الفصل الثالث

نهاية الرحلة

«سقراط مصر أو مشعل الفكر الذي انطفأ …!»
«أيُّ مشعلٍ للفكر قد انطفأ …»
«أي قلبٍ قد توقَّف عن الخفقان …!»

مات زكي نجيب محمود! مات شيخ الفلاسفة بعد حياةٍ حافلةٍ بالعطاء والخلق والإبداع! مات سقراط مصر الذي جعل الفلسفة على كل لسان!

وسقراط مصر — مثل سقراط أثينا — رفض أن تكون الفلسفة في بطون الكتب، وأروقة المعاهد والجامعات، وأطلقها من «خارج الأسوار»، على حدِّ تعبيره، لتؤدِّي دورها المهم في الحياة اليومية، ملايين القرَّاء على امتداد الوطن العربي، كانت تنتظره صباح كل ثلاثاء على صفحات الأهرام لسنواتٍ طويلةٍ! فقد كان مقاله يُطبع في خمس صحفٍ عربية في اليوم نفسه! قالت لي عجوزٌ حظُّها من الثقافة ضئيلٌ: إنني لا أفهم كثيرًا مما يكتب، لكنني أحبُّ أن أقرأ له: أرجوك أن تبلغه عني هذه الحقيقة! وأبلغته فابتسم في صمت المحيط، تواضع العلماء!

المنهج … لا المذهب …!

وسقراط مصر — مثل سقراط أثينا — كان يرى أن الفلسفة منهجٌ أو طريقة في التفكير تُمارس، قبل أن تكون مذهبًا يُعتنق! يقول: «علمتني خبرة السنين — بين ما علمتني — أن من أخطر مزالق الفكر، أن أُقيِّد نفسي في حدود إطار مذهبيٍّ، تقييدًا يجعلني أرجع في كل أموري إلى مبادئ مذهب معين؛ ولذلك كان التطور الطبيعي في حياتي الفكرية أن اتخذ اتجاهًا هو في حقيقته «منهج للتفكير» لا «مذهب» يورِّط نفسه في مضمون فكريٍّ بذاته. فكنت كمن وضع في يده ميزانًا يزن به ما يشاء، دون أن يملأ يديه بمادةٍ معينة، لا بد أن تكون هي وحدها موضع الوزن والتقدير» (مجتمع جديد أو الكارثة، ص٢٤٦).

أقرأ على شفتيك، عزيزي القارئ، اعتراضًا في صيغة سؤال: أين، إذن، زكي نجيب محمود رائد الوضعية المنطقية، وصاحب «المنطق الوضعي» الذي أصدره عام ١٩٥١م، وصاحب «خرافة الميتافيزيقا» عام ١٩٥٣م، وصاحب المقالات الطويلة عن «القطة السوداء» و«هذه الكلمات وسحرها» وغيرها كثيرًا؟! وجوابي هو أن أُحيلك «بدوري» إلى مقالاته الرائعة بعنوان: «قلم يتوب» (أفكار ومواقف، ص١٧١ وما بعدها)، و«عبيد المذاهب» (مجتمع جديد أو الكارثة، ص٢٤٦ وغيرها) … وغيرها … لتعرف أن الوضعية المنطقية لم تكن سوى مرحلة في تطوره الروحي، استفاد منها منهجًا ونبذ المذهب، ولك أن تقرأ عبارة كهذه، «كنتُ لسنواتٍ طوال مُخطئًا بين مخطئين؛ لأنني كنتُ بدوري أتعصَّب لتيارٍ فلسفيٍّ معين، على ظنٍّ منِّي بأن الأخذ به يقتضي رفض التيارات الأخرى، لكني اليوم مع إيماني السابق بأولوية فلسفة التحليل على ما عداها من فلسفات عصرنا، أومن كذلك بأن الأمر بين هذه الاتجاهات الفلسفية، إنما هو أمر تكامل في نهاية الشوط» (هموم المثقفين، ص٤٥–٤٦).

والعبارة ليست بالقطع تبرُّؤًا من المذهب الوضعي المنطقي، أو التجريبية العلمية كما كان يحلو له أن يسمِّيها، أو تنصلًا منه، وإنما هي تفسيرٌ لتلك اللمحة الذهنية التي توقَّدت لتُضيء له الطريق، على حدِّ تعبيره، عندما وقع في ربيع عام ١٩٤٦م على المذهب الوضعي أو ذلك المنهج الفلسفي الجديد، الذي فرَّق له بين مجال الوجدان، ومجال العقل: «لقد أراد لي توفيق الله، منذ بدأت حياتي العقلية المنتجة أن أقع على طريقٍ من طرق التفكير الفلسفي، رأيته كأنما خُلقتُ له وخُلِق لي، ثم رأيته وكأنه أنسبُ ما أُقدمه في عالم الفكر لأُمَّتي؛ لأنه إذا كان الغموض والخلط بين المعاني، هو أحد الأمراض العقلية التي أصابت أمتي، فتلك الطريقة من طرق التفكير هي أنجح وسائل العلاج» … (قيم من التراث، ص١١٧–١١٨).

علينا أن ننتبه جيدًا إلى أمثال هذه العبارات المهمة التي تدل أولًا على أنه أخذ منهج الوضعية المنطقية في التحليل دون المذهب، وعلى أنه أراد ثانيًا أن يوظِّف هذا المنهج لصالح الفكر التنويري، ولو أن الرجل أراد أن يكون مدرسة، كما يزعم نقَّاده، تنشر مبادئ الوضعية المنطقية، وتترجم نصوصها وتروِّج أفكارها، لوجد عشرات من تلاميذه على استعدادٍ للقيام بهذا الدور منذ زمنٍ بعيد (راجع ذلك بالتفصيل في مقالنا «زكي نجيب محمود كما عرفته» فيما سبق)، ولوجد من تلاميذه من يؤلف، ومن يُترجم، ومن ينقل الوضعية المنطقية من شتى زواياها وأبعادها إلى الثقافة العربية، لكنه لم يفعل، بل كانت معظم الرسائل الأكاديمية التي أشرف عليها إبان فترة أستاذيته بالجامعة، تدور حول موضوعاتٍ فلسفية لا علاقة لها بالوضعية المنطقية.

كانت رسالة كاتب هذه السطور عن «المنهج الجدلي عند هيجل»، ورسالة د. محمود زيدان عن «وليم جيمس»، ورسالة فرحات عمر عن «القانون العلمي»، ورسالة المرحوم عزمي إسلام عن «جون لوك»، ورسالة د. أحمد فؤاد كامل عن «ليبنتز» … إلخ.

الوضعية المنطقية … في خدمة التنوير …!

وسقراط مصر — مثل سقراط أثينا — لم يكن يريد للناس أن تستخدم لفظًا واحدًا بغير تحديد، وتحليل، وتعريف، فكانت الدعوة إلى الدقة في تحديد الأفكار والمفاهيم وعدم الخلط بين المعاني. ومن أثقل الهموم التي حملها شيخ الفلاسفة طوال ما يزيد على ستين عامًا، وهو يتشدَّد على الشروط المفروضة على المتحكم الجاد، إذا نطق بعبارةٍ أراد بها انتقال فكرة من رأسه إلى رءوس الآخرين («موقف من الميتافيزيقا»، مقدمة الطبعة الأولى).

وها هنا يكون عمل الفلاسفة أن تدنو بنا من تلك المفاهيم لنراها في تفصيلاتها ودقائقها: والعجيب أن يتَّهمك الناس نتيجة لهذا التحليل أو التحديد، بأنك تُعقِّد البسيط، وتُصعِّب السهل، حين جاءهم الفيلسوف بتحليلٍ يُفكِّك لهم أوصال المفاهيم التي يتداولونها، فثاروا في وجهه، وكأنهم كانوا يجدون النعمة في الفهم المبهم، ويخشون أن يفسد تحليل الفلاسفة عليهم ما كانوا به ينعمون! (هموم المثقفين، ص٦٦)، منهج التحليل الذي أخذه من الوضعية المنطقية، والذي لاءم تفكيره ملاءمةً جعلته يقول: «كأنما هو ثوب فُصِّل على طبيعة تفكيري تفصيلًا جعل الرداء على قد المرتدي، بل إني شعرت في اللحظة نفسها، بأنه إذا كانت الثقافة العربية بحاجةٍ إلى ضوابط تصلح لها طريق السير، فتلك الضوابط تكمن ها هنا …» (قصة عقل، ص٩٢)، هذا هو المنهج الذي ارتضاه لنفسه، فكيف استخدم شيخ الفلاسفة هذا المنهج؟!

كانت طريقته في التحليل أن يُمسك بعدسةٍ مكبرةٍ تكشف للقارئ عناصر الفكر التي هي مدار الحديث، فذلك وحده كفيلٌ بأن يُزيل ضباب الغموض الذي يكتنف المفاهيم المحورية التي تدور حولها ثقافتنا (قصة عقل، ص١٣٣)؛ فالتوضيح معناه تحليل المفهوم الغامض لاستخراج العناصر الداخلة في تكوينه لكي نفهمه، تمامًا مثل أي عمليةٍ كيميائيةٍ؛ فلكي تفهم الماء أو الهواء، أو قطعة الفحم، أو ما شئت، فهمًا علميًّا، عليك بتحليلها، في المعامل، وكذلك التحليل العقلي للأفكار الغامضة، عليك أن تُحللها تحليلًا عقليًّا لكي تكشف عناصرها ومكوناتها التي دخلت في تكوينها.

ولما كان سقراط مصر — مثل سقراط أثينا — صاحب رأيٍّ مستقلٍّ، فقد راح يبدي وجهة نظره، ويوجِّه سهام النقد، أثناء عملية التحليل، لكثيرٍ من أوضاع مجتمعه، دون أن يلتزم بأفكار حزبٍ معين، أو بموقفٍ أيديولوجيٍّ خاص. ولقد أمدَّه هذا الموقف المستقل بحرية الحركة في نقد وتحليل أي مفهومٍ، يظهر على مسرح حياتنا الثقافية أو السياسية، دون أن يجد في هذا التحليل حرجًا ولا غضاضة! فأنت تراه قابعًا مُمسكًا بالقلم، يتلقف كل ما يظهر من أفكارٍ ومفاهيم ليبدأ عمله، لا يهمُّه بعد ذلك المصدر الذي أطلق الفكرة: رئيس الجمهورية أو جمهور الناس في الشارع.

التطرف والإرهاب

ويضع شيخ الفلاسفة «التطرف الديني» تحت المجهر، لينتهي من تحليله إلى أن هناك أربع خصائص للمتطرف في مجال الدين أو في أي مجال غير الدين، هي:
  • سمةٌ أولى للمتطرف، وهي سماتٌ تُؤخذ عليه، أن يقوم بإرهاب الآخرين، لإرغامهم على قبول ما يدعو إليه هو وزمرته، وفي ذلك الإرهاب يسكن جوهر التطرف … فليست المسألة أن يختار لنفسه وجهة نظر، يرى الأفكار والمواقف من خلالها، وإنما المسألة أنه يريد أن يُرغم الآخرين بالقوة على الأخذ بها، فقد كانت وجهة نظر «الخوارج» مثلًا خالية مما يؤخذ عليهم، ومع ذلك فقد نفرت منهم الأمة الإسلامية، لماذا؟ كانت العلة في تطرفهم هي اللجوء إلى القسوة العنيفة، إرهابًا لكل من وقعت عليه أيديهم، حتى يوافق على وجهة نظرهم، وإذا لم يفعل قتلوه بأفظع صور القتل وأبشعها؛ مع أنهم كانوا لا ينقطعون عن عبادة الله لحظةً واحدة! إذا كان اتخاذ الإرهاب وسيلة لإرغام الخصوم هو العلامة الحاسمة التي تُميِّز المتطرف عمن سواه، كان مُحالًا أن يلجأ إليها إنسانٌ قويٌّ واثقٌ بنفسه وعقيدته، وإنما يلجأ إليه من به ضعف في أي صورةٍ من صوره، لماذا؟ لأن الإنسان إذا أحسَّ في نفسه ضعفًا تملَّكه الخوف من أن يطغى عليه أصحاب المواقف الأخرى، وكأي خائفٍ آخر ترى المتطرف هلعًا جزوعًا، يُسرع إلى أقرب أداة للفتك بخصمه إذا استطاع، قبل أن تسنح الفرصة أمام ذلك الخصم!

  • لا يتطرف بالمعنى السابق إلا من حمل على كتفيه رأسًا فارغًا وخاويًا، اللهم إلا أضغاثًا دفع بها إلى ذلك الرأس عن فهمٍ أو غير فهمٍ. وذلك لسببين؛ الأول: أن تكون الأفكار التي شحن بها رأسه غير علميةٍ؛ لأن الفكرة العلمية مقطوعٌ بصوابها، والثاني: أن ما يمتلئ به رأس المتطرف، ما دام لا يمتُّ إلى العلم بصلة، لا بد أن يكون فيه الخصائص المضادة للعلم، ومنها حرارة الانفعال، وغموض المعنى، واحتمال أن تتعدد فيه وجهات النظر.

  • السمة الأخيرة، أن التطرف، في الواقع، حالةٌ من حالات التكوين النفسي، ولا نقول إنه وجهة نظر إلا من باب التساهل، وإنما هو في حقيقته الدفينة حالةٌ نفسية، تجعل صاحبها على استعدادٍ لأن يتطرَّف وكفى! فليس المهم هو الموضوع الذي يتطرف فيه، بل المهم في تكوينه هو أن يتطرف للتطرف في حدِّ ذاته؛ ومن هنا رأينا أمثلةً كثيرة لمتطرفين يقفزون بين يومٍ وليلة، من تطرفٍ في فكرةٍ إلى تطرفٍ في الفكرة التي تناقضها، فتراه اليوم متطرفًا في رؤيةٍ إسلاميةٍ معينة، ثم تراه غدًا في رؤيةٍ شيوعية، أو العكس؛ مع أن الإسلام والشيوعية ضِدَّان لا يلتقيان! (انظر في ذلك كله مقاله الرائع «متطرف تحت المجهر» في كتابه «رؤية إسلامية»، ص٢٥٧، ص٢٦٨.)

تشجَّع … وفكر!

وسقراط مصر — مثل سقراط أثينا — كان فليسوفًا تنويريًّا، يدعو إلى رفع «الوصاية» عن الإنسان، المصري أولًا والعربي ثانيًا؛ لأنه بلغ سنَّ الرشد، ولم يعد قاصرًا بحيث يحتاج إلى غيره ليفكر نيابةً عنه؛ ولهذا كان شعاره «لتكن لديك الشجاعة لتستخدم عقلك»، تشجع، وفكر … تشجَّع واعرف بنفسك ولنفسك، وأعمل العقل في كل مناحي الحياة، وفي أي موضوعٍ يُطرح عليك، ولا تركن إلى الكسل والجبن الشائعين عند بعض الناس الذين يعتقدون أن في القصور راحة، وأن التفكير العقلي المستقل أمرٌ خطيرٌ جدًّا، ولا تقل لنفسك إنني لست بحاجةٍ إلى التفكير، إذا كان هناك من يقوم عنِّي بهذه المهمة الثقيلة! فالتفكير هو الذي يُميز الإنسان عن الحيوان، والله العليم بكل شيء، هو الذي وهب الإنسان العقل ليستخدمه استخدامًا جيدًا ليكون خليفةً له على الأرض! وشيخ الفلاسفة يجعل هذه الفكرة جوهر دعوته في كل ما كتب: «الخط الفكري الذي تنطوي عليه كتاباتي، على اختلاف موضوعاتها، وعلى طول الأمد الذي امتدَّت خلاله هو الإيمان بأن الفرد الإنساني مسئولٌ عما يفعل، وأن هذه المسئولية لا تعني شيئًا إذا لم يكن العقل وحده هو مدار «الحكم» في كل المسائل التي تطلب فيها التفرقة بين الصواب والخطأ. أما الموقف الذي تسوده عاطفةٌ فلا خطأ فيه ولا صواب؛ لأن المرجع فيه إلى القلب وما ينبض به» … (مجتمع جديد أو الكارثة، ص٥)، وها هنا نراه يلتقي مع المضمون المحوري للفكر التنويري، لكنه يُضيف إضافةً جديدة وهي التفرقة الواضحة بين المجال الذي يستخدم فيه الوجدان والخيال، «فإذا كان المجال مجال علمٍ فلا يجوز للشعور أن يتسلَّل إلى سياق الحديث بألفاظه الدالة على الوجدان، أما إذا كان المجال مجال أدبٍ وفنٍّ، فليتخذ ما يشاء من لفظٍ؛ ليثير في مسامعه المشاعر التي يقصد إلى إثارتها فيه … فلنعط ما للعقل للعقل، وما للشعور للشعور» … (قصة نفس، ص١٨٢).

لقد كان الفيلسوف الألماني هيجل يقول: «إن العبقري هو ما يُدرك متطلبات العصر ويلبِّيها» … ولقد أدرك فيلسوفنا أن مطلبنا الأساسي هو استخدام العقل، بعد أن غرقنا في «التفسيرات اللاعقلية» حتى الأذنين! ومن هنا كان حرصه على استخدام العقل والاحتكام إليه في جميع مناحي الحياة، باستثناء الأمور الوجدانية، والاستخدام الجيد للعقل يؤدي إلى نتيجتين مهمتين: الأولى الاهتمام بالعلم الطبيعي، والاعتماد عليه وحده في تفسير ظواهر الطبيعة؛ وبالتالي محاربة الخرافة في شتى صورها (لأن الخرافة باختصارٍ شديدٍ هي تفسير أي ظاهرةٍ من ظواهر الطبيعة خارج نطاق العلم)، غير أن الاهتمام بالعلم لا يعني «حفظ» مجموعة من القوانين العلمية، نُفسِّر بها ظواهر الطبيعة، وإنما يعني «تشرب» الأسلوب العلمي في التفكير، وأن يكون لدينا منهج ذلك العلم لنستخدمه أولًا في المشاركة الإيجابية في المكتشفات العلمية، وثانيًا ليحمل ذلك المنهج العلمي في صدورنا ميزانًا نزن به الأفكار العلمية، كلما نشأت عند الناس فكرةٌ يقابلون بها مشكلة عُرضت لهم في حياتهم» (عربي بين ثقافتين، ص١٠٧)، وهو يشعر بقلقٍ بالغٍ من موقف الإنسان العربي نحو «العلم» حدوده وقدراته، ونحو العقل وعجزه … إلخ، وهو يرى أن الخطير في الأمر أن العربي كثيرًا ما يسخر من منجزات العلم الحديث، وأنه بذلك يهزأ بالعقل الإنساني وقدراته، على ظنٍّ منه أن مثل هذه الوقفة تُرضي ضميره الديني، وأنها وقفةٌ تتضمن أن اعتزاز الإنسان بعقله، واعتداده بقدرته العلمية، كما تشهد بها منجزاته الحديثة، فيه جرأةٌ على رب العالمين، الذي هو العليم القدير؛ مع أن أحدًا على مدار الكوكب الأرضي لم يدُر في خياله أنه خالق عقل نفسه، أو أنه صاحب الفضل في كل ما ينتج من علمٍ ومنشآت (المرجع نفسه). ومن المفارقات الغريبة أن العربي الذي يرفض «المنهج العلمي» هو من أكثر أهل الأرض شراءً لتلك المنجزات الحديثة التي يأتي بها العلم (المرجع السابق).

إن ما ينقصنا هو «منهج العلم» والفرق واسعٌ بين مجموعة الحقائق العلمية التي ننقلها عن الغرب، ونحفظها عن ظهر قلب في مدارسنا وفي جامعاتنا، وبين «المنهج العلمي» الذي استطاع الإنسان بواسطته أن يصل إلى ما قد وصل إليه من حقائق، وها هنا يكمن الداء الذي تولَّدت لنا منه ضروب من الأورام الخبيثة في حياتنا العقلية، أو قل في حياتنا اللاعقلية، فكان لنا ما كان من بطءٍ شديدٍ في حركة التقدم مع حضارة عصرنا في ركضها السريع (أفكار ومواقف، ص٢٠٨، ٢٠٩). وهو في مقالٍ آخر يجعل هذه المشكلة «موطن الداء» في حياتنا العقلية، فمن اليسير أن نلقن الدارسين «مقررًا» بعينه وُضعت مادته في كتاب، ويطلب من الدارس حفظها عن ظهر قلب، ويعيدها في هذا الهيكل العظمي على ورقة الامتحان، فيخرج الدارس وفي جعبته معلومات، و«نقط» مبعثرة، وليس في عقله «منهج» للنظرة العلمية أيًّا كان الموضوع الذي ينظر إليه ابتغاء تعليله ووضعه في سياقٍ ليفهم (بذور وجذور ص٦٩).

أما النتيجة الثانية المترتبة على استخدام العقل استخدامًا جيدًا فهي نتيجةٌ واجتماعيةٌ كثيرة، وأن يكون من بين هذه النتائج مناهضة الحكم المستبد (انظر «كيف يولد طاغية»، أفكار ومواقف، ص١٦٤ وما بعدها)، ومحاربة الظلم الاجتماعي في شتى صوره لتحقيق العدالة بين الناس، والدعوة إلى المساواة، والديمقراطية، والحرية السياسية لا سيما حرية التفكير والتعبير.

الثورة الحقيقية

فإذا جمعنا بين هاتين النتيجتين المترتبتين على الاستخدام الجيد للعقل، تحققت لدينا ثورة حقيقية: «لأن الثورة الحقيقية هي ثورة فكرية»، وهي تعني أن نقوم بتغيير «أنوال» التفكير القديم التي ظلَّت باقيةً معنا على عهدها القديم؛ ولذلك بقيت طبيعة الفكر على حالها، الذي أزعمه أن منوالنا الفكري لم يتغير، وأن النمط الذي نسوق نشاطنا الفكري في إطاره، ما زال كما كان منذ قرون. وهذا المنوال قوامه عناصر كثيرة لعل أهمها الركون إلى «سلطة» فكريةٍ نستمدُّ منها الأسانيد، ومثل هذه السلطة تتمثل عادةً في نصوصٍ بعينها محفوظة في الكتب، كما تتمثل كذلك في أقوال يتبادلها الناس، وهي التي تسمَّى العرف أو التقاليد، وبناءً على هذا الموقف نكون الفكرة صوابًا إذا استقت مع ما أقرَّته السلطة الفكرية في الكتب المحفوظة أو الأقوال المأثورة، كما تكون الفكرة خطأ إذا جاءت مخالفةً لما أقرَّته تلك السلطة؛ ومن هنا اشتدَّ سلطان الماضي على الحاضر، وأصبح البرهان الذي لا يرد هو أن نسوق «الشواهد» من سجل القديم، وانحصرت قوة الإبداع الفكري في القدرة على إيجاد السند من القول المأثور، ولن تكون لنا ثورة فكرية إلا إذا أحللنا نمطًا جديدًا محل هذا النمط القديم، فيكون معيارنا هو: ما هي النتائج العلمية المستقبلية التي تترتب في حياتنا العلمية على هذه الفكرة، أو تلك مما يُقدمه لنا رجال الفكر؟ (مجتمع جديد أو الكارثة، ص١٥، ١٧).

الرائد …!

كان زكي نجيب محمود رائدًا في مجالاتٍ كثيرة منها:

أنه أول من طحن «جلاميد» الفلسفة، وما فيها من أفكارٍ عسرة الهضم، وقدَّمها للقارئ سهلةً واضحةً في عبارةٍ أدبيةٍ مشرقة، فيستحيل أن تجد في كل ما كتب فكرةً واحدة يصعب عليك فهمها لغموضها أو لعبارتها الملتوية. وإذا كان بعض المشتغلين بالفلسفة قد دافع عن «الغموض»، بحجة أن هذه هي طبيعة الفلسفة، فإنه فنَّد هذه الحجة، عمليًّا، ورفضها في كل ما كَتب!

وداعًا شيخ الفلاسفة: وداعًا يا أعزَّ الناس! يا من كنت لي أبًا قبل أن تكون أستاذًا …!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤