تأثير الكتب والروايات في الأخلاق

إنَّ معرفة القراءة والكتابة لا يصح أنْ تعتبر علمًا مستقلًا، وما هي إلا ضرب من التخاطب، فإذا تخاطب شخصان أحدهما بعيد عن الآخر فإنما يتكاتبان، وهذا بمنزلة الحديث إذا كانا قريبين، فمن يتعلَّم القراءة والكتابة لا يُعد متعلِّمًا إلا إذا جعل ذلك سبيلًا إلى نيل العلوم، ومن الأسف أننا نجهل هذه الحقيقة في مصر، ونعتبر من تعلمت القراءة والكتابة مُتعلمة، فإن أخطأت نسبنا ذلك إلى العلم، وقلنا إنَّ التعليم يفسد أخلاق الفتاة، ويعلم الله أنها جاهلة لا علم لديها، وما أخطأت إلا لجهلها، ولكنها عرفت طريقة أخرى في مخاطبة الغائبين عنها، فهي تُعبِّر بتلك الطريقة عن أفكار ساقطة يمليها عليها الجهل والغرور، وهي في ذلك أسوأ حالًا ممن لا تعرف القراءة والكتابة؛ لأنها قد تسجل بكتابتها عارًا لا تمحوه الأيام، أمَّا من لا تعرف القراءة فمن الصعب أنْ يحسب الناس عليها أنفاسها، وقد تقول ما يعاب إلا أنه لا يلبث أنْ يُنسى لأنه لم يُدوَّن.

فمعرفة القراءة والكتابة ليست علمًا، ولكنها بابٌ نصل به إلى جميع العلوم، هذا إذا ولجناه، أمَّا إذا تركناه مُغلقًا فلا سبيل إلى تلك الغاية، فإن الإنسان يتعلم من مطالعة الكتب النافعة أضعاف ما يكتسبه في المدارس؛ لأن زمن التعليم قليل، والمواد المقرَّرة فيه محصورة، فإذا اقتصر عليها الإنسان لم يستفد منها علمًا حقيقيًّا وتجربة صادقة؛ ولذلك نرى أنَّ كثيرًا من الرِّجال الذين تعلَّموا في مدرسة واحدة، ونالوا شهادات واحدة مختلفو الدرجات في العلوم، هذا عالم خبير وذاك غر جاهل؛ وما ذلك إلا لأن أحدهما تعلَّم فنما عقله وازدادت معلوماته، أمَّا الآخر فقد اقتصر على ما تعلَّم داخل المدرسة، ولم يستعمله فصدأ عقله ونسي ما تعلمه.

التلميذ في المدرسة يتعلم من أساتذة معدودين، وقد لا يكون بينهم نابغة، ولكنه يُطالع في الكتب النافعة أفكار نابغي الأمم في عصور مختلفة مع عناية هؤلاء النابغين بترتيب الأفكار وسردها سردًا سهلًا محكمًا، فيستفيد منها ما لم يستفده من المعلِّمين، وهكذا مُطالع الصحف، فإنه وإن كان يطالع أفكار أبناء عصره إلا أنه يستفيد من ذلك أكثر ممن خالط هؤلاء الكتاب؛ لأنهم لا يتكلمون بنفس الحيطة والرَّويَّة التي يكتبون بها، هذا فضلًا عن أنَّ المطالع قد تمر عليه الفكرة الواحدة بعدَّة تغيرات متباينة، يقرؤها في كتب مختلفة، فتثبت في ذهنه، فلا ينساها مهما تقادم العهد، فالمطالعة لها تأثير حسن في الأخلاق والمعارف، ولهذا كان أفضل المدارس ما اجتهد معلموها في تنمية حب المطالعة والبحث في نفوس الأطفال؛ ليستفيدوا إذا كبروا، فإنه لا يستطيع المعلمون مهما اجتهدوا أنْ يعلموا الطفل ما يحتاج إليه من المعارف، ولكنهم إنْ أحسنوا أرشدوا الطفل إلى المطالعة، وغرسوا في نفسه حب الكتب والولوع بالبحث والكشف، فيأخذ من العلوم ما أراد … ومن الجهل أنْ نظن أنَّ المدارس كافية لإخراج رجال ونساء متعلمين كاملين، وما التعليم فيها إلا تمهيد لما يكتسبه الإنسان باجتهاده بعد ترك المدارس.

ولقد سعى كثير من علماء التربية في أوروبا وغيرها في استمالة الأطفال للمطالعة، فألفوا لهم الحكايات الوهمية والروايات؛ ليجتذبوهم إلى الكتب، والطفل بطبيعته مولع بالحكايات، فهو يجتهد في مطالعة تلك الكتب، فتفيده في تهذيب الأخلاق وفهم الأفكار المدونة، وتعده لفهم الكتب النافعة في المستقبل، ولم يشأ علماء التربية أنْ يفاجئوا الطفل بكتب العلم والتهذيب الصريح خوفًا من أنْ يملها أو يصعب عليه فهمها فينفر منها.

إنَّ الروايات إذا كُتِبَت بقلم نابغة يستطيع تمثيل الأخلاق والعادات، ووضع ذلك في قالب جميل وعبارات جزلة شَوَّقَت الأطفال والشبان إلى قراءتها، وكانت لهم بمثابة «نظارة معظمة»، ينظرون بها الفضيلة والرذيلة مجسمة، فينغرس في نفوسهم حب الأولى والنفور من الثانية، وفي الروايات من ذكر النبوغ والاشتهار ما هو فوق الغلو، فيعجب به الطفل لغرابته، وربما علمه ذلك الشغف بحب الظهور، فهانت عليه مكابدة المشاق في الحصول على العلم حبًّا في الاشتهار، وهي فضلًا عن ذلك تعلم حسن الإنشاء، وسلامة الذوق في اختيار العبارات الرقيقة والمعاني الجزلة، والإنسان بطبيعته مُقلِّد ماهر وخصوصًا الطفل؛ فإن قوة التقليد عنده عظيمة، فهو يقلد ما يقرؤه ويردده بدون أنْ يشعر بذلك … ولا أشترط في انتخاب الروايات أكثر من أنْ يكون مؤلفها صحيح الجسم والعقل، تدل كتابته على سلامة الذوق في اختيار المواضيع، فبالنسبة مثلًا للروايات التاريخية فإنها — وإن كانت تفيد الإنسان — معلومات حقيقية إلا أنها مغالى فيها إلى حد بعيد، ولا بأس بالروايات الغرامية ما دامت الغاية منها التعبير عن الغرام والتشنيع بعواقبه، خصوصًا وإن أكثرها ينتهي الغرام فيها إمَّا بفضيحة أو بعاقبة محزنة، وفي كلتا الحالتين عبرة ورادع للقارئ إن كان لديه ذرَّة من العقل والاستعداد للخير، أمَّا إذا كان شريرًا غبيًّا فقد تنعكس العبرة في نفسه، ومثل هذا فاسد لا محالة، ولا ذنب للروايات في خبث نفسه.

من الخطأ المحض أنْ يظن المربُّون أنه من حسن التربية جهل الطفل بجميع الرذائل وعدم ذكرها أمامه بالكلية، فإن المربِّي الذي يُعرِّف الطفل مضار الرذائل قد قام بواجبه نحو تلميذه، فإن أراد الطفل إلا الوقوع في تلك المضار كان هو الجاني على نفسه مع علمه بسوء العاقبة، بخلاف الجاهل بالشيء؛ فقد يقع فيه لجهله بعاقبته، ويكون مسئولًا عن ذلك التقصير، كالرَّجل الذي يسير في طريق يجهلها وفيها مخاوف لا يعرفها، فإن لم يرشده العارف بها إلى موضع تلك المخاوف، فقد يقع فيها على جهل بها، وهو في ذلك معذور، واللوم كل اللوم على من لم يُظهر له ذلك الضرر قبل الوقوع فيه.

والطفل في حاجة شديدة إلى تكوين عقله وتقوية تصوره بالمطالعة، ولكنه لا يستطيع الصبر على مطالعة الكتب العلمية أو التهذيبية، فيجب أنْ يكون لديه كثيرٌ مما ذكرت من كتب الحكايات؛ لتتربَّى عنده ملكة الإنشاء والفكر، ولكننا نخطئ كثيرًا في ذلك، فنمنع أطفالنا — خصوصًا البنات — من مطالعة تلك الكتب السهلة عليهم، فتكون النتيجة عدم مطالعتهم بالمرَّة لصعوبة الكتب الأخرى عليهم، وعدم ميل النفوس الصغيرة إليها، ويكون ذلك عادة لهم إذا كبروا، فلا يهمهم البحث عن نفائس العلوم في بطون الكتب والمجلات.

الإنسان قابل للزيادة في العلم طول عمره، فإن تعود المطالعة كانت أعظم أستاذ ومساعد له في إحراز ما أراد، ولذلك اهتم العرب بتعويد الأطفال حب المطالعة؛ لأنها مفتاح العلوم، وإذا كان هؤلاء الأعاجم يهتمون بوضع كتب فكاهية وروايات ليجذبوا الأطفال إلى مطالعتها، مع أن لغة المتكلم عندهم هي نفس لغة الكتابة، فإننا — نحن النطاقين بالضاد — أولى منهم بذلك، فالطفل يدخل في مدارسنا وهو جاهل باللغة التي يكتب بها، فلا نهتم بتسهيل ذلك عليه، بل نكثر له من القواعد التافهة، ولا نلفته إلى المطالعة خارج المدرسة، حتى إذا كبر عجز عن التعبير عن ضميره لقلة مادته وجهله بمعاني اللغة العربية، وينصرف إلى مطالعة كتب الحكايات باللغة الأجنبية، فلا يلبث أنْ يجد اللغة الأجنبية أسهل عليه من اللغة العربية؛ وذلك لعدم مطالعة الكتب العربية.

إنَّ أعظم ما تُخْدَم به اللغة العربية الآن هو تأليف أو ترجمة حكايات وروايات مفيدة بإنشاء سهل جميل الأسلوب والعبارة وحفظها في مكتبات المدارس، وحث التلاميذ على مطالعتها، فقد سئمنا أنْ نرى التلميذ نابغة في النحو والصرف، يعرف الإعلال والإبدال، ولكنه لا يستطيع حسن التعبير باللغة العربية الصحيحة لقلة مادته، وجهله بأساليبها ومعانيها، وبعده عنها بعدًا واسعًا.

ولقد قام نقولا أفندي رزق صاحب «الروايات الجديدة» ببعض الواجب في رواياته، فما بال المدارس لا تزال محجمة عن إدخال مثل هذه الكتب في مكتباتها؛ ليطلع عليها التلاميذ كما يطلعون على أمثال ذلك في اللغات الأجنبية؟! يجب أنْ نحث التلاميذ على مطالعة الكتب الفصيحة بقدر ما يجب علينا إبعادهم عن قراءة الأفكار الساقطة والعبارات الركيكة، ومن الأسف أنْ مثل هذه الكتب المنحطة قد نشرت في مصر بكثرة، فلا تكاد تصادف تلميذًا صغيرًا إلا وفي يده كتاب من كتب الحكايات المكتوبة باللغة العامية، أي بتلك اللغة المتغيرة الساقطة التي هي مجموعة غلطات في نفس اللغة العربية وخليط من لغات أخرى متعددة، وتدلنا عبارات تلك الكتب المنحطة عن انحطاط مؤلفيها، فهي تنفث الفساد في قلوب الأطفال، وتعودهم أسلوبًا ساقطًا منحطًّا في كتاباتهم، وكان يجب على المدارس مصادرة مثل هذه الكتب، ولو صادرتها الحكومة لكان ذلك أنفع للأمة من مصادرة الصحف.

يميل التلاميذ لقراءة مثل هذه الكتب لعدم وجود كتب حكايات سهلة باللغة العربية الصحيحة، فهم لكثرة مطالعتهم لها يُقلِّدونها في إنشائها، فقد اعتادوا على أسلوبها مهما أرشدهم المعلمون إلى الأسلوب الصحيح، وحذروهم ذلك الأسلوب المنحط، فكلما بنى المعلمون الأكفاء هدمت تلك الكتب ما بنوه، وضيعت مجهوداتهم سدًى، فلو رفع هؤلاء المعلمون قضية مدينة يطلبون فيها التعويض من مؤلفي تلك الكتب الساقطة أمام قاضٍ ذكيٍّ عادل لحكم لهم بذلك لما ينالهم من الضرر في مهنتهم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤