إسراف

لا أريد الإسراف في المال، فلست من المال وأصحابه في شيء، ولا أريد الإسراف في السياسة، فما أحب أن أكون من السياسة وأصحابها في شيء، وإنما أريد الإسراف في تقدير الأدب والحكم عليه، وفي تقدير الأدباء والحكم عليهم، وفي إقحام العلوم المختلفة في الدرس الأدبي بغير حساب. وكان يقال فيما مضى من الزمان إن النحو في الكلام كالملح في الطعام، كثير منه يخرج الكلام عن طوره ويفسده، وقليل منه ينزل بالكلام عن قدره ويفسده أيضًا. وكان الفلاسفة من أصحاب أرسطاطاليس يقولون إن الفضيلة وسط بين رذيلتين؛ تأتي إحداهما من التقصير، وتأتي الأخرى من الإفراط. وقد حفظنا منذ الصبا أن خير الأمور أوساطها. والإسراف شر في كل شيء، ولكنه أشد ما يكون نكرًا حين يمس الأدب ودراساته فيخرجه عن ملاءمة الذوق ويحول بينه وبين أخص ما يمتاز به من تحقيق المتعة الفنية للقلب والعقل جميعًا. أقول هذا كله بعد أن فرغت من قراءة كتاب عن نفسية أبي نواس لأستاذ نابه ممتاز لا شك في نباهته وامتيازه؛ هو الأستاذ الدكتور محمد النويهي أستاذ الأدب العربي بكلية الخرطوم الجامعية.

وأحب أن أقرر قبل كل شيء أن الكتاب يصور جهدًا عنيفًا حقًّا في البحث والدرس والاستقصاء والتأمل المتمهل المستأني الذي يطيل الوقوف عند القصيدة من قصائد أبي نواس، بل عند البيت الواحد من كل قصيدة حتى يستخرج من القصيدة أخلص خلاصتها ويستخرج من البيت روحه الخفية، لا في لطف ورفق وحسن تأتٍّ كما كان يفعل أبو نواس حين قال:

ما زلت أستل روح الدن في لطف
وأستقي دمه من جوف مجروح
حتى انثنيت ولي روحان في جسدي
والدن منطرح جسمًا بلا روح

بل في قسوةٍ قاسية وعنفٍ عنيف أشبه شيء بما تصنع الآلات القوية التي تهصر الأشياء هصرًا وتعصرها عصرًا، وتستخرج خلاصتها في غير رفق ولا مهل ولا أناة. ثم هو لم يكتفِ بهذا الدرس العميق العنيف لشعر أبي نواس البائس، وإنما صنع هذا الصنيع نفسه بفلسفة فرويد وبكثير من الدراسات العلمية التي قام بها جماعة من العلماء بخصائص الشعوب البدائية قديمها وحديثها، ولكثير من الدراسات الدينية بعضها يمس الديانات السماوية وبعضها يمس ديانات أخرى قديمة وحديثة. ثم هو لم يكتفِ بهذا كله، ولكنه جمع ما استخلصه من كل هذه العصارات المختلفة: عصارة أبي نواس وعصارة فرويد وعصارات الدراسات المختلفة لأجيال الناس وعاداتهم ودياناتهم، فخلطها خلطًا ومخضها مخضًا واستخرج منها كائنًا غريبًا عرضه علينا في كتابه هذا وسماه أبا نواس. ومن حق الأستاذ أن نعرف له هذا الجهد، ونقدر له ما احتمل من مشقة وعناء، ونسجل له البراعة والمهارة والفطنة والذكاء، ونحمد له آخر الأمر أنه ليس من الذين يبيعون وقتهم في هذه الحياة الفارغة التي لا تغني عنهم ولا عن غيرهم شيئًا، وإنما هو صاحب جدٍّ متصل ونشاطٍ خصب وعكوفٍ دائم على الدرس والبحث والإنتاج، وإخلاصٍ صادق في كل ما يحاول من ذلك، وحرصٍ مؤكد على أن ينفع الناس بما يصل إليه من نتائج البحث وما يخرج لهم من هذه الكتب التي يتبع بعضها بعضًا والتي لا يمكن أن يوصف شيء منها بالعجلة أو بقلة النضج. ولكن من حقنا نحن بعد ذلك أن نتحفظ أشد التحفظ حين نريد الحكم على منهجه في الدرس الأدبي لهذا الشاعر الشقي العظيم أبي نواس.

وأول ما يدعونا إليه هذا التحفظ هو أن أبا نواس شاعر قديم، ودراسة الشعراء القدماء لا تحتمل كل هذا التمحيص الذي حاوله الأستاذ؛ لأنا لا نعرف من حقائق حياتهم إلا أقلها وأيسرها. ونحن إن سألنا التاريخ لم يكد ينبئنا من حياة أبي نواس بشيء ذي بال، إنما هي أطراف حفظها الرواة، وعسى أن يكونوا قد أضافوا إليها من أحاديث الناس ومن عند أنفسهم ما ليس بينه وبينها سبب. فالشعراء النابهون يكثر عنهم حديث الناس، وتُختَرع لهم الأساطير قبل أن يموتوا، ثم تنمو هذه الأساطير بعد موتهم إلى غير حد، ولا سيما حين يكون هؤلاء الشعراء من أصحاب اللهو والعبث والمجون الذين يسرفون على أنفسهم من ذلك كله في الفعل، ثم يقولون أكثر مما يفعلون، والذين وصفهم القرآن الكريم أصدق وصف وأقومه في قول الله عز وجل: وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ * أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ * وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ.

فإذا أردنا أن ندرس حياة هؤلاء الشعراء فالخير كل الخير أن نحتاط ونتحفظ ونتجنب الجزم الذي يحتاج إلى استقصاء لا سبيل إليه. فكيف بالأستاذ الدكتور النويهي حين أراد أن يطبق نظريات فرويد على أبي نواس، فزعم لنا أنه ضاق بأمه؛ لأنها لم تفرغ له ولم تمنحه من حبها وعطفها وحنانها كل ما كان يريد؛ لأنها شغلت عنه بالقوت بعد أن مات أبوه، وكسبت القوت بنفسها ولابنها من وجه نقي أو وجه آثم أشد الإثم. وكان لهذا الحرمان الذي فُرِض على أبي نواس حين انصرفت عنه أمه إلى العمل أخطر الآثار في حياته، فكره النساء جميعًا لأنه كره أمه، وكره أمه لأنه أراد عندها أشياء لم يبلغها، فأصابت نفسه هذه العقدة التي يسميها فرويد وأصحابه عقدة أوديب. ثم لم يقف أمر أبي نواس عند هذا الحد فيما يرى الأستاذ، ولكن انصرافه عن النساء دفعه إلى ألوان آثمة بغيضة من الحب أمعن فيها أشد الإمعان واستهتر بها أعظم الاستهتار وقال فيها ما قال من شعره الكثير. ثم كان انصرافه عن أمه وضيقه بها وإمعانه في حبه الآثم ذاك مصدرًا لهيامه بالخمر واستهتاره بمعاقرتها في غير تحفُّظ ولا احتياط، وفي غير تأثُّم أيضًا. وكذلك يستقيم للأستاذ تفسير رائع خلاب لحياة أبي نواس وشعره على أحدث المذاهب العلمية في التحليل النفسي. وهو مذهب لا عيب فيه، إلا أنه متكلف من أصله لا يقوم على أساس متين من تاريخ أبي نواس أو من شعره، وإنما يقوم على أساس من الفرض الذي عمد إليه المؤلف ليكون مبتكرًا مجددًا أسرف على نفسه وأسرف على أبي نواس وأسرف على قرائه آخر الأمر.

والعلماء المعاصرون لم يطمئنوا بعدُ كل الاطمئنان إلى نظريات فرويد ولا إلى ما نشأ عنها من فنون التحليل النفسي الذي أصبح بدعًا شائعًا في أوروبا وهام به الأمريكيون هيامًا شديدًا، فكيف وأنا لست مطمئنًّا إلى أن أصحاب فرويد وأصحاب التحليل النفسي يرضون عما صنع الأستاذ بنظرياتهم حين حاول أن يطبقها على شاعر قديم لم نكد نعلم من دقائق حياته الواقعة شيئًا ذا خطر. ويزيد أمر أبي نواس تعقيدًا حبه للخمر وتهالكه عليها وتفسير الأستاذ لهذا التهالك وذلك الحب، فقد أكثر أبو نواس من تشبيه الخمر بالعروس ومن تشبيه سعيه إليها بخطبة الخاطب ومن تشبيه ثمنها بالمهر، فما أيسر ما رأى الأستاذ في هذا أن الشاعر قد أحب الخمر حبًّا جنسيًّا! وما أسرع ما ألغى التشبيه والمجاز والاستعارة في شعر أبي نواس كله وجعل كل ما تصرف فيه من ألوان القول وأساليب البيان حقائق تصوِّر حياته الواقعة تصويرًا دقيقًا! وأبو نواس يهيم بالخمر هيامًا يوشك أن يكون عبادة، فما أسرع ما يراه الأستاذ عبادة بالفعل! وكان أبو نواس كغيره من أمثاله الشعراء؛ يلتمس لذته في كثير من الأحيان في بعض الأديرة، فوصف القسس والرهبان والبِيَع والأديرة في كثير من الثناء والتقريظ، فما أسرع ما يجد الأستاذ في هذا كلفًا ظاهرًا أو خفيًّا بأشكال العبادة المسيحية عند أبي نواس! وقد أحس أبو نواس الندم بين حين وحين فقال شعرًا رائعًا في الزهد، يصدق فيه مرة ويتكلف فنًّا من فنون الشعر مرة أخرى، فما أسرع ما يرى الأستاذ أن الشاعر كان مؤمنًا أصدق الإيمان وأقواه! وكذلك يستوي للأستاذ من أبي نواس رجل فتن بأمه، ثم قرف عنها حين فتن بحبه ذاك الآثم، ثم أحب الخمر حتى رأى شربها دينًا، ثم فتن بها فتنة جنسية، ثم كلف بأشكال العبادة المسيحية، ثم كان مع هذا كله مسلمًا صادق الإسلام.

وأمر أبي نواس أيسر من هذا جدًّا، وأقوى من هذا جدًّا، وأروع من هذا جدًّا لو درسه الأستاذ على أنه شاعر ممتاز من شعراء الحب والخمر والمجون، ولو عُنِي بأدبه وفنه وروعة شعره أكثر مما عُنِي بشخصه الذي لا نعرف من أمره إلا قليلًا. وشخص أبي نواس بعد ذلك كشخص من شئت من الناس أقبل على الحياة فامتحن فيها بألوان الخير والشر، ثم صار إلى الله كما يصير الناس كلهم إلى الله يعذبهم إن شاء ويتوب عليهم إن شاء. فما أكثر الذين يمكن أن تطبق عليهم نظريات فرويد في كثير من الثقة والدقة والفائدة أيضًا! فليعمد الأستاذ إلى من حوله من المعاصرين فيحلل نفوسهم كما يحب ويهوى. فأما أبو نواس وأمثاله الأدباء فنحن في حاجة إلى أن نتذوق أدبهم ونستسيغه، فنستمتع بما فيه من روعة وجمال أكثر من حاجتنا إلى تحليل نفوسهم من غير علم بها ولا دليل عليها. وإني لأنصح للأستاذ أن يعود إلى أبي نواس فيدرسه درس الأديب الناقد، ويدع التحليل النفسي لأصحابه الهائمين به الغارقين فيه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤