الشاعر العاطفي والشاعر الساذج

«بثَّت أحاديثي الأخيرة معكَ النشاط في كل أفكاري؛ إذ تناولَت موضوعًا ظل يشغلُني في قُوةٍ أعوامًا طويلة. لقد استطاعت الرؤية العقلية عندكَ (فهكذا ينبغي أن أسمِّي الانطباع العام الذي تركَتْه أفكارُكَ فيَّ) أن تُلقي نورًا مفاجئًا على بعض الأمور التي لم أُوفَّق فيها إلى رأيٍ واحد مع نفسي. كان الكثير من الأفكار التأمُّلية عندي يفتقر إلى الموضوع والجسد، وقد هديتَني أنت إليهما. إن نظرتكَ الفاحصة التي تستريح على الأشياء في هُدوءٍ وصفاءٍ لا نظير لهما تَعصِمكَ دائمًا من التعرُّض للضلال الذي يسهُل أن يقع فيه التأمُّل المُجرَّد ومَلَكة التخيُّل النَّزِقة التي لا تخضع لشيءٍ إلا لنفسها. إن كل شيء يكمن في حَدْسكَ الصائب على نحوٍ أتَمَّ بكثيرٍ مما يُحاوله التحليل بمشقَّة، ولأنه كامنٌ فيكَ ككُل، فإن ثَراءكَ يظل خافيًا عليك؛ ذلك لأننا للأسف لا نعرف إلا ما نَعزِل؛ ولذلك يندُر أن تعرف العقول التي تُشابِه عقلَكَ مدى نفاذِها إلى صميم الأشياء، كما يندُر أن تعرف أنها في غيرِ حاجةٍ إلى استعارة شيءٍ من الفلسفة التي يمكنها أن تتعلَّم منها فحسب. إن هذه تستطيع أن تُحلِّل ما أُعطي لها، ولكن الإعطاء نفْسَه ليس من عمل المُحلِّل، بل من عمل العبقري، الذي يَربِط الأشياء تبعًا لقوانينَ موضوعيةٍ تحت تأثيرٍ غامضٍ ولكنه أكيدٌ من جانب العقل الخالص.

لقد تتبَّعتُ مَسارَ عَقلِكَ منذ عهدٍ طويل، وإن كان ذلك عن بُعدٍ غيرِ قليل، كما راقبتُ الطريق الذي رسَمتَه لنفسِكَ في إعجابٍ مُتجدِّد على الدوام. إنك تُفتِّش عن وجه الضرورة في الطبيعة، ولكنكَ تُفتِّش عنه سالكًا أصعبَ طريق، يتحاشاه ذوو الطاقاتِ الضعيفة، وتتَناوَل الطبيعة ككل، لكي تحصُل على ضوءٍ عن الفرد، وتبحثُ في مجموع ظواهرها على اختلاف أنماطها عن السبب الذي يُفسِّر الفرد. وأنت تَصعَد خطوةً فخطوةً من التنظيم البسيط إلى تنظيمٍ أشدَّ منه تعقيدًا، لكي تُؤلِّف على نحوٍ تطوُّري بناءَ أعقدِها جميعًا، ألا وهو الإنسان، من المواد التي يتركَّب منها بناءُ الطبيعة كله، وتُحاول أن تتغَلغَل إلى سِرِّ صَنعتِه الخفية وذلك عن طريق إعادةِ خَلْقه مقتديًا بالخَلْق في الطبيعة. إنها فكرةٌ رائعةٌ وبطوليةٌ حقًّا، تدُلُّ دلالةً كافيةً كيف يضُم عقلُك الكل الغني بتصوُّراته في وَحدةٍ جميلة. لا يمكن أن يكون الأمل قد ذهَب بك إلى حَدِّ الاعتقاد بأن حياتكَ يمكن أن تكفي لتحقيقِ مثل هذا الهدف، ولكن مجرَّد السير على مثلِ طريقٍ كهذا يزيد في قيمته كثيرًا عن بلوغ أي طريقٍ آخر. ولقد اخترتَ كما اختار أخيل في الإلياذة بين فثيا وبين الخلود، ولو أنكَ كنتَ إغريقي المولد أو حتى إيطاليًّا وأحاطَت بكَ من المَهدِ طبيعةٌ مُنتقاةٌ وفنٌّ مثاليٌّ لقَصرت مسافة طريقكَ إلى ما لا نهاية، بل لأصبح هذا الطريق شيئًا لا قيمة له البتة. لو أن ذلك قُدِّر لكَ لكان الشكل الضروري قد انطَبع في نفسِكَ عند أوَّل نظرةٍ تُعايِن بها الأشياء ولكان الأسلوبُ العظيم قد تفتَّح لديكَ مع بداية تجاربك الأُولى، ولكنكَ وقد وُلدتَ ألمانيًّا، وأُلقيَ برُوحكَ الإغريقي في هذه الطبيعة الشمالية، لم يَبقَ لك من خيارٍ إلا أن تُصبح فنانًا شماليًّا أو أن تُعوِّض ما حَرمَ الواقع خيالَكَ عن طريق مَلَكة التفكير وأن تَلِد من باطنكَ بلادَ يونان أخرى عن طريقٍ عقلي. في تلك المرحلة من مراحل الحياة، التي تُكوِّن فيها النفس من العالم الخارجي عالمها الباطني، فتُحيط بها أشكالٌ ناقصة من كلِّ ناحية، كنتَ قد تشبَّعتَ بطبيعةٍ شماليةٍ متوحشةٍ حين اكتشفَت عبقريتُكَ المنتصرة المتفوِّقة على المواد التي تعمل عليها هذا النقصَ من الداخل، وتأكَّدَت منه من الخارج عن طريق التعرُّف بالطبيعة اليونانية. وهنا كان عليك أن تُصحِّح الطبيعة القديمة السيئة التي فُرِضَت على مُخيِّلتكَ بالنموذج الأفضل الذي أوجَدَه روحُكَ المبدع، وهذا ما لا يتمُّ بالطبعِ إلا وَفقًا لتصوُّراتٍ هادية. غير أن هذا الاتجاه المنطقي، الذي يتحتَّم على العقل أن يسير فيه عند التأمَّل، لا يتواءم مع الاتجاه الجمالي الذي يُبدعُ عن طريقه وحده. وهكذا كان عليكَ أن تقوم بجُهدٍ أشقَّ؛ فقد كان عليك، على نحوِ ما انتقلتَ من الرؤية العِيانية إلى التجريد العقلي، أن تعُودَ فتُحوِّل التصوُّراتِ إلى عِياناتٍ والأفكار إلى مشاعر؛ لأن العبقرية لا تستطيع أن تخلُق شيئًا إلا عن طريق هذه المشاعر وحدها.

هكذا على نحو التقريب يبدو لي الطريق الذي سار فيه عقلُكَ، وسوف تَعرِف خيرًا مني إن كنتُ قد أصبتُ في هذا الحكم.»١

كانت هذه سطورًا من رسالة شيللر المشهورة التي كتبها إلى جوته في الثالث والعشرين من شهر أغسطس عام ١٧٩٤م، بمناسبة عيد ميلاده التاسع والأربعين، ولم يكن للشاعر العظيم الذي يحتفل بعيد ميلاده أن يتلقَّى هديةً أجملَ ولا أنبلَ من هذه السطور النابضة بالمحبة والوفاء والصدق، هذه السطور التي «تجمَع خُلاصة وجوده» كما قال في ردِّه عليها بعد أربعةِ أيامٍ من وصولها إليه، من رجلٍ عرفَ هو نفسه دائمًا كيفَ يُقدِّر «الجدَّ الأمين القادر» في كلِّ ما يكتب وما يفعل.

كانت هذه الرسالة بدايةَ صداقةٍ دامت ما يربو على عشر سنوات، لم يكَد تاريخ الأدب الإنساني يعرف أنبلَ منها ولا أجمل، ولكنها كانت كذلك محاولةً من جانب شاعرٍ عظيمٍ لإثبات وجوده أمام عبقريةٍ مطبوعةٍ بهَرت النفوس بصِدقِها وعُمقِها وشُمولها. هنا التقت طبيعتان مُتباينتان، كان من الممكن أن يُؤدِّي اختلافُ فطرتهما، وتعارُضُ مزاجهِما إلى فِراقٍ أبدي، لولا أن هيَّأت لهما الأقدار ذلك اللقاء النادر الذي ربَطَ بينهما برباط الحب والتقدير، وساعَدَ على أن يعرف كلٌّ منهما نفسه، ويُكمِل نقصه، ويزيد إنتاجه ثراءً وخصوبة. كان الحذَر وسوء الظن قد باعَدَ بينهما، حتى إن شيللر يعترف لصديقه الحميم «كورنر» ذاتَ مرة فيقول «هذا الرجل، هذا اﻟ «جوته» يقف عقبةً في طريقي ويُذكِّرني بأن القدَر كان قاسيًا في معاملته لي.»٢

كما يعترف جوته في أحاديثه المتأخرة مع أكرمان بأنه لم يكن يدُور بخَلَده أن يلتقيا ويتحِدا. كانت تفصل بينهما هُوةٌ يصعُب عبورها، هي تلك الهُوَّة التي تَفصِل بين الشاعر الدرامي الخطابي المُتحمِّس، وبين الشاعر الهادئ المتَّزِن الذي يتحدث من القلب إلى القلب، بين الأنا التي تتصارع مع الطبيعة والمادة والتاريخ لتقهرها وتعلُوَ عليها، وتُؤكِّد استقلالها عن كلِّ ما هو خارجي عنها وتظل حبيسةً في قلعة وحدتها المُتكبِّرة الثائرة، وبين الروح القريبة من كل ما هو حي، المتفاهمة مع كل مخلوق، الفانية في الطبيعة الأم، ولكن كلًّا منهما كان يُحِسُّ بما يمتاز به صاحبه، وما ينقصه عنه، فجوته يُقدِّر الموهبة العبقرية «غير الناضجة» عند شيللر ولا يستطيع أن يكتم غَيْرته من قُدرته المسرحية الفطرية، التي جذَبت الجمهور إليه، من مسرحية شبابه الأولى «اللصوص» إلى مسرحيته الأخيرة التي لم تتمَّ «ديمتريوس»، وشيللر يعرف أن جوته أقربُ منه إلى الحياة، وأنه الشاعر الغنائي الذي لا يستطيع أن يَلحَق به، و«العين الإغريقية» التي تُشاهِد وتُحس وتلمَس ولا تتركُ عالم التجربة والعِيان لتُحلِّق بعيدًا في عالم الفكر والحرية والمثال، ولكنه كان ابتعادًا يشتاق إلى الاقتراب، وغَيْرة تقوم على التقدير، ومنافسةً تَحنُّ إلى التقاء العبقريتَين، وتزاوُج الطبيعتَين.

كان الطريق طويلًا وعسيرًا، وكان مزروعًا بأشواك الغَيْرة والنفور والتحفُّظ، إلى أن دعا شيللر جوته في الثالث عشر من شهر يونية عام ١٧٩٤م إلى المشاركة في تحرير مجلة «الهورن» التي كان يُفكر حينذاك في إصدارها. ويرد عليه جوته قائلًا: «أُريد أن أُبرهِن بالعمل على شكري على الثقة التي أوليتَني إياها.» ثم يختم ردَّه عليه بهذه العبارة: «سوف أكونُ في سُرورٍ ومن كل قلبي واحدًا من الجماعة» (التي تُساهِم في تحرير المجلَّة، ومن بينها الفيلسوف فشنته الذي كان جوته يُقدِّره ويَعِد نفسه الخيرَ على يدَيه). ثم تَمَّ اللقاء المشهور بين الشاعرَين، في الواحد والعشرين من شهر يوليه عام ١٧٩٤م، بعد استماعهما معًا إلى إحدى المحاضرات العلمية في مدينة «يينا».

سار الشاعران معًا، وتحدَّث شيللر عن المحاضرة — كما يروى جوته بعد ذلك — في تفهُّم وتبصُّر، وأبدَى سخطَه على طريقة المُحاضِر في تناوُل الطبيعة تناولًا جزئيًّا يشُقُّ على كلِّ من ليس له إلمامٌ بالموضوع. وردَّ جوته فذَكَر أن هناك طريقةً أخرى لا تتَناوَل الطبيعة تناولًا جزئيًّا منعزلًا، بل تُصوِّرها كيانًا حيًّا فعَّالًا، يسيرُ من الكل إلى الأجزاء. وطلَب منه شيللر أن يُفسِّر له هذه العبارة الغامضة عليه، ولم يستطع أن يُخفيَ شَكَّه في أن ذلك يمكن أن يُستمَد من التجربة. ووصَلا إلى بيت شيللر، وأغرى الحديث جوته على الدخول، وهناك راح يُحدِّثه في حماسٍ عن تحوُّلاتِ النبات، ويرسمُ له بالقلم تخطيطًا رمزيًّا لما يُسمِّيه بالنبتةِ الأُولى. وأصغى شيللر في انتباه، حتى إذا انتهى جوته من حديثه هَزَّ رأسه وقال عبارتَه التي أضجَرت جوته وأغضَبَتْه: ليس هذا تجربة، هذه فكرة! ورأى جوته الهُوَّة التي تفصِل بينهما، وتَذكَّر سخطَه القديم على شيللر وردَّ عليه ردَّه الخشِن: «يسرُّني جدًّا أن تكون لديَّ أفكار دون أن أدري، وأن أستطيع كذلك أن أراها رأي العين!» اصطدَم الواقعي بالمثالي، وراح شيللر يُؤيِّد رأيه مستندًا إلى فلسفةِ كانْت التي كانت تملِكُ عليه عقله ووجدانَه فقال: كيف يُمكن أن تُوجد تجربةٌ على الإطلاق تُطابِق فكرةً واحدة؟ (ذلك أن الخاصية التي تُميِّز الفكرة Idea عند كانْت هي أنه لا تُوجد أبدًا تجربةُ تُطابقُها مُطابقةً تامة.)
كان لا بد من إيجاد شيءٍ وسَطٍ يجمعُ بين الفكر والتجربة، ويُحدِث اللقاء بين المثال والواقع؛ فقد عَرفَ الشاعر أن وجهةَ نظرِ كلٍّ منهما تختلف عن صاحبه اختلافًا شديدًا، ولكنه عَرفَ كذلك أن كلًّا منهما يستطيع أن يأخُذ من صاحبه ويُعطيه.٣ كان كلاهما في الحقيقة يبحَثُ على طريقته عن «القانون الأبدي» وراء الظواهر المتغيرة؛ عن الشكل وراء المادة، والضرورة والوَحْدة خلف المُصادفَة والتنوُّع؛ شيللر على طريقته في صراع المادة وعالم الحس والدوافع والميول صراعًا بطوليًّا ينتهي بانتصار العقل والحرية والقانون الأخلاقي — وإن تكن نتيجته في مسرحياته هي سقوط البطل وعذابه ومأساته — وجوته على طريقته الهادئة الصابرة في التماسِ التجانُس الأبَدِي والتوفيق بين أطراف النزاع، مُبتدئًا من عالم التجربة والعِيان، الذي يستطيع فيه وَحْده أن يَرى الثبات وراء التغيُّر، والنموذج وراء الأفراد، والشكل وراء المادة، والوَحْدة وراء التعدُّد والتنوُّع.

كانت الخطوة الأُولى على الطريق المشترك الذي سيقطعه الصديقان قد تمَّت، وكانت قوةُ جاذبية شيللر عظيمة، كما يعترف جوته فيما بعدُ، ودليل عظمتها خطاب عيد الميلاد الذي وجَّهَه إلى جوته وأَورَدْنا الجزء الأكبر منه في مَطلَع هذا الحديث، هذا الخطاب الذي جمع فيه «خُلاصة وجوده» وأعاد إليه ثقتَه في نفسِه، وشجَّعَه على الخروج من حَيْرته وتَردُّده. ويقف الإنسان مدهوشًا أمام هذا الخطاب النادر، لا يدري سِرَّ إعجابه به: هل هو في عُمقِ نظرة شيللر وإحاطته بجوهر صديقه، أم في النُّبل والوفاء الذي يفيض من كلِّ كلمةٍ فيه؟ واهتَزَّ جوته من أعماقه كما كان من المتوقَّع منه، وشَعَر أن الهوة التي تَفصِل بينهما ليست من الاتساعِ بقَدْرِ ما كان يظن، وأن مسافة البُعد واختلاف الطبع ووجهات النظر لا تمنع من اللقاء. إن شيللر يُعبِّر عن ذلك حين يستطرد قائلًا في ذلك الخطاب نفسه: «يبدو من النظرة الأولى وكأنه ليس هناك تعارضٌ أشد من التعارض الموجود بين العقل التأمُّلي الذي يبدأ من الوحدة، وبين العقل الحَدْسي الذي يبدأ من التنوُّع، فإذا بحثَ الأوَّل بالحسِّ العفيف المُخلِص عن التجربة، وبحثَ الثاني بقوة الفكر المستقل عن القانون، فلن يَعدمَ العقلان أن يلتقيا في منتصف الطريق. حقًّا إن العقل الحدْسي لا شأن له إلا بالأفراد، والعقل التأمُّلي لا يُعنَى إلا بالأنواع، ولكن العقل الحدْسي إذا كان عبقريًّا وبحثَ عن طابع الضرورة فيما هو تجريبي، فسوف يخلُق الأفراد دائمًا ولكن سيكون لها طابعُ الأنواع، وإذا كان العقل التأمُّلي عبقريًّا ولم يَفقِد التجربة بارتفاعه فوقها، فسوف يخلُق الأنواع دائمًا، ولكن هذه الأنواع ستحتوي على إمكانية الحياة وستكونُ علاقتها بالموضوعات الواقعية علاقةً قوية.»

كان الطريق إذن طويلًا وعسيرًا كما قدَّمْنا، حتى رنَّت كلمةُ الصداقة التي صرح بها شيللر في حُكمِه على القسم الأول من رواية جوته الطويلة «فيلهلم ميستر» — وكم يعود إليه الفضل في ظهورها إلى الوجود! — حيث يقولُ عنها فيهزُّ أعماقَ صاحبه، ويُبدِّد سُحُب السخط والأنانية من سمائهما، في نُبلٍ إنساني لم يتحدَّثْ به شاعرٌ كبيرٌ من قبلُ وقد يندُر أن يتحدَّث به من بعدُ: «كم كان إحساسي بهذه المناسبة بأن العظمة قُوَّة، وبأنها تفعل في الوجدان الإنسان فِعل القوة، بحيث لا يبقى للإنسان أمامها من حُريةٍ سوى حُرية الحب.»

كان الحادث السعيد — كما يصفه جوته في مقالٍ متأخرٍ له عن تَعرُّفه بشيللر — قد تَمَّ، والاتحاد قد عُقدَت أواصرُه على أساسٍ متينٍ من الاحترام والتقدير المُتبادَل، والثقة قد ارتفَعَت فوق كل الدسائس والصغائر، وبدا كأن شمس «هومير» سوف تبتسم لأرض الشمال الألمانية٤ وأن الصديقَين سيُفتِّشان معًا عن القوانين الخالدة للطبيعة، وسيُقيمان دولة الشعر على أساسٍ من النماذج اليونانية العريقة، وسيضربان المثل الرائع النبيل على الإنسانية الصافية الكاملة. وجد جوته، في السنوات العصيبة التي مرَّت عليه بعد عَودتِه من رحلته الإيطالية، في شيللر الإنسان الذي يستطيع أن يتَجاوَب معه، ويسأله الرأي والنصيحة، وينفُض عنه غُبار القلقِ والتردُّد الذي يشكو منه، ويُشجِّعه على تحقيقِ حُلمه في أن يكون «آخر هوميروس» يظهر على هذه الأرض. وليس عجيبًا بعد ذلك أن يقول في أواخرِ حياته في حديثٍ له مع حواريِّه الأمين أكرمان:٥ «لقد تحكَّم في معرفتي بشيللر شيءٌ أشبه ما يكون بالروح الشيطاني. كان من الممكن أن نلتقي قبل ذلك أو بعد ذلك، أما أن نلتقي على التحديد في تلك الفترة التي عُدتُ فيها من رحلتي في إيطاليا، والتي بدأ فيها شيللر يُحِسُّ بالتعَب من تأمُّلاته الفلسفية، فقد كان ذلك شيئًا له دلالتُه ونفعُه العظيم لنا جميعًا.»
حدَّد شيللر العلاقة بينه وبين صديقه الكبير — وإن لم يذكُر اسمه مرةً واحدة! — في آخر رسائله الفلسفية الكبرى، ونَعْني بها رسالة «الشعر الساذج والشعر العاطفي» التي ألَّفَها في عام ١٧٩٥م. إنه هنا يُحاول جاهدًا أن يُميِّز بين نموذجَين من الشعر يصدُران عن نموذَجين أساسيَّين للشعراء، كلا النموذجين ينبع عن علاقةٍ مُحدَّدة تربط الشاعر بالوجود، والطبيعة، والحياة الإنسانية، فإذا كان الشعر في أوسعِ معانيه وأشملِها رأيًا في الكون والعالم (أو Weltanschauung كما تقول الكلمة التي يصعُب التعبير عنها) فإن طبيعته تُحدَّد إما من ناحية العالم الذي يَستمِد منه ومنه وَحدَه مادَّتَه، كما تُحدَّد من ناحية رأيه في هذا العالم وطريقة إدراكه له.

ولكن التمييز بين نموذجَين من الشعراء يَفترِض أولًا أن يكون لدينا تصوُّرٌ عامٌّ عن الشاعر وعن وظيفته التي يقوم بها في هذا العالم حين يخلُق من مشاعره وأفكاره «عالمًا» آخر يُعبِّر عنه من خلال ذاته. يرى شيللر أن الشعراء هم «حفَظَة الطبيعة»؛ تلك هي رسالتُهم الحقة، وذلك هو جَوهَرُهم الأصيل العميق، وواجب الشعر هو أن «يُعطي للإنسانية أكملَ تعبيرٍ ممكنٍ عنها.» عن حقيقتها، وطبيعتها الحقَّة، وواجبُ الشعراء الذي يشتركون جميعًا فيه سواءٌ أكانوا سُذَّجًا أو عاطفيِّين أن «يُعطوا للإنسانية أكملَ تعبيرٍ عنها.» وبغير ذلك لا يمكن أن يُسمَّوا شُعَراء على الإطلاق «ذلك هو واجبهم الطبيعي، الذي لا يستطيعون أن يَفتعِلوه ويَصطنِعوه، وهو الذي يُعبِّر عن ضرورةٍ باطنيةٍ يُحسُّونها في نفوسهم.»

وهنا نسأل السؤال الأبدي المؤلم الذي عَبَّر عنه هولدرلين حين قال: لِمَ الشعراء في الزمن التعيس؟ سنقول على الفور: إن الإنسانية تحتاج إليهم. ولكن لِمَ تحتاج إليهم؟ ما هي وظيفتهم بالنسبة للحياة؟ وما هو الهدفُ الطبيعي من وجود الشاعر أو ما هو هدفُ الطبيعة من وجوده؟ ألا تدُور الحياة دورتَها سواءٌ غنَّى الشعراء أو سَكَتوا؟ ألا تُواصِل الطبيعة فِعلَها الحيَّ الخلَّاق على الدوام دون أن تنتظر من يُعبِّر عنها أو يَكشِف عن سِرِّها؟ هل استطاعت القصيدة أو اللوحة أو النغمة أن تُخفِّف من كوارث الحرب والبؤس والطغيان التي عاناها الإنسان على مدى تاريخه الطويل؟! ربما كان في استطاعتنا أن نُجيب على هذه الأسئلة فنقول إن وظيفة الشعر هي إحداثُ التوازُن الذي لولاه لفقَدت الإنسانية مقياسَها وأنكَرت فكرتَها عن الإنسان؛ ذلك أن الشاعر هو مقياسُ الإنسانية وضميرها، ولا ينبغي أن يُفهَم ذلك على معنًى أخلاقي، بل على معنَى الحياة الجامع الذي يعلو على الأخلاق؛ ذلك لأن الشاعر يَحمِل في ذاته كل الحياة، ولا يستطيع أن يكون شاعرًا إلا إذا كان يُمثِّل وَحْدة القوى والطاقات الإنسانية كلها. إنه في رأي شيللر هو الإنسانُ المثالي بحق، الذي يُعبِّر عن فكرة الإنسانية كأصفَى وأنبلِ ما تكون؛ لذلك كان هو الإنسان الوحيد الذي يُحِسُّ بالإنسانية أنقَى إحساس. هذا الإحساس مُرتبطٌ بموهبته الشكلية والجمالية ارتباطًا وثيقًا؛ لأن هذه الموهبة تَقومُ على الانسجامِ بين مَلَكة الخيالِ وبين العقل، بين المادَّة وبين الشكل. إنها تعبيرٌ خاصٌّ عن تكوينه الإنساني بوجهٍ عام، الذي يُشكِّل تلك الوَحْدة الكُلِّية التي لا نجدها إلا في التعبير الجمالي. من هنا نستطيع أن نفهم كيف يُحدِث الفن تأثيره الشامل علينا وكيف يَرُدُّ الإنسانَ منَّا إلى إنسانيته؛ ذلك لأنه يصدُر عن الإنسان ككل، كما يُعبِّر عن الحياة ككل. ولمَّا كانت الإنسانية قد انقسَمَت على نفسها وتجزَّأت وفقدَت بذلك طابعَها الكلي الذي نجده في حالة الفطرة لدى الطفل، فهي في حاجةٍ دائمة إلى الشاعرِ الذي لا يفتأ يُوقِظ الإحساس بكُلِّيَّة الحياة، ويُعيد إليها طبيعتها الحقَّة. ومن هنا أيضًا نستطيع الآن أن نُدرِك معنى القول بأن الشعراء هم حَفَظة الطبيعة. إنهم حُرَّاسُها والمدافعون عنها، إنهم يحملون في ذواتهم مِقياسَ الإنسانية ويُحسُّون الإحساس النقي الأصيل بطبيعتها ومصيرها وكرامتها، وهم وحدهم الذين يملكون أن يحكُموا حُكمهم الحقَّ عليها؛ ذلك لأنهم لا يصدُرون في حكمهم عن عدالةٍ محدودة أو شخصيةٍ أو اجتماعيةٍ أو أخلاقية، بل يحكُمون بما تَفرِضُه عليهم تلك العدالةُ الكبرى التي تَنبُع من الحياة ككُل، وهي التي نستطيع أن نُسمِّيَها ﺑ «العدالة الشعرية».

إن الشعراء يُؤدُّون هذه الوظيفة على طريقتَين تختلفان باختلاف الطبيعة والفطرة التي تجعل أحدهم شاعرًا ساذجًا وتجعل الآخر شاعرًا عاطفيًّا؛ فهناك الشاعر الساذج (والسذاجة هنا هي «الفطرة» الأصيلة أو الطبيعة الحقَّة وليس لها صِلةٌ بالتخلُّف العقلي الذي قد نفهَمه منها اليوم) وهناك الشاعر العاطفي (أو الشاعر الواعي المُتأمِّل المفكِّر؛ إذ ليس للعاطفية هنا صِلةٌ بما نُلقيه عليها اليوم من ظلالٍ نفسية). الشاعر الساذج يصدُر عن شُعوره الطبيعي غير الواعي، ومقياس الإنسانية الذي يحمله في ذاته كامنٌ فيه، لا يشعر هو نفسه به شعورًا واعيًا، ولم يصل إليه عن طريق التأمُّل. إنه يحمل هذا المقياس — كما يقول جوته — على أطرافِ أصابعه؛ فهو مُجرَّد أداةٍ أو وسَطٍ تُعبِّر الطبيعة الخلَّاقة عن نفسها من خلاله، وتُبدِع الطبيعة الحقة عن طريق طبيعته، إنها تملِكُه ولا يملِكُها، وإن كان لا يعي ذلك وعيًا واضحًا؛ ذلك أن الشاعر الساذج لا يُبدِع أشكالًا نموذجية، بل إن شاعريته — أو إحساسه بكُلِّية الحياة — تكمُن في مقدرته على الغوص في كلِّ ما تُبدِعه الطبيعة من أشكال، واكتشافِ قانون الحياة الذي يختفي وراءها أو يسري فيها جميعًا، بل في قدرته قبل ذلك على الإحساس بهذا القانون في كلِّ ما تخلُقه من أشكالٍ ناقصة وكائناتٍ مُشوَّهة؛ فواجب الشاعر «الساذج» هو على حد قول شيللر أن يُصوِّر المضمون الكامل للإنسانية في الواقع؛ فليس هناك جانبٌ واحدٌ من جوانبِ الإنسانية يمكن أن يظلَّ غريبًا عليه. إنه حين يُصوِّر الفرد فإنما يفعل ذلك عن إحساسه هو نفسه بالكل، وشعوره بقيمة هذا الفرد بالنسبة للكل. نقول إنه يُحس ويشعُر، ولا نقول إنه يعي أو يُدرِك — ذلك أنه يصدُر في ذلك عن إحساسٍ غريزي، ساذج، فطري — هذا الشاعر الساذج هو نموذَج العبقري، كما شَرحَه كانْت في فلسفته؛ ومن ثَمَّ فإن كل عبقريٍّ حقٍّ لا بُد أن يكون ساذجًا، وإلا فليس بعبقري، إن سذاجته وحدها هي التي تجعله عبقريًّا، إنه «لا يعمل طبقًا لمبادئَ معروفة، بل طبقًا للخواطر والمشاعر، ولكن خواطره إلهامٌ من وحيِ إله (كلُّ ما تفعله الطبيعة السليمة فهو إلهي)، ومشاعره قوانينُ تصلُح لكل زمان، كما تصلُح لكل جنسٍ من أجناس البشر.»٦
أما الشاعر العاطفي فهو على العكس من صاحبه. إنه يُبدِع ما يُبدِعه عن وعيٍ بالطبيعة الحقة. هو كذلك يحمل في ذاته المقياس الحق للحياة، ولكنه يحملُه في وجدانه الواعي ولا يحملُه في شعوره الحساس، ووعيُه وعيٌ بالمسافة التي تفصل بين الواقع والمثال، بين قوانين العقل وبين تحقُّقها في الطبيعة، بين ما هو كائنٌ وما ينبغي أن يكون. إنه يعرفُ عن ضعف الحياة ونقصها وقُصورها أكثر مما يعرفُ الشاعر الساذج؛ ذلك لأنه يقفُ منها موقف الوعي لا موقف الفطرة؛ فحُكمه عليها حُكمٌ واع، قطَفَه من شجرة المعرفة، وتَوصَّل إليه بالمقارنة بين الواقع والمثال. إن شعره يمكن أن يكون تعبيرًا عن المثَل الأعلى، ولكنه يُمكِن كذلك أن يكون حُكمًا على الواقع بمقياسِ المثَل الأعلى، هذا المثل الأعلى أو هذا المثال هو مِثال الطبيعة نفسها، مقياس الحياة الذي يُدركه إدراكًا واعيًا، ولا يحس به إحساسًا غيرَ واعٍ كما يفعل الشاعر الساذج؛ فشِعرُه ثَمرةُ وعيه وتفكيره وتأمله، وإن أخفى آثار هذا الوعي والفكر والتأمُّل، وبدا كأنه يصدُر عن طبيعته الفطرية. إنه لا يصل إلى هذا الوعي بغير صراعٍ طويل وكفاحٍ شاقٍّ؛ فالإنسان — لا الشاعر وحده — يصِلُ إلى هذا الوعي حين ينهار الانسجامُ بين الطبيعة والعقل، ويحتدم الشقاقُ بين الذات والموضوع، وتتَّسِعُ الهُوَّة بين الواقع والمثل الأعلى. إن الإنسان الواعي وكذلك الشاعر المُفكِّر أو العاطفي قد فقدا الوَحْدة الباطنية التي هبطَت على الشاعر الساذج وهو بعدُ في المهد ولا يزال يحتفظ بها، وواجبهما أن يستعيدا هذه الوحدة من جديد، وهذا هو ما يعنيه شيللر حين يقول: «إن الشاعر إما أن يكون طبيعةً أو يمضي باحثًا عنها؛ تلك تُكوِّن الشاعر الساذج، وهذا يُكوِّن الشاعر العاطفي.»٧ فالشاعر العاطفي إذن مرحلةٌ متأخرةٌ في التطوُّر. إنه لم يُولَد بطبيعته عبقريًّا مثل صاحبه، بل عليه أن يغزو العبقرية بالفكر والتأمُّل، وإذا كان الإنسانُ يفقد طبيعتَه الأُولى ثم يعود فيصل إلى طبيعةٍ ثانية عن طريق التربية والتثقيف، مثلما يَفقِد الرجل طفولتَه السعيدة البريئة ويظَل يحنُّ إليها كلما نظَر في وجه طفلٍ سعيدٍ بريء، فإن عبقرية الشاعر العاطفي لا تُوجد مُتحقِّقة في الواقع، وإنما هي مثالٌ يُحاول هذا الشاعر العاطفي أن يَقترِب منه ما استطاع.

شاعرٌ عاطفي، وشاعرٌ ساذج. غير أن الأمر ليس مجرَّد تفرقة بين نموذجَين، بل هو قبلُ كل شيءٍ أمر تقييم لشاعرية كل منهما، تمهيدًا لإقامة الجسر الذي يُقرِّب الهُوَّة الفاصلة بينهما؛ ذلك أن لكلِّ منهما قيمته وأحقيته، ولكن لكلٍّ منهما أيضًا حدًّا يتوقَّف لديه، كما أن أمامه أخطارًا يُمكِن أن يتورَّط فيها «فالطبيعة قد أسبغَت نعمتَها على الشاعر الساذج فجَعلَته يصدُر دائمًا في أفعاله عن وحدةٍ متكاملةٍ وأتاحَت له أن يكون في كلِّ لحظةٍ كُلًّا مستقلًّا تامًّا وكَلَّفَته بأن يُعبِّر عن المضمون الكامل للإنسانية في الواقع. أما الشاعر الساذج فقد منَحَتْه القوة أو غَرسَت فيه الدافع الحي الذي يجعله يُعيد تأليفَ تلك الوَحْدة التي تَوصَّل إليها عن طريق التأمُّل المجرد من داخل ذاته، وأن يَصِلَ بالإنسانية في نفسه إلى حدِّ الكمالِ ويَنتقِل من حالٍ محدودةٍ إلى حالٍ لا متناهية.» ومن ثَمَّ كان تأثيرُ كلٍّ منهما مختلفًا عن تأثيرِ صاحبه؛ فنحن حين نستَمتِع بالأشعار الساذجة (عند هوميروس أو جوته أو عند شُعرائنا الجاهلين إن جازَ لنا هذا القول) نشعُر بأنَّ كلَّ طاقاتنا الإنسانية حاضرةٌ في لحظة الاستمتاع، ونُحسُّ بأننا لا نحتاج إلى شيء، وأنَّ كُلَّ واحدٍ منا «كلٌّ» في ذاته ونَسعَد بنشاطنا العقلي كما نَسعَد بحياتنا الحسية. أما حين نُقبِل على قراءة الأشعار العاطفية فإننا نُحِس في أنفسنا بدافعٍ حيٍّ يُحفِّزنا للوصول إلى التجانُس الأصيل الذي كنا نملِكُه ففَقَدناه، والذي يجعلنا نُعبِّر عن الإنسانية في أنفسنا تعبيرًا كاملًا، ونُحاول أن نصل إلى «الكل» الذي أحسَسْنا به عند قراءة تلك الأشعار الساذجة. الوجدان هنا في حركةٍ دائبة، إنه مُتوتِّر يتأرجح بين عواطفَ مُتصارِعة، بينما كان هناك مطمئنًّا، هادئًا، متحدًا مع نفسه، راضيًا غاية الرضا؛ فالشاعر الساذج يُحقِّق واجبه، ولكن هذا الواجب نفسه محدود، والشاعر العاطفي لا يُحقِّق واجبه تحقيقًا كاملًا ولكن هذا الواجب غير محدود.

تلك هي حدود الشاعرَين فما هي الأخطار التي يتعرضان للوقوع فيها؟

الشاعر الساذج يتعرَّض للوقوع في خطَر النزعة الطبيعية الكاذبة. إنه عندئذٍ يَفقِد الإحساس بالطبيعة الحقَّة ويتركُ نفسه للطبيعة كما هي في الواقع، فتَحدُّ من شاعريته وتَشدُّه معها إلى الأرض «ذلك أن حُكم الشاعر الساذج لا يقوم على أساسٍ من المعرفة العامة المجرَّدة بل على الشعور اللحظي المباشر؛ فهو لذلك حُكمٌ يعتمد على الواقع المحيط به، ولكن طُوبى للشاعر الذي يفتح عينَيه، حين يفتحهما لأول مرة فيجد نفسه قد وُلِدَ بين أحضان الطبيعة الحقَّة، كما حدَث للإغريق! «حقًّا إن من حق الشاعر أن يُحاكي الطبيعة السيئة — والأدبُ الساخرُ يقوم على هذه المحاكاة — ولكن طبيعته الجميلة ينبغي في هذه الحالة أن تسمُوَ فوق الموضوع كما ينبغي ألا تجذب المادة الدنيئة من يُحاكيها إلى الأرض، فإذا كان الشاعر هو نفسه، في اللحظة التي يصف فيها الموضوعَ على الأقل، طبيعةً حقَّة، فإن ما يصفه لا أهمية له، ولكننا لا نستطيع أن نحتمل لَوحةً صادقة للواقع إلا من مثل هذا الشاعر وَحْدَه.»»

أما الخطر الذي يتعرض له الشاعر العاطفي فهو التوتُّر الزائد، والمثالية المُتطرِّفة التي تُبعِده عن الطبيعة الحقَّة بقدْرِ ما تُبعِد الشاعر الساذج عنها المحاكاةُ الخالصة للواقع. حقًّا إن من أخص خصائص الشاعر العاطفي أن يسمُوَ فوق الواقع ومن واجبه أن يتجاوزَه، ولكنه إذا اندفَع في ذلك إلى الحد الذي لا تستطيع معه أيةُ تجربةٍ محدَّدة أن تُجاريَه (فإلى هنا يجوز أن يذهب الجمال المثالي بل إن عليه أن يفعل) أو بالأحرى إلى الحد الذي يُصبِح معه في تَعارُضٍ مع شروط كل تجربةٍ ممكنةٍ على وجه الإطلاق، وتتخلَّى عنه الطبيعة الإنسانية بالضرورة، فإن فِكرَته في هذه الحالة لا تكون فكرةً شاعرية بل تكون فكرةً متوترةً مُغاليةً في التوتُّر، وإذا كان من حق الخيال أن يُغادِر مجال الحقيقة الخارجية فإن من واجبه ألا يتجاوزَ حدود الحقيقة الباطنية؛ فالشاعر الساذج مُهدَّد دائمًا من جانب الواقع، والشاعر العاطفي يمكن أن تجني عليه الفكرة، وكلاهما يقع في هذا الخطأ حين تخونُه طبيعتُه الحقَّة.٨

هذان النموذجان للشاعرَين العاطفي والساذج ليسا في الحقيقة سوى بناءٍ فكري، لا يهدف إلا إلى الحكم على الواقع من خلاله؛ فليس هناك شاعرٌ ساذج سذاجةً كاملة، ولا هناك شاعرٌ عاطفي عاطفية خالصة. وكل ما في الأمر أن الشاعر من الشعراء يقترب من هذا النموذج أو ذاك، بقَدْر ما تسمح به طبيعته وموهبته وبقَدْر ما يَتلبَّث عند الواقع أو يُحلِّق مع المثال. فالواقع أن المثل الأعلى للشاعر الحق يقع في مركز الوسط بين هذَين النمطَين المتباعدَين؛ ذلك أن علينا في آخر الأمر، كما يقول شيللر، أن نعترف بأنه لا الشاعر الساذج وحده ولا الشاعر العاطفي وحده يستطيع أن يستنفد المثَل الأعلى للإنسانية الجميلة، بل ينبغي أن نُسلِّم بأنه يَنبثِق عن الاتحاد الوثيق بينهما.

هذا المثَل الأعلى ينطوي على معنًى «تاريخي» مُتطوِّر، كما يدُل دلالةً مُطلَقة تَخرُج على حدود الزمان؛ فهو المثَل الأعلى الذي يُعبِّر عن قمة تَطوُّر لا بُد من الكفاح في سبيل الوصول إليها؛ يبدأ بالشاعر الساذج ليَمُر بالشاعر العاطفي ثم يبلُغ الكمال حين يعود الشاعر فيكتسب السذاجة من جديدٍ ولكن على مستوًى أعلى من المستوى الذي تركه وراءه، وهو كذلك المثل الأعلى لكل شاعر على وجه الإطلاق، والنموذج الذي يُطابِق المفهوم من فكرة الشاعر مطابقةً تامة.

كان هذا هو رأي شيللر في أنماط الشعراء كما عَرضَه في رسالته الفلسفية الكبرى «الشعر الساذج والشعر العاطفي». لقد حاول فيها أن يُؤكِّد شاعريَّته أمام شاعريةِ عبقريٍّ من نوعٍ آخر، هو جوته، أحَسَّ أن آلهة الفن قد غَمَرتْه بالنعمة التي كان عليه أن يَنتزِعها بالمشقَّة والكفاح. على أن الرسالة لها إلى جانب ذلك أهميتُها التاريخية التي لا تُنكِر؛ فهي تُعبِّر عن موقف الإنسان الحديث من الأدب الكلاسيكي القديم، وتُمثِّل جُهدَه لتأكيد ذاته وحُريَّته أمام نماذج هذا الأدب الخالدة، التي خلَعَت عليها النزعةُ الإنسانية في القرنَين السادس عشر والسابع عشر صفةَ القانون والمعيار المطلق. كان ظهور جوته وسعيه إلى أن يكون «هوميروس الجديد» هو قمَّة ما وصَل إليه تخليدُ التراث الإغريقي والروماني القديم، وإن لم يقف بالطبع إعجابُه به عند محاكاته والأخذ عنه. وكان لا بُد من ظهور إنسانٍ آخر يُحِس بعظمةِ هذا الفن القديم ويعترف بخلوده ولكن يُدرِك حُدودَه ويُؤكِّد حق الشاعر الحديث في التحرُّر منه؛ فرسالةُ شيللر تُشبِه من هذه الناحية كتاب كانْت الأساسي «نقد العقل الخالص» الذي حاول به أن يُحرِّر الفلسفة من ضيق الميتافيزيقا الدجماطيقية المُتزمِّتة التي كانت سائدةً على عهده، وأن يُبيِّن حدود التجربة والتأمُّل المجرد بحيث لا يتجاوَز أحدهما المجالَ المرسوم له. أَدركَ شيللر عظمةَ الشعر القديم واعتبَره شعرًا ساذجًا أصيلًا، ولكنَّه بيَّن كذلك حُدودَه وكشَفَ عن قُصورِه حين وضَع أمامه نموذجَ شاعرٍ ساذج حديثٍ لم يذكُر اسمه في رسالته وإن لم يكن هناك شكٌّ في أنه قصد به جوته. وإذا كان شيللر — في دفاعه الحارِّ عن الشعر العاطفي الذي يُمثِّله هو نفسه — يضع كِلا النموذجَين المتقابلَين على قدَم المساواة، فهو لا يُخفي سعيه إلى تحرير الشعر العاطفي من الشعر الساذج (أو بعبارةٍ أخرى تحرير الشعر الحديث من التقيُّد بمقاييس الشعر القديم) تمهيدًا لبلُوغ المثَل الأعلى الذي يتألَّف منهما جميعًا، والذي لا يصل إليه شاعر أبدًا، بل يقترب منه قليلًا أو كثيرًا. غير أن هذا التحرُّر لن يتمَّ إلا على يد الحركة الرومانتيكية التي عاصَرَها جوته في شيخوخته، وعَرفَ مِقدارَ ما تَدينُ به لرسالة شيللر حيث قال في حديث له مع أكرمان في ٢١ مارس عام ١٨٣٠م: «إن فكرة الشعر الكلاسيكي والشعر الرومانتيكي التي تنتشر الآن في العالم كله وتُسبِّب الكثير من النزاع والشقاق قد صَدرَت في الأصل عنِّي وعن شيللر. كانت القاعدةُ التي أَسِير عليها في الشعر هي قاعدة الالتزامِ بالموضوع وكنتُ أريد لها وحدها أن تُتبع. أما شيللر، الذي كان أثره ذاتيًّا خالصًا، فقد رأى أن طريقتَه هي الأصح، وأراد أن يحمي نفسه مني فكتَب مقاله عن الشعر الساذج والشعر العاطفي. لقد أثبَتَ لي أنني رومانتيكيٌّ على الرغم منِّي وأن مَسرحيَّتي «أفيجينيا» بسبب غلَبة الإحساسِ عليها ليست كلاسيكيةً ولا هي بالمعنى القديم كما يميلُ البعض إلى الاعتقاد. التقط الأخوان «شليجل» هذه الفكرة ودفَعاها إلى أبعدَ من ذلك حتى انتشَرت اليومَ في العالم كُلِّه وأصبح الناسُ جميعًا يتحدثون عن النزعة الكلاسيكية والنزعة الرومانتيكية؛ الأَمرُ الذي لم يكن أحدٌ يُفكِّر فيه قبل خمسين عامًا.»

مَيَّز شيللر بين نوعَين من الشعر على أساس التمييز النفسي بين نمطَين من الشعراء يختلف أحدهما عن الآخر باختلاف علاقتهما بالطبيعة. ولقد أدرك شيللر بنفسه مدى ما في هذه التفرِقة من قصور، واعتَرفَ بالعقَبات التي تُصادِف تطبيق فكرته في الواقع، كما تُصادِف الفكر على وجه العموم حين يُحاوِل أن يلتمسَ مَوضعَه على الأرض؛ فليس هناك شاعرٌ ساذجٌ سذاجةً خالصة، ولا هناك شاعرٌ عاطفيٌّ خلا في بعض شعره من عناصرَ ساذجة، والأسماء المشهورة التي اختارها لتُمثِّل هذَين النموذجَين من الشعراء لا تُريد أن تدخل في القالب الذي وضَعَه لها في سهولة؛ فالقارئ لا يقبل في سهولةٍ أن يكون هوميروس شاعرًا ساذجًا وحَسْب، ولا أن يُوضَع شاعر «هاملت» بجانبه، وحتى جوته، الذي اهتدى شيللر بشخصيته في وَضْع ملامحِ الشاعر الساذج، لا تنطبقُ عليه كُلُّ مُميِّزات الشاعر الساذج في كلِّ شِعره ولا في كلِّ مراحلِ حياته؛ فروايتُه «فرتر» ومسرحيتاه «تاسو» و«فاوست» تُمثِّل كلُّها أقصى ما يصل إليه الشعر العاطفي من عُمقِ التأمُّل والتفكير، وشيللر نفسه يعترف بهذا، وإن كان لا يستطيع أن يُصارِح نفسَه بأن الذي يكتبُ شعرًا عاطفيًّا لا يخلو هو نفسه من أن يكون شاعرًا عاطفيًّا!

ومع ذلك فلا بُد أن يكون شيللر قد أصاب جانبًا من الحق من وراء ما قصَدَه من التفرِقة بين هذَين النموذجَين الأَوَّلَين؛ فشِعرُه على كل حالٍ يختلف عن شِعر جوته، وهو يقوله عن وعيٍ بينما يصدُر جوته في شِعره عما يُشبِه اللاوعي؛ أي إنه أقربُ إلى العاطفة كما يُحدِّدها في رسالته على حين أن جوته أقربُ إلى السذاجة، ولكن جوته يُمثِّل الموهبة الساذجة التي عَرفَت كيف تُحافِظ على تَوازُنها أمام النزعة العاطفية عند إنسان العصر الحديث، وأن يُحقِّق بذلك المثَلَ الأعلى الذي أراده شيللر دون أن يدري، حين طالَب بالتوحيد بين نمطَي الشعراء السذَّج والعاطفيِّين؛ فجوته إذن ساذجٌ في شاعريته العميقة العريقة، ولكنه — مثل فاوست — عاطفيٌّ في إنسانيته الطموحِ المُتطلِّعة التي لا يُقيِّد طُموحَها إلى آفاق المعرفة غير المحدودة قَيد، وشِعرُه إذن يُمكِن أن يُوصَف بأنه هو التصوير الساذج لرأيٍ عاطفيٍّ في الكون. وإذا كان شِعرُ جوته يقوم على الإلهام السعيد، ويسيل من القلب كأنما يَتدفَّق من نبعٍ خَصبٍ لا يعرف من أين يأتيه الماء ولا يُضْني نفسه بالسؤال عن مصدره وغايته، فإننا لا نستطيع لذلك أن نُسمِّيَه شاعرًا ساذجًا فحَسْب، وكذلك لا يخلو شيللر، ككُل شاعرٍ حقيقي، من أن يكون قد صدَر في بعض أعماله الشعرية أو المسرحية عن غيرِ شعورٍ واعٍ منه، وأن يكون قد عَبَّر عن «طبيعته الحقَّة» دون تدخُّل من الفكر والتصميم، ولكن الطابع الغالب على شِعر جوته هو أنه شِعرٌ ساذج، أو هو على الأقل يبدو كذلك بالنسبة لشيللر، وكذلك الطابع العاطفي هو الذي يَغلِب على شِعر شيللر، أو على الأقل إذا نظرنا إليه بالنسبة لجوته؛ فالنموذجان إذن نِسبيَّان، ولكنهما لا يخلوان من الصدق ولا يتجرَّدان من الإخلاص، وفائدتهما الكبرى في تعريفِ الشاعر بنفسه، وتبصيرِه بمعالجةِ موضوعه المعالجةَ القريبة من طبيعته، ولا شك أنه نفعَهما في التعبير عن الشكل الجميل الذي حاولا طَوالَ حياتهما أن يُعبِّرا عنه، والنموذَج الكلاسيكي الخالد الذي أرادا أن يُحقِّقاه.

ولعلهما أيضًا لا يخلوان من فائدةٍ لنا اليوم، سواءٌ أكنَّا شُعراء أو متلقين للشعر، فإن كنت أيها القارئ ممن يقولون الشعر، فقد يهمُّك أن تعرف إن كنتَ من شعراء الواقع أو من شعراء المثال. أما إن كنتَ مثلي ممن فقَدوا كَنْز الشعر إلى الأبَد، فقد يُفيدُنا مع ذلك أن نعرف إلى أي النموذجَين من نماذج الإنسان ننتمي؛ للإنسان الساذج القريب من الطبيعة والأرض، أو للإنسان العاطفي المُحلِّق مع الفكر والخيال.

١  رسائل جوته وشيللر، هامبورج، سلسلة كتب فيشر، ص١٠–١٣. Goethe-Schiller Briefwechsel, Hamburg, Fischer Bücherei, 1901.
٢  عن رسالة لشيللر إلى كورنر Körner في ٩ مارس.
٣  كما أكَّد شيللر بعد ذلك في رسالةٍ له إلى صديقه كورنر في أول سبتمبر ١٧٩٤م.
٤  راجع في هذا كله إميل شتايجر، جوته، الجزء الثاني، ص١٧٥–٢٠٧. Staiger, Emil: Goethe, Bd. 2. Zürich, Atlantis Verlag.
(وهو من أهم المراجع وأجملها عن جوته، ومن أفضلِ ما كَتبَه هذا العالم السويسري الفنَّان.)
٥  الحديث بتاريخ ٢٤ مارس ١٨٢٩م.
٦  ارجع في هذه النصوص كلها إلى رسالة شيللر «الشعر الساذج والشعر العاطفي»، ضمن أعمال شيللر الكاملة، المجلد الخامس، مطبعة هانزر، ميونيخ، ١٩٦٠م، ص٦٩٤–٧٨٠. Über naive und sentimentalische Dichtung, in Schillers’ sàmtliche Werke Bd. V, s. 698–780. Hanser Verlag, München, 1960.
٧  رسالة شيللر السابقة، ص٧١٢، ٧١٦.
٨  ﻫ. أ. كورف، روح عصر جوته، المجلد الثاني، ص٤٧٤–٤٨٨. H. A. Korff; Geist der Goethe-Zeit. Leipzig, 1953. Bd. 2., s. 474–488.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤