بؤس أبي نواس

رحم الله أبا نواس وغفر له، فلسنا نملك إلا أن نستنزل عليه رحمة الله في الآخرة بعد أن صُبَّت عليه نقمة الناس في الدنيا.

فما أعرف من شعرائنا القدماء من كَثُر القول فيه واختلف الحكم عليه وذهب الناس في أمره المذاهب مثل أبي نواس.

أعجب به النقاد القدماء والمحدثون أشد الإعجاب، وسخطوا عليه أعظم السخط، ورضي عنه النُّسَّاك والفقهاء حينًا، وضاقوا به أحيانًا.

ولَهَا بالحديث عنه خاصةُ الناس وعامتهم وذهبوا في اللهو بحديثه مذاهب الجد والهزل.

ثم لم يَكْفِهِم ذلك فأضافوا إليه من الأقوال والأعمال ما لم يقل ولم يعمل، ثم لم يَكْفِهِم ذلك فاخترعوا له صورة شعبية ليس بينها وبينه صلة، واخترعت الخاصة له صورة أخرى مثقفة مهذبة كانت شرًّا من الصورة الشعبية.

وقد اختُرِعت هذه الصورة المثقفة المهذبة بعد موت أبي نواس بوقت قصير وعسى أن تكون اختُرِعت في حياته، اخترعها المعجبون به والساخطون عليه. أولئك غلوا فيه فحمَّلوه ما لم يحمل، وهؤلاء أسرفوا عليه فأضافوا إليه من منكر القول والعمل ما لم يخطر له على بال.

ولست أدري ماذا كان يصنع أبو نواس لو أتيح له أن يُنشَر بعد موته ويسمع أو يقرأ ما يُروى عنه وما يُحمل عليه وما يُكتَب فيه. والشيء المحقق هو أنه لو عاد إلى هذه الدنيا ورأى الصور التي اختُرِعت له والأحاديث التي تقال عنه لأنكر نفسه أشد الإنكار.

وقد صور الأستاذ العقاد شيئًا من ذلك في كتابه الذي أصدره منذ أيام، ثم لم يَكْفِهِ ما صور من ذلك فأضاف هو أيضًا صورة جديدة إلى أبي نواس ما أرى أنه يعرفها لو أتيح له أن يظهر عليها.

وقد تحدثت في العام الماضي عن هذه العناية المتجددة بأبي نواس في هذا العصر الذي نعيش فيه، فعللت ذلك تعليلًا مقاربًا بما يمكن أن يكون من الشبه بين ما يجد الناس بعد الثورة من الشعور بالتحرر والسخط على كثير من التقاليد الموروثة.

فقد أصدر الأستاذ عبد الرحمن صدقي كتابين عن أبي نواس في أوقات متقاربة، ثم أصدر الدكتور النويهي كتابًا عن أبي نواس في الصيف الماضي، ونُشِر ديوان أبي نواس في الصيف الماضي في طبعة مصرية جديدة.

وهذا الأستاذ العقاد يصدر عن أبي نواس هذا الكتاب الأخير.

وأكبر الظن أن أبا نواس سيرى لنفسه صورة مقاربة فيما كتب عنه الأستاذ عبد الرحمن صدقي؛ لأنه ذهب في كتابته عنه مذهب القدماء فلم يتكثر عليه، ولم يذهب في تصويره المذاهب وإن كان قد جدد درسه وفهم شعره إلى حد ما.

وأكبر الظن كذلك أن أبا نواس سينكر بعض ما حُمِل عليه من شعر غيره في الطبعة المصرية الجديدة، وما أكثر ما حُمِل عليه فيما مضى من الدهر!

ولكن الشيء الذي ليس فيه شك هو أن الحساب الذي سيكون بينه وبين الدكتور النويهي سيكون حسابًا منكرًا عسيرًا، وأن الحساب الذي سيكون بينه وبين الأستاذ العقاد سيكون شاقًّا ثقيلًا.

وما رأيك في أن الدكتور النويهي قد ذهب بأبي نواس مذاهب لم تخطر له ولا لأحد من الذين عاصروه أو جاءوا بعده، ولم تخطر لأحد من الذين درسوه في العصر الحديث؟ فقد زعم أن نفسه قد أدركها ما يسميه الباحثون المحدثون من أصحاب التحليل النفسي عقدة أوديب، فأحب أمه وكلف بها كلفًا بلغ الهيام وحيل بينه وبين غايات هذا الحب، فأدركه ما أدركه من هذه العلة التي أفسدت عليه أمره كله، وحولته عن الجادة إلى الطريق الملتوية في الحب.

ثم لم يقف عند ذلك، بل ذهب في وصفه للخمر وغلوه في هذا الوصف مذهبًا ليس أقل التواء من مذهبه الأول، فزعم أنه قد عبد الخمر واتخذ عبادة الخمر دينًا، وافتن في ذلك كله افتنانًا فيه طرافة وروعة، ولكنه لا يمس الشاعر البائس من قريب ولا بعيد.

وتبعة هذا الإسراف الذي كلف صاحبه من المشقة والجهد شيئًا عظيمًا لا يحملها أبو نواس؛ لأنه لم يقارف من هذه الآثام التي حُمِلت عليه قليلًا أو كثيرًا.

ولا يحملها شعر أبي نواس؛ لأنه لم يصور من هذه الآفات التي أضيفت إليه شيئًا. وإنما تُحمل هذه التبعة على علماء التحليل النفسي الذين استكشفوا علمهم هذا الجديد فأغووا به المتقنين له الذين يتحفظون فيه ويجورون به عن القصد أحيانًا، ثم يغرون به القادرين عليه والعاجزين عنه فيضلون به كثيرًا من الناس.

ويحمل هذه التبعة الدكتور النويهي نفسه؛ لأنه التوى بقراءة الشعر عن الطريق السواء، ففهمه على غير وجهه وحمل عليه من الأثقال ما لا يطيق، وأضاع روعته وجماله وأذهب بهجته ورواءه وجعله أشبه بما يعرض للمحموم من الهذيان.

وأنت تستطيع أن تقرأ شعر أبي نواس ما صح له منه وما اختُرِع عليه فلن تجد فيه ما يشير إلى هاتين الآفتين من قريب أو بعيد، وإنما هو شعر كشعر الذين عاصروا أبا نواس قد طرق الموضوعات التي طرقوها وذهب المذاهب التي ذهبوها، وامتاز بما أتيح له من هذه الخصال الفنية التي أسبغتها عليه شخصية أبي نواس ونبوغه الفني لا أكثر من ذلك ولا أقل.

ومن أيسر الأشياء أن يذهب الباحث بشعر بشار ومطيع وحماد عجرد والخليع وغيرهم من الذين عاصروا أبا نواس أو جاءوا بعده مذهب الدكتور النويهي فينتهي بهم جميعًا إلى أنهم قد أدركتهم عقدة أوديب، هذه التي ابتكرها علماء التحليل النفسي في هذا العصر الحديث، فكانوا جميعًا يحبون أمهاتهم ويكلفون بهن، ثم لا يبلغون بحبهم غايته فيُدفعون إلى ما دُفِعوا إليه من الانحراف والشذوذ.

وكل هؤلاء قد وصفوا الخمر وغلوا في وصفها وقالوا فيها ما لم يُسبَقوا إليه، فجائز أن يقال فيهم مثل ما قال الدكتور النويهي في أبي نواس إنهم عبدوا الخمر واتخذوا عبادتها دينًا. والإسراف في هذا كله واضح أشد الوضوح. ولست أدري ماذا كان يصنع علماء التحليل النفسي لو أن اليونان لم يلقوا إليهم بأسطورة أوديب هذا الذي خدعته الأقدار فاتخذ أمه له زوجًا، ثم عاقب نفسه وعاقبت أمه نفسها ذلك العقاب المعروف؟

بل لست أدري ماذا كان يصنع علماء التحليل النفسي لو أن الشاعر اليوناني سوفوكليس لم ينشئ قصته تلك التي ازدحم عليها الشعراء من بعده على اختلاف العصور والشعوب، فأنشئوا ما أنشئوا من القصص الكثيرة التي تختلف براعة وروعة وجمالًا؟

أكانوا يهتدون إلى هذه الآفة ويزعمون أنها آفة شائعة يمتحن بها كثير من الناس؟

وأغرب ما في هذا الأمر أن قصة أوديب هذه أسطورة لا يحققها تاريخ ولا يهتدي إليها بحث، وعسى ألا يكون لها أصل من واقع الحياة اليونانية القديمة، ولكن للفن أعاجيبه وللعلم أعاجيبه أيضًا.

وما أريد أن أجادل علماء التحليل النفسي في شيء من أمرهم، فلست أملك وسائل هذا الجدل ولا أقدر عليها ولا أحب أن أقحم نفسي فيما ليس لي به علم.

ولكن الشيء الذي أستطيع أن أقطع به هو أن الأدباء الذين يقحمون أنفسهم على هذا العلم دون تعمق له أو تخصص فيه يسرفون على أنفسهم ويجنون على الأدب والفن وعلى الناس أيضًا سيئات لا تكاد تحصى.

ذلك أن العلماء لهم مذاهبهم في البحث يخطئون فيها ويصيبون، وهم يعتمدون في بحثهم على التجارب فتستقيم لهم حينًا وتخطئهم أحيانًا.

أما الأدباء فيذهبون في ذلك مذهب التقليد والمحاكاة لا مذهب الاستكشاف والاجتهاد. وما أعرف شيئًا لا يصلح فيه التقليد عن غير خبرة ولا فقه كالعلم.

وإذا كان من العسير على الأدباء أن يجروا آراءهم هذه التقليدية على الأحياء الذين يرونهم، ويستطيعون أن يقولوا لهم ويسمعوا منهم ويراقبوهم من قرب أو من بعد؛ لأنهم لا يملكون أداة هذا البحث ولا يحسنون التصرف بها إن أتيحت لهم، فكيف بهم حين يجرون هذه الآراء على الموتى الذين بعد بهم العهد ولم يبق لنا منهم إلا الأحاديث؟

وكم يكون طريفًا أن يعمد المقلدون لأصحاب التحليل النفسي إلى التراث الأدبي والفني العربي والإنساني بمثل هذا التحليل، إذن لا تكون أحاديثهم إلا ألوانًا من الأعاجيب التي لا تنقضي ولا يستطيع العقل أن يحيط بها.

فكيف كان سقراط؟ وكيف كان أرسطاطاليس؟ وكيف كان أفلاطون؟ وأي آفة من هذه الآفات الكثيرة التي يستكشفها المحللون النفسيون أنتجت فلسفة هؤلاء الفلاسفة وغيرهم من قدماء الفلاسفة ومحدثيهم؟

لماذا تحدى سقراط الموت وتحدى معه الأثينيين، ووقف موقفه ذاك الرائع الذي يصوره لنا أفلاطون أبرع تصوير وأجمله؟

ولماذا ذهب أفلاطون في أبواب الفلسفة هذه المذاهب الرائعة التي التقت فيها الفلسفة العليا والشعر الذي بلغ أقصى ما يمكن أن يبلغ من الجمال؟

ولماذا أمعن أرسطاطاليس في فلسفته تلك الخصبة المفضلة التي عاشت عليها الإنسانية العاقلة ولم تفرغ بعد من الانتفاع بها؟

وما الذي دفع مسلم بن الوليد إلى العناية باللفظ والانحراف عما ألف الشعراء …؟

وأي آفة نفسية دفعت أبا تمام إلى الانحراف عن عمود الشعر كما كان الأقدمون يقولون والإسراف في هذه الاستعارات الغريبة والمعاني الدقيقة؟

ولماذا أسرف المتنبي على نفسه في الثورة الجامحة شابًّا، وفي السخط على الحياة والأحياء بعد ذلك، وفي الحرص على الحياة ومنافعها آخر الأمر؟

ولماذا تشاءم أبو العلاء وسار هذه السيرة التي لم يسبقه إليها أحد من المسلمين، ونظم هذا الشعر الذي لم يشاركه فيه شاعر وفيلسوف؟

على أن أمر أبي العلاء هين، فقد فسره بعض مؤرخي الآداب العربية في أول هذا القرن تفسيرًا لا يخلو من فكاهة، فزعم أن تشاؤم أبي العلاء لم يأته من علة نفسية ولا من عقدة من هذه العقد التي استكشفها فرويد وأصحابه؛ لأن أمرها لم يكن قد وصل إلينا بعد.

وإنما جاء تشاؤمه من علة في المعدة هي عسر الهضم، وجاءه عسر الهضم من التزامه أكل العدس دهرًا طويلًا، فأفسد هذا كله عليه رأيه في الحياة والأحياء وأتاح لنا فلسفته الخالدة الرائعة.

وكذلك فُتِن ذلك المؤرخ الحديث للآداب بالتفسير الطبي لتشاؤم أبي العلاء، كما فُتِن أستاذنا الشاب الدكتور النويهي بالتحليل النفسي في تفسير المجون لأبي نواس.

أما كتاب الأستاذ العقاد فالأمر فيه مختلف أشد الاختلاف، فهو قبل كل شيء لم يتكلف من الشطط ما تكلف الدكتور النويهي، ولم يكد ينأى عن مذهب بعينه من مذاهب الدرس الأدبي وهو التماس الشاعر في شعره.

ثم هو لم يحمل على أبي نواس من الغرائب والأعاجيب ما لا يستطيع أبو نواس أن يحتمل.

فالمذهب الذي ذهب إليه الأستاذ العقاد في كتابه قديم جديد في وقت واحد.

كان القدماء يسمونه الاعتداد بالنفس، وما زال المحدثون يسمونه كذلك أيضًا، ثم أخذ بعض الأدباء الأوروبيين يسمونه النرجسية.

ذهبوا في ذلك مذهب التجديد والإغراب، ذكروا قصة النرجس في الأسطورة اليونانية القديمة فاستعاروها للمعجبين بأنفسهم من الكتَّاب والشعراء.

وفي الوقت نفسه ذهب علماء التحليل النفسي هذا المذهب فاستعاروا من قصة النرجس تلك تسميتهم الاعتداد بالنفس، والإسراف في الإعجاب بها حتى يبلغ هذا الإسراف أن يكون مرضًا.

وإذا صدقتني الذاكرة فقد كان أندريه جيد يذكر النرجسية في بعض رسائله منذ أواخر القرن الماضي. ولعل بعض الشباب من أصدقائه الأدباء في ذلك الوقت قد وصفوه بها؛ لأنه كان في كتبه الأولى مشغولًا بنفسه لا يكاد يتحدث إلا عنها.

وقد ذكر الأستاذ العقاد النرجسية بالقياس إلى أوسكار وايلد. وهو من أصحاب أندريه جيد في شبابه أيضًا.

فالأدباء الأوروبيون قد ذكروا النرجسية وأكثروا من ذكرها منذ أواخر القرن الماضي وما زالوا يذكرونها إلى الآن.

فالأستاذ العقاد إذن لم يبعد عن مذاهب الأدباء في حديث النرجسية، ولكنه غلا فيما أعتقد غلوًّا شديدًا في تعمقها على مذهب المحللين النفسيين.

فذكر من مذاهبهم وتجاربهم فنونًا توشك أن تلحق كتابه بكتب العلماء، لولا أنه ليس له معمل ولا مستشفى يجري فيهما التجارب كما يجريها العلماء، وليس أمامه مرضى أحياء يجري عليهم هذه التجارب كما يجريها العلماء.

فهو ينقل لنا علمهم نقلًا، ولا يشاركهم فيه مشاركة صحيحة، ولا يجتهد فيه اجتهادهم، ولا يستطيع أن يبني مذهبه على مثل ما يبنون عليه مذاهبهم من التجربة والاستقراء.

وإنما هو يقرؤهم ويفهمهم وينبئنا بأحاديثهم ويقرِّبها لنا تقريبًا لا يخلو من المشقة والعنف، وإن كان هو قد ألف أن يشق على نفسه ويعنف بها في البحث وفي النقل أيضًا.

ثم هو يسرف على نفسه وعلى أبي نواس حين يجري أحكام النرجسية على الشاعر القديم، كما يجريها المحللون النفسيون على من يفحصونهم من الأحياء.

والذين قرءُوا كتاب الأستاذ العقاد قد وجدوا فيه تفصيلًا كثيرًا عسيرًا لأمر الغدد وتأثيرها في الحياة النفسية للناس حين تختلف وحين تأتلف وحين تلتئم وحين يجور بعضها على بعض.

وهذا كله كلام له قيمته وخطره حين يؤخذ المريض فيفحص فحصًا طبيًّا دقيقًا، وتجري على غدده التجارب المختلفة ويمتحن تأثير هذه الغدد في مزاجه حين يسكن وحين ينشط وحين يعمل وحين يقول.

فأما ذلك البائس المسكين أبو نواس الذي لم يبق لنا منه إلا شعره وفيه كثير مما حُمِل عليه، وإلا أحاديثه وفيها كثير مما اختُرِع وليس له أصل، فالأستاذ لا يعرف من جسمه إلا ما نقلته الكتب من هذه الأوصاف العامة الغامضة التي لا تكاد تحقق منه شيئًا.

وهو لم يمتحن غدد أبي نواس ولا سبيل له إلى أن يمتحنها؛ لأنها ذهبت فيما ذهب من شخصه. فإجراء الرأي فيه على مذهب المحللين النفسيين لا يخلو من شطط؛ لأننا لا نستطيع أن نحلل من أبي نواس إلا كلامه وكلام الناس عنه.

وفرق بين تحليل الغدد والأجسام كلها وبين تحليل الكلام الذي قاله الشاعر والكلام الذي قاله الرواة.

فتحليل الغدد والأجسام قد يصل بنا إلى بعض الحق، فأما تحليل الكلام فهو ينتهي بنا إلى الظن وقد ينتهي بنا إلى الترجيح.

ولست أدري أيقع كلام الأستاذ العقاد على الشخص الحق لأبي نواس، أم يقع على شخصه الذي اخترعته الخاصة له في أثناء حياته والذي نما وعظم أمره بعد موته؟

أم يقع على هذه الأشخاص الوهمية التي شاعت له في كثير من البيئات الشعبية على اختلاف العصور وعلى اختلاف البلاد والأوطان أيضًا؟

وقد قرأ الأستاذ العقاد كتاب ابن منظور وكتاب أبي هفان، وقرأ أخبار أبي نواس في كتب الأدب على اختلافها، وهو من غير شك يقطع مثلي بأن لأبي نواس في هذه الكتب على اختلافها شخصين متباينين.

أحدهما شخص قال هذا الشعر الذي نستطيع مع بعض الجهد أن نستخلصه ونحققه، والذي يصور إسرافًا في المجون وإغراقًا في العبث، كما يصور إغراقًا في الجد أيضًا، وفي مذاهب الجد على اختلافها في المدح والوصف والرثاء والزهد والصيد، ونحن نستطيع أن نعتمد على هذا الشعر في استخلاص شخص أبي نواس منه على نحو مقارب، لا بقراءة البيت أو البيتين، بل بقراءة الشعر كله أو ما يصل إلينا منه.

وقد فعل الأستاذ العقاد هذا ما في ذلك شك.

وقد فعلته أنا أيضًا، ولكنه ينتهي إلى أن أبا نواس قد غلا في الاعتداد بنفسه حتى لم ير غيرها أو لم يكد يرى غيرها، ففتن بنفسه كما فتن النرجس بصورته في الأسطورة القديمة.

ورأيت أنا أن أبا نواس لم يعتدَّ بنفسه أكثر مما اعتدَّ شعراء كثيرون في أمم كثيرة بأنفسهم.

فصاحب الفن معتدٌّ بنفسه دائمًا إلى حد ما.

واعتداده بنفسه هذا شرط أساسي للتجويد الفني؛ لأنه لو لم يعتدَّ بنفسه وفنه لم يحفل بالشعر ولم يتأنق فيه ولم يحسن الحكم عليه.

ولست أعرف شاعرًا خليقًا باسم الشاعر إلا وله في نفسه رأي يخالف رأي غيره فيه.

والأستاذ العقاد نفسه شاعر وما أظنه إلا قد عرف من نفسه شيئًا من هذا الاعتداد، فلولا رضاه عن شعره لما نشره ولا عرضه على الناس ليقرءُوه فيعجبوا بروعته ويحمدوا قائله، وينتفعوا بما فيه من حكمة وفن.

ولأمرٍ ما تفاخر الشعراء واستبقوا في الشعر ورضي بعضهم عن بعض وسخط بعضهم على بعض. وما أعرف شاعرًا إلا وله من نفسه مرآة ينظر فيها فيطيل النظر قبل أن يظهر للناس، وهو لا يظهر لهم إلا بعد أن يرضى عما تعكس عليه هذه المرآة.

وقد كان اعتداد بشار بنفسه أكثر جدًّا من اعتداد أبي نواس.

فإذا كان أبو نواس نرجسيًّا فلست أدري ماذا يكون بشار؟

أما المتنبي فقد تجاوز في الاعتداد بنفسه الحد الذي وقفت عنده كثرة الشعراء، وهو الذي يقول في أول شبابه وآخر صباه؛ أي في الوقت الذي تظهر فيه النرجسية وتؤتي أول ثمرها:

أي مكان أرتقي!
أي عظيم أتقي!
وكل ما قد خلق الله
وما لم يخلقِ
محتقر في همتي
كشعرةٍ في مفرقي

وهو الذي يقول حين شارف الخمسين:

أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي
وأسمعت كلماتي من به صَمَمُ
أَنامُ مِلْءَ جفوني عن شواردها
ويسهر الخلق جرَّاها ويختصمُ

وهو الذي يقول في القصيدة نفسها:

الخيل والليل والبيداء تعرفني
والسيف والرمح والقرطاس والقلم

وما أعرف أن أبا نواس أو بشارًا أو مسلمًا أو أبا تمام قالوا شيئًا يقرب من هذا.

وكان أبو العلاء في شبابه معتدًّا بنفسه إن صح هذا المذهب حين يقول:

وإني وإن كنت الأخير زمانه
لآتٍ بما لم تستطعه الأوائل

وما أعرف أن أبا العلاء نسي نفسه قط، فقد كان يذكرها دائمًا بآفته تلك في أول عهده، وبأدبه وفلسفته حين تقدمت به السن.

وما أظن أن أبا العلاء كان نرجسيًّا أو مسرفًا في الاعتداد بنفسه، فالنظرية في نفسها لا تستقيم حين تجري على من سبقنا بهم الموت وعلى الشعراء خاصة.

ففي كل شاعر نصيب من الغرور، وتجويد الكلام نفسه يغري الشعراء بإظهار هذا الاعتداد، لا لأنه من حقائق نفوسهم دائمًا، بل لأن الكلام يواتيهم فلا يقدرون على دفعه.

ويخيل إليَّ أن الأستاذ يسرف أيضًا في أمر النسب وتأثيره في نرجسية أبي نواس إن كان أبو نواس نرجسيًّا.

فشعراء الموالي كلهم كانوا يهتمون للنسب ويكثرون القول فيه، وقد سخر أبو نواس بالنسب والنسَّابين في هذين البيتين اللذين أهملهما الأستاذ العقاد، واللذين يقولهما للنَّسَّابة المعاصر له وهو الكلبي:

أبا منذرٍ ما بالُ أنسابِ مذحج
مُغلَّقة دوني وأنت صديقي
فإن تَعْزُني يَأتِك ثنائي ومَدحَتي
وإن تَأبَ لا يُسدَد عليَّ طريقي

فالرجل الذي يعبث بالنسب والنسابين إلى هذا الحد لا يحفل في حقيقة الأمر بأن يكون نسبه في العرب أو في العجم، وفي عدنان أو في قحطان، وكان أبو نواس شعوبيًّا كما كانت كثرة الموالي في عصره وقبل عصره، ومنذ العهد الأول لبني أمية. والأستاذ العقاد يعرف من هذا مثل ما أعرف، يعرف من أمر أبي العباس الأعمى وإسماعيل بن يسار، ويعرف من أمر الفقراء والمحدثين من الموالي ما يصور إغراقهم في التنكر للعرب والسخط عليهم.

هذا كله هو الشخص الحق لأبي نواس، فأما الشخص الآخر فهو شخص اختُرِع كما قلت في حياة أبي نواس نفسه، ونرى له في كتاب أبي هفان صورًا لا تخلو من جمال وفيها قبح كثير أيضًا.

فقد اتُّخذ أبو نواس رمزًا للاستهتار والازدراء بكل شيء وإهدار كل قيمة، وجعل الذين يريدون أن يعربوا عن ذات أنفسهم وعما في صدورهم من هذا الازدراء يقولون ما يخطر لهم ثم يضيفونه إلى هذا الشخص الرمزي الذي سموه أبا نواس، وليس أبو نواس بدعًا في هذا، فمن قبله اتُّخذ سقراط رمزًا للإغراق في الفلسفة حتى تبلغ السخف كما صوره أرستوفان في قصة السحاب، حتى ذهب بعض المحدثين إلى أن سقراط لم يكن إلا رمزًا، هزل به أصحاب الهزل وجد به أصحاب الجد.

وما من شك في أن التحليل النفسي لسقراط هذا الرمزي ينتج لنا الأعاجيب، كما أن التحليل النفسي لأبي نواس الرمزي ينتج لنا كثيرًا من الأعاجيب. وقد أنتج لنا النرجسية في كتاب الأستاذ العقاد، وأنتج لنا في العام الماضي ذلك الرجل الذي أصابته عقدة أوديب.

ومن يدري لعله ينتج لنا فنونًا من الأعاجيب إذا مضينا في إجراء التحليل النفسي عليه!

وبعد، فإني أحمد للأستاذ العقاد تصريحه بأنه لم يرد إلى النقد الأدبي بكتابه هذا، ولا إلى الدراسة الفنية لهذا الشاعر العظيم المظلوم.

ولعله أن يفرغ لهذه الدراسة الفنية في كتاب جديد، وما أشك في أنه إن فعل فسيمتعنا إمتاعًا ألفناه منه دائمًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤