الجزء الرابع من مذكرات حوَّاء

الجمعة

مضى الثلاثاء والأربعاء والخميس واليوم أيضًا ولم أستطع أن أراه، لقد طالت أيام وحدتي، ولكن من الأفضل لي أن أبقى وحيدة عن أن أحسَّ بأنَّنِي غير مرغوبٍ في رفقتي!

إنَّنِي مُضطرَّة أن أبحث عن رفيقٍ — فقد خُلِقتُ لهذا — ولذلك أُصاحِبُ الحيوانات! إنها لطيفة، ولها طبعها الرقيق، وأساليبها الدمثة، إنها لا تغضبُ أبدًا، ولا تجعلك تحس بأنك طفيلي أو دخيل …

إنها تبتسم لك وتحرِّكُ ذيولها — إذا كانت لها ذيول — وهي مُستعدة أن تسيرَ وراءك في أي رحلةٍ وإلى أيِّ مكانٍ … أظنُّ أنَّ جميع الحيوانات لها أخلاق الكرام الفضلاء.١

لقد انقضت هذه الأيام كلها، وكنت سعيدة ولم أحس بالوحدة … إنَّ هناك دائمًا سربًا منها يُحيطُ بي، وقد يبلغ عدد القطيع ما يغطِّي أربعة أو خمسة أفدنة، إنَّ عددها كبيرٌ لا تستطيعُ إحصاءه، وعندما تقفُ على صخرةٍ في وسطها، ثمَّ تطلُّ من فوق ظهورها وهي تلمع وتعكس مئات الألوان والخطوط، تحسُّ كأنك وسط بحيرة، كما تحسُّ بعواصف من الطيور التي تحبك وتحوم حولك، وأعاصير من الأجنحة المتحركة! وعندما تسقط أشعة الشمس على هذه الأجنحة ذات الريش المختلف الألوان يبهر ناظريك بريقها الخاطف …

لقد قمت برحلاتٍ طويلةٍ معها، وشاهدتُ جُزءًا كبيرًا من العالم، بل أظنُّ العالم كله؛ ولذلك فإنني أُعتبَر أول رحَّالة، بل الرحَّالة الوحيدة! وعندما أسيرُ معها يتكوَّنُ منا موكبٌ عجيبٌ حقًّا، ليس له مثيل مُطلقًا … وعندما أنشد الرَّاحة أركب نمرًا أو فهدًا؛ لأن جلودها ناعمة، وظهرها مُستديرٌ يريحني عندما أستقرُّ عليه، ولأنها حيوانات جميلة.

أمَّا إذا كانت المسافة طويلة، أو إذا كنتُ أريدُ النظر بعيدًا إلى الأفق، فإنَّنِي أمتطي ظهر الفيل، فهو يرفعني بخرطومه ولكنِّي أستطيع أن أنزل بمفردي عن ظهره عندما يجلس فأنزلق هابطة.

إنَّ الطيور والحيوانات على علاقةٍ وديَّةٍ فيما بينها، وليست هناك مُشاحنات بينها، فكلها تتحدَّثُ معه وتتحدَّثُ معي، ولكن لغاتها أجنبية غريبة غير مألوفة، لا أستطيعُ أن أفهم كلمة واحدة منها، ومع ذلك فهي تفهمني عندما أتحدث معها خصوصًا الكلب والفيل. وبذلك أحسُّ بالخجل منها؛ فإنَّ هذا يدلُّ على أنها أكثر ذكاءً مِنِّي، وهي بذلك تتفوَّقُ عليَّ، مِمَّا يُضايقني؛ لأنني أريدُ أن أكون أنا التجربة الرئيسية، ولا بدَّ لي أن أكون كذلك.

لقد تعلَّمتُ أشياء كثيرة، كما حصلت على قسطٍ من التربية والتعليم، ولم أكن كذلك قبلًا … كنت جاهلة، وفي بادئِ الأمر كنتُ أضيقُ بكلِّ هذا على الرَّغمِ من قوَّةِ ملاحظتي، ولم أكن من المهارة بحيثُ أشهدُ انطلاق الماء من أسفلِ التلِّ إلى أعلاه، ولكنني الآن لم أَعُدْ أهتم بذلك، فلقد قمت بالتجربة تلوَ التجربة، حتَّى أيقنتُ الآن أنَّ الماء لا ينطلِقُ أبدًا من أسفلَ إلى أعلى إلَّا وقت الظلام … إنَّنِي أعلمُ أنَّه يفعلُ ذلك وقت الظلام؛ لأن البركة لا ينضبُ ماؤها أبدًا … وكان لا بدَّ أن يحدث هذا طبعًا لو لم يَعُد الماء إليها أثناء الليل.

إنَّ أهم شيء هو ثبوت الأشياء عن طريقِ التجارب، فبهذا يتمُّ تعليمك، في حينِ أنَّكَ لو اعتمدت على التخمين والافتراض والظنِّ، فإنك لن تنالَ شيئًا من العلم مُطلقًا.

هناك بعض أشياء لا تستطيع أن تكتشفها، فعليك بالصبر والمثابرة على التجارب إلى أن يتبيَّن لك أنك لا تستطيع أن تكتشفها، وإنه لمِمَّا يبعثُ على السرورِ حقًّا أن تصل إلى هذا الرأي، فإنك عندئذٍ تحسُّ بأن العالم قد أصبح جديرًا بالاهتمام، فإنه لو انعدمت الأشياء التي يجب أن نبحث عنها، أصبح العالم عالمًا مملًّا …

إنَّ مُجرَّد مُحاولة البحث والوصول إلى لا شيء، يُساوي في بهجته البحث والعثور على الضَّالَّة المنشودة … إنَّ سرَّ الماء كان يُعتبَر كنزًا بالنِّسبَةِ إليَّ، ولكن لذَّة البحث كانت قد انتهت، وعندئذٍ أحسستُ بأنَّنِي فقدتُ شيئًا!

وعن طريق التجارب عرفتُ أنَّ الخشب والأوراق الجافَّة والريش وغيرها تطفو على سطح الماء؛ ولذلك أستطيعُ أن أستنتج بأنَّ الصخرة تطفو، ولكن ليست هناك وسيلة لإثبات ذلك، حتَّى الآن. ولكني سأحاول أن أجد الوسيلة، وعندما أجدها ستنتهي لذة البحث.

إنَّ هذه الأشياء تملأُ نفسي أسًى؛ لأنني أحس بأنني إذا استطعت معرفة كل شيءٍ انتهت اللذة … وهُنَا يزيدُ حزني لأنني أحبُّ اللذة، لم أستطع النوم في الليلة الماضية من كثرة التفكير في هذا الأمر.

وفي بادئِ الأمرِ لم أستطع أن أكتشف لماذا خُلِقت … ولكنِّي الآن أعتقدُ أنَّنِي خُلِقتُ لكي أكشف أسرار هذا العالم المدهش، ولكي أسعد به، ولكي أشكر الخالق الذي ابتدع كلَّ ما فيه.

وأظنُّ أنَّ هناك أشياء كثيرة باقية لا بدَّ لي من أن أتعلمها، وبالاقتصاد وعدم التسرع ستبقى هذه الأشياء أسابيع وأسابيع … أرجو ذلك! فعندما تنتزع ريشة وتطلقها إلى أعلى تراها تسبحُ في الهواءِ ثمَّ تختفي عن الأنظار، ولكن عندما تقذف قطعة من الطِّينِ تُلاحِظُ أنها لا تسبحُ في الهواء، بل تهبطُ إلى الأرضِ في كلِّ مرَّةٍ … لقد جرَّبتُ ذلك مرارًا وتكرارًا، وفي كلِّ مرَّةٍ كانت تسقط على الأرض، إنَّنِي أتساءَلُ عن السَّبَبِ في هذا! وأنا أعتقدُ أنَّ هذا من خداع النظر، ولكنني لا أعرفُ أيهما، أهي الرِّيشة أم قطعة الطين، إنَّنِي لا أستطيعُ أن أبرهن على أيِّهما؟ ولذلك فإنني أستنتج بأنَّ هذه أو تلك من خداع النظر.

وعن طريق الملاحظة علمتُ أنَّ النجوم لن تدوم إلى الأبد، فلقد رأيتُ فريقًا من أجملها ينكدرُ ويهوي في السماء، وإذا كانت إحداها تنكدر فلا بدَّ أن كُلَّها ستنكدر … ونظرًا لأن جميعها ستنكدر، فلا بدَّ أنها ستنكدر كلها في ليلةٍ واحدةٍ، إنَّنِي أعلم أنَّ هذه النهاية المحزنة لا بدَّ أن تتمَّ؛ ولذلك فلقد عزمتُ على أن أسهر كل ليلةٍ، وأنظر إليها كُلَّما كنتُ مُتيقظة، وأُحاوِلُ أن أحتفظ بهذه اللآلئ في ذاكرتي، حتَّى إذا جاءت النهاية واختفت النجوم، فإنِّي أستطيعُ بقوَّةِ خيالي أن أعيد هذه اللآلئ الجميلة إلى السماء السوداء، وأجعلها تتلَألَأُ مرَّةً أُخرى، بل وأضاعف من عددها ذلك بالنظر إليها من خلال دموعي.

بعد الطرد من الجنة

عندما تعودُ بي الذِّكرى أحسُّ أنَّ الجنة كانت حلمًا لذيذًا، حلمًا جميلًا ساحرًا، ولكن ضاعت الجنة منَّا، ولن أراها مرَّةً أُخرى.

لقد فقدتُ الجنة ولكنَّنِي وجدته … هو! وإنِّي قانعةٌ بذلك، إنَّه يُحبني بكلِّ ما فيه من قوَّةٍ، وأحبه بقوة طبيعتي العاطفية، وهو شيء يتناسب مع شبابي وجنسي!

فإذا سألتُ نفسي: لماذا أحبه؟ لم أجد جوابًا على سؤالي، بل وجدت أنني لا أهتم بمعرفة هذه الإجابة؛ ولذلك أعتقدُ أنَّ هذا النوع من الحبِّ ليس نتيجة من نتائج التعليل والإحصاء؛ مثل حب الإنسان للزواحف والحيوانات الأخرى …

إنَّنِي أحبُّ بعض الطيور بسبب جمال صوتها، ولكنَّنِي أحبُّ آدم من أجل غنائه. لا! ليس الأمر كذلك فإنه كلَّمَا غنَّى قلَّ إعجابي بغنائه … ومع ذلك، فإنَّنِي أطلبُ منه أن يُغنِّي؛ لأنني أودُّ أن أُعوِّدَ نفسي على محبَّةِ كلِّ شيءٍ يهتمُّ به، وإنَّنِي على يقينٍ من أنَّه سيأتي الوقتُ الذي أستطيعُ فيه أن أتعلَّمَ. لقد كنتُ في بادئِ الأمر لا أحتملُ غناءه، ولكنَّنِي الآن أستطيع تحمله.

ولست أحبه بسبب نصيبه من الذكاء … لا! ليس هذا هو السبب؛ فليس هو المسئول عن نصيبه من الذكاء، فإنَّه جاءَ كما خلقه الله وهذا فيه الكفاية. إنَّنِي أعلمُ أنَّ لله حكمة في هذا، وأعلمُ أنه سيتحسَّن بمرورِ الوقت وسيكون التحسُّن بطيئًا، وأنا من جهتي لستُ على عجلٍ، إنه يعجبني كما هو.

ولستُ أحبه بسبب أساليبه الرشيقة ولطفه … لا! إنَّ الرشاقة واللطف ينقصانه، ولكنه يتحسَّنُ شيئًا فشيئًا.

ولست أحبه بسببِ جده وهمته، لا! ليس هذا هو السبب، إنَّنِي أعتقدُ أنه يُخفي عنِّي السبب وهذا ما يؤلمني، أمَّا إذا استثنينا هذا السبب، فإننا نجد أنه صريح جدًّا معي، إنَّنِي مُتأكِّدَةٌ أنه لا يُخفِي عنِّي شيئًا غيره، ويزيدُ من أسفي أنه يحتفظ لنفسه بسرٍّ ولا يبوحُ لي به، وفي بعض الأوقات لا أستطيع النوم وأنا أُفكِّرُ فيه، وسأحاول أن أطرده من مُخيلتي، فلا أريدُ أن يُعكِّرَ شيءٌ صفوَ سعادتي، التي أنا غارقة فيها، لولا هذا السر.

ولستُ أحبه بسبب ثقافته، لا! ليس هذا هو السبب! لقد علَّم نفسه وهو يقومُ بعدَّةِ أعمالٍ نافعةٍ.

ولست أحبه بسبب شهامته، لا! ليس هذا هو السبب فهو مُسيطرٌ عليَّ، ولا أستطيع أن ألومه. إنَّ السيطرة من خصائص جنسه، ولا يمكن أن يُلام على ذلك؛ لأنه ليس هو الذي اختار لنفسه هذا الجنس. وبالطبع، أنا لا أسمح لنفسي أن أُسيطر عليه، فإنَّنِي أتمنَّى الموتَ على أن أفعل ذلك … إنَّ ذلك من خصائص جنسي، ولست أمدحُ نفسي من أجل ذلك؛ لأنني لم أصنع جنسي بنفسي!

إذن … فلماذا أحبه؟! إنني أعتقد أنني أحبه؛ لأنه مذكر!

وفي أعماقه هو طيب القلب، وأنا أحبه من أجل ذلك. ولكني أستطيع أن أحبه ولو لم يتحلَّ بهذه الصفة، إنه إذا ضربني أو أهانني فسأستمر على حبه، وأنا أعلم هذا أيضًا، إنها على ما أظنُّ مسألة جنس!

إنَّه قوي وجميل وأنا أحبه من أجل ذلك، وأُعجَب به، كما أفخر به. وكان في مقدوري أن أحبه أيضًا ولو لم تكن له هذه الصفات، حتى لو كان شكله عاديًّا، لكنتُ أحبه، حتَّى لو كان حطام رجل لكنتُ أحبه وأشتغل من أجله، وأعمل كالعبد، وأُصلِّي من أجله وأسهر عليه بجانب فراشه حتى أموت.

أي نعم! أظنُّ أنَّنِي أُحبه لمجرَّد أنَّه ملكٌ لي، ولأنه مذكر، فليس هناك أي سببٍ آخر على ما أعتقد. ولذلك أُومِن بأنَّ هذا النوع من الحبِّ ليس نتيجة من نتائج التعليل أو الإحصاء.

إنه حبٌّ يأتي ولا يعلم أحد من أين! كما لا يستطيع تفسير كنهه … وليست هناك حاجة لذلك!

إنَّ هذا ما أُؤمِن به، ولكنَّنِي لست إلَّا فتاة استطعتُ أن أكونَ الأُولى في الكشف عن هذا الأمر، وقد تُظهِرُ الأيَّام خطأ رأيي بسبب جهلي ونقص خبرتي.

بعد ذلك بأربعين عامًا

إنَّنِي أدعو الله أن نخرُجَ من هذه الحياةِ معًا، وهي صلاة لن تغيب عن هذه الأرض، بل ستجد لها مكانًا في قلب كلِّ زوجةٍ تحبُّ زوجها وتُسمِّي نفسها باسمي حتى نهاية العالم!

فإذا قُدِّرَ لأحدنا أن يترُكَ الحياة قبل الآخر، فإنَّنِي أرجو أن أكون أنا التي تمضي وتسبقه، فهو قويٌّ وأنا ضعيفة؛ ولذلك فإنَّنِي لستُ ضرورة له، في حين أنه ضرورة لي، إنَّ الحياة بدونه لا تُسمَّى حياة، فكيف أستطيع تحملها؟!

إنَّ صلاتي هذه ستبقى خالدةً، على مرِّ الزمان، طالما بقي جنسي على ظهر الأرض. إنَّنِي أوَّلُ زوجةٍ … وسيتكرَّرُ هذا الدعاء حتَّى آخر زوجةٍ في الدنيا!

على قبر حواء

آدم: «أينما وُجِدَتْ حواءُ … وُجِدَت الجنَّةُ.»

١  أخلاق الجنتلمان.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤