الفصل الأول

المرحلة الأولى: التدين الخالص

كنت غلامًا تسري في أوصاله المشاعر الدينية إلى حد الخشوع الذي يتصدع له الجبل …

زكي نجيب محمود، «قصة عقل»، ص١٢

(١) بداية الطريق

نشأ زكي نجيب محمود في قرية «ميت الخولي عبد الله»، في أسرةٍ متدينةٍ، وتلقَّى أولى مراحل تعليمه، شأنه شأن أطفال قريته، في «كُتَّاب الشيخ ربيع»، فلم تكن أسرته قد غادرت بعدُ الريف إلى المدينة.

في هذا الكُتَّاب تعلم مبادئ اللغة العربية (أحرف الهجاء)، ومبادئ الحساب، و«قبل ذلك، وفوق ذلك، وبعد ذلك»، على حدِّ تعبيره،١ كان يحفظ بعض قِصار السور من القرآن الكريم. وظلت هذه الخبرة الدينية المُبكرة لطفلٍ في الرابعة من عمره، أو بعد الرابعة بقليلٍ، تعتمل في نفسه، وتتردَّد بين جوانحه طوال حياته لدرجة أنه يذكرها بتفصيلٍ واضحٍ حتى «بعد أن جاوز الشيخ الثمانين من عمره».٢ يقول عن هذه الخبرة الدينية المبكرة «كان ما يحفظه من القرآن هو أوضح معالم الساعات التي كان الطفل يقضيها في الكُتَّاب كل يومٍ. ولا عجب أن أرى شيخ الثمانين، إذا ما استعادت له الذاكرة حياته طفلًا، لا يكاد يذكر من خبرة الكتاب شيئًا مما كان يقرؤه أو يكتبه من أحرف الهجاء أو أعداد الحساب، أما ما كان يحفظه ويُعيده أمام الشيخ ربيع من آيات القرآن الكريم؛ فهو باقٍ في ذاكرته في وضوحٍ ناصعٍ …»٣ صحيحٌ أنه يذكر لنا أن ما استقرَّ في أعماقه، ولم ينسه أبدًا هو وقع النغم القرآني في مسمعيه، لكنا لا يمكن أن نتوقع شيئًا أكثر من ذلك من طفلٍ في هذه السنِّ الصغيرة، وإن كُنَّا نودُّ أن نلفت النظر إلى أن «وقع النغم القرآني» لم يكن بالأمر الهيِّن، فقد كان مأخوذًا به على نحوٍ ملك عليه نفسه، حتى إنه كان «يُردد الآيات القرآنية ما بقي له من صحو النهار» … «ومن يدري هل كانت تلك الفتنة بإيقاع النغم القرآني تختفي عنده في نُعاسه، أو كانت تواصل ظهورها في أحلامه.»٤ وهذا ما يدفعنا إلى القول بأن هذه الخبرة الدينية المبكرة قد تغلغلت في كيانه كله، ولم تفارقْهُ بعد ذلك قط، حتى وإن بدا أنها قد توارت في سنواتٍ معينةٍ، إلَّا أنها كانت في الواقع في مرحلة «كمون»، ثم ظهرت واضحةً بعد ذلك، فخبرات الطفل في السنوات الأولى من حياته، لا سيما إذا كانت عميقةً، لا تُمحى من نفسه على الإطلاق.
ومن الطبيعي أن يكون «النغم القرآني» هو وحده ما سحره دون أن يفهم شيئًا من معاني الألفاظ التي يُكثر من ترديدها … «بل لا أظنه كان يدرك أن للآيات الكريمة التي كان لها في أذنيه ذلك الإيقاع معانٍ يعرفها أو لا يعرفها.»٥ والآيات الكريمة التي أثَّرت في نفس الطفل الصغير تأثيرًا قويًّا يومئذٍ، وكان يُكثر من ترديدها ترديدًا منغمًا هي بصفةٍ خاصة آيات من سورة العاديات: وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا * فَالمُورِيَاتِ قَدْحًا * فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا * فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا * فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا [العاديات: ١: ٤]. حتى إنه كان يصعد دَرج الدار، ثم يهبط الدرج، ثم يصعد، وعند كل درجةٍ منها، صاعدًا أو هابطًا، يضغط على مقطعٍ من تلك الآيات الكريمة، ويدبُّ بقدمه دبَّةًّ قويةً: «وكأن تلك الضربات عنده تفعل فعل الطبلة في المعزوفة الموسيقية، فكان التنغيم يجري معه أثناء صعوده الدرج واحدةً واحدةً هكذا، والعاديات ﺿﺒ … حا، فالموريات قد … حا؛ فالمغيرات صب … حا … إلخ.»٦ واستمرت هذه الخبرة الدينية المبكرة والبسيطة مع مُفكِّرنا الكبير؛ فهو لم ينظر إليها قط على أنها خبرةُ طفولةٍ مرَّت وانقضت وينبغي أن يُسدل عليها الستار، فعندما بلغ عامه العشرين وما بعده؛ أي عندما تجاوز مرحلة الطفولة إلى الشباب، كان معنى الآيات الكريمة لا يزال يشغل تفكيره، فقد انتبه إلى أن إيقاع اللفظ وحده لم يكن يكفي (وهي فكرةٌ سوف يعرض لها بعد ذلك في شيءٍ من التفصيل في «تجديد الفكر العربي»)٧ بل لا بد للفظ أن يحمل مضمونًا يتناسب وزنًا مع حلاوة الإيقاع، حتى لقد أخذ يُراجع محفوظه من القرآن الكريم بحثًا عن المعنى ليكتمل الكمال: «ولقد اندهش دهشةً ارتجَّ لها فؤاده ارتجاجًا، عندما عَلِم أن الآيات الكريمة تصويرٌ معجزٌ لهجمة الفرسان على العدو، آخذًا له على غرة ساعة الفجر، فالجياد تضبح بأنفاسها الحرَّى بعد طول الطريق، وحوافرها من شدة وقعها على حصباء الطريق تقدح منه الشرر، حتى إذا ما أغارت عند فلق الصبح على مكمن الأعداء، وأثارت نقع الغبار الذي غامت به السماء، كان فرسانها قد توسطوا جماعة الأعداء …»٨
فالآيات التي حفظها عن ظهر قلب وهو طفلٌ، ظل يبحث لها عن تفسيرٍ يطمئن إليه وهو شابٌّ، فهل يُدهشنا بعد ذلك أن يصف نفسه بأنه كان «غلامًا تسري في أوصاله المشاعر الدينية إلى حدِّ الخشوع الذي يتصدَّع له الجبل؟»٩ وهل نُخطئ إذا وصفنا أولى مراحله الروحية بأنها مرحلة التدين الخالص …؟ كلَّا! وإن كان هذا الوصف يحتاج إلى مزيدٍ من الدعم والإيضاح.

(٢) الاتجاه نحو التصوف

ظلت هذه المشاعر الدينية المبكرة تنمو في أعماقه حتى مالت به إلى التصوف، والبعد عن دنيا الناس ليحيا في «عالم الأفكار»، وكانت تلك الخاصية من أخصِّ خصائص شخصيته، حتى قال عنها إنها «جانب لا يجوز إغفاله إذا أردنا للصورة أن تكتمل …»١٠ ولقد صوَّر العزلة، بعد ذلك، تصويرًا رائعًا في مقاله «يونس في جوف الحوت»؛١١ لأنها في رأيه عزلةٌ عجيبةٌ، فمن اليسير على الخيال أن يتصوَّر الراهب، وقد اعتزل الدنيا في صومعته يحفرها في صخر الجبل النائي، أو يقيمها بين كثبان القفر البعيد، ويسير على الخيال أن يتصوَّر رجل العلم وقد ألهاه علمه عن شئون دنياه، ويسير على الخيال أن يتصوَّر الشاعر أو الفنان وقد ارتضى لنفسه مقامًا على ربوةٍ معزولةٍ أو في جوف وادٍ عميقٍ، أما هذه الصومعة الفريدة التي آوى إليها يونس فأمرها عجيب … إلخ.١٢
غير أن المشاعر الدينية لم تنحصر في العزلة عن دنيا الناس أو الحياة في عالم الأفكار، وإنما تجاوزت ذلك إلى ميلٍ عارمٍ نحو التصوف، حتى إنه يصف نفسه في الثلاثينيات بأنه كان «صوفيًّا على الطريقة الهندية …»١٣ فما الذي كان يقصده بهذه «الصوفية الهندية» …؟! يبدو أنه يعني بها ضربًا من التصوف يكاد يقترب من «وحدة الوجود»، وهو يضرب لذلك مثلًا واضحًا، فذات يوم من ربيع عام ١٩٣١م (أي في السادسة والعشرين من عمره)، كان يسير وحده بين الحقول في الريف، ووقف طويلًا أمام ماشيةٍ أُلقيت أمامها أعواد الذرة لتطعم، فدارت في ذهنه صورٌ متلاحقةٌ: نباتٌ يتغذَّى من عناصر الأرض، وحيوانٌ يتغذَّى من النبات، وإنسانٌ يتغذَّى من لحم الحيوان، تغذية تسري في دمائه وفي أعصابه، فإذا هو يُخرج غذاءه ذاك علمًا وفلسفةً وشعرًا … ملأته هذه الفكرة فكرَّ راجعًا إلى داره ليكتبَ مقالًا مُستفيضًا بعنوان «وحدة الوجود»، ويُرسله فيُنشر في مجلةٍ كان يُصدرها سلامة موسى باسم «المجلة الجديدة».١٤
ولم تكن هذه الفكرة التي ملأت وجدانه، ولا المقالة التي كتبها، أحداثًا عابرةً في حياته؛ فهو يروي لنا في آخر كتبه، بعد أن تجاوز الثمانين، أن فكرة «وحدة الوجود» ظلت تعاوده بين الحين والحين، كما ظلَّت عزلة التصوف والحياة مع «الأفكار» من أخصِّ خصائص شخصيته.١٥
ويعتقد مفكرنا، وهو يروي سيرة حياته العقلية، أن أجمل ما كُتِب عن فكرة وحدة الوجود التي كانت تُعاوده، مقالٌ بعنوان «درس في التصوف»، نُشر في عددٍ خاص من مجلة الرسالة في ٣ مارس عام ١٩٤١م.١٦ والمقال عبارة عن حوارٍ بين أستاذٍ متصوفٍ مؤمن بوحدة الوجود، وتلميذه الشاب الذي كان في البداية عابسًا نافرًا مما يقوله الأستاذ من أنه لا فرق في الأعماق بين إنسانٍ ونباتٍ وحيوان، بل لا فرق بينه وبين الجماد نفسه … إلخ. ثم يُعلِّق مفكرنا على هذا المقال بقوله: «تلك كانت صوفيةٌ نزعَ إليها صاحبنا منذ فرغ من دراسته، وأخذت تعاوده حينًا بعد حين، وامتدت معه أعوامًا جاوزت في عددها عشرة …»١٧
وفي هذه الفترة المبكرة كتب دراسةً مطولةً عن «أبي بكر الصديق» في مجلة المعلمين العُليا، أبريل عام ١٩٢٨م، وقد استوقفه أبو بكر كرجلٍ نهض بالإسلام نهوضًا عظيمًا، «ثم استوقفني أبو بكر كرجلٍ مفكِّرٍ ذي عقلٍ كبيرٍ أوجدته الطبيعة ليكون منارًا للإنسانية بأسرها …»١٨ كان أبو بكر قد نشأ في بيئةٍ بدويةٍ قاحلةٍ.١٩ ومع ذلك فقد درج حتى كونته الطبيعة إلى أن وصل إلى مراتب العظمة والخلود …٢٠ وعلى الرغم من أن المقال ينطوي بصفةٍ عامة على الإشادة بمناقب أبي بكر، فإنه لا يخلو من نقدٍ لجوانب الضعف التي ارتآها في «خليفة عُرِف بالصلابة والحكمة في جميع مواقفه».٢١ و«لعل هذا التناقض راجع إلى صفتين بارزتين في أبي بكر وهما: مضاء العزيمة والرقة، فبينما كان يصول صولة الأسد في وجه المرتدين الكفار؛ إذ نراه يُداعب الفقراء واليتامى في حنانٍ وعطف.»٢٢ واهتمام مفكرنا بتحليل الشخصيات الإسلامية الكبيرة، وهو في الثالثة والعشرين، يدعم الفكرة التي نحاول عرضها في هذا البحث، والتي تقول: إن زكي نجيب محمود قد بدأ مُتدينًا وانتهى متدينًا، فقد لازمته المشاعر الدينية طوال حياته، ولم يتخلَّ عنها قط، وإن كانت قد توارت في فترةٍ معينةٍ؛ فالسبب أنه رأى عندئذٍ أن ما يحتاجه مجتمعه هو ضرورة الاهتمام «بمنطق العقل» الذي هو صانع الحضارة، والذي اختفى من ثقافتنا نظرًا لسيادة الوجدان والمشاعر الدينية، وإن لم يتخلَّ عن هذه الجوانب أبدًا، ولكنها كانت في «مرحلة كمون» تنتظر الفرصة السانحة للظهور، وقد واتته هذه الفرصة في السنوات الخمس التي قضاها أستاذًا بجامعة الكويت.
وينتمي إلى هذه المرحلة أيضًا مقاله الجميل عن «هجرة الروح»، وقد كتبه في ذكرى «الهجرة النبوية» وبوحي «هذا اليوم الخالد»، وقد أراد أن يُقدِّم معنًى جديدًا للهجرة، فلئن هاجر النبي من مكة إلى المدينة «فجاءه نصر الله والفتح … فهاجر أنت من خلال العقل إلى إيمان القلب والسكينة والقرار. ولقد كانت هجرة النبي مولدًا جديدًا لرسالته، فأرجو أن تكون هجرتك من كتبٍ إلى كتبٍ بحثًا جديدًا لروحك المعذَّب الظمآن.»٢٣ وهو يحاول، في هذا المقال أن يبُرهن على «خلود الروح» ببرهان في غاية البساطة يعتمد أساسًا على رغبة الإنسان في الخلود، وأمله في أن يتحقق له الخلود بعد الموت، «فرغبة الإنسان في الطعام ما كانت لتوجد لو لم يكن الطعام موجودًا، ورغبة الإنسان في زمالة الأصدقاء يستحيل أن تنشأ إن لم يكن للإنسان الواحد ناس يزاملونه ويصادقونه … ويستحيل أن يكون لدى الإنسان رغبة في الخلود ما لم يجد في فطرته وجبلته ما يوحي إليه أنه خالد …»٢٤
والغريب أنه في نهاية المقال يضرب المثال بالأديب الروسي «ليون تولستوي» … (١٨٢٨–١٩١٠م)، الذي «غاص في أغوار الفكر وغاص، ثم انتهى به الزمن أن يُفرغ مكتبته من كلِّ ما فيها على أنه باطلٌ وهراء، ولم يُبق على رفوفها سوى الكتاب المقدس، وبعض الكتب الدينية!»٢٥ فتولستوي بعد أن قرأ الكتب الفلسفية ذات المذاهب المختلفة، واستطلع آراء أفلاطون، وكانط، وشوبنهور، وبسكال، لم يجد السكينة والطمأنينة إلَّا في الدين! فلئن كان العقل قد عجز عن الوصول به إلى برِّ الأمان، فيلجأ إلى القلب ويدعو ربه قائلًا: «اللهم هبني إيمانًا قويًّا، املأ به قلبي، واهدِ إليه غيري …»٢٦

ألسنا نجد هنا «تدينًا خالصًا» يصل إلى حدِّ الخشوع الذي يتصدَّع له الجبل …؟!

ومن «هجرة الروح» سننتقل إلى «هبوط الروح» من عليائها لتستقرَّ في البدن، على نحو ما يحللها مفكرنا في شرحه لعينية ابن سيناء الشهيرة، ثم إلى «دفاعه عن المعجزة» لنصل في خاتمة المطاف إلى قمة هذه المرحلة في نقده لديفيد هيوم، و«المدرسة السلوكية» في محاولةٍ لتعريف «النفس»، وذلك في رسالته للدكتوراة عن «الجبر الذاتي».

(٣) عينية ابن سينا

كانت أُولى لفتاته الفكرية، إذن، في أول أعوام الثلاثينيات متجهةً نحو صوفية ترى أن الوجود كل وحدة لا تعدد فيها، ولا تمايز بين أجزائها، اللهم إلا في المظهر الخارجي الخادع.

وفي نهاية الثلاثينيات (حوالي ١٩٣٧م) كتب شرحًا جميلًا لعينية ابن سينا التي يشرح فيها هبوط الروح إلى البدن، والتي مطلعها:

هبطت إليك من المحل الأرفع
ورقاء ذات تعززٍ وتمنع
وقد قال عنها عندما نشرها عام ١٩٥٧: «كتبت هذه المقالة منذ أكثر من عشرين عامًا، كتبها الكاتب وهو في صدر الشباب …»٢٧
والقصيدة تدور كما قلنا، حول هبوط الروح: «وما أدرَاك ما الروح؟ هذا السر العجيب الذي سرى واستكن بين أحنائك، فلا تكاد تدري من أمره شيئًا! وهل يُداخلك شيءٌ من الريب في أنك مزيجٌ من مادةٍ وروحٍ …؟»٢٨ ثم يعرض لهذا المركب الذي يتألف منه الإنسان فيقول:
أما المادة فهي هذا اللحم والعظم، وأما الروح فهي تلك الفكر الرائع، الخيال البارع، وتلك الحركة المتوثبة الدافعة، حتى إذا جاءك يومًا قضاؤك المحتوم، انطلق كلٌّ من العنصرين إلى سبيله! فأنى لك هذا السر المكنون وأيَّان يذهب بعد الموت …؟٢٩
ويتخيَّل مفكرنا كيف كانت الروح تعيش في علياء سمائها، في المحل الأرفع، سابحة مع العقول المجردة روحانية خالصة لا تشوبها شائبةٌ من المادة، ثم هبطت من عليائها بحركاتٍ رشيقةٍ أشبه بحركات الطير سابحة في أجواز الفضاء، بعد أن طال ترددها، واشتدَّ تعزُّزها وتمنعها، حنينًا إلى عالمها القدسي الرفيع، لتستقرَّ في الجسد لتعيش فيه فترةً من الزمان.٣٠ ولا يفوته أن يُنبِّهنا إلى أن الروح لا تُدرك بالحواس فهي «تتعالى عن إدراك العيون! وكيف تريدها على الظهور أمام مقلتيك، وهما لم تخلقا إلا لرؤية الأجساد المادية وحدها؟ … أما هذه الماهية المجردة فهيهات أن تدركها بالنظر!»٣١ وهي إذا كانت تأبى أن تبدو للحواس فذلك لأنها تعلو بنفسها عن هذا الدرك الخسيس، وهي تتضح وتجلو لكل عاقلٍ من الناس يبحث عنها بعقله في آثارها ودلائلها؛ فالروح، إذن، مع كمال خفائها، وشدة غموضها عن العين يمكن إدراكها بالعقل لمن يريد معرفتها بالدليل والبرهان …٣٢

ومعنى ذلك أنه إذا كانت الروح لا تُدرك بالحواس؛ فإن هناك طريقًا آخر للوصول إليها، ولا ينبغي إنكار وجودها بحجة أننا لا نراها، ولا نلمسها … إلخ، وتلك هي الفكرة التي سوف يطوِّرها بعد ذلك في نقده لديفيد هيوم في رسالته للدكتوراه التي سنعرض لها بعد قليل. أما الآن فإن علينا أن نتوقف قليلًا عند مقال هامٍّ كُتب في هذه المرحلة ودافع فيه عن المعجزة.

(٤) دفاعٌ عن المعجزة

كتب مفكرنا خلال الثلاثينيات مقالًا بعنوان «بين المعجزة والعلم» على هيئة حوارٍ أجراه مع نفسه، يرد فيه على ما يزعمه بعض المفكرين من وجود تعارضٍ بين المعجزة وقوانين الطبيعة، ومن ثم يُنكرون المعجزات التي وردت في الكتب المنزَّلة، مثل أن الشمس وقفت ليوشع، أو أن البحر قد انشقَّ بعصى موسى، أو أن السيد المسيح كان يبُرئ الأكمه والأبرص بلمسةٍ منه … إلخ، فذلك كله، في رأيهم، يتعارض مع العلم وقوانينه. ولقد قام مفكرنا في هذا المقال بتحليل القوانين العلمية منتهيًا إلى أن المعجزة لا تبطل القانون العلمي، ويمكن أن نُلخِّص مضمون المقال في النقاط الآتية:
  • أولًا: انتهى العلم إلى أن الطبيعة المادية لا تسير وفق قانونٍ صارمٍ، بل إنها قد تغيَّر سلوكها بما لا يمكن التنبؤ به، شأنها شأن الكائنات الحية سواء بسواء، بل أن هناك من بين أساطين العلم مَن يزعم أنه ليس في الطبيعة كلها موجودات تخلو من الحياة أو ما يشبه الحياة، وكل الفرق بين حياتها وحياة الإنسان هو في الدرجة لا في النوع، لكن إذا كانت الذرة الفردية على شيءٍ من الحياة، وأنها قد تُغيَّر في سلوكها، فإنها في مجموعها أقرب ما تكون إلى النظام الدقيق في سيرها. كما أن الإنسان الفرد حرٌّ في تصرفه، إلى حدٍّ بعيدٍ، ولكنه في المجموع يسير وفق أسس وقواعد لا تكاد تعرف الشذوذ، وهي فكرةٌ سوف يُطورها مفكرنا بعد ذلك في رسالته عن «الجبر الذاتي».
  • ثانيًا: إذا افترضنا أن القوانين الطبيعية يستحيل عليها الخطأ، وأن المادة لا تملك لنفسها تغييرًا ولا تبديلًا عمَّا رسمه لها قانونها الأعلى: فمن ذا الذي يزعم أن المعجزة كسرٌ للقانون الطبيعي، وأنه لذلك يجب اطراحها ونبذها؟ افرض أن قانون الجاذبية صارمٌ لا يقبل الشذوذ، وأن التفاحة إذا انفصلت عن فرعها، سقطت من فروعها إلى الأرض، بفعل قانون الجاذبية هذا، لكن هب أن يدًا امتدت إلى التفاحة أثناء طريقها إلى الأرض، فلقفتها فحالت بذلك بينها وبين الأرض: أيكون ذلك كسرًا للقانون؟ كلا! القانون لا يزال قويًّا سليمًا، غير أن إرادةً بشريةً حالت دون تطبيقه لا أكثر ولا أقل.

    إذا تركت أقلامك وكتبك مبعثرةً في أرض غرفتك، ثم عُدت بعد حين فوجدتها صعدت إلى ظهر المكتب منظمةً، أتقول إن قانون الجاذبية قد انقلب رأسًا على عقبٍ؛ لأن الكتب والأقلام قد صعدت إلى أعلى بدل أن تستقرَّ على الأرض منجذبة إليها … «أم أن نجزم في هذه الحالة أن شخصًا بشريًّا قد تدخَّل في الأمر بإرادته، وحال بين قانون الجاذبية وبين تنفيذه حينًا، فأمكن للكتب بذلك أن تفلت من يده، ولكن القانون لا يزال قائمًا لم يَخدش ذلك من قوته وشموله؟! … فلا شك أن الإرادة البشرية تستطيع أن تتوسط بين القانون وبين تطبيقه فتعطِّله دون أن تبطله، أفلا نقول إن لله إرادةً حرة كهذه التي للإنسان، يستطيع بها أن يعطل قانون الطبيعة حينًا قد يقصر أو يطول، لكنه يظل قائمًا معمولًا به لا يُصيبه عطب ولا خسارة؟!»

  • ثالثًا: لقد وضعتُ كتابًا بالأمس على مقعدٍ إلى جانبي، فجاء الكلب يتحسَّس ويتجسس ويشمُّ الكتاب، وأظنه قد حسبه قطعةً من الجماد لا خير فيها، فترك الكلب الكتاب وانصرف، فإذا افترضنا أن التفاهم مع الكلب ممكن، ثم جئت تُقسم له أن في الكتاب ما ليس يدرك بالشم واللمس، وأن فيه معنى إذا كان لا يدركه هو فليس عجزه دليلًا على عدم وجوده نفر وسخر، وأكد لك أن حواسه مقياس للحقيقة لا تخطئ، وإنِّي لأحسب الكون كتابًا مفتوحًا فيه من المعاني السامية، ما يمكن فهمه وإدراكه لذوي البصيرة السليمة، فهناك طائفةٌ من الناس تمدُّ أيديها وأنوفها إلى جانب الطبيعة، تتحسَّسها ثم تجزم في يقينٍ لا يعرف الشك ولا التردد، أن هذه الطبيعة جمادٌ في جمادٍ، يسيره هذا وهذا من القوانين في طريقٍ مرسومةٍ معلومة لن تشذَّ فيها خارقة ولا معجزة … وأعجب العجب أن تكون هذه الطريقة الكلبية علمًا، وأن يكون كل ما عداها تخريفًا وجهلًا …!
  • رابعًا: كيف جاز لنا أن نقطع أن ليس في الكون من الحقائق ما تعجز عقولنا وحواسنا عن إدراكه؟ ولِمَ لا يكون في هذا الكون الفسيح مَن هو أكبر منَّا عقلًا، وأحدُّ ذكاء، فيستطيع أن يقرأَ في كتاب الكون ما لا نستطيعه؟ ترى لو أتانا الله حاسةً سادسة وسابعة وثامنة، فماذا عسانا نعرف بهذه الحواس الزائدة، أم تظل أبوابًا مغلقة لأن العلم قد نفذ؟!
  • خامسًا: وهو يهاجم في هذا المقال الماديين من أصحاب النظرة الضيقة العتيقة، الذين يرفضون التسليم بأن الكون ألوفًا وألوفًا من الظواهر التي يقف أمامها العلم مكتوفَ الأيدي، ولا يمكن فهمها إلا أن تكون «خوارق» فوق العلم وقوانينه.

    والواقع أن الماديين، في رأي مفكرنا، يُشهرون سلاح التسويف والوعد بأن العلم سيتمكن في المستقبل مما لم يتمكن منه اليوم، ويمكن استخدامه في كل حيٍّ، وليس بيننا وبينهم موعدٌ يبطل بعده التسويف، ولكنها مماطلةٌ متجددةٌ، لا تنقطع ولا تفرغ، فماذا يمنع أن نفترض أن هناك قوًى غير ماديةٍ تفعل فعلها، وتؤثر في مجرى الطبيعة فتنتج كل هذه الخوارق والمعجزات؟!

  • سادسًا: الماديون يركبون رءوسهم، ويحاولون أن يحللوا بقوانين العلم كل شيءٍ، فإن عجزت أمهلونا إلى المستقبل القريب، أو البعيد، والعجيب أن لهؤلاء الماديين «شطحات» في التفكير تدعو إلى التأمل، فأنت إذا سألتهم مثلًا: كيف نشأت هذه الخلائق؟ أجابوك: تسلسلت نوعًا عن نوعٍ وجنسًا عن جنسٍ، وأصلها كلها خلية واحدة … حسن، وكيف نشأت هذه الخلية الواحدة؟! أجابوا: أنها وُلدت بطريقةٍ تلقائيةٍ آلية من الجماد! فانظر إليهم كيف تجيز لهم عقولهم صدق هذا النبأ؛ مع أنه، على فرض أنه صحيحٌ، فقد حدث في ماضٍ بعيدٍ سحيق ولم يشهدْه شاهدٌ ولا سجَّله مسجلٌ، ولكنهم مع ذلك يقبلونه راضين مختارين! ثم إذا عرضنا عليهم خارقةً من خوارق الطبيعة؛ مما يقع في مرأى منَّا ومسمع، أنكروها في حمقٍ مع أنها حاضرةٌ بين أيديهم، وليست بالماضي البعيد، وهي مشاهدةٌ مسجلة فكانت أجدر بالتسليم والقبول من تلك «الخارقة» البعيدة، ونسمِّيها خارقةً لأنه ليس من قوانين الطبيعة، فيما نظن، انبعاث الحياة من الجماد، ولكن القوم يختارون من الآراء والعقائد ما يتفق مع مذهبهم.
  • سابعًا: هب أن جماعةً قد ارتطمت سفينتهم على جزيرةٍ مهجورةٍ لا أثر فيها للحياة، ولكنهم وجدوا على أرضها آثار أقدامٍ ليست من آثارهم هم، فبماذا يعللون هذه الظاهرة إلا أن أناسًا غيرهم كانوا بالجزيرة منذ حين؟ أظن هذا منطقًا لا صعوبة فيه ولا التواء: لكل أثرٍ مؤثر، فإن رأينا أثرًا ولم نجد بيننا مؤثره، أيقنَّا أن هذا المؤثر لا بد أن يكون موجودًا في غير مكاننا، وها نحن أولًا: ننظر فنرى فوق هذه الجزيرة المهجورة التي تسبح بنا في الفضاء، ثم ننظر فإذا بآثار لا يحصيها العدُّ، تفرض علينا فرضًا أن أحدًا غيرنا قد اتصل بهذه الجزيرة، وهو يتصل بها في كل حين ليُحدثَ هذه الآثار.
  • ثامنًا: يختتم مفكرنا مقاله بتحديد مجال للعلم وآخر للدين، ويتساءل: ماذا يضيرك إذا ما عللت بالعلم ما يمكن أن يعلله، وأن تُرجع إلى القوة التي فوق الطبيعة كل ما يصادفك من خوارق ومعجزاتٍ؟! يقول المادِّيون أن إدخال «الله» في مجرى الطبيعة عجزٌ وقصورٌ عن التعليل الصحيح، ويزعمون أن الإنسان الأول كان يُفسِّر كل شيءٍ بقوة الآلهة لقلَّة محصوله من العلم، فكان إذا اكتسب شيئًا من العلم يعلِّل به ظاهرةً ما، أسقط هذه الظاهرة من دائرة نفوذ الله وأدخلها تحت سيطرة العلم. وهكذا أخذ العلم ينمو ويتسع، كما أخذت العقيدة في تأثير الله في سير الطبيعة تضؤل وتضيق، وهم يرجون أن يطرد نمو العلم حتى يشمل الكون جميعًا، ويُفسِّر «الظواهر» كلها بغير استثناء، وهم بناء على ذلك يرفضون رفضًا قاطعًا أن يعللوا شيئًا إلَّا على أساسٍ واحد: هو قانون الطبيعة، ويلفظون من حظيرتهم كل من يحاول أن ينسب شيئًا إلى قوةٍ أخرى غير قوة الطبيعة وقوانينها، وقديمًا كان العالم، أو إن شئت الكاهن، يفسِّر كل شيء بقوة الآلهة وحدها، وينبذ كل من يحاول أن يفسِّر شيئًا على غير هذا الأساس: فهل نرى فرقًا بين الكاهن القديم والعالم الحديث؟ كلا! فكلاهما متعصبٌ محدود الفكر، ضيق النظر!

لعل أقرب إلى روح العلم الصحيح، أن نتناول الأبحاث أحرارًا من كل قيدٍ، فلا نفترض لأنفسنا أساسًا معينًا للبحث لا نعدوه، أعني أنه لا ينبغي أن نحكم على أنفسنا أن نفسِّرَ كل شيء بكذا، وكذا، وإلا كنا كعلماء الفلك الأقدمين، الذين كانوا ينظرون في السماء ويبحثون في النجوم، على شرط أن يكون بحثهم مقصورًا على ما هو معروفٌ من النجوم، فإن ظهر كوكبٌ أو نجمٌ جديد أنكروه ورفضوه!

ذلك تلخيصٌ وافٍ للمقال الهام الذي نشره مفكرنا في مجلة «الرسالة»، ولم ينشر بعد ذلك قط، رغم قيمته الكبيرة في إبراز جانب «التدين الخالص»، الذي سيطر على تفكيره في أولى مراحله الروحية، التي أغفلها كثيرٌ من الباحثين، مركِّزين على المرحلة الثانية، التي بدأت بالمنطق الوضعي بجزأيه، وخرافة الميتافيزيقا … إلخ، حتى أصبح اسم زكي نجيب محمود و«الوضعية المنطقية» مترادفين، أو كالمترادفين؛ مع أنها ليست سوى مرحلة سبقتها مرحلة، ولحقت بها مرحلةٌ ثالثة تجمع الاثنين في مركبٍ واحد!

(٥) الجبر الذاتي

تصل هذه المرحلة الأولى إلى قمَّتها مع رسالته للدكتوراه بعنوان: «الجبر الذاتي» عام ١٩٤٧م، وهي التي وصفناها في مكانٍ آخر بأنها «الوجه الميتافيزيقي للدكتور زكي نجيب محمود»؛٣٣ ذلك لأن نظرية «الجبر الذاتي» نظريةٌ ميتافيزيقية في صميمها.٣٤ فضلًا عن أنها تكشف لنا عن اهتمام مفكرنا بمشكلة الحرية، وإيمانه بحرية الإنسان وهو إيمان «لا مكان فيه لذرةٍ من التردد أو الشك» على حدِّ تعبيره.٣٥ وإن كانت هذه الحرية لا تعني الفوضى أو التحرر من القيود، فتلك حريةٌ «سلبية»، وإنما هي حرية «إيجابية» تظهر في أفعال الإنسان المنتجة، وفي أقوالٍ يُقام البرهان العقلي على صوابها؛ فهي حريةٌ محكومةٌ بالروابط السببية، الإنسان فيها حرُّ الإرادة، لكنه مقيدٌ بماضيه، أو قل إن «الجبر الذاتي» يعني أن الإنسان مجبرٌ عن طريق نفسه، فماضيه هو الذي يُحدد له اختيار الفعل في الحاضر، لكن هذا الماضي من صنعه هو.
على أن ما يعنينا، الآن، من نظرية «الجبر الذاتي» التي نال بها درجة الدكتوراه من جامعة لندن عام ١٩٤٧م، أنها تبدأ بتعريف «النفس»: «إذ يبدو أنه من الضروري في بحثٍ يذهب فيه صاحبه إلى أن الإنسان مجبرٌ ذاتيًّا أعني مجبرًا عن طريق «نفسه» أن يفسِّر لنا طبيعة «النفس» بأوضح طريقةٍ ممكنةٍ …»٣٦ ويلزم لذلك مناقشة فلسفتين تنكران وجود النفس، وهما نظرية «ديفيد هيوم» ثم المدرسة السلوكية.

(٥-١) نظرية هيوم

يذهب ديفيد هيوم إلى أن كل فكرةٍ صحيحةٍ يمكن ردُّها إلى انطباعاتنا الحسية المباشرة، وإلا لأصبحت فكرةً زائفةً ينبغي حذفها من قائمة الأفكار الصحيحة. وقد ترتب على ذلك نتيجة بالغة الأهمية وهي إنكار هيوم لما يسمِّيه العقليون «بالعقل»، وما يسمِّيه المثاليون «بالنفس» أو «الروح» … وإلا فمن أي انطباعٍ حسيٍّ أمكن لهذه الأفكار أن تجيء …؟ إنه لو كانت النفس (أو العقل) كائنًا دائم التأثير على هذه الحاسة أو تلك، لجاز أن يكون لفظ «النفس» اسمًا نُطلقه على ذلك الأثر الحسي. ولكنا لا نجد بين انطباعاتنا الحسية انطباعًا يدوم على حالةٍ لا يختلف ولا يصيبه زيادة أو نقصان، فنجعله أصلًا لهذه «النفس» المزعومة التي نزعم لها الدوام وعدم التغير؛ إذ حياتنا الإدراكية سلسلة من حالاتٍ لا تتجمع كلها معًا في لحظةٍ واحدةٍ: فالألم، واللذة، والحزن والسرور، وشتَّى العواطف والإحساسات تتعاقب في واحدةٍ في أثر الأخرى، ولا يمكن أن تكون فكرة «النفس» مستمدةً من واحدةٍ من هذه الحالات، وإذن فالفكرة نفسها من خلق الوهم وليس لها وجود …٣٧
ويتولَّى مفكرنا نقد هذه النظرية ليمهِّد بذلك لتعريف «النفس»، الذي هو ضروريٌّ لنظرية الجبر الذاتي، وهو يوجه إليها مجموعة من الانتقادات أهمها:
  • (١)

    أن ديفيد هيوم وقع في تناقضٍ عندما أباح لنفسه أن يستخدم فكرة العقل أو (النفس)، بوصفه كائنًا له وجود مستقلٌّ، رغم أنه يُنكر عليه هذه الصفة، فهو يقول عن الانطباعات الحسيَّة أنها «تطبع العقل»، وتشقُّ طريقها إلى «فكرنا وشعورنا»، فضلًا عن أنه يتحدث عن الانطباعات كما تظهر في «النفس».

  • (٢)

    لا يمكن أن تكون الانطباعات الحسية هي كل ما هنالك، وإلا فمن أين جاءت فكرة «الترتيب»، عندما نقول عن عددٍ من الحصى أنها مرتبةٌ بنظامٍ معين؟!

  • (٣)

    إصدار الحكم فعل يفترض بالضرورة وجود فاعلٍ، فهو لا يمكن أن يكون مجرد «القوة الحيوية»، التي يصف بهما هيوم الانطباع الحسي، ولو كان كل ما لدينا انطباعات لاستحال أن نثبت أو أن ننفي شيئًا.

  • (٤)

    لو كان كل ما لدينا هو الانطباعات الحسية، فمن أين يمكن أن أعرف أن هناك إحساسين مختلفين يوجدان معًا؟!

  • (٥)

    أننا لا ننتبه مطلقًا إلى جميع الانطباعات التي ترد إلى الحواس في لحظةٍ معينةٍ؛ لأن انتباهنا ينتقي منها ويختار، فمن الذي يختار هذا المعطى الحسي أو ذاك، دون بقية المعطيات، ليكون موضوعًا للانتباه؟!

  • (٦)
    لا نريد أن نواصل جميع الانتقادات التي وجَّهها مفكرنا إلى فلسفة هيوم؛ فهي كثيرةٌ، وإنما يهمنا أن نذكر نقدًا أخيرًا هو أن خطأ هيوم في المنهج الذي استخدمه وهو منهج «الاستيطان الذاتي»، عندما يقول: «إنني إذا ما توغلت داخلًا إلى صميم ما أُسمِّيه «نفس»، وجدتني دائمًا أعثر على هذا الإدراك الجزئي أو ذاك … إنني لا أستطيع أبدًا أن أمسك ﺑ «نفسي» في أي وقتٍ بغير إدراكٍ ما، كما أنني لا أستطيع أبدًا أن أرى شيئًا فيما عدا هذا الإدراك …»٣٨ غير أن قوله أنه يتوغَّل داخلًا إلى صميم «نفسه» معناه أنه ينتبه إلى نفسه؛ أعني أنه ينتبه إلى الحالة النفسية التي يتصادف وجودها لحظة الفحص، فما الذي يُشير إليه هذا الانتباه إن لم يكن يُشير إلى النفس أو الذهن أو الروح؟٣٩
إن القول باستحالة إدراك النفس عن طريق المنهج الاستبطاني (أي منهج التأمل الذاتي) يظهرنا، لا على أنه ليس هناك ما يُسمَّى بالنفس، بل على أن هيوم استخدم منهجًا خاطئًا في اكتشاف النفس، لكن في استطاعتنا مع ذلك أن نُدرك النفس عن طريق «المنهج الجدلي»، وهو منهجٌ يعتمد على فحص ما يتضمنه موقف من المواقف، بحيث ننتهي إلى القول بأننا لا نستطيع أن ننكر هذا المضمون بغير الوقوع في التناقض، وهو نفس المنهج الذي استخدمه ديكارت، حين أثبت وجود نفسه بوصفه عملية تفكير.٤٠

(٥-٢) المدرسة السلوكية

المدرسة السلوكية في علم النفس لونٌ آخر من ألوان النظريات التي تنكر وجود النفس، فقد حصرت نفسها في أنماط السلوك التي يمكن أن يلاحظها المشاهد الخارجي، معتمدة في ذلك على التجارب التي أجراها عالم الفسيولوجيا الروسي «إيفان بافلوف I. Pavlov» (١٨٤٩–١٩٣٦م)، على الفعل المنعكس الشرطي دون أية إشارةٍ إلى ما يُسمَّى «بالشعور». ويزعم السلوكيون أن العلوم الطبيعية قادرةٌ على تفسير وقائع السلوك البشري، وأنه ليس ثمة ما يُبرر افتراض وجود شيءٍ آخر غير السلوك الذي نشهده، وما دامت «النفس» من حيث هي كذلك لا يمكن أن نشاهدها بالملاحظة الخارجية فقد أنكروا وجودها.

لقد افترضت المدرسة السلوكية أن السلوك البشري، بالغًا ما بلغ تعقده، يمكن ردُّه إلى صيغة «مثير-استجابة»، أو في صورتها الرمزية «م، س»، فهناك «مثير» معين «م» تعقبه باستمرار استجابة معينة «س»، بغضِّ النظر عن الكائن الحي الذي يُثيره هذا المثير.

غير أن هذه الصيغة، في نظر مفكرنا، ناقصةٌ أشد النقصان:
  • فالناس تستجيب استجابات مختلفة لنفس المثير.

  • البيئة مليئةٌ بالمثيرات ينتقي منها الكائن الحي ما يثيره.

وهكذا تصبح صيغة «م، س» غير كافيةٍ لتفسير وقائع السلوك البشري؛ لأنها تُسقط دور الكائن الحي الذي لا بد أن يدخل جزءًا من السبب؛ ومن ثم فلا بد من إدخال الرمز «ك»، أي الكائن الحي، في الصيغة لتصبح «م، ك، س» أي مثيرٍ، كائن حي، استجابة. لكنها لا تزال غير كافية؛ ولهذا يقترح مفكرنا تعديلها لتكون «ك، م، س»؛ أي إن الكائن الحي يختار من البيئة ما يثيره، ويقوم بالاستجابة له.

ومعنى ذلك أن إنكار المدرسة السلوكية لوجود «النفس»، بحجة أنها لا تخضع لمنهج الملاحظة الخارجية (وهو منهج العلوم الوضعية)، لا يدل إلَّا على أن المنهج المستخدم في الكشف عن هذه «النفس» منهجٌ خاطئٌ، تمامًا كما هي الحال في فلسفة هيوم، لكن لا يزال في استطاعتنا أن نقول إن النفس متضمنةٌ بالضرورة في المواقف المختلفة، التي ندرسها في سياق البحث العلمي، وهو يضرب لنا مثالًا واضحًا على ذلك:

عالم النفس السلوكي الذي يريد أن يحصر نفسه في أنماط السلوك لا يستطيع أن يفعل ذلك، ما لم يكن قادرًا على عزل نمط السلوك الذي يريد دراسته من السياق المحكم للكائن الحي والبيئة، وعزل موضوع الدراسة هذا لا يكون ممكنًا إلا إذا وجَّه انتباهه نحو الجانب المطلوب دراسته. وهو جانب لا يمكن أن ينفصل بالفعل عن الكائن الحي الذي يشمله، ويستطيع الباحث عن طريق تعديل انتباهه التركيز على شيءٍ واحد في لحظةٍ معينةٍ … وعزل هذا الجانب قد لا يكون ممكنًا إلا في الفكر وحده … أي إنك لا بد أن تُجرِّد هذا الجانب بفضل انتباهك الانتقائي، ومن هنا كان الانتباه موجودًا في كل خطوةٍ من الخطوات التي يقوم بها الباحث في بحثه. وهذا يعني أننا نفترض مقدمًا وجود «ذهن» الباحث (أو نفسه أو عقله)، وإنكار وجوده يعني أننا نناقض أنفسنا …٤١
وينتهي مفكرنا من هذه الانتقادات التي يوجهها إلى الفلسفات والنظريات التي أنكرت وجود النفس، إلى نظريةٍ جديدةٍ يرى فيها أن النفس هي «فعل بواسطته يجمع الفرد ما يبدو أنه يساعده في حفظ وجوده …»٤٢ وهي شرطٌ أساسيٌّ بدونه تصبح الرغبة، والنفور، والانتقاء، والإثبات والنفي … إلخ أمورًا مستحيلةً، وبدون افتراضه، من ناحيةٍ أخرى، لا يستطيع الفرد أن يشعر ويدرك ويفكر، أنه الصورة؛ أعني الخاصية الأساسية للفاعل السيكوفزيقي التي تجعله ينتقي العناصر التي لا غنى عنها لوجوده، وباختصار هو المركز الموحد أو الفعل المتضمن في عملية الانتباه.٤٣

ومهما يكن من شيءٍ في أمر تعريفه للنفس بأنها «الفعل المتضمن في عملية الانتباه»، وسواء اتفقنا أو اختلفنا معه بشأن هذا التعريف، فإن الأمر الجدير بالملاحظة حقًّا هو أنه كان في قمة هذه المرحلة يُدافع عن «وجود النفس» ضد منكري هذا الوجود.

وعلينا قبل أن نغادر هذه المرحلة أن نُشير إلى ملاحظتين هامتين:
  • الأولى: أن هذه المرحلة الأولى، مرحلة التدين الخالص، لم تستبعد تمامًا النظرة العلمية، بل كانت، على العكس، تحمل بذور المرحلة الثانية، مرحلة العقل الخالص، التي ستظل تعمل بداخله حتى تظهر واضحةً بعد عودته من إنجلترا، فقد كان «خلال تلك الأعوام نفسها تغلب عليه النظرة العلمية الصارمة، التي لم تكن تريد له ألا يأذن لشيءٍ في الوجود كله أن يفلت من قبضة العلم، لا يستثنى من ذلك القيم الخلقية نفسها وما نسمِّيه بالمثل العليا …»٤٤ حتى إنه حاول، في أواسط الثلاثينيات، أن يعلِّل تعليلًا علميًّا الظاهرة التي لاحظها وهي أن الأوروبي أكثر تمسُّكًا بحريته وفرديته من الشرقي، فكتب بحثًا ردَّ فيه هذه الظاهرة إلى طبيعة التنفس في الهواء البارد والتنفس في الهواء الدافئ أو الحار، ونوع الطعام الضروري في كلتا الحالتين! «مثل هذا التصور للتفكير العلمي، نراه قد استبدَّ بصاحبنا في كثيرٍ جدًّا من محاولاته خلال الثلاثينيات …»٤٥
  • الثانية: أن هذه المرحلة الأولى لم تتضمن فحسب بذور المرحلة الثانية، بل تضمنت أيضًا بذور المرحلة الثالثة! فهو يروي عن نفسه أنه كان في هذه المرحلة المبكرة من حياته: «عقلًا يبحث لنفسه عن طريق، وظل يبحث خلال أعوام الثلاثينيات … وينتظر الجواب: أليس من سبيلٍ يجمع عدة أطراف في رقعةٍ واحدةٍ؟ يجمع العلم والدين والتصوف والحرية؟ أليس ثمة سبيل يجمع مادةً إلى روح، ويجمع عقلًا إلى غريزةٍ …؟»٤٦ ومن ثمَّ فسوف يكون من الضلال أن نتصور أن المراحل التي مرَّ بها مفكرنا الكبير، كانت مراحل منفصلةً لا يسري فيها جميعًا خيطٌ واحد، ولا تضمها شخصيةٌ واحدةٌ، وإنما العكس هو الصحيح، فقد تجمعت في هذه العبقرية الفذَّة الكثير من البذور الخصبة في فترةٍ مبكرةٍ، وظلت تعتمل في نفسه، يظهر بعضها واضحًا في مرحلةٍ ويتوارى بعضها الآخر، وإن ظل في حالة كمون، حتى اكتملت ونضجت في المرحلة الأخيرة التي ظهرت بوضوحٍ في السنوات الخمس التي قضاها في جامعة الكويت: «وهناك في جامعة الكويت وجد الفرصة سانحةً لأداء ما كان شديد الرغبة في أدائه؛ وهو أن يتعقب طريق «العقل» في تراث العرب الأوائل؛ لأنه كان على يقينٍ من رجحان العقل في كثيرٍ مما شغل به السلف، من مشكلاتٍ تتصل بالحياة الثقافية، وإذا كان ذلك كذلك فلا يبقى علينا إلا أن ندعو المعاصرين، من أبناء الأمة العربية إلى مواصلة السير في طريق الأجداد …»٤٧ وكانت تلك هي المرحلة الثالثة.
ولهذا فإننا نراه يشبِّه تطوره الروحي بنمو الشجرة التي تكون بذرة تضرب بجذورها في الأرض فيخرج منها الساق، وتنمو الأوراق إلى أن تزهر، فإذا كان قد تأثَّر بالحضارة الغربية، في المرحلة الثانية من تطوره؛ فالسبب «أن الشجرة نقلت إلى الأرض الغربية، وإرهاصات الأزهار كامنةٌ في أصلابها، فإذا كان للتربة الغربية فضلٌ عليها؛ فهو فضل الإسراع نحو النضج لما كان، قبل ذلك، قد اختمرت خمائره، وما أكثر ما يستهين الإنسان بالبذرة الضئيلة، مُتناسيًا أنها تحمل في جوفها شجرةً قوية الجذع، متشابكة الفروع، غزيرة غنية الثمر، لم يكن ينقصها إلا أرض تمدُّها بالغذاء، وسماء تسقيها الماء، ومناخ يجود عليها بالهواء الطلق والضياء الهادئ …»٤٨
١  زكي نجيب محمود، «في تحديث الثقافة العربية»، ص٣٩٢.
٢  المرجع نفسه.
٣  نفس المرجع في نفس الصفحة.
٤  المرجع السابق، ص٣٩٣.
٥  نفس المرجع في نفس الصفحة.
٦  زكي نجيب محمود، «في تحديث الثقافة العربية» ص٣٩٤.
٧  كانت إحدى المشكلات التي آثارها «في تجديد الفكر العربي» هي عام الاكتفاء بجرس اللغة وأنغامها، وأن علينا أن ننتقل «من حضارة اللفظ إلى حضارة الأداء»، قارن ص٢٢٤ وما بعدها.
٨  «في تحديث الثقافة العربية»، ص٣٩٥.
٩  «قصة عقل»، ص١٢.
١٠  «حصاد السنين»، ص٢٥.
١١  نشرها في البداية تحت هذا العنوان في «مجلة المجلة»، ثم نشرها بعد ذلك في كتابه «هموم المثقفين» بعنوان «توبة الهارب»، ص١٤٠ وما بعدها.
١٢  «هموم المثقفين»، ص١٤٣.
١٣  «قصة عقل»، ص١٧.
١٤  «قصة عقل»، ص١٨.
١٥  «حصاد السنين»، ص٢٤–٢٥.
١٦  نشرته السيدة زوجته الأستاذة الدكتورة منيرة حلمي في كتابٍ بعنوان «من خزانة أوراقي»، ص٣٩ وما بعدها، وقد ضم الكتاب مجموعة من المقالات المبكرة التي لم يسبق نشرا في كتاب، وقد أصدرته «دار الهداية» عام ١٩٩٦م.
١٧  «حصاد السنين»، ص٢٥.
١٨  زكي نجيب محمود، «من خزانة أوراقي»، ص٢٥.
١٩  من الطريف أن مفكرنا، في هذه المرحلة المبكرة، يفسر كراهية العرب للفن بردِّها إلى هذه البيئة البدوية تضطرهم ألا يكون عندهم متسع من الوقت يفكرون فيه في ترقية الفن … ورحيلهم لا يجعلهم يستفيدون من معبدٍ كبيرٍ يُقام … إلخ إلخ، في حين أن المصريين واليونان والرومان قد شيدوا المعابد الضخمة الفخمة؛ لأن فرصة الاستقرار تمكنهم من ترقية الفن … إلخ. قارن «من خزانة أوراقي»، ص٢٧.
٢٠  المرجع السابق، ص٢٧.
٢١  المرجع السابق، ص٣١.
٢٢  نفس المرجع في نفس الصفحة.
٢٣  «من خزانة أوراقي»، ص٣٥.
٢٤  المرجع نفسه.
٢٥  «من خزانة أوراقي»، ص٣٦.
٢٦  المرجع نفسه.
٢٧  «قشور ولباب»، ص١٩٧، دار الشروق، عام ١٩٨٨م.
٢٨  نفس المرجع في نفس الصفحة.
٢٩  المرجع نفسه.
٣٠  نفس المرجع السابق.
٣١  «قشور ولباب».
٣٢  المرجع السابق.
٣٣  راجع مقالنا «الجبر الذاتي» أو الوجه الميتافيزيقي للدكتور زكي نجيب محمود، مجلة الفكر المعاصر، عدد ٥٢ يونيو ١٩٦٩م.
٣٤  قارن ما يقوله ه. راندل في شرحه لهذه النظرية في كتابه: An Introduction Philosophy، ص٣٧.
٣٥  «قصة عقل»، ص٤٨.
٣٦  «الجبر الذاتي»، ص٢٩ الهيئة المصرية العامة للكتاب عام ١٩٧٣م.
٣٧  ديفيد هيوم: «رسالة في الطبيعة البشرية» ص٢٥١–٢٥٢ (نقلًا عن «الجبر الذاتي»، ص٣٢).
٣٨  هيوم «رسالة في الطبيعة البشرية»، ص٢٥٣ (الجبر الذاتي، ص٤٤).
٣٩  «الجبر الذاتي»، ص٤٤.
٤٠  «الجبر الذاتي»، ص٤٤.
٤١  «الجبر الذاتي»، ص٤٩.
٤٢  نفس المرجع، ص٥٤.
٤٣  زكي نجيب محمود، «الجبر الذاتي»، ترجمة د. إمام عبد الفتاح إمام، الهيئة المصرية العامة للكتاب، عام ١٩٧٣، ص٥٤.
٤٤  «قصة عقل»، ص٢٠.
٤٥  «قصة عقل»، ص٢٠.
٤٦  «قصة عقل»، ص٢٩.
٤٧  زكي نجيب محمود، حصاد السنين، ص٣٨٨، دار الشروق بالقاهرة، عام ١٩٩١م.
٤٨  المرجع السابق، ص١٢٩.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤