الأفراح والمهور

إنَّ في إقامة الحفلات على اختلافها وحضور المجتمعات، ما يدعو القوم إلى التضامن والاتحاد؛ ولهذا أمر الدين الإسلامي الحكيم بالاجتماع في أيام الجُمع بين أهل البلد الواحد، كما أمر بالاجتماع العمومي في الحج لأهالي البلاد المترامية الأطراف، فيجتمعون لأداء فرض الحج، وهناك يتعارفون ويتآخون، فيتحدون ويتعاونون …

حث على مثل هذه الاجتماعات الدين الإسلامي، وهو دين الحضارة المشهور بالنظر في احتياجات البشر، كما حضَّ على الاجتماع في الأعياد والمواسم لنفس هذا الغرض، وحتَّم كذلك كشف وجه المرأة في الحج، ومنه نعلم أنَّ المرأة لها ما للرجل من الحقوق الاجتماعية … ولقد سارت جميع الأمم على مثل هذه المبادئ النافعة، فما من أمَّة إلَّا ولها أعياد تجتمع فيها فتلهو وتتسامر، وقد تطرَّقت الناس من هذا إلى الاحتفال بكل ما يجب الاحتفال به — كذكرى بعض الحوادث المهمة أو الرِّجال المشهورين — ويختلف هذا الاجتماع باختلاف أحوال الأمَّة، فالأمَّة المتيقظة تكثر مجتمعاتها، ويُعتبر هذا دليلًا على تقدُّمها نحو مستقبلها، وهو ما نستبشر به، ونرجوه للأمة المصرية الآن، وقد بدأت تشعر بالاجتماع والتعاون، ومن أهم الأمور التي يحتفل بها الناس إقامة الأفراح عند الزواج، وكان ذلك ولا يزال في جميع الممالك على اختلافها، ولكل أمة منها عادات مخصوصة، وفي ذلك معنى شريف يدل على اهتمامهم واحتفائهم بعقد تلك الرابطة بين الزوجين، كما أنَّ فيه إعلان لجميع معارفهما بهذا الاتحاد الجديد، ولقد عنيت الديانة الإسلامية بهذا الأمر، فأوجبت وجود الشهود عند العقد، وما إقامة الأفراح إلَّا زيادة في عدد هؤلاء، حتى لا يتأتى لأحد الزوجين إنكار الآخر.

الاحتفال بهذه الرابطة معقول محبوب، ما دام بعيدًا عن الإسراف والتبذير، فإن الغرض منه ليس أكل الألوان المختلفة، ولبس الملابس الفاخرة، بل هو الاحتفال بهذا الاتحاد وإظهار أهميته، كما يكون داعيًا إلى التودُّد وصدق المحبة بين الأسرات المختلفة، فيتعودون منه التعاون؛ إذ يعين هذا صديقه في إقامة فرحه، كما يبادر الثاني بإعانته إذا احتاج إليه؛ قيامًا بواجب الجميل السابق …

والزواج أمر يخرج به العروسان من حياة إلى حياة أخرى جديدة … فالاحتفال به واجب، والنظر في شأنه وفحصه قبل ذلك أحق وأولى بالعناية، فعلى أهل العروسين أنْ يتخيَّروا لهما مستقبلًا حسنًا، وخصوصًا أبا الفتاة، فيجب أنْ يدقِّق البحث، ويتحقق من حسن العاقبة قبل أنْ يمد يده بالرضا، حتى إذا تم ذلك احتفل بتلك الرابطة الجديدة احتفالًا بعيدًا عن الإسراف، جديرًا بأن يجتذب العقلاء الأفاضل، لا أهل الطرب والمجون، فلا داع — في رأيي — للطبول والزمور، وطهي الأطعمة المختلفة، والمسابقة في المآكل والملابس، بل يكفي أنْ يدعو الرَّجل أصدقاءه، ولو على شرب القهوة والشاي، ويتسامرون فيما يُرقِّي شأنهم جميعًا، ويعود بالفائدة عليهم وعلى العروسين، ويستعد الجميع لهذا الاحتفال بلبس بسيط متفق عليه فيه اقتصاد ووقار، وبهذا تتم الفائدة المطلوبة من الاحتفال، وهي التودد والمؤاخاة لا التنافس والتحاسد …

كلنا يعلم أنَّ المال لا يرفع وضيع النفس، ولا يضع الرَّفيع، متى كانت النفوس عالية متربية، فإننا نهتم بالفضائل، ونتفاخر بها ناظرين إلى ذلك المال نظر الحكيم العاقل، الذي يعرف أنه عرَض زائل، فنترفع عن التفاخر به، ونظهر أمام أصدقائنا بأبسط الملابس، وفي ذلك حفظ لثروتنا، ومانع لنا من التحاسد والتباغض، وسبب للاتحاد والتعاون، ودليل ظاهر على رقينا الأدبي، واهتمامنا بالنفوس لا بالأزياء … فاللبس البسيط يستطيعه الغني والفقير، فإن اتفقنا على لبس معين منه في احتفالاتنا لذهب ذلك بالفروق بين الأشخاص، فزال التنافر وحل محله الاتحاد والوئام، وهو الغرض من كل احتفال، وظهور القوم واحتفالهم بلبس واحد دليل على اتحادهم وحبهم للنظام والترتيب، وهو ما نهمله كثيرًا، أما أفراحنا الحالية فهي قد تنتج عكس ما قُصد بها من ذلك التودُّد والمؤاخاة، فيلبس صاحب الفرح أفخر ملابسه، ويجتهد أنْ يظهر أمام ضيوفه بمظهر الأبهة والعظمة، ويغالي كل من المدعوين في الظهور بالغنى، فيخرج كل منهم وهو لا هم له إلَّا الطعن في غيره، وتسفيه رأيه فيما قال أو أظهر من الغنى والجاه، وتخرج كل فتاة تلهج بذكر لبسها، وتذم لبس غيرها من الفتيات مثيلاتها، فتغتاب كل منهن الأخرى حبًّا في الظهور دونها … وهذا ما لا نريده بالحفلات.

أمَّا المهر فهو مقدار من المال يدفعه الرَّجل للمرأة؛ ليؤيِّد به الرابطة الزوجية، وقد أراد به الله — سبحانه وتعالى — تقوية الرابطة بين الرَّجل والمرأة، فإنه يحرص عليها؛ خوفًا على ضياع ماله الذي دفعه فيها، وهي ترضى عنه وتميل إليه؛ لبذله النفيس في الحصول عليها، حتى إذا استوثقت الرابطة بينهما أمكنهما أنْ يستفيدا من ذلك المال معًا، ويكون ذلك داعيًا إلى زيادة الألفة بينهما.

ولقد اختلف العلماء في مقدار الصداق، واستدل بعضهم بالحديث الشريف على أنه يُكتَفى فيه ولو خاتمًا من حديد، وهذا التقدير لا يتفق مع روح العدل والحكمة اللذين قصدهما القرآن الكريم، وبهذا التفسير يخرج الصداق عن معناه الأصلي، ويصبح اسمًا بلا مسمى، وما فرض الله — سبحانه وتعالى — شيئًا إلَّا لحكمة، وما أراد بالصداق إلَّا النفع الحقيقي للعروسين، فإن صح للفقير المعدم أنْ يعطي ما استطاع كهذا الخاتم أو غيره، فلا يصح للمتيسر أنْ يبخل بماله في تأييد تلك الرابطة، فإن قلَّة المهر قد توهي رابطة الزواج، ولا شك أنَّ الرَّجل الذي لا يتكلَّف في الزواج إلَّا النزر القليل من المال، لا يخشى عاقبة الطلاق، ولا استبدال الزوجات، ولو كان الطلاق بيد المرأة لصح أنْ تدفع هي المهر؛ لتحافظ على الرابطة خوفًا على ضياع مالها، أما وهو القائم بأمر الطلاق المتسبب فيه غالبًا بلا سبب جوهري، فلا بُدَّ من أخذ الضمان عليه بما يدفعه من ذلك المهر.

ولعل العلماء قرَّروا ذلك المبلغ الزهيد؛ لأنهم هم الدافعون للمال، ولو كلف الله المرأة دفع الصداق لقرَّروا كثرته وذكروا قوله تعالى: وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَارًا. نعم، كانوا سيكرِّرون تلك الآية مستشهدين بها على كثرة المهر، أمَّا الآن وهم المكلفون بالدفع فلا بدع أنْ يفسروا ذلك بما شاءوا، وهذا دأب الرِّجال سامحهم الله، فما أكثر ما يتساهلون في أداء ما فرض الله عليهم ويغفلون عنه، وينتقدون أي إهمال صغير في جانب المرأة، حتى وإنْ كان ذلك في بعض السنن المحبوبة لا الفروض الواجبة … وأوضح مثال لذلك أعمال علماء الإسلام من إهمال ما فُرض عليهم من قطع يد السارق ورجم الزاني، ولم يروا في ذلك خروجًا عن الدين الإسلامي، مع أنه أمر بذلك بعبارة صحيحة لا تحتمل التفسير والتأويل … ولكنهم رأوا في خروج النساء للعمل النافع ما يخالف الدين، فنهوا عنه وليس هناك من آية تحرم ذلك …

ولنعد إلى موضوعنا الأصلي، فأقول إنَّ مضمون الآيات الواردة في الصداق يدل على كثرته بقدر طاقة الزوج، ولهذا قال تعالى: فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَّرِيئًا مما يدل على أنَّ الرَّجل قد يعطي امرأته ما هو في حاجة إليه، ثم يسترضيها بعد ذلك؛ لتسمح له بالأخذ منه عند الحاجة، ورجل هذا حاله قد أعطى فوق طاقته … إنَّ كثرة المهر تدعو الرَّجل إلى الحرص على امرأته؛ خوفًا من خسارة ماله بلا فائدة، والشيء الذي لا يحصل عليه الإنسان إلَّا ببذل المال الكثير، لا يفرِّط فيه إلَّا بعد الجهد والعناء … هذا وفي كثرة المهر حث للشباب على العمل واكتساب المال قبل الزواج، حتى إذا اجتمع لديهم ما أرادوا منه بحث كل واحد عن خير فتاة يعطيها ذلك المال الذي بذل الجهد في اكتسابه، ويحرص عليها حرص الأعور على عينه، لا أنْ يتزوج وهو لم يزل تائهًا عن طرق الكسب، فيلقي بنفسه وامرأته وأولاده في شقاء الفقر والحاجة ولا يعرف لهم قيمة.

إذا نظرنا إلى هذا علمنا أنَّ الزوج يجب أنْ يُكلَّف دفع صداق يليق بمقامه ومقام أسرته، ولا يصرف هذا الصداق في أشياء تافهة كما يُفعل الآن، بل يُحفظ باسم الزوجة، ويضيف إليه والدها نفقات الفرح والأثاث الزائد على الحاجة، ثم يشتري لها به شيئًا ثابتًا كالعقار وغيره، فإن اتفقت مع الزوج — وهو ما يجب أنْ نسعى إليه بحسن الاختيار — كان ذلك لهما ولأولادهما، وإنْ أراد استبدالها كان ذلك ضمانًا لها من الحاجة، وهو لا شك ما أراده الله في كتابه العزيز.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤