مأساة بيراندللو

سأله أحد الناشرين أن يُدوِّن تاريخَ حياته، فكتب إليه يقول: «تريد أن أذكر لك شيئًا عن تاريخ حياتي، وليس أبغض إليَّ مما تطلب، وما ذلك إلا لسبب بسيط؛ لقد نسيتُ أن أحيا حياتي، نسيتُ حتى أصبحتُ اليوم عاجزًا عن كتابة أي شيء، اللهم إلا أنني لا أحيا حياتي، بل أكتبها.»١ وإذن فهو لا يحيا حياته كما يفعل سائر الناس، ولكنه يُحيلها إلى مِداد، ويُوزِّع دمه يومًا بعد يوم قطراتٍ على حروف المطبعة؛ فالسعداء، كما يقول، لا يجدون وقتًا للكتابة!

لن نجد كاتبًا ارتبطَت أعماله بحياته مثل بيراندللو. إن مهازل الحياة والموت — أو مآسيهما إن شئت — هي المسئولة عما كتب. وإذا صَحَّ أن كل عملٍ فنيٍّ يخلُقه صاحبه مدفوعًا بضرورة داخلية، فهو ألزمُ ما يكون لدى هذا الكاتب. وإذا آمنتَ بما يقوله جوته من أن الفن هو التحرُّر والخلاص، فسوف تزداد إيمانًا بهذه الكلمة، كلما ازدَدتَ تأمُّلًا في أعمال هذا الشاعر الكاتب الفيلسوف. قد تحمل عبارة جوته حين نسمعها اليوم شيئًا غير قليل من الغرور والزهو والكذب، ولكنَّك ستصدقها حين تصدُر عن رجلٍ مثل بيراندللو وهو يقولها في تواضُع وطيبة واستسلام. وأنت — بعدُ — لا تدري هل حياتُه هي مرآةُ فنِّه، أو فنُّه هو مرآةُ حياتِه.

•••

وُلِدَ في عام الوباء.

واختارت له الأقدار أرض صِقِلِّيَّة؛ جزيرة تعيش على الفطرة، للتقاليد والخرافات الشعبية فيها سلطانٌ كبير. يقول رفيقه ومؤرخ حياته «نرديللي»: إن اسم بيراندللو نفسه يوحي بالعذاب؛ فهو يتركب — في لهجةِ صِقليةَ المحلية — من مقطعين: بور Pur أو النار، وأنجيلوس Angellos أو الرسول، أيْ رسولُ النار، رسول التراجيديا القديمة … رسول أجاممنون٢
اجتاحت الكوليرا جزيرةَ صقلية في عام ١٨٦٧م. كان الناس لا يُحرِّكون ساكنًا، بل ينتظرون الموت بعيونٍ مفتوحة، ولم يكن أمام السيدة كاترينا — أم بيراندللو — إلا أن تفِرَّ بنفسها إلى الريف. أما زوجُها استيفانو فقد منَعَته أعماله من مغادرة المدينة، وسَرَت إليه العدْوَى فعالجوه بالنبيذ والطوب المُحترِق، واستطاع أن يغالب المرض؛ فقد كان عملاقًا يبدو كأنه بطل من أبطال الإغريق، ولكن العملاق لم يستطع أن يُخفي الشحوب البادي على وجهه حين رجع إلى بيته، وانهار فلم تحمِلْه ساقاه، وبنظرة واحدة عرفَت كاترينا كل شيءٍ وغامت الدنيا في عينَيها. في هذه الليلة وضعَت وليدها، في عتمة الظلام والحزن، في جوٍّ مشبع برائحة الجثث والرعب، وكذلك فتح لويجي عينَيه على المأساة، كأنما قذفَت به بين الأحياء نفضةُ قلق، وكأني بالطفل قد خاف أن ينظر إلى الهاوية الممتدة تحت بصره، فأغمض عينَيه، وعاد ينظر في نفسه، وتلفَّت فوجد قريبًا منه غابةً من أشجار البلوط والزيتون، يُسمِّيها الناس في بلده باسم «العماء».٣

ولم تكن مشاهد الصبا مقصورةً على مدينة «جريجنتي» القديمة، بمعابدها وأبراجها وقلاعها، بل امتدت إلى ميناء «أمبدوقل»، وهو ضاحيةٌ من ضواحي المدينة يكسوها الغبار الأصفر المتصاعد من مناجم الكبريت، وتزدحم بعمال المناجم البؤساء. وسجن «سان فنت» يُطِل على المدينة من عَلٍ، وتستطيع أن ترى أشباح المساجين من بعيد، كأنهم طائفةٌ من المعذَّبين في طبقة من طبقات الجحيم. أما الشوارع فهي في النهار مسارحُ لمعاركَ لا تنتهي، والشمس لا تنفك تصب عليها حُممًا لافحة. وكم وقف بيراندللو وهو صغير ليُشاهد المواكب التي تَعبُر شوارع المدينة في صفوفٍ لا تكاد تنتهي: «كانت أجراس كنائسها الثلاثين تدُقُّ من الصباح إلى المساء، وتُرسل الشكوى والدعاء إلى الصلاة، وتنشُر حولها جوًّا من الحزن الغامض المقدس. ولم يكن يمُرُّ يومٌ بغير أن يعبُر الشارع موكبٌ جنازي، يسير فيه الأطفال اليتامى بثيابهم البيضاء، ووجوههم الشاحبة، وظهورهم المحنيَّة. ولم يكن شيء يُثير الحزن في النفس كرؤية الأطفال المعذَّبين، يرهبهم شبح الموت الذي يسيرون في موكبه يومًا بعد يوم، وفي يد كلٍّ منهم شمعةٌ يختنق لهيبها في ضوء الشمس …» أما الاحتفال بذكرى القديسين فكان يتم مرةً في كل سنة، ويسير فيه الصيَّادون وهم يحملون على أكتافهم تابوت القديس جالوبير، ويقفون من حينٍ إلى حين ليجرعوا زجاجةً من النبيذ، والجماهير التي أسكرتها النشوة الصوفية تتدافع من حولهم، وتَتبرَّك بهم.

كانت مُربِّيتُه ماريا ستيلا تنتزعه من الفراش قبل أن يطلع النهار، ويسيران معًا إلى الكنيسة، وهناك يُرتِّل ما لقَّنه أبواه من وصايا المسيح، ولكنَّ حادثةً صغيرة باعدَت بينه وبين هذا الشعور الديني؛ فقد اشترى له أبوه بذلة بحَّارٍ صغير، اعتاد أن يتباهى بها في أيام الأحد، ويضع على رأسه قلنسوةً صغيرة، وبينما كان يسير كالأمير الصغير، إذ رأى طفلًا مهلهل الثياب يلعب في الماء، فلم يتردد بيراندللو أمام هذا المشهد المُؤثِّر في خلع بذْلَته الجديدة، وتقديمها إلى الطفل، ثم عاد إلى بيته شِبهَ عار، والقلنسوة على رأسه، ولكن الآباء لا يأخذون الأمور مأخذ الأطفال، فقد أعادت الأم الفقيرة البذلة الجميلة إلى أصحابها، وبكى لويجي طويلًا: «أحرامٌ علينا أن نستر العرايا؟» وأصبح «ستر العرايا» عنوانًا لإحدى مسرحياته التي كتبها فيما بعدُ.

ولم يكد يتخطى العاشرة بقليل حتى كتب تمثيليةً من خمسة فصول سمَّاها «الحلاق» وأراد أن يُمثِّلها فجعل حديقة بيته مسرحًا، ورتَّب المشاهد والكواليس، وجرَّب سُلطة المَخرِج وقسوته لأول مرة في حياته. وفي ليلة العرض الأولى فُوجئ بأحد رفاقه الصغار ممن كان قد طَردَهم من «فرقته» يعود ليُفسِد حفلة الافتتاح بصفيره وتهريجه، ولقِيَ الممثل المطرود جزاءه، وعاد الحفل كما كان. ولقد كان لبيراندللو في أواخر حياته مَسرحَ عرف باسم «أوديسكالكي» أنشأ حوله مدرسةً فنية جديدة، وقُدِّر له أن يكون مركز إشعاع للفن الدرامي في بلاده وفي أوروبا بأَسْرها. وعرف هذا المسرح المنازعات التي عَرفَها مسرحه الساذج الصغير.

وحين بلغ الخامسة عشرة من عمره عَرضَت له حادثتان مؤلمتان، كان لهما أبلغ الأثر في إنتاجه القصصي فيما بعدُ؛ فقد اكتشَف حين كانت عائلته تقيم في «باليرمو» أن أباه العملاق يخون أمه المحبوبة مع ابنة عمه التي كان يُحبُّها قبل زواجه. ولم تكد إحدى شقيقاته تبلُغ سن النضوج حتى مسها الجنون، وأثَّر جنونها في نفس أبيه تأثيرًا بالغًا؛ فقد رأى، وهو ابن صقلية التقي، كأن الله ينتقم منه، ويُعذِّبه على خطاياه، وقطع الأب علاقته الآثمة، وكفَّر عن خطيئته فأوجد لعشيقته زوجًا وأبًا لابنه منها، وعاد الوالدان إلى الجزيرة. وبقي لويجي في «باليرمو» عند إحدى قريباته، وهناك جَرَّب العذاب الجميل لأول مرة في حياته؛ أحب فتاةً تكبره بأربعة أعوام، وظل أكثر من ثلاث سنين يُحبها في صمت، ويكتُب أشعاره ويكتُمها عن الناس، وحين نُشِرَت هذه الأشعار احتفى بها النقاد، وبلغَت أصداء مجده شواطئ جزيرته؛ وعندئذٍ اعترفَت المحبوبة برجولته، وخطبها لويجي لنفسه، وصمَّم على أن يهجُر الفن والشعر ويعود إلى الجزيرة ليعمل في مناجم الكبريت التي يملكها أبوه. وكان أبوه أذكى من أن يرضى عن هذا الزواج المبكر، فوافق بشرط أن يكمل دروسه. وعاد لويجي إلى «باليرمو».

أصبح في استطاعته الآن أن يراها، ويتحدَّث معها، ويُمثِّل دَوْر الخطيب الرسمي، ولكنه لم يلبث أن اكتشَف أن هذا الدَّوْر لا يناسبه في شيء، ولكنه لم يستطيع أن يرجع في كلامه. وقَيَّد اسمه في جامعة روما، حيث قضى فيها سنتَين سافر بعدهما إلى «بون» ليدرُس اللغة الألمانية، وهناك سأله مسجل الكلية: اسمك؟

– لويجي بيراندللو.

– جنسيتك؟

– إيطالي.

– ديانتك؟

– لا شيء!

– ماذا؟!

– قلتُ لكَ لا شيء!

فرفع المُسجِّل العجوز رأسه عن الأوراق المكدَّسة أمامه ونظر إليه لحظة من تحت نظَّارته، ثم عاد يقول: لقد تم تعميدك، أليس كذلك؟ إذن فأنت كاثوليكي!

وأقبل بيراندللو على دراسة فقه اللغة، وإعداد رسالة الدكتوراه عن اللهجات المحلية في جزيرة صقلية، ولكنه استدُعي إلى وطنه على عجل؛ فقد مَرِضَت خطيبته، ولم يَدرِ ماذا يفعل. لقد تركها في رعاية أمه، وباتت مهدَّدة بالجنون. لقد أصيبت أخته بهذا الجنون من قبلُ، وها هو ذا يُهدِّد خطيبته. ولم يَدِر ماذا يفعل، فتركها في رعاية أمه، وعاد إلى بون ليتابع دراسته. وحين عاد إلى باليرمو بعد ذلك بعام، والتقى بخطيبته التي استقرَّت فيها بعد شفائها، وجد نفسه غريبًا عنها، كما وجدت نفسَها غريبة عنه. وشَعَر كأنما نبت له جناحان، فطار إلى روما، واعتكف في دَيرٍ على قمة جبل مونتي كالفو وهناك كتَب روايته الأولى «المنبوذة».

ولم يكد يفلِت من هذا القفص حتى وقع في قفصٍ جديد لم يخرج منه مدى الحياة؛ فقد زوَّجه أبوه من «أنتونيتا» ابنة شريكه في مناجم الكبريت، وكأنه يعقد صفقةً تجارية. وقصة هذا الزواج وحدها مأساةٌ مؤلمة، طبَعَت إنتاج بيراندللو بطابعها الحزين، ووجَّهَته إلى المسرح ليجد فيه مُتنفَّسًا عن آلامه. لقد وجد امرأةً تستقر في بيته، ولم يتبادل معها قبل ذلك كلمةً واحدة، ولا عرف أحدهما عن الآخر شيئًا، وبدأت قصةٌ طويلة تفيض بالغَيْرة والمرض والجنون. كان الأصدقاء يزورونه في بيته، ما بين رسَّام وشاعر ومثَّال؛ كان أحدهم يرسم صورةً لأنتونيتا، أو يُهدي روايته للويجي.

وفي هذه الفترة من حياته نشَر أبياتًا من شعره في صحيفة الحياة الإيطالية وكتَب عددًا كبيرًا من قصصه ورواياته، كما حارب أسلوب «دانونتزيو» في الكتابة، وإن لم يستطع أن يُزحِزحه عن عرش البلاغة. وكتَب أولى مسرحياته ذات الفصل الواحد، وظهرت أولى مجموعاته القصصية في روما وتورينو، كما رأى أول أطفاله نور الشمس. وكانت مأساة أنتونيتا قد بدأت منذ حين، مأساةٌ باطنية تزيد الأحداث من قسوتها يومًا بعد يوم. كان بيراندللو يسمح لها بأن تقابل صديقاتها، بشرط ألا يتكلمن في الأدب.

وكان يعمل النهارَ كله، ويتريَّض في المساء في صحبة كلبه العزيز.

وفي إحدى الليالي عاد من نزهته اليومية ليجد امرأته طريحة الفراش، مشلولة الساقَين، كانت قد قرأَت الرسالة التي بعث بها أبوه يعلن فيها ضَياعَ ثروته. لقد غرق منجم الكبريت، وفقدَت أنتونيتا مهرها الذي ادخره لها في أعماله، وكان ذلك هو الخراب بالنسبة لبيراندللو وزوجته وأطفاله الثلاثة. نصحه أبوه أن يلجأ إلى حماه، وأبى لويجي أن يطلب العون من أحد، وفكَّر في الانتحار، فقد تستطيع زوجته وأولاده أن يعيشوا مع جدهم بعد موته. غير أن ارتباطه بالفن جعله يتشبث بالحياة، ليت القدَر يُحقِّق له المعجزة فيختفي بغير أن يموت! وأعجبَتْه هذه الفكرة فبدأ يكتب روايته «المرحوم ماتياس باسكال». وقرَّر أن يلجأ إلى قلمه، فانكَبَّ على العمل، وعَرفَ طريقه إلى الناشرين، وباع رواياتٍ لم يخُطَّ فيها حرفًا، واشتغل أستاذًا للأدب في إحدى كليات البنات، وأخذ يُعطي دروسًا في اللغة الإيطالية لعددٍ من الألمان.

ظلت أنتونيتا إلى هذا الحين بلا حراك، فقد ألجأها الشلل إلى الفراش، واعتاد بيراندللو أن يقضي الليل إلى جوارها، ويكتب على ضوء مصباحٍ زيتي. وبعد قليل سعت إليه الشهرة، وجمع ثروة لا بأس بها، وتُرجمَت روايتاه إلى اللغتَين الفرنسية والألمانية. وتماثلت زوجته للشفاء، وإن لم يعُد إليها هُدوءُها الروحي؛ لقد بدأَت الغَيْرة تنهَش صَدْرها، وصَوَّر لها الوهم أشباحًا من المُمثِّلات والمُعجَبات يُحطن بزوجها، ويُحطِّمن حياتها، وظلَّت هذه النار تحرق روحها وعقلها ثمانية عشر عامًا حتى تركتها رمادًا، وظل بيراندللو على وفائه لها، يطوي عذابه في قلبه، ويُنفِّس عنه في قصصه ومسرحياته. كانت عيناها المروعتان تتبعانه في كل مكان؛ صحا ذات ليلة فوجدهما تُحملقان فيه، كأنهما تتجسَّسان عليه حتى في نومه. لم يكن يطيق أن يراها تتعذب أمامه، فكان يُقدِّم لها كشف الحساب عن كل حركاته، ويسألها الصفح والغفران عن أخطاءٍ لم يُفكِّر فيها، ويقف أمامها كما يقف الشحَّاذ أمام بابٍ لن يُفتَح له أبدًا، ولكن إخلاصه لم يُغنِه شيئًا، كما لم تنفعه كل محاولاته للظهور أمامها على حقيقته، مجردًا من كل قناع. إن لويجي الحقيقي لم يعُد له وجود؛ لقد صار رجلًا آخر، صنعَتْه من أوهامها وغَيْرتها وجنونها، وفي هذا الازدواج سر مأساته، وفيه مفتاح عدد كبير من مسرحياته، «لكلٍّ حقيقته»، و«ست شخصيات تبحث عن مؤلف»، و«كما تهواني»، وهنا أيضًا نسمع صرخة «هنري الرابع»: «اتركوني أعيش حياتي البائسة»، «حياتي التي حرمت عليَّ».

وعاش في سجنٍ غريب؛ كانت تفتح خطاباته، وتُراقب زواره، وتتجسَّس عليه عند انصرافه من كلية البنات، وتُفتِّش الكَرَّاسات التي يحملها معه، وتُمزِّق ما تشتم منه رائحة العطر. وكان الصراع ينتابها في بعض الأحيان، فتندفع إلى الغرفة التي حبَس نفسه فيها، وتظل تدُقُّ الباب بيدَيها وقدمَيها ورأسها. وهَجَره الأصدقاء، وما زالت زوجته تَصرُخ في وجهه: «ما الذي يضمن لي أنك لا تخونني؟» فيضطر بيراندللو أن يسكت أو يُطمئنها.

لم يُفكِّر في الخلاص منها، ولا خطر له أن يحبسها في المستشفى، ولم يمنعه جنونها من الوفاء لها إلى آخر لحظة في حياته، كأنما كان حِرصُه عليها حرصًا على ينبوع فنه.

واشتَعلَت الحرب العالمية الأولى. كان بيراندللو وزوجته يعيشان كما يعيش زوجٌ من الفيران في مصيدةٍ واحدة! وكانت المريضة تصرخ: تريدون أن تُسمِّموني! ولم تكن تضع في جوفها لقمة قبل أن تذوقها ابنتها «ليتا»، وكأنها امبراطورٌ روماني يُسخِّر عبيده ليذوقوا له الطعام خشية أن يُسمِّمه أعداؤه! وتراكمت عليه المصائب؛ ماتت أمه في صقلية وتركت أباه شيخًا مُحطَّمًا فاقد البصر، وذهب أكبر أبنائه إلى ميدان القتال حيث أُسِر وأصابه داء الصدر في سجنه. ومات ابنه الثاني في خط النار، وحاولَت أحب أولاده إلى قلبه أن تُطلِق النار على نفسها، فرارًا من جحيم أمها، فلما فَشِلَت حاولت مرةً أخرى أن تلقي بنفسها في نهر التيبر.

كانت الحرب والكوارث المتتالية قد دفعَتْه إلى المسرح، وإذا به يكتب «ست شخصياتٍ تبحث عن مؤلف» في عام ١٩٢١م بعد أن ظلَّت تُطارِده ستة أعوامٍ كاملة، ولم يضع القلم من يده قبل أن يبدأ في «هنري الرابع» حتى بلغ ما كتبه في عامٍ واحد تسع مسرحيات.٤

حرمَتْه زوجته المجنونة من أن يحيا حياته، فقَنع بسماع أصدائها الجَهَنَّمية من سجنه، وجرَّدَته من كل حرية إلا حرية البهلوان الذي يسقط من السماء إلى الأرض وهو يَتشبَّث بمظلةٍ من الكلمات والأفكار. ولم يبقَ أمامه إلا أن يهرُبَ من عالم الجنون الذي يُحيط به في بيته إلى عالمٍ آخر لا يكاد الواقع يتميز فيه عن الوهم، ولا الحقيقة عن الخيال؛ عالم المسرح. وربما وجَد في حُبه اليائس للممثلة الشهيرة «مارتا ألبا» عَزاءَ شيخوخته، فصوَّرها في تمثيلياته الأخيرة مثالًا من النبل والجمال والكمال.

•••

غمَر بيراندللو العالم الأدبي بفيض من القصص القصيرة قبل أن يعرفه الناس كاتبًا للمسرح، ولم ينقطع عن كتابة القصة حتى اكتمل له منها عددٌ ضخم في مجموعاته المعروفة ﺑ «قصة لكل يوم من أيام السنة». وقصص بيراندللو هي أثره الباقي، وهي مَجلَى قُوَّته، وفنه، والبَذْرة التي نمَت منها معظم أعماله المسرحية.

في «الحياة عارية» يُصوِّر لنا كيف تُؤثِّر قُوة الحياة على أفكارنا ومشروعاتنا. إنها فتاةٌ مات عريسها فجأة في ليلة زفافها، ومات بموته كل أملٍ في نفسها، وطغى عليها الحزن فهي تريد أن تُخلِّد أحزانها إلى الأبد. وتذهب إلى مثَّالٍ تطلب منه أن ينحت تذكارًا لفقيدها، وأن يُصوِّر الحياة في صورة فتاةٍ صغيرة مستسلمة للموت وهو يضمُّها إليه في جنون، والموت هيكلٌ عظمي كئيب. وتصر الفتاة في أول الأمر على أن تستُر جسد الحياة، برغم إلحاح المثَّال ودفاعه عن صنعته، ولكنها حين تقع في حب صديقه، وتذبُل ذكرى عريسها في قلبها، تعود فتُصِر على أن تُصور الحياة عارية، تقاوم الموت بكل ما تستطيع.

وهو في قصةٍ أخرى يسير في عكس هذا الاتجاه، فترى أبطاله يبكون ماضيًا لن يعود؛ فالليلة الأولى تُصوِّر لنا ليلة الزفاف بين اثنَين من أهالي الريف البسطاء في صقلية هما ليزي كير وماراستلا؛ كلٌّ منهما له ماضيه، فليزي أرمل يعيش على ذكرى زوجته، وماراستيلا أحبَّت صيادًا غرق قاربه في العاصفة. ويقضي الزوجان ليلة الزفاف في الجبَّانة، ويهبط كلٌّ منهما في الليل والقمرُ ساهرٌ يُنير القبور وينشر عليها الصفاء والرحمة ليبكي على قبر محبوبه «وأطل القمر من سمائه على مقبرةٍ صغيرة عند التلال. لم يَرَ أحدٌ سواه في هذه الليلة الصافية من ليالي أبريل وهو يرمق هذَين الشبحَين على الدرب الصغير المُصفَر. وركع دون ليزي على قبر زوجته الأولى وهو ينشج باكيًا: «نوتريا، نوتريا. هل تسمعينني؟».»

وبرغم الجو العجيب الذي تدور فيه القصة، والشخصيات التي تتحرك فيها كالأشباح، فهي تُمثِّل جانبًا من المأساة التي يُعبِّر عنها بيراندللو في كل إنتاجه، وتترك في نفوسنا هذا الإحساس الأليم بالتعاسة الذي لا يُغادِرنا حتى بعد أن نترك الكتاب من أيدينا.

ونجد مثل هذا الإحساس في قصته «غرفة في الانتظار»، وهي تروي لنا حكاية أخواتٍ ثلاث وأمهن المترملة، ينتظرن أخاهن الذي ذهَب ليحارب في طرابلس فلم يعُد. لم يتلقَّين عنه خبرًا منذ أربعة عشر شهرًا، ولم يُعثَر له على أثَر بين القتلى أو الأسرى أو الجرحى، ولكن أمه وأخواته ينتظرن عودته في كل لحظة، ويُهيِّئنَ حجرته لاستقباله. إنهن يدخلنها كل صباح، فيُغيِّرن الماء في الدورق، ويُرتِّبن الفراش، ويملأن الساعة مرةً كل أسبوع؛ كل شيءٍ يُوحي بأن الأمل في عودته لن يذبل من نفوسهن أبدًا، ما من شيء يدل على الزمن الذي فات، اللهم إلا الشمعة التي ضاقت بالانتظار فاصفَر لونها. أما الجيران فكانوا يشفقون على هذه الأسرة، ثم ما لبث إشفاقهم أن تحوَّل إلى سخط، وأيقنوا أن الأمر كلَّه تمثيل في تمثيل. وإذن فحقيقة «شيزارينو» الأخ الغائب لا وجود لها إلا بالنسبة لهذه الأسرة، وللحُجرة التي تترقَّب عودته كما كانت منذ غادرها. هي حقيقة ثابتة في قلوب أمه وأخوته، وليس لهن من حقيقة سواها، والزمن أيضًا ثابت، لم يتغير إلا بالنسبة لخطيبته كلاريتا التي كانت تزورهم في الأيام الأولى، ثم ندرت زياراتها بالتدريج. وتصل المأساة إلى ذروتها حين تبلُغهم الأنباء بزواج كلاريتا، وترقد الأم العجوز على فراش الموت، يتطلع إليها البنات والحسَد يلمع في عيونهن. سوف تتخلص أمهن من عناء الانتظار، وتتحرر من الشك، وسترى إن كان ولدها قد بلغ العالم الآخر، وإن كانت لا تستطيع أن تعود لتخبرهن بما رأت. وتشفق الأم على بناتها، فإن عليهن أن ينتظرن عودة أخيهن، وسوف يعشن على هذا الأمل الذي يُهيئ لهن أنه لا يزال حيًّا، وأنه سيعود في يومٍ من الأيام، وتهمس الأم وهي تلفظ أنفاسها الأخيرة: «أخبرنه أنني انتظرتُه طويلًا.»

في هذه الليلة لا تمتد يدٌ إلى الغرفة، ولا يُبدَّل الماء في الدورق، ولا يُرتَّب الفراش، وتظل النتيجة المعلقة على الحائط مشيرةً إلى اليوم السابق: «إن وهم الحياة في هذه الغرفة قد توقَّف ليومٍ واحد، وكأنه قد توقَّف إلى الأبد.» وتظل الساعة وحدها تنطق بلسان الزمن، في هذا الانتظار الصامت الأليم.

وتتردَّد هذه الفكرة نفسها في سائر انتاجه، فالحقيقة التي تُضفيها على حياتك هي التي تُحدِّد لك صورتها. والحياة والحقيقة بالنسبة للأم والأخوات الثلاث مرتبطة بحجرة أخيهن، وليس لهن من حياة أو حقيقة سواها. أما حقيقة الابن الغائب فهي ثابتة لا تتغير هناك في غرفته التي تنتظر عودته، كأنها مثالٌ أفلاطوني خالد، أو كأنها عالم الشيء في ذاته الذي صوَّره لنا «كانْت»، بعيدًا محجوبًا عن البشر، لا سبيل إلى معرفته أو الوصول إليه.

•••

أما في الرواية فقد بدأ بيراندللو مقلدًا رواد الحركة الطبيعية في الأدب الإيطالي، مثل كابوانا وفرجا. فعل ذلك في رواياته الأولى «المنبوذة»، و«المرحوم ماتياس باسكال» و«الشيوخ والشباب»، و«واحد، لا أحد، ومائة ألف»، ولكن جموع الفلاحين الصيادين في صقلية، وعواطفهم الساذجة البسيطة، وعاداتهم وتقاليدهم وتراثهم الشعبي لم يُشبِع عبقريته المتطلعة إلى كل غريب، وسرعان ما انصرف عن الطريقة الموضوعية الخالصة وبدأ يبحث عن النماذج النفسية المريضة التي خلَقَتها حضارة القرن العشرين. كانت كل شخصية من شخصياته رمزًا يُعبِّر عن فكرة تُعذِّبه وتُؤرِّق باله، وكان في التعبير عنها تنفيس عن ألم مكظوم.

ولنستعرض هنا في إيجاز شديد روايته «المرحوم ماتياس باسكال»؛ فهي المركز الذي تدور حوله سائر كتاباته.

يروي لنا «ماتياس باسكال» تاريخ حياته في أسلوبٍ متقطع؛ فهو ينحدر من أسرةٍ صقليةٍ محترمة، ولكنه يُضطَر إلى شَغْل وظيفةٍ بائسة كأمين مكتبة في قريته، فقد تَبدَّد ميراثه، نتيجةً لوفاة أبيه، وشذوذ أمه، وخداع جيرانه، وضاعَف من بؤسه أن تزوَّج من امرأةٍ تعاونت مع أمها الشريرة على أن تجعل من حياته جحيمًا لا يطاق. ولا يستطيع ماتياس أن يحتمل فوق ما احتمل، فيترك بيته وقريته، ويهيم على وجهه، ويعتقد الجميع أنه انتحر، وتتأيد شكوكهم حين يُعثَر على جثةٍ مجهولة، فيقولون: إنها جثةُ صاحبنا المسكين. وهكذا يُدفَن ماتياس في حفلٍ مهيب، وتُؤدَّى نحوه الطقوس المعتادة، وتُنشَر أخبار الجنازة في الصحف.

ويصل ماتياس باسكال إلى مونت كارلو، وهناك يجمع ثروةً كبيرة من اللعب على موائد القمار، ويُفاجأ بقراءة نعيه في الصحف، ويُصمِّم على العودة إلى قريته، وإدخال السرور على أُسْرته بما كسب من مال، ولكنه لا يلبث أن يتراجع عن عزمه، فهل يسرهم حقًّا أن يعود إليهم؟ لكن قاسى من زوجته ومن حماته الشريرة. لا! إن من الخير أن يظلوا على اعتقادهم بأنه قد مات حقًّا، وبذلك يبدأ حياةً جديدة، يتحرر فيها من شخصيته القديمة، ومن كلِّ ما رسَخ فيها من تقاليد وعادات ليُمكنه أن ينظر إلى الحياة نظرةَ المتفرِّج المحايد الذي يقف من بعيد، يُراقِب ويُحلِّل ويختبر.

وهكذا يغير اسمه إلى «أدريانو مايس» — وهو اسمٌ وقع له كيفما اتفق — ويستأنف طوافه من بلد إلى بلد، ويخلق حياته كلها خلقًا جديدًا «فكم من الدقائق التي يحتاج خياله إلى ابتكارها إذا أراد أن يعود إنسانًا حقًّا.» ويضيق ماتياس باسكال بحياته، إنه يعيش وحيدًا، مجهولًا، مسافرًا من فندق إلى فندق، وأخيرًا يقيم مع عائلة في روما، ويُبيح لنفسه أن يتعرف على أفرادها، ويصف لنا بيراندللو العجوز بالياري، وابنته أدريانا، وبقية أفراد الأسرة في لمساتٍ دقيقة حية. وتتحرك إنسانيته شيئًا فشيئًا، ويزداد اهتمامه بهذه الأُسرة وبخاصة أدريانا، على الرغم من كل الجهود التي يبذلها ليعيش وحيدًا منطويًا على نفسه.

وفي إحدى الأمسيات التي تجمع بينه وبين أدريانا يعترف لها بحبه، ولكنه سرعان ما يكتشف أن الحياة أصبحَت مستحيلة. كان من السهل عليه أن يعيش وحيدًا باسم أدريانو مايس؛ فلم يكن أحد يلتفت إليه أو يسأل عن ماضيه، ولكنه حين حاول أن يطرق أبواب المجتمع، ويشارك في أفراحه وأحزانه، وجد أنه لا حق له في شيء، إن كان هو «ماتياس باسكال» فقد مات وانتهى أمره، وجثته راقدة في مقبرة قريته، وإن كان هو أدريانو مايس فلا وجود لشيء بهذا الاسم؛ لأنه لا يعرف له ماضيًّا ولا مستقبلًا، وليس له من وجود بالنسبة للآخرين. كان من أشق الأمور على نفسه أن يجيب على أدريانا حين تسأله عن ماضيه، وكان يعيش في خوفٍ دائم من أن يلتقي بمن يستوقفه في الطريق ويهتف به: «مرحبًا بك يا ماتياس باسكال!» «ماذا بوسعي أن أفعل؟ هل أُكذِّبه؟ كيف؟ لا. لن أستطيع أن أفعل شيئًا على الإطلاق.»

وهو يُحس أنه قد استسلم لحواسِّه، وظلم أدريانا بحُبه لها، وبذل لها من الوعود ما لا يستطيع أن يفي به أبدًا، وها هو يرى النهاية الحزينة التي انتهى إليها. لقد خدع نفسه حين توهَّم أن في إمكانه أن يحيا حياةً جديدةً حرة من كل قيد، وأن في استطاعته أن يكون إنسانًا آخر، نسى أن ذلك لا يتأتى له إلا إذا ظل بعيدًا عن المجتمع، مجهولًا منه، ساكنًا مشلولًا.

«أي إنسانٍ كنتُه إذن؟ ظل إنسان. وأي حياةٍ كانت حياتي؟ عندما كنتُ مغلقًا على نفسي، مكتفيًا بمراقبة حياة الناس من حولي، كنتُ قادرًا على إنقاذ الوهم الذي يُصوِّر لي أنني أحيا حياةً أخرى، ولكنني حين اقتحمتُ الحياة، وقبَّلتُ شفتَين عزيزتَين، رُوِّعتُ وأُجفِلتُ فزعًا كأنني قبَّلتُ أدريانا بشفتَي جثةٍ هامدة، جثة لا تستطيع أن تعود إلى الحياة لتعيش من أجلها.»

ولم تقف تجاربه عند هذا الحد. لقد اكتشف ذات يومٍ أن أمواله التي أخفاها في غرفته سُرقَت منه، إنه يعرف اللص على وجه اليقين، ولكنه حين يَهمُّ باستدعاء البوليس، يتراجع مذعورًا، فمن المستحيل عليه أن يتهم أحدًا «رأيتُ أنني لن أستطيع أن أفعل شيئًا. كنتُ أعرف اللص، ولكني لم أستطع أن أدُل عليه. أي حق لي في حماية القانون؟ لقد كنتُ خارجًا على كل قانون. من أنا؟ لا أحد! فلستُ موجودًا في نظر المجتمع، وفي استطاعة أي إنسانٍ أن يسرقني، وإذن فعلي أن ألزم الصمت».

لم يَبقَ له إلا أن يفِرَّ بنفسه، ويهرُب من حب أدريانا.

إن ماتياس باسكال الذي يُسمِّي نفسه الآن باسم أدريانو مايس هو في الحقيقة شبح، يخفِق بين جنبَيه قلب، ومع ذلك فحرامٌ عليه أن يُحب، ويمتلك ثروة، ومع ذلك فباستطاعة أي إنسانٍ أن يسطو عليه، وله رأسٌ يفكر، ولكنه يعرف أنه رأسُ شبح. وأخيرًا يُصمِّم على التخلي عن فكرة الانتحار، والعودة إلى الحياة في ثياب ماتياس باسكال «نعم، يجب أن أقتل هذا الوهم العابث المجنون الذي ظل يُعذِّبني مدى عامَين، هذا الأدريانو مايس التعس الجبان الكذاب.»

بهذا وحده يمكنه أن يحمل العزاء إلى قلب أدريانا المسكينة، فقد تَغفِر له عبثه بعواطفها. ويذهب إلى شاطئ نهر التيبر، وهناك على سور أحد الكباري يترك عصاه وقُبَّعتَه وفي داخلها ورقة كتب عليها اسم «أدريانو مايس». إذن فقد انتحر أدريانو مايس غرقًا! ويهرب ماتياس باسكال تحت جُنح الليل من روما، عائدًا إلى حياته القديمة؛ إلى زوجته الملعونة، وحماته الطويلة اللسان. إن عودته من مملكة الموت هي الانتقام الذي يصبُّه على رأسهما، غير أن الأقدار لا تسير كما يشتهي؛ فهو يعلم من أخيه أن زوجته قد تزوَّجَت بعده من رجلٍ ثري، وأنجبَت منه طفلًا. وتنتهي الرواية بظهور المرحوم ماتياس باسكال أمام امرأته المذعورة التي ظنَّت أنه يرقُد في الجبَّانة في سلام منذ عامَين.

تُعبِّر هذه الرواية عن شخصية بيراندللو خير تعبير. إن فيها تشاؤمه العميق، وتفكيره الجدلي، وسخريته المرة، وفيها أبطاله القلقون الذين لا يملُّون البحث عن حقيقتهم وحقيقة العالم الخارجي الذي يعيشون فيه، ويطول بهم التفكير حتى يُوشِك أن يخنُق فيهم كل إرادة وفعل وعاطفة، ويكاد الواحد منهم في نهاية الأمر أن يكون طرفًا في إحدى محاورات أفلاطون، أو مريضًا من مرضى فرويد!

أيستطيع كاتب أن يُبيِّن لنا كيف وُلِدَت إحدى الشخصيات في خياله أو لماذا وُلِدَت؟ إن سر الخلق الفني هو نفسه سر الخلق في الطبيعة؛ فقد تُريد امرأةٌ محبة أن تكون أمًّا، ولكن الرغبة وحدها لا تكفي، وتصحو ذات يوم من نومها فتجد أنها قد أصبحت أمًّا، من غير أن تعلم متى حدث لها ذلك، وكذلك الشأن عند الفنان، إنه يختزن في نفسه كثيرًا من البذور الحية، ولكنه لا يدري متى ولا كيف استحالت إحدى هذه البذور في لحظةٍ معينة إلى كائن ينبض بالحياة، ويتمتع بوجودٍ أسمى من الوجود العادي. يقول بيراندللو في المقدمة التي كتبها لمسرحيته الشهيرة «ست شخصيات تبحث عن مؤلف»: «وهكذا أستطيع أن أقول إنني وجدتُ هذه الشخصيات الست أمامي، أحياء بحيث أستطيع أن ألمسهم، وأسمع أنفاسهم. كانوا ينتظرون مني أن أدخلهم إلى عالم الفن، وأؤلف من أشخاصهم وعواطفهم رواية أو تمثيلية، أو على الأقل قصةً قصيرة. لقد وُلِدوا أحياء، وها هم يطالبون بحقهم في الحياة. كنت أقول في نفسي: «طالما أحزنتُ قرائي بمئات من القصص القصيرة، فهل يجوز لي أن أروي لهم قصة هذه الشخصيات الست البائسة لأُسبِّب لهم الحزن من جديد؟ وهكذا كنتُ أحسبُ أنني بذلك أُبعدهم عني، غير أن الحياة لا تُوهَب للشخصية عبثًا.»

«إن هذه الشخصيات الست من بناتِ أفكاري، ولكنها الآن تحيا حياتها هي لا حياتي، وليس في مقدوري أن أسلبَ منها هذه الحياة أو أُنكرها عليها. إنها الآن تتحرك، وتتنفس، وتتكلم، وتدافع عن نفسها، فلأتركها تذهب إلى حيث تذهب كل شخصيةٍ مسرحية لتتحقق لها الحياة، لأتركها تذهب إلى المسرح، ولأقف منها موقف المتفرج. وقد كان هذا ما فعلت، وحدث ما لا بد أن يحدث؛ مزيج من المأساة والملهاة، ومن الوهم والواقع، في موقفٍ جديد كل الجدَّة، طرفاه شخصياتٌ يحمل كلٌّ منها عذابه في قلبه، ومخرج وممثلون يحاولون عبثًا أن يتابعوا تمثيل «البروفة» التي توقَّف العمل فيها. لقد كان كلٌّ منهم، وهو يبسُط مأساته، ويُدافع عن نفسه إنما يُعبِّر — بغير قصدٍ مني — عن كل المتاعب والأزمات التي أرهقَت روحي سنواتٍ عديدة. كان يُعبِّر عن استحالة التفاهم المتبادل إذا قام على الكلمات المجرَّدة الجوفاء، وعن تعدُّد شخصيات الإنسان تبعًا لكل إمكانيات الوجود لدى كل واحدٍ منَّا، وعن الصراع المؤلم الذي يقوم بين الحياة التي تتحرك وتتغير باستمرار، وبين الصورة الشكلية التي تحاول أن تُثبتَها على هيئةٍ واحدة.»٥

إن شخصيات بيراندللو كالدمى التي تُذكِّرنا بمسرح العرائس القديم، تُحرِّكها أصابعُ خفية من وراء ستار، وتُطيع خيال المؤلف، وتنطق بلسانه في أغلب الأحيان. إنها تشبه أن تكون رسومًا متماثلة في هيكلٍ كبير، يُصوِّر نظرته الفكرية إلى الحياة، اللهم إلا في «الشخصيات الست التي تبحث عن مؤلف»؛ فالدمى هنا تتحرر من سلطان سيدها، وتندفع بنفسها للبحث عن مؤلفٍ جديد، بعد أن هجرها المؤلف القديم وتركَها قبل أن يكتمل خلقها. ولعل هذا هو الذي يُفرِد هذه المسرحية من بين سائر أعماله، وينفُخ فيها حرارة وحياة لا يحظى بها سواها.

وفكرة هذه المسرحية أشهر من أن تعرف؛ فنحن في مسرح حيث تُعَد العدة لبروفةٍ مسرحية جديدة (هي في نفس الوقت إحدى مسرحيات بيراندللو). والمخرج ومساعده والممثلون والملقن … إلخ مشغولون بإعداد هذه المسرحية لعرضها على الجمهور بعد حين. وفجأةً تدخل المسرح ستُّ شخصيات، يضيء وجوهها نور كأنه ينبعث من داخلها. كانت شخصياتٍ في خيال مؤلف، بعضها اكتمل وعرف دَوْره ومصيره، وبعضها لم يزل ناقصًا ينتظر من يُسوِّي خلقه ويُتمُّ تكوينه، تخلى عنهم مؤلفهم وتركهم كالأيتام يبحثون عن أبٍ، ولكن هل يمكن أن يجد اليتيم بديلًا عن أبيه؟ أليس من المحال أن تُنزع النطفة من رحم لتنمو في رحمٍ جديد؟ نعم! هذا هو القدر الذي كُتِب على هذه الشخصيات، وها هو ذا «الأب» يُحاول أن يفسر الأمر ويُبدِّد حيرة المخرج:

«آه يا سيدي، أنت تعلم — ولا شك — أن الحياة تزخَر بألوان من المتناقضات لا تنتهي، ولا تحتاج أن تبدو في صورةٍ معقولةٍ طالما هي صادقة … أقول، إن محاولة عكس العملية، وإضفاء ثوب الحقيقة عليها، لا يعني إلا الجنون. ومع ذلك فلعلك تأذن لي أن أقول: إن كان هذا هو الجنون، فهو الشيء الوحيد الذي يُبرِّر مهنتكم.»

وهكذا يحملنا بيراندللو إلى عالم الحلم والحقيقة، والخيال والواقع، والظاهرة والعالم في ذاته. غير أن هذه الشخصيات قد أُهمِلَت وطُرِحَت جانبًا «بمعنى أن المؤلف الذي وهبنا الحياة، كما ترى يا سيدي، لم يعُد قادرًا من الوجهة المادية على أن يسلُكَنا في عالم الفن. وكان ذلك منه جريمة حقيقية يا سيدي؛ لأن من يُسعِده الحظ فيُولَد شخصيةً حية يمكنه أن يسخر حتى من الموت؛ إنه أسمى من الموت. إن الكاتب، أداة الخلق، يموت، أما مخلوقاته فلا تموت أبدًا، وليس هناك من حاجة لبلوغ هذه الحياة الأبدية إلى مواهبَ خارقة ولا إلى معجزات … فمن هما سانكو بانزا ودون أبونديو؟ ومع هذا فهما يعيشان حياةً أبدية. لقد كان من حسن حظهما — وهما بعد بذرةٌ حية — أن يجدا الرحم الخصب الذي ينموان فيه، والمخيلة التي تُربِّيهما وتغذوهما وتمنحُهما الحياة السرمدية!»

بهذه المقابلة بين الواقع والخيال، بين العاطفة الأصيلة التي انبثقَت في قلب الكاتب، وبين بديلتها التي تُحاول تقليدها على خشبة المسرح، يحاول بيراندللو أن يُنبِّهنا إلى نقص «الواقعية» التي سيطرت زمنًا على المسرح. إن مأساة هذه الشخصيات الست أنها لا تجد ممثلًا واحدًا من لحم ودم يستطيع أن يُعبِّر عن عذابها، ويُترجِم عن عواطفها، وكأن ترجمة «العاطفة» إلى «الفعل» ضربٌ من المحال. وعندما يميل المخرج إلى تمثيل قصتها من جديد، ويطلب من عامل اللوازم أن يُجهِّز فِراشًا لتُعيد عليه الابنة حادثتها مع أبيها يقول له عامل اللوازم: نعم يا سيدي. هناك الأريكة الخضراء.

الابنة : لا! لا! خضراء؟ لقد كانت صفراء، مزدانة بالزهور، عريضة جدًّا.
العامل : ليس لدينا ما يُشبِهها.
المخرج : لا أهمية لذلك. أحضر ما عندك.
الابنة : ماذا تقصد بقولك، لا أهمية لذلك؟
المخرج : نحن نجرب الآن. أرجوك. لا تتدخَّلي في شيء.

(ويبدأ المخرج في توزيع الأدوار، فيلتفت إلى الممثلة الأُولى قائلًا):

المخرج : أنتِ الابنة بالطبع.
الابنة (ضاحكة) : ماذا؟ أأنا تلك المرأة التي هناك؟ (تنفجر بالضحك مشيرةً إلى الممثلة الأُولى).
المخرج (غاضبًا) : ماذا يُضحِكُك؟
الممثلة الأولى (باحتقار) : لم يجرؤ أحدٌ حتى الآن على السخرية بي! أُريد أن أُعامَل باحترام أو اذهب!
الابنة : معذرة. إنني لا أسخر منك.
المخرج (للابنة) : مما يُشرِّفُكِ أن تقوم ممثلتُنا الأُولى بتمثيل دورك.
الممثلة الأُولى (فجأة، بازدراء) : أيُقال لي: «هذه المرأة»؟
الابنة : ولكنِّي لم أقصِدك بكلامي. صدِّقيني! كنتُ أتحدث عن نفسي، إليَّ. إني لا أرى نفسي فيك بالمرة، ولا أُشبِهُك في شيء. هذه هي الحقيقة. انظر يا سيدي! إن ما نُريدُ التعبير عنه …
المخرج : تُعبِّرون عنه؟ أتظنُّون حقًّا أن لديكم أية قدرةٍ على التعبير؟
الأب : ماذا؟ أتقول ليس لدينا ما نُعبِّر عنه؟
المخرج : على الإطلاق! إن التعبير يُصبِح هنا مادةً يُضفي عليها الممثلون الجسم والصورة، والصوت والإشارة. وهؤلاء الممثلون — كل بحَسَب طريقته — كانت لديهم القُدرة على التعبير عن مادةٍ ألطف وأسمى. إن مادَّتكُم من الضآلةِ بحيث لو نجحَت على المسرح فالفضلُ كُلُّه لأفراد فرقتي.

(وتستمر المحاورة على هذا النحو الجدلي حتى ينطلق صوتُ رصاصة.)

الممثلة الأولى (تدخل من اليمين والدموع في عينيها) : لقد مات! الأدريانو مايس التعس الجبان الكذاب.
آه! ما أبشع هذا!
الممثل الأَوَّل (يعود إلى المسرح ضاحكًا) : كيف تقولين: إنه مات! إنه خيال، خيال فلا تُصدِّقيه.
بعض الممثلين : خيال؟ إنه الواقع! الواقع! الواقع! لقد مات!
ممثلون آخرون : بل هو خيال! خيال!
الأب (ينهض صارخًا) : أتقولون: إنه خيال؟ إنها الحقيقة! الحقيقة أيها السادة! الحقيقة! (يندفع يائسًا خلف الستار.)
المخرج (الذي لم يعُد يقوى على الاحتمال) : خيال، حقيقة! فلتذهبوا جميعًا إلى الجحيم! النور! النور! النور!
(المسرح والصالة يضيئان بنور ساطع. المخرج يلتقط أنفاسه وكأنه تحرَّر من كابوس ثقيل. الممثلون ينظر بعضُهم إلى بعض، مشدوهين حائرين) آه! إني ما عرفتُ شيئًا كهذا من قبلُ! لقد ضيَّعوا عليَّ يومًا بأكمله!
لعل هذه المسرحية قد أثارت من النقد والجدل ما لم تُثِرْه مسرحيةٌ من المسرحيات في أوروبا وخارجها بعد «سيرانودي برجراك».٦ أنكر منها النقاد ثورتها على كل التقاليد المسرحية المعروفة، وتمزيقها لشخصية الإنسان إلى عددٍ لا نهاية له من الشخصيات، وتصويره لها مسلوبة الإرادة، ضائعة المصير، ولكن ليس هناك من يُنكِر أنها علامةٌ من علامات الطريق في التطوُّر المسرحي الذي يشهده القرن العشرون، وثورةٌ على قيود الدراما الحديثة، ومحاولةٌ للسير بها في الطريق الذي فتَحَه لها فرويد والتحليل النفسي. هي محاولة للكشف عن ألوان الصراع والتناقُض الذي يعانيه الإنسان اليوم، الإنسان الذي يخالف ظاهره باطنه، فيُضطَر أن يضع على وجهه ألف قناع وقناع، الإنسان الذي يرى حضارته المادية تنمو وتتضخم كالغول، وتبتلع عقائدُه وقيمُه الأخلاقية، الإنسان الذي يستعد لحربٍ عالميةٍ مدمرة، وتسحقُه فاشية موسوليني وهتلر، وتسلبُ منه فرديتَه وشخصيتَه وحقَّه في اختيار مصيره. هو بكلمةٍ واحدة إنسان أوروبا الحديثة بكل أزماتها الاجتماعية والنفسية والفكرية.
والكلامُ عن هذه المسرحية يجرُّنا إلى الكلام عن مشكلةِ الشخصية عند بيراندللو.٧ إنها مشكلةٌ فلسفيةٌ قديمة، ولكنها تصبح مشكلةً فنية حين تَجِد من يُعانيها ويتعذَّب بها. وربما لا نجد بين الكُتاب المحدَثين من عذَّبَته وسيطَرَت عليه مثل بيراندللو. كانت شخصيات إبسن متكاملةً موحدةً متجانسة. كان الفرد هو مدار فلسفته، وشخصياته كالمردة تتحدَّى المجتمع وتقاليده، وتنفرد بوحدتها وكبريائها ونضالها المستميت. لن تجد هذا التجانُس عند بيراندللو. إنه ينظر إلى الفرد فيجد شخصيته تزدوج، وتتعدَّد، وتتضاعف إلى عددٍ لا نهايةَ له من الشخصيات تُنكِر كلٌّ منها الأخرى. إنه يُحطِّم الإنسان إلى ذرَّات، فتتفكَّك اﻟ «أنا» بين يديه، وتنحَلُّ الشخصية إلى أدقِّ عناصرها. لم ينقسم الإنسان عنده إلى اثنَين أو ثلاثة. لقد تفتَّت إلى عشرات ومئات ومئات الألوف! «إن كلًّا منا — كما يقول — يعتقد أنه واحد، إلا أن هذه عقيدةٌ باطلة. إن الواحد منا لكثير … كثيرٌ جدًّا … وإن في كياننا من الشخصيات عددَ ما لدينا من إمكانيات الوجود … إن عَلِمْنا من أنفسنا شيئًا لم نعلم إلا جانبًا واحدًا منها، ولعله أن يكون أهونها شأنًا …» هنا تجد فكرة الوجه والقناع. كانت ساذجة لدى الإغريق، فبلغ بها بيراندللو إلى منتهاها، ولكنَّ للقناع وجهًا آخر؛ فهناك قناعٌ داخلي لا يراه غير صاحبه، وهناك قناعٌ خارجي لا حيلة لنا فيه. لقد نسج المجتمع خيوطه، فما عاد الناس يُميِّزوننا بدونه، ولو أردنا يومًا أن ننزعه لما استطعنا. هناك قوةٌ أكبر منا تصرخ في وجوهنا قائلة: «أنا التي ألبستُك هذا القناع. عبثًا تحاول أن تخلعه. إنه قدَرُك. ولن تنزعه حتى تغيب في قبرك.» ويسأل كاتبنا: أنَّى لنا أن نجد الحقيقة الموضوعية في هذا التيه؟ وكيف نلتمس اليقين؟ إن كان كل شيء نسبيًّا — لا بالنسبة لفردٍ ما، بل بالقياس إلى جوانبَ مختلفةٍ من الفرد نفسه — فهل معنى هذا أننا لن نجد المُطلَق أبدًا؟!

مِن مثل هذه الفكرة ينتقل بنا إلى أفكارٍ أعم، تتصل بقيمة الفن نفسه، وبعلاقته بالطبيعة والواقع. نحن نقول: إن الكاتب «يخلق» الشخصية. فماذا نقصد من هذه الكلمة؟ أي رجاءٍ ينتظره الكاتب حين يصف شخصياتٍ ترتجف الأرض تحت أقدامها ويُزلزِل كيانَها صِراعُ قتال؟ وهذه الموجودات التي يُبدِعها الخيال فتتحرَّك وتتكلَّم وتبكي على خشبة المسرح، ما علاقتها بالواقع الذي يفترض الكاتب أنها تُمثِّله؟ مَن منها الشبح ومَن الحقيقة؟ أتكون الشخصية الروائية أكثَر حقيقةً وأشدَّ واقعية؟ هل الكون المادي وَهمٌ والمسرح الذي يخلُقه المؤلف هو الحقيقة؟ أم إنهما جميعًا من الأوهام ولا سبيل إلى هذه الحقيقة أبدًا؟!

إن كل شيء في «الشخصيات الست» نهبٌ للشك٨ كل شخصيةٍ تنظُر إلى كل حدثٍ يمُر أمامها، كما تنظر إلى كل شخصيةٍ سواها نظرةً مختلفة. لا يستطيع واحدٌ منهم أن يحكم بأنه عاقلٌ أو مجنون، مخطئٌ أو على صواب. إن اﻟ «أنا» عند كلٍّ منهم قد تناثَرَت إلى عدة «أنات» فهو ما يبدو في عين نفسه، وهو أيضًا ما يبدو في أعين الناسِ كلٌّ على حدة. وليس هناك ضمانٌ يؤكِّد أن «النسخة» التي يراها في نفسه أصدقَ من «النسخ» العديدة التي يراه عليها الناس. هذا هو شك «بيرون» الفيلسوف الإغريقي القديم يعود من جديدٍ أشدَّ هولًا، وأفتكَ أثرًا؛ يعود ليشلَّ كل إرادة، وفعل، وحرية، يعود وعلى ظهره وَقْر القرون من عذاب الإنسان وقلقه وتاريخه وتجاربه، ولكنها لا تعود لتدفعه إلى العمل، بل لتشله عنه؛ لا لتردم الهُوَّة التي يُوشِك أن يتردَّى فيها، بل لتزيدها عُمقًا واتساعًا. هنالك مُفكِّرون كثيرون يسحَبوننا من أيدينا إلى هذه الهاوية (منهم كافكا وتسفايج وفوكنر وتوماس مان … إلخ) ولكن في طليعتهم هذا الشيخُ الإيطالي ذو اللحية المُدبَّبة والنظرة النافذة الحزينة!
لعل النتيجة الواحدة التي تنتهي إليها «الشخصيات الست التي تبحث عن مؤلف» وتحمل إلينا بعض العزاء هي هذه: إن الشخصية الفنية لا تقل حياة عن الشخصية الواقعية، بل إنها لتمتد خلال الزمن، وتسخر بالموت، وتتحرَّر من سجن القبر. أين هاملت، ودون كيشوت، وسانكوبانزا، وفاوست … إلخ؟ لن تجدهم تحت شاهدٍ من شواهد القبور. إنهم أحياءٌ في كل قلب. مات الكتاب والشعراء الذين أبدعوهم ولم يموتوا، وسنموت نحن أيضًا ونتركهم وراءنا. ربما كان سبب ذلك أن الشخصية الفنية تتمتع ﺑ «ذاتٍ» مُوحَّدةٍ متكاملة لا تتمتع بها شخصيةٌ تعيش في الواقع، أو أنها مثالٌ قد تجرَّد من شوائب العالم المحسوس.٩

•••

«إنني أرى متاهة تضرب فيها أرواحنا في دروبٍ متشابكة لا حَصْر لها، دون أن تجد سبيلًا للنجاة. هناك أرى تمثالَ هرمس ذي الرأسَين، يضحك بوجه ويبكي بالآخر، بل إن أحد الوجهَين ليضحك من بكاء صاحبه.» هذه العبارة التي صدَّر بها بيراندللو أحد مؤلَّفاته تكشِف لنا عن شخصيته الأدبية. إن روحه تتيه في دوامة الحياة، وتتشكَّل من حالٍ إلى حال. إنها روح السخرية التي تعلو فوق القمة، وتُطل على العالم الفاني، وتبكي وتضحَك من صراعنا الباطل، وكأن كاتبَنا ملكٌ مُتوَّج على عرش العذاب في قصرٍ قديم مسحور.

إن الأزمة عند بيراندللو، كالأزمة عند الجيل الجديد من الكُتاب الإيطاليين في أواخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين١٠ هي أزمة العصر نفسه، عصر الصلب والقلق. إنه الجيل الذي يصيح: علينا أن نتقدم دائمًا؛ فالوقوف والسكون معناهما الاندثار والموت. إنهم يسرعون نحو المستقبل بكل قوة، ويدوسون بأقدامهم كل أثَرٍ من آثار الماضي؛ ومن ثَمَّ سُمِّيتْ حركتهم الثائرة باسم «المستقبلية».

وإذا تركنا «مارينتي» زعيم هذه الحركة جانبًا، بفوضويته، وتطرُّفه، وهدمه للعالم القديم كله، وصيحاته التي جمعَت شباب العالم حوله تُهيب بهم أن يبنوا المصنع ويُمجِّدوا الآلة والإرادة والفعل، ويعكسوا هذا كله في شعرهم ونثرهم، أقول إذا تركنا مارينتي جانبًا وجدنا ثلاثة كُتابٍ آخرين يمثلون هذه الحركة في الأدب الجديد في إيطاليا. سنجد «بابيني» أوسع الكُتاب انتشارًا، تتأرجح روحه بين الإيمان والكفر، بين الله والمادة، بين العقل والقلب، وسنجد بانزيني الكاتب المرح الذي تتردَّد كتاباته بين الشعر والنثر، والعاطفة والسخرية المحببة، ولكن الكاتب الذي يمثل هذا الصراع خير تمثيل هو بيراندللو. إنه أكثرهم جدًّا وأشدُّهم إخلاصًا في البحث عن الحقيقة. لقد أصبحت إيطاليا في يومٍ من الأيام «بيراندلِّية» — إن صحَّت هذه النسبة — وأصبح مسرحه مِنبرًا يقف عليه الكاتب لينعيَ الأدب القديم والعالم القديم، وكُلما عُرضَت مسرحية من مسرحياته في ميلانو أو روما تحوَّل المسرح إلى أرض للمعركة، وانقسم الناس إلى فريقَين؛ فريق يؤيد وفريق يعارض. ويُطل بيراندللو على الجميع من مقصورته، بوجهه الحزين، ولحيته الدقيقة المُدبَّبة، وعينَيه الناقدتَين، كأنه بوذا، أو سقراط الحكيم.

كانت مسرحياته — بما فيها من أقنعةٍ ساخرة تُخفي وراءها قلبًا معذبًا — بمثابة أجراس الخطر التي تتردَّد في سمع أوروبا، وتُنذرها بقرب الكارثة. إنها تُذكِّرنا بالكلمة التي قالها أحد العبيد لملكٍ من ملوكِ الشرق الأقدَمين وهو جالس إلى مائدته، وروحُه غارقةٌ في أُبَّهة الملك وجلاله: «مولاي! تذكَّر أنك ستموت في يوم من الأيام! …»

•••

ما من شيءٍ يُقدِّمه بيراندللو إلى الإنسان. إنه لا يحمل رسالة الإنسان الأعلى التي بشَّر بها نيتشه، أو إرادة الحياة والتطوُّر الخلاق التي أراد «شو» أن يجعل منها عقيدةً جديدة للجنس البشري، بل إن فلسفته في الحقيقة ردُّ فعلٍ لفلسفة نيتشه التي عبَّر عنها «داننزيو» أنبل تعبير. إن أبطال داننزيو يلبسون ثوبًا رومانتيكيًّا شاعريًّا، وينطقون بأسلوبٍ بليغ رنان، يُلخِّص طريقته في هذه الأبيات:
إرادة وشهوة
كبرياء وغريزة
رباعيةٌ إمبراطورية!

وبيراندللو عكس شو وداننزيو تمامًا؛ فأبطاله لا يخطر ببالهم أن يؤمنوا بشيء كالتطور الخلاق أو الإنسان الأعلى، بل لا يخطر لهم أن يؤمنوا بشيء على الإطلاق. إنهم سلبيون، عدميون، يعرفون النهاية الشقية سلفًا، ويُعزُّون أنفسهم بالتأمل الباطني والجدل الفلسفي. إنهم أقزامٌ مريضة، شاذة، مُشوَّهة، يتحدَّثون بكلامٍ متقطع، ممزَّق، منفعل. الإنسان عنده يعاني مأساة عجزه، وحزنه على مصيره. إنه يبدو كالملاك المطرود من نعمة السماء، يسقط في الوحل والشر والظلام، ويعيش حياته على ذكرى الفردوس، ويحن إلى السماء الزرقاء الصافية التي أضاعها، ويُحاوِل أن يغلب هذا الحنين بالتأمُّل البارد، والتفلسُف العقيم. الإنسان عنده أشبهُ بجنديٍّ هُزِم في أول معركةٍ دخلها.

أبطال بيراندللو وبطلاته يُحبون المنطق والجدل حبًّا يصل إلى حد العبادة. إنهم دُمًى بائسةٌ عنيدة تتشبَّث بأفكارها ونظرياتها، وتذودُ عنها بكل ما تملك. ولنقارن موقفها بموقف أبطال «إبسن»، إن هؤلاء (نورا، وبراند، وربيكا وست، وروزمر، والدكتور ستوكمان … إلخ) رموزٌ على صراع الإنسان في سبيل فرديته وحريته الكاملة؛ إنهم نبلاء في مثاليتهم، أوفياء لمبادئهم، ومن أجلها يطرحون تقاليد المجتمع، ويُحاوِلون أن يصلوا إلى نطاق الثلوج التي أقام براند عليها كنيسته. وقد كشف لنا إبسن عن مأساة شخصياته بهذا الصراع نفسه؛ ﻓ «براند» ورفاقه لا يُغمِضون أعينهم عن الإنسانية من حولهم، إنهم يشعرون أن على الإنسان أن يكافح حتى تنتصر فرديته، ولكنهم يُحسُّون أيضًا أن هذا الانتصار هو الهزيمة بعينها، وأن مصيرهم إلى الهلاك والدمار. بهذا الإحساس العميق بالموت والاندحار يشمخون برءوسهم النبيلة في وجه الموت؛ إنهم يُصارِعون مشكلاتٍ أزلية، ويُحاولون أن يهدموا جبالًا لا سبيل إلى هدمها، وكأنهم ملَّاحون في قارب، يُقاوِمون العاصفة والبحر، ويعلمون أنهم غارقون لا محالة.

ولكن أبطال إبسن يأْسِروننا برجولتهم، ويُثير فينا نضالُهم اليائس إحساسًا بالفقدان والضياع هو جوهر الحس التراجيدي. وعلى حين تنتصر الفردية عند أبطال إبسن، فإن تشاؤم بيراندللو هو الذي ينتصر في النهاية، نادرًا ما تشُق الشخصية طريقها إلى المسرح لتناضل عن حريتها وفرديتها، إنها تظل أبدًا رمزًا لآراء كاتبها، ويظل لسانها ينطق عن نظرياته وآرائه. إبسن المتمرد العاطف يُبكينا ويَبكي معنا على مصير أبطاله، أما بيراندللو المُتهكِّم الساخر فيُوقِعهم في المصيدة ليضحك عليهم والدموع في عينيه؛ إنه يُرتِّبهم كما يُرتِّب الطفل عرائسه، ويبني لهم قصورًا من الأحلام، حتى إذا اصطدموا بالمجتمع، وأصبحت قصورهم أطلالًا وقف يُطل على غبار المعركة من بعيد وكأنه يقول، «ألم أقل لكم إن هذه هي النهاية المحتومة؟!»

لكأني ببيراندللو يقول لإبسن: «ما زال أبطالُكَ يعيشون في العصر الرومانتيكي ويُحلِّقون على جناحَي فاجنر ونيتشه، وينشُد كلٌّ منهم أن يكون الإنسان الأعلى. الإنسان عندك عملاق، أما أنا فأراه قزمًا. لقد قلتَ لبجورنسن: سيُكتب على شاهد قبرك: «كانت حياته خير أعماله.» ولو كنتُ مكانك لكتبتُ: «كانت حياته غلطةً يُكفِّر عنها كلَّ يومٍ بالدمع والندم!» الحقُّ أن اتجاه الإنسان بكُلِّيته إلى تحقيق ذاته هو أقصى ما يمكن أن يبلُغه من كمال، ولكن قل لي: كيف يتَسنَّى للإنسان أن يُحقِّق ذاته وهو يتغير من يومٍ ليوم، ومن لحظةٍ لأخرى؟ لستُ أومن بإرادة الإنسان التي لا تُقهر، لقد عشتُ في القرن العشرين، ورأيتُ إفلاس الإنسان الأعلى.»

لقد كان من سُوء حظه أن عاش في عصرٍ تزَعزعَت فيه القيم والعقائد، ولم يكن من السهل عليه أن يبني من جديد، كان عليه أولًا أن يزيل الأطلال والخرائب من الأرض. إنه يُفتِّش عن حلٍّ لمشكلة الوجود، ويمنعُه إخلاصُه وصِدقُه أن يقنع بحلٍّ من الحلول اليسيرة التي يُقدِّمها غيره؛ ومن ثَمَّ كانت هذه المأساةُ التي تكمُن في كل أعماله، وتنبُع من براءته وإخلاصه وصدقه، وكأن رواياته جميعًا مأساةٌ واحدة من مائةِ فصل.

إن الدراما التي أوجدها بيراندللو دراما عقلية، وليست النزعة العقلية في أعماله مجرَّد فلسفةٍ جدلية، ولكنها أزمةٌ روحية ووجدانية «يقول الناس: إن مسرحي غامض، ويُسمُّونه بالمسرح الذهني. إن الدراما الحديثة تتميز عن الدراما القديمة بهذه الصفة، الدراما القديمة ترتكز على العاطفة على حين أن الدراما الحديثة تُعبِّر عن العقل. إن من العناصر الجديدة التي أدخلتُها على الدراما الحديثة أنني أحلتُ العقل إلى عاطفة وانفعال. كان الجمهور فيما مضى يشاهد الروايات العاطفية وحدها، أما اليوم فهو يندفع إلى المسرح ليُشاهِد أعمالًا ذهنية خالصة.»

إنك تشاهد في مسرح بيراندللو دُمًى تشبه البشر، تُحرِّكها خيوطٌ غليظة من المصالح والشهوات والعواطف والأحزان، بعضها يُشَد من قدمَيه، فيظل حياته جوَّاب آفاق، وبعضها يُجذَب من يدَيه، فيظل يعمل والعرق يتساقط من جبهته، ويُناضِل وينتصر ويستسلم، ولكن يحدث في أحيانٍ نادرة أن يهبط من السماء خيطٌ رقيق شفَّاف، مغزولٌ من ضياء الشمس والقمر، ومن الحب والرحمة، يجعل من هذه الدمى البشرية كائناتٍ إلهيةً صافية. إنه يضيء جباهنا بنور الفجر، ويصنع لقلوبنا أجنحة، ويُرينا أن في حياتنا الإنسانية شيئًا إلهيًّا وحقيقةً خالدة لا تنتهي بانتهاء الرواية وإسدال الستار!

•••

وجد بيراندللو نفسه يعيش في عَصرٍ معقَّد، مُقنَّع، مُصطخِب، فحاول أن يُضفِي عليه البساطة، والعُري، والصمت. إن البراءة — هذه الصفة البسيطة النادرة — تكشِف لنا عن كثيرٍ من جوانبه الغامضة، ومنها نستطيع أن نفهم أسرار فنه؛ فهي الصفة الغالبة على حياته كلِّها كما يقول زميله ماسيمو بونتمبلي.١١

إن الروح البريئة تمتاز بأنها لا تستطيع أن تقبل أفكار الغير أو أحكامه، وحين يُواجهُها العالم لأول مرة، ويمُد لها يدًا مملوءة بمذاهبه وحضاراته وتاريخه وفلسفاته، تهُز رأسها مُتعجِّبة، وترفُض أن تتدثَّر بغطاءٍ نسجَه غيرها؛ لأنها تُريد أن ترى العالم على طريقتها، الأحكام الجاهزة والمبادئ السابقة لا تُحرِّك فيها وترًا، إن لها لغةً خاصة بها، بسيطة، فطرية، صادقة. بهذا الصدق والإخلاص تندفع الروح البريئة اندفاعًا حيًّا إلى سر الأسرار، وتتحسَّس الجذور الضاربة في طين الأرض. إنها تستطيع بإلهامها أن تُميِّز بين الطبيعة والافتعال، في الحضارة، والعقائد، والتقاليد، والفن؛ إنها الرعشة في قلوب الأنبياء، والرجفة على شفاه الشعراء، والدهشة في عيون الأطفال. أما ثياب الإنسان الحديث وأقنعتُه فتنزعها عن جلده؛ لأن الحقيقة عارية.

واجه بيراندللو بروحه البريء عصرًا أبعدَ ما يكون عن البراءة، يتشدَّق بعظمته، ويزهو بانتصاره؛ التوسع الاستعماري في ذروته، والرجل الأبيض يسرق الشعوب الصفراء والسوداء، وينهب أرضها وذهبها وأسواقها وحريتها، والعالم في نهاية القرن التاسع عشر وأوائل العشرين يُشيِّع الرومانتيكية إلى مقرها الأخير، ويستعد لحربٍ جديدة.

في أعمال بيراندللو نرى كيف تنهار الرومانتيكية إلى آخرِ طوبةٍ فيها. نعم! فحيث تجد الخراب الشامل، تجد كاتبنا يرفع الأنقاض ويُحاوِل أن يُعيد البناء من جديد.

البدء من جديد! لنبدأ وتجارب البشرية خلف ظهورنا لا فوقها! لنبدأ كما بدأ آدم وحواء، بطلًا آخر رواية لبيراندللو لم يتمها. إنهما فتًى وفتاة، ينجوان من الزلزلة التي عصفَت بالأرض وما عليها، فلم يَبقَ من حيٍّ سواهما، وعلى كاهلهما مسئوليةٌ ثقيلة؛ أن يبدآ سلسلة الخلق من جديد، كما بدأها آدم وحواء في أول الخليقة، ويقيما حضارة الجنس البشري على أُسسٍ جديدة، ويكتبا تاريخًا جديدًا للإنسان. كل أعمال بيراندللو تمهيدٌ لهذه الزلزلة، ومحاولةٌ للإجابة على هذا السؤال: كيف نبدأ من جديد؟

لم يَبقَ للإنسان خيارٌ إلا في واحدة من اثنتَين؛ الخراب الشامل أو البداية من جديد. ومن أجل أن نبدأ بأمانة فعلينا أن ننظر في أنفسنا وفيما حولنا نظرةً صادقة، وأن ندرك مدى ما وصل إليه ضمير الإنسان، ونستفيد من التجارب التي اختزنَتْها ذاكرة البشر. نعم! يجب أن نعترف بأخطائنا، ونبكي كما يبكي الطفل المذنب، فقد نستحق الغفران، وقد نستطيع أن نقيم بناءً جديدًا، نظيفًا من الدم والوحل.

لم يحاول بيراندللو أن يختار شخصياته؛ لقد ألقى بيديه في حشد البشر، كما يُلقي الصياد شبكته، فأخرجَت نساءً ورجالًا وأطفالًا ليس بينهم من تستطيع أن تعُده بطلًا أو نموذجًا بالمعنى القديم. إنهم ناس فحسب؛ هم طبقة البرجوازية الصغيرة في نهاية القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، يُصوِّرها وهي تنحل وتتفكك وتنهار، وكما أعفى نفسه من اختيارهم، فقد أعفاها من الحكم عليهم ولم يحاول أن يُفتِّش عن قيمة أفعالهم. إنه يُصوِّرهم على ما هم عليه، لا يتخير منهم البطل ولا القديس ولا الشاعر، لقد أراد أن يصور الإنسان وحده؛ إنه يبدو لنا وكأنه يرثي لقوانينهم وتقاليدهم، وثيابهم المتواضعة، وملامحهم المضحكة، وعجزهم وتخبُّطِهم ويأسهم، حتى كأنهم مخلوقاتٌ سوَّتْها يد الصانع العظيم منذ لحظةٍ من المادة الأُولى، أو دُمًى خرجَت من ظلمة العدم إلى نور المسرح قبل أن تعرف أدوارها المحتومة. إنهم حشد هائل كما قلتُ، لم يزل خاليًا من الإرادة والقدرة على الفعل، وإدراك المصير.

ولكن بيراندللو يتجه إليهم في حنانٍ لا مزيد عليه، ويمد إليهم يده، ويسألهم — وكأنه «بوذا» هذا العصر ورسوله — ماذا أعطوَكْم ليساعدوكم على الحياة؟ أي عقيدة تتمسكون بها؟ الدين؟ لقد نبذه القرن الثامن عشر كما نبذه فولتير. الفلسفة؟ إن المذاهب تُنكر بعضها بعضا. الأدب؟ إن الرومانتيكية تنبح في وجه الكلاسيكية، والواقعية تريد أن تُجهز على الجميع! قال بعضهم: إن الأمل هناك، في عالمٍ آخر. وقال البعض الآخر: بل لا شيء هناك، وكل الأمل والرجاء هنا، على هذه الأرض. ثم اكتشف فريقٌ ثالث أنْ لا أمل هنا أو هناك، فكل شيء وهمٌ وحُلم، وكل إنسانٍ وحيدٌ غارق في وحدته، لا يعرف شيئًا عن غيره، أو لا يستطيع أن يعرف أي شيء على الإطلاق.

ونظر بيراندللو فما وجد إلا الفراغ والوحشة؛ الحقيقة وهم، والعقائد باطلة، وكل شيء قبض الريح، لا بد إذن أن نهدم كل شيء، ليتسنَّى لنا أن نبني من جديد. إن السخرية هي المعول الذي لا بد منه في هذه الحال؛ فالتناقُض هو روحها وجوهرها، والساخر هو الذي يرى الناس يبنون بيدٍ ما هدموه بالأخرى. إنه أشبه ما يكون بالطفل الذي يلذُّ له أن يُحطِّم قلب الإنسان كما يُحطِّم لعبته قطعًا متناثرة، ليرى كيف يعمل هذا القلب، وكيف يضحك، ويتألم. ولو قرأتَ أعمال بيراندللو وعشَت في عالم من الحجرات الضيقة، والظهور المحنية، والأنوار المطفأة، والنفوس الكسيرة والصلبان المحطَّمة، لخُيِّل إليك أن هذا العالم تكفيه هزةٌ واحدة ليتحول إلى مقبرةٍ كبيرة! إن شخصياته تتعذَّب لا لأنها تريد الموت، بل لأنها تشتاق إلى مزيد من الحياة.

إن مأساة بيراندللو في جوهرها مأساةٌ قلبية؛ لم تعُد مأساة الإنسان في صراعه مع آلهة الأوليمب كما كانت عند الإغريق، ولا في صراعه مع عواطفه كما كانت على عهد الرومانتيكية الأولى (شكسبير) أو ضد مجتمعٍ فقد الإيمان بمقدساته وتقاليده، كما هو الحال لدى الرومانتيكية الأخيرة (إبسن). إن مأساته في صراعه مع الفراغ والعدم المحيط به من كل جانب، في صراعه ليُثبت أنه موجود؛ في صراعه ضد الفلسفات اللامادية (بركلي) والمثالية المغرقة (الفلسفة الألمانية) التي طغت على روح العصر، وحاول بها الإنسان أن يُلغي وجوده الخارجي، وفي صراعه ضد المبشرين الجدد (فرويد والتحليل النفسي) الذين يهبطون بالإنسان إلى كهفٍ رطب مظلم يُسمُّونه باللاشعور، وينبشون فيه عن العقد والمخاوف والذكريات الأليمة، ويجعلون من الإنسان قزمًا بشعًا يتحكم فيه شبَح الماضي ويسلبُه الإرادة والحرية والتفاؤل بالمستقبل، وضد الفلسفات التي جعلَت الإنسان مقياس كل شيء (نسبية أينشتين وتطبيقاتها الخاطئة في مجال الأخلاق والقيم)، وردَّته إلى هذه العبارة التي جعلها بيراندللو عنوانًا لإحدى مسرحياته: «هكذا الأمر، إن بدا لك أنه كذلك.»

إن أعمال بيراندللو تعكس هذا كله وتُبيِّن أعراض المرض الذي يُلزِم الإنسانية الفِراش، لتُحتضَر هناك وحيدةً مهزومة. إنه الطبيب الذي يقف بجانب مريضه ليسجل آلام احتضاره ساعةً بساعة، ويُجهِّز مراسم الدفن وتشييع الجنازة. هذا المريض هو الحضارة الأوروبية التي تمر بمرحلةٍ عصيبة جعلَتها تحترق بنيران حربَين عالميتَين، وهو الإنسان الحديث الذي يقف وحيدًا تعصف به رياح القيم والمذاهب والعقائد، وتجذبه من يدَيه وقدمَيه وشعر رأسه! وأعمال بيراندللو مَحكمةٌ رهيبة تُدين العصر الحديث، وتُراجع قيمه وأحكامه وفلسفاته، وسوف يظل دائمًا مرآةً للمرحلة التي مر بها المجتمع الأوروبي في أعقاب الحرب العالمية الأُولى. لقد رأى فيه الشباب تعبيرًا عن أفكارٍ لم يستطيعوا أن يفصحوا عنها، وإذا كانوا لم يجدوا عنده الراحة والعزاء والأمل، فقد وجدوه يُعبِّر عن آلامهم وآمالهم المهزومة، ولعل هذا هو السبب الذي جعلَه يُسمِّي مسرحه «مسرح المرآة»، «إن الإنسان يحيا حياته، ولكنه لا يرى نفسه، وإذن فلنضع أمامه مرآة ولندَعْه يرى نفسه وهو يحيا حياته، ويضطرب بعواطفه. إنه إما أن يقف أمام صورته مدهوشًا فاغر الفم، وإما أن يحجُب عينَيه بيدَيه لكيلا يراها، وإما أن يبصُقَ عليها في اشمئزاز، أو يشُد قبضته ليُحطِّم المرآة، إن كان من الباكين فلن يبكي، وإن كان من الضاحكين فلن يضحك. وبالجملة فستنشأ أزمة، وهذه الأزمة هي مسرحي.»

لا تكاد تجد كاتبًا أغفل المشكلاتِ الاجتماعية مثل بيراندللو؛ إن الإطار المادي يكاد يكون مفقودًا من عالمه، وكأنه صنَع أبطالَه وأحداثَه ومشاهدَه من مادة الأحلام. إن مأساة العامل والفلاح والجندي العائد من الحرب لا تهُزُّ وترًا في نفسه، قد تجد في بعض إنتاجه صيَّادين وفلَّاحين وعمال مناجم فقراء، غير أنه لا يلتفت إلى آلامهم؛ فالروح العدمية تسري في كل حرف يكتبه، والمشاكل الميتافيزيقية هي شغله الوحيد، وهي مظهر ضعفه الوحيد أيضًا.

هناك دائمًا إحساس بالفراغ، بالعدم، بالهُوَّة العميقة التي لا ينظر إليها الإنسان حتى يموت أو يُجن. وإذا كان من نصيب كل واحدٍ منا أن ينظر إلى هذه الهُوَّة مرة في حياته، فيبدو أن بيراندللو لم يُحوِّل عينَيه عنها؛ ومن ثَمَّ كانت هذه السخرية المرة حين ينظر إلى الدمى والأقزام وهي تلعب وتُمثِّل أدوارها في قاع الهاوية، بين الظلام والوحل والموت والشقاء. إنه كالبهلوان الذي شاءت له الأقدار أن يكون فيلسوفًا؛ إنه يُفكِّر ويُجادل ويُحاور على حين يتأرجح جسده على الحبل، وهو يرى الهاوية تحت بصره، ولكنه يتغافل عنها، ويُعزِّي نفسه عن المصير المحتوم بألعابه وتأملاته وضحكه وتصفيق الجمهور له! إنه ينفث الشك والحَيْرة والتشاؤم في كل مكان، فنخرج من حلَبته مؤمنين بأن الحياة عبَث، والواقع حلم، والحقيقة وهم، وأننا لن نعرف شيئًا خارج نطاق خيالاتنا ومُدركاتِنا الذهنية.

غير أن العالم الخارجي في نهاية الأمر أقوى من كل الحُجَج الميتافيزيقية التي تُشكِّك في وجوده، وها نحن نأكل ونشرب وننام ونحب، ونحكم على هذا العالم، ونُغيِّر منه أيضًا. ولو كان كل واحدٍ منا «بيراندللو» لرفَضْنا الحياة في أول لحظةٍ ندرك فيها إننا أحياء، ولكنَّ رجل الشارع لحسن الحظ لا يعرف شيئًا عن بيراندللو ومأساته، أو لعل فطرته تقول له: إن بيراندللو لا يعرف شيئًا عن مأساته هو. إن حِكمتَه العريقة الطيبة الصافية لا تزال تهديه، برغم كل ما كَتَب الفلاسفة والحكماء والشعراء!

قال بيراندللو ذاتَ مرة للناقد المسرحي إليجيو بوسنتي: «يُخيَّل لي أن هناك روحًا سرمديًّا يملأ الكون، وأن كل واحدٍ منا يأخذ لنفسه جزءًا صغيرًا منه عند ولادته، ويُخفيه في طياتِ جَسَده، وعندما نموت، تتحلَّل أجسادنا، ونُعيد إلى الكون الأعظم ذلك الروح الجزئي الذي حُبس فيها.»١٢

كان بيراندللو يصف حياته على هذه الأرض بأنها إقامةٌ لا يد له فيها، كأنما يُردِّد صدى شاعرنا العظيم أبي العلاء.

ولقد عاش بيراندللو معيشة الراهب الزاهد، ومات ميتة الفيلسوف الرواقي، كانت وصيته الأخيرة قبل أن يلفظ أنفاسه: «الآلة الحدباء بعجلاتها، والحصان، والسائق، وكفى …» لا جنازة، ولا موكب، ولا احتفال، وكأنه يُردِّد ما قاله شاعرٌ يونانيٌّ مجهول:
لا تضَعوا باقات الورد على قَبْري الحجَري
ولا تشعلوا النيران،
سوف تُكلِّفون أنفسكم بغير طائل.
أكرموني — إن شئتم — ما دُمتُ حيًّا،
أما أن تُبلِّلوا بقايا عظامي برحيق الكروم
فلن يكون منه إلا الوحل،
والميت — بعدُ — لا يشرب.
١  Saurel, R; Beffe nella vita di L Pirandello ou Pirandello sans pirandellisme; in; Les emps modernes, de année No. 95, p. 723–741.
٢  Nardelli, FV; L’Uomo Segreto, Vita e croci di L Pirandello. Roma, Mondadori, 1932.
٣  المرجع السابق.
٤  المرجع السابق Saurel, R: Beffe.
٥  انظر مقدمة مسرحية «ست شخصيات تبحث عن مؤلف». Pirandello, L.: sei Personaggi in cerca d’autore, Enrico IV, Roma, Mondadori, 1951.
٦  انظر للناقد الشهير الأرديس نيكول كتابه عن الدراما العالمية، ص٧٠٧–٧١٨. Nicoll, A.: World drama. London, Harrap, 1945, p. 707–718.
٧  Starkie, W: Luigi Pirandello London, Murray p. 292.
٨  Krutch, J. W.: Modernism in modern drama. New-York, p. 77-78.
٩  Hudson, L; Life and the theatre London, Harrap, p. 34–49.
١٠  المرجع السابق. Starkie, W.: L. Pirandello.
١١  Bontempelli, Massimo; Pirandello, Leopardi, D’Annunzio. Tre discorsi. Roma, Bompiani, 1939, p. 1–41.
١٢  Possenti, E.: Guida al teatro: Milano, Academia, 1949. p. 181–193.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤