ له من أعضاء كثيرة، تقوم بما يطلب منه من الحركة والعمل، ورأس مُفكر يُدبِّر هذه الأعضاء وينظم حركتها، فالأعضاء العاملة في جسم الأمة هم السوقة وهم سوادها الأعظم، أما الرأس فقادة الأمة من علمائها ونبغائها وحكمائها المتعلمين … ومتى صلح الرأس وأحسن التفكير، توجهت أعمال الإنسان إلى الخير، وصلحت بذلك أحواله.

فإذا أردنا بأمتنا خيرًا وجب علينا أنْ ندرك أنَّ في تعليم قادتها ونبغائها تعليمًا عاليًا صحيحًا يستطيعون معه إرشاد الأمة إلى ما فيه الخير والمنفعة، أما التعليم الأولي وحده فلا فائدة منه إذا اقتصرنا عليه، وإنما هو أساس تُبنى عليه دعائم التعليم العالي، فإذا ظهرت كفاءة الطفل في التعليم الأولي تخطَّينا به إلى ما هو أهل لمواهبه السامية، أما إنفاق جميع ما لدينا من المال في التعليم الأولى وعدم تقديرنا التعليم العالي حقَّ قدره … فمثلنا فيه كمثل رجل أمامه نهير صغير وصحراء واسعة.

فإذا أغراه الطمع والجهل، فحاول توزيع هذا الماء على جميع تلك الصحراء؛ ليُصلحها جميعًا ضاع هذا الماء فيها رشاشًا، ولم يستطع أنْ يجني بذلك ثمرة أو يُخرج شجرة واحدة، أما إذا أعمل فكرته، فاختار منها بقعة صغيرة فأصلحها ورواها بذلك الماء القليل، فقد وصل إلى غاية محمودة، وأخرج بعمله هذا بعض الشجر والنبات، حتى إذا كبر ذلك الشجر، وتمكنت جذوره من الأرض، وأصبح لا يُخشى عليه أمكنه أنْ يزرع غيره عامًا فعامًا، فيأخذ منه البذر لغرس ما يريده في المستقبل.

فالتعليم الأولي بدون التعليم العالي لا تأتي منه فائدة تُذكر، ولقد قيل في المثل الإنجليزي: «المعرفة القليلة أضرُّ من الجهل.» وليس هناك فرق بين فلَّاح فقير يعرف مبادئ القراءة، وآخر أُمي لا يعرفها، ما دام الثاني يقوم بعمله في حرث الأرض وزرعها، كما يقوم به الأول، وما فائدة معرفة القراءة للفلاح الفقير، وليس لديه من الوقت ما يُمكِّنه من مطالعة ما يُفيده من الكتب، كما أنَّ كفاءته العلمية لا تؤهله لفهم تلك الكتب النافعة، فهو والفلاح الأمي في المنفعة سواء، ولا يُخشى من تقهقر الأمة لجهل فلاحيها ما دام في الأمَّة نُبغاء يستطيعون إرشاد الفلاحين إلى ما فيه النفع، ولا يعد الفلاحون عالة على الأمة ما داموا يستطيعون نفعها بما تجنيه سواعدهم القوية من النجاح في الزراعة، فلهم من العلم بأصولها عملًا وتجربة ما ليس لغيرهم، وكل ما يعرفه الإنسان فيفيد به نفسه وأمته يُعد علمًا نافعًا، والفلاح الذي يستطيع إنبات الفول والقمح أنفع للهيئة الاجتماعية من ذلك الفضولي الذي يستطيع كتابة تلك الكلمات فقط، لا يحسن غيرها، فهو يموت جوعًا لو لم يزرع له الفلاح ما يقتات به.

هذا وجميع الأمم الرَّاقية قد يجهل فلاحوها وسوقتها كل شيء، حتى التكلم بلغتهم، فقد يخطئ الفلاح الإنجليزي في التكلم بلغته، حتى لا يستطيع أنْ يفهم كلامه المتعلمون، وكذلك الفلاح الفرنسي، فله من اللهجة في الكلام ما لا يستطيع فهمه المتعلمون من الفرنسيين … ما داموا يجهلون التخاطب بلغة العلوم، فما الفائدة من تعليمهم مبادئ القراءة والكتابة؟

إنَّ الفلاح المصري الفقير يقوم بعمله بنجاح قد لا يستطيعه أمثاله في أوروبا، فهو في مقدمة الفلاحين قوَّة واجتهادًا، أمَّا الأغنياء منا فهم من أمثالهم في البلاد الرَّاقية علمًا ودراية، وهم أولى بأن يُعتنى بتعليمهم؛ لأنهم من قادة الرأي في الأمة، ولو تعلَّم كل عمدة التعليم الصحيح العالي، لقاد أهل قريته إلى سواء السبيل، فنفعهم بعلمه ومباحثه، وأفادوه بقوة سواعدهم ومثابرتهم على العمل.

ومن المغالطة أنْ يُقاس رقي الأمة بعدد من يعرفون الحروف الهجائية فيها، وإنما يعرف رقي الأمة بعدد نبغائها وسداد رأي قادتها، فإن الأمة التي تفوز في ميدان الحرب لا تجني ذلك الفوز لمعرفة جميع جنودها مبادئ القراءة والكتابة، وإنما تحرزه بما يبديه قادتها من الرأي السديد والحكمة في تنظيم الجيوش، وهذه إنجلترا … لم تسُدْ في مؤتمر السلام الذي عقد في «فرساي» سنة ١٩١٩م؛ لمعرفة فلاحيها القراءة والكتابة، ولكنها سادت برأي وزير واحد أمكنه — لنبوغه — أنْ يؤثر في نفوس غيره من أعضاء ذلك المؤتمر، وساعده في ذلك قادة الأمة بالرأي السديد.

لهذا كان من العبث أنْ نترك التعليم العالي، ونهتم بالتعليم الأوَّلي فقط، ولقد تغالينا في ذلك حتى أصبح الناس ينادون بتعليم أولاد الباعة والخدم، ومساحي الأحذية، مع أنَّ أبناء هؤلاء المصلحين الذين ينادون بتعليم السوقة لم يُوفَّقوا في نَيل ما يليق بهم من التعليم، فبلدنا — والحمد لله — خالٍ من المدارس الأهليَّة الرَّاقية، وكل مدارسنا تكاد تكون خالية من التعليم الصحيح، لم يُفتح في مصر إلى الآن إلَّا كلية واحدة، وهي — عكس الطبيعة — تتأخر عامًا بعد عام، ولو أنصف هؤلاء المصلحون لتركوا السوقة للبيع والخدمة، وساعدوا أنفسهم وأبناءهم بمساعدة هذه الكلية وفتح غيرها من الكليات النافعة، وإرسال إرساليات إلى أوروبا تتعلم في أحسن كلياتها، فتنقل إلينا أفكار تلك الأمم الرَّاقية وأساليبهم في التعليم.

لا يضر أمتنا أنْ يكون ابن الخادم خادمًا مثله، ولكن يعوزها وجود رجال أكفاء يسيرون بها في مراقي الفلاح، ولا سبيل إلى نيل ذلك إلَّا بالتعليم العالي الصحيح، ومن العبث أنْ نحاول أنْ يكون لخادمنا من المعرفة ما للخادم الغربي، ما لم نسع أنْ تتساوى معلومات أغنيائنا بمعلومات أمثالهم من الغربيين، فإن هذا الخطل في الرأي قد يؤدي لأن يكون الخادم أعلم من سيده، وهو ما لم يُر في أمة من الأمم، إننا في حاجة إلى تعليم أبناء الأثرياء من أهل القرى تعليمًا عاليًا يليق بثروتهم؛ لأنهم سيكونون في المستقبل نواب الأمَّة؛ أي أعضاء لمجالس المديريات والجمعيات التشريعية، نحن في حاجة إلى ذلك أشد من احتياجنا إلى تعليم خَدَمِنا مبادئ القراءة، فمن هؤلاء النواب يكون رقي الأمة، وانتشار التعليم في المستقبل، وإرشاد السوقة إلى حسن المآل.

إننا لو سعينا في فتح المدارس العالية، لا يُكلفنا ذلك أكثر من إعداد بنائها وأثاثها، ومساعدتها ماليًّا عامًا أو عامين، ومتى قام بإدراتها رجال أكفاء أقبل أغنياء الأمة عليها، وجمعت من مصروفات الطلبة ما يقوم بنفقتها وزيادة، فلم نترك ذلك ونهتم بفتح ما يسمونه الآن بالملاجئ؟ ونحن لو فكرنا لعرفنا أنه يستحيل إبراز مثل هذا المشروع على الوجود، فلو فُرض وفُتح ملجأ بجمع الإعانات لأغلق بعد عام أو عامين؛ لأن الملجأ الذي يعيش فيه ٣٠٠ طفل لا يُنفَق عليه في العام أقل من عشرة آلاف جنيه، ولقد اشتغل المصريون سنة ١٩١٩م في جمع الإعانات لمثل هذه الملاجئ، فلم يجمعوا ما يصرف على ملجأٍ واحدٍ في عامٍ واحد، فلِمَ يتشبثون بالمستحيل، فيشغلهم ذلك عن الأعمال المفيدة التي كانوا يستطيعونها لو التفتوا إليها؟

إنَّ بلدنا الخصب ليس في حاجة إلى ملاجئ الغلمان التي يقصد بها في أوروبا إنقاذهم من الموت جوعًا، فإن كل رجل متوسط الحال في مصر يود لو أنه أبقى أحد هؤلاء المتشردين في منزله لقضاء حاجاته … فيأكل ويلبس، ويأخذ أجرًا على ذلك، ولكن هؤلاء الغلمان المتشردين يُفضلون التجول في الشوارع على البقاء في المنازل، وربما وجدوه أربح، وذلك لسخاء المصريين الفطري، ولقد قلت لغلام أراد الاستجداء مني مرة إني مستعدة لآخذه عندي، فيأكل ويلبس، ويأخذ أجرًا على ذلك، فرفض قائلًا إنَّ والده لا يرضى بذلك! … فبأي سلطة يستطيع الملجأ أخذ هذا الغلام من والده؟ ولمَ نقلد الغربيين فيما لا حاجة لنا به، ونتعرض لما لا يكون؟ ونحن لو أنصفنا لالتفتنا إلى التعليم العالي الرَّاقي؛ لينهض بالأمة إلى غايتها شأن كل الأمم الرَّاقية.

ولقد قلَّد النساء الرِّجال في تلك الفكرة، فما اجتمعت منهن جمعية إلَّا إذا كان غرضها إنشاء مدرسة للفقيرات … كأنهن قد سرَّهن كثرة مدارس البنات اللائقة لتعليم الغنيات منا، فلم يعد يعوزنا إلَّا شيء واحد، وهو تعليم الفقيرات والخادمات، مع أنَّ جميع المدارس الموجودة في مصر الآن ليس منها ما يصلح لتعليم بنات الأغنياء من المصريين، وكلها لا تخرج عن ثلاثة الأنواع الآتية:
  • أولًا: «مدارس أميرية» وهي كغيرها من مدارس الحكومات الأخرى، لا يصح أنْ يُعتمد عليها في التعليم الرَّاقي الصحيح، وقد شوهد في جميع البلاد الرَّاقية أنَّ التعليم العالي يقوم به الأهالي أنفسهم، وأنَّ مدارس الحكومة إنما جعلت للفقراء.
  • ثانيًا: «مدارس أهلية» وهي إمَّا مكاتب لا تعليم فيها بالمرة ولا آداب؛ لجهل القائمين بها بمهنة التعليم، فكل من ضاقت به الحال ولم يجد مرتزقًا آخر، قام بفتح مدرسة على شدَّة جهله بنظام التعليم، بل وبنفس العلوم التي تُدرس في المدارس، ومدارس هذا شأنها لا يُعقل أنْ تعلم غير سوء الآداب وفساد الصحة، وإمَّا مدارس أرقى من هذه قامت بها جمعيات خيرية، فقلَّدت الحكومة في مناهجها، وفي إسناد رئاستها إلى الأجنبيَّات، فهي كمدارس الحكومة، بل أشد انحطاطًا منها؛ لانصراف أذكياء المصريين عن التوظف في مثل هذه الجمعيات؛ نظرًا لأن مراكز الحكومة أثبت وأضمن للتوظف، فلا يتوظَّف خارج الحكومة إلَّا من نبذته الحكومة من نفسها، وربما لا يكون في مثل هذا خير للمدارس الأهلية، ولو جرؤ أذكياء الموظفين منا على ترك الحكومة والعمل خارجها لانتفع بهم البلد، ولو كان في ذلك تضحية بمصالحهم الشخصية.
  • ثالثًا: «مدارس أجنبية» كمدراس الراهبات ومدارس الأمريكان، وليس فيها عناية ما بتعليم لغة البلاد وآدابها القومية ولا بديانتها، وليس من بين الأمم الرَّاقية أمَّة واحدة، تقبل أنْ تُعَلِّم بناتها اللغات الأجنبية دون أنْ يُتقنَّ لغتهن، وتعليم مثل هذا شأنه أنْ يجعل الفتيات بعيدات عن الشعور الوطني الحقيقي، فإن معرفتهن اللغات الأجنبية مع جهلهن بلغة البلاد قد يؤدي بهن إلى استحسان كل عادة أوروبية واتباعها، حسنةً كانت أو قبيحة، فيُصبحن بذلك أشد ميلًا إلى الأجنبيات منهن إلى الوطنيات، وهو خلاف ما تتطلَّبه الوطنية الصادقة، هذا فضلًا من أنَّ نجاح هذه المدارس بيننا يدل دلالة صريحة على جهلنا وقيام غيرنا بأمر التعليم فينا، حتى في تهذيب البنات … تلك المسألة التي يجب أنْ تقوم بها يد وطنية؛ لتحافظ على الشرف والآداب القومية المحمودة، وهي وصمة عار يجب علينا أنْ نمحوها ما استطعنا إلى ذلك سبيلًا.

إنَّ مدارس الرَّاهبات جزء من الدير، ولم تكن الأديرة كليات لتعليم مهنة التعليم، تلك المهنة السامية … فكيف ننتظر من الأديرة أنْ تُخرج لنا مُعلِّمات ماهرات؟ إنَّ الأديرة تقبل من أَمَّها بلا شرط ولا قيد أو امتحان، فكيف تقوم كل من دخلتها بمهنة التعليم؟ وقد تكون جاهلة بها، فحالة مدارس الرَّاهبات كحالة مدارسنا الأهلية، يقوم بالتعليم فيها أناس لا كفاءة لهم ولا دراية بمهنة التعليم الحقيقية، وكل هَم الرَّاهبات مُنصرف إلى تعليم الدين المسيحي، فتعليم العلوم الأخرى منحط فيها لدرجة بعيدة، فكثيرًا ما تتعلَّم التلميذات الحساب — مثلًا — بطريقة ميكانيكية لا يفهمن منها شيئًا، ولقد سألت مرة إحدى التلميذات أنْ تُجري أمامي بعض عمليات الكسور العشرية، فقالت إنها لا تعرفها باللغة العربية، ولما شرحَت ذلك علمت منها أنها لا تعرف إجراء تلك العمليات، وإنما تنقلها من على لوح الطباشير وتقلدها في كراستها، حتى إذا طال العهد بها نسيتها، ولم تعرف مضمونها … وقِسْ على ذلك باقي العلوم، فترى الفتاة تذكر لك مقاطعات فرنسا، وربما كانت لا تعرف موقع مصر ولا غيرها من البلاد الأخرى، فتجهل بلدها الجميل وهواءه العليل، وكل ما يحيط بذلك النيل العذب الزُّلال، وتعلم ما لا يهم مصر من منابع نهر «الرَّاين» و«السِّين» مع بعدهما وقلَّة أهميتهما، وتعرف تاريخ نابليون وجان دارك وهي تجهل تاريخ العرب، بل وتاريخ مصر وطنها المحبوب، تعرف التطريز ولا تعرف أنْ تُفصِّل أو تخيط أبسط ملابسها!

فتعليم مثل هذا وَهْمٌ لا فائدة فيه لترقية مدراك المصريات ألبتَّة؛ لأن التعليم لا يكون نافعًا مفيدًا إلا إذا ابتدأ الطفل يتعلم ما يشاهده ويحيط به، ثم انتقل منه لما يليه مباشرة، وبذلك يستطيع استعمال عقله فيما يتعلم ليفهمه فهمًا جيدًا يُرقِّي مداركه ويُعوِّده التصور، فمن الجهل الفاحش أنْ تبتدئ المصريات بتعلُّم ما يختص بفرنسا مع بعدها عنهن، ومثل هذا التعليم يُسمَّى تلقينًا لا فائدة منه لتنمية المدارك والعقول، فتلك المدراس تُطفئ من نفوس المصريات جَذوة الذكاء والوطنية الصادقة … قد يقال إنَّ الفتاة تتعلم هناك حُسن التخاطب باللغة الفرنسية … وهو حقيقي، إلا أنه لا يدل على مهارة الرَّاهبات في التعليم، بل إنَّ تعليم اللغات يكون دائمًا بالتقليد، فالبنت تقلد المعلمة في كلامها، ولو أحضرنا في منازلنا خادمة فرنسية لقامت بهذا العمل في تعليم بناتنا التكلم بلغتها، ونحن في تلك الحالة نضمن أنها لا تستطيع تغيير شيء من معتقداتهن أو عاداتهن؛ لأنها تحت سلطتنا، أما مُعلِّمة الدَّير — التي ربما لا تفوق هذه في العلم والمعرفة — فهي حرَّة في تصرفاتها، حيث يقضي قانون المدرسة بطاعة بناتنا لها وانقيادهن لأوامرها، فتأثيرها في نفوسهن شديد لا نضمن مغبته؛ إذ ربما جردتهن من عواطف الوطنية الصادقة، وأصبحت الفتاة منهنَّ تحتقر مصر وأهلها، وتذم تصرفاتهم، جاهلة أنَّ هذا الذمَّ واقعٌ عليها ضمنًا، خصوصًا وهي تجهل اللغة العربية وجمال أسلوبها ومفاخر أهلها المدوَّنة بها، وجميع الأمم الرَّاقية لا تُعلِّم أبناءها في أول نشأتهم إلا لغتهم ومفاخر أهلها؛ ليصادف حب وطنهم قلبًا خاليًا فيتمكن منه، فإذا اقتدينا بهم في ذلك كان أول ما نعلمه بناتنا لغتهن وفخرها وحُسن عادتهن الممدوحة، فالمصرية في نظري أطهر النساء وأعفُّهن وأشدُّهن ذكاءً ونشاطًا إذا مُهِّد لها طريق الرُّقي العلمي والعملي.

أمَّا مدارس الأمريكان فهي تكاد تكون كهذه المدارس من إهمال المبادئ الوطنية ولغة البلاد، وهي أيضًا بعثات دينية يُراد بها انتشار التعاليم الدينية، وعصرنا الآن عصر علم وعرفان، يجب ألَّا يُناقَش فيه في الأمور الدينية، بل يحسُن بكل أناس اتباع دينهم دون معارضة فيه، أو مقارنة بينه وبين الأديان الأخرى؛ فإنَّ الدين لله، وليس لنا أنْ نتدخل في اعتقاد غيرنا، ويكفينا أنْ ننتقد أعمال الناس الظاهرية حسنةً كانت أو رديئة.

إنَّ انتشار هذه المدارس بيننا قد بغَّضنا في عاداتنا؛ فأصبحت كل منا تذمُّ المصريات كأنها ليست منهن، وسرت هذه الرُّوح من الأم إلى أبنائها، ففضَّل الرجال الآن الزواج بالأجنبيات هربًا من صفات المصريات، ولو فكَّر الرِّجال لوجدوا أنَّ المصرية أطهر وأعف وأطوع للزوج وأكثر انقيادًا له من غيرها، فهل يليق بالمصريات السكوت على ذلك النوم بعد أنْ استيقظت جميع طبقات الأمة؟

هذه حال مدارس البنات لدينا، ونحن مع ذلك لاهيات، وإذا اجتمعنا قرَّرنا فتح مدرسة للخادمات، كأننا قد وصلنا إلى غايتنا المنشودة في تعليم الطبقتين العليا والمتوسطة، ولم يبق إلا غاية واحدة وهي تعليم طبقة الخادمات!

ولعمري، كيف نطلب تعليم الخادمة، ونترك أمر سيدتها، وهي أولى منها بالعناية؟ لست أنكر أنَّ في تعليم الخادمات بعض الراحة لسيدتهن، ولكن هذا أمر لا يصلح الالتفات إليه إلا إذا انتهينا مما هو أهم منه من تعليم السيدات.

قد تقول بعض المصريات إنهن يستطعن تعليم بناتهن في المنازل، وهو في الحقيقة ما لا يكون، فإن المنزل لا يكون مدرسة مهما أُنفق عليه، فكيف يكون كلية راقية؟ ولو كان هذا مستطاعًا لكان أولى به أولاد الملوك، فهم مع عظم جاههم واتساع ثرواتهم يُرسَلون إلى الكليات الرَّاقية، بل قد يهاجرون من بلادهم للالتحاق بكلية في البلاد الأخرى … فمن العبث أنْ نحاول ما لا يكون.

إننا بتعليم الفتاة الغنية نرفع شأن أسرة بأكملها؛ لأنها ستكون رئيسة لها، فتؤثر في نفوس الأبناء، بل وفي نفس رب الأسرة تأثيرًا قد يدفع إلى الخير والنجاح، وهي أيضًا تصلح أحوال الخدم، وترشدهم إلى النجاح في أعمالهم، ولا شك أننا بتعليم هؤلاء السيدات قد نصل إلى تعليم السوقة، فالدَّهر بطبعه مُتقلِّب سرعان ما ينتقل بالغني إلى الفقر وبالفقير إلى الغنى، فتشتغل من احتاجت من هؤلاء بنشر التعليم في الأمة لاتساع وكثرة معلوماتها ووفرة معارفها، فتعليمنا لهن رقي للأمة بأسرها … أمَّا تعليم الخادمة فلا يكاد ينفع غيرها، خصوصًا وهو تعليم أوَّلي محض، فهي لا تستطيع معه الاشتغال بتعليم غيرها ورفع شأن أسرتها، وكل ما نستفيده من ذلك هو بعض الرَّاحة للسيدات؛ لتستطيع السيدة تكليف خادمتها إحضار الكتاب الفلاني من موضعه، وما ضرنا لو تركت السيدة الكسل، وأحضرت الكتاب بنفسها، ثم لاحظت خادماتها بدقة ومهارة، فقمن بأعمالهن أحسن قيام على ما بهن من الجهل، فإنها لهن بمثابة الرأس من البدن، فعليها أنْ تنظم وعليهن الحركة والعمل.

إننا نحتاج إلى مُعلِّمات ومديرات للمدارس، ويقوم بذلك فينا الأجنبيات الآن، فإن كنا نحب لأمتنا الخير فهل نعد بناتها للخدمة، ونترك المراكز الأخرى للأجنبيات؟ أم نحتفظ أولًا بالمراكز السامية التي تستطيع صاحبتها كسب المال الكثير ونترك الخدمة للأجنبيات على أن نستعد بعد ذلك لأخذها منهن؟

فتحت الحكومة مدرسة التدبير المنزلي بالقبة على فكرة تخريج الخادمات، ولما لم يكن لدينا المعلمات الكافيات فقد قامت خريجاتها بالتعليم، فهل يُعد ذلك نجاحًا في التربية؟ على أنَّ ربة الأسرة متى كانت متعلمة نشيطة استطاعت أنْ تُرشد الخادمات إلى حسن القيام بأعمالهن مهما كنَّ جاهلات، فنحن نستطيع — متى تعلمت فتياتنا التعليم الصحيح — أنْ نستغني عن الأجنبيات بالمرَّة.

لهذا أرى أنَّ أهم ما نحتاج إليه الآن هو فتح كلية وطنية راقية تقوم بترقية الفتاة المصرية أدبيًّا وعلميًّا، فتُدرس فيها العلوم الأساسية كاللغة العربية والحساب، وعلم تدبير الصحة، والتدبير المنزلي، وإحدى اللغات الأجنبية، والرَّسم والنقش وتقويم البلدان والخياطة، وتكون سنون الدراسة بهذا القسم ستًّا، متى أتَمَّتها الفتاة جاز لها أنْ تدخل في قسم أرقى، يُخصص لتعليمها مهنة التعليم ومُدَّته أربع سنوات.

ويُخصص في الكلية فرع لتعليم فَنِّ الموسيقى «البيانو» تعليمًا نهائيًّا، تتخرج فيه معلمات مصريات لهذا الفن، وفرع آخر لتعليم الخياطة تعليمًا علميًّا محضًا، فتتخرج فيه مُعلمات للخياطة، وخياطات مصريات، وتُعين فيه خيَّاطة ماهرة في صناعتها، يقوم بمساعدتها بعض أرامل المصريات اللائي يُبرهنَّ على كمال الأخلاق والسلوك، وبذلك نكون قد أعنَّا الأرامل لا من طرق الصدقة عليهن وتعليمهن الاستجداء تلك العادة الممقوتة التي يجب محوها من كل أمة راقية، بل بتعليمهن الأعمال النافعة التي يمكنهن بها اكتساب القوت بطريقة شريفة، ويقوم هذا الفرع بخياطة الملابس للسيدات بأجور متهاودة، فتتعلم تلميذاته الخياطة بطريقة عملية مفيدة، ويقبل في هذين الفرعين اليتيمات من الأسر الشريفة مجانًا.

ويقوم القسم الأول من الكلية بما يُجمع من مصروفات الغنيات بالنفقة على يتيمات هذين الفرعين.

ولو تكونت جمعية لهذا الغرض، وقامت بإدارة الكلية مديرة تليق بهذا لما كَلَّف الجمعية ذلك إلا إعداد المنزل والأثاث وحث الأغنياء على الإقبال عليها بإرسال بناتهم إليها، ثم يُنسج على منوالها — إذا نجحت — كليات أخرى في أنحاء القطر.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤