هل تَعرِف البلدَ البعيد؟

حول أغنية «منيون» لجوته
هل تعرف البلد الذي يَزدهِر فيه الليمون،
في الشجَر المُعتِم تتوهَّج ثمارُ البُرتقال الذهبية،
ريحٌ ناعمةٌ من السماء الزرقاء،
شجرةُ الريحان ساكنةٌ والغار عالٍ، أتعرفها حقًّا؟
إلى هناك! إلى هناك
أوَدُّ أن أمضيَ معكَ يا حبيبي.

•••

هل تعرفُ البيت؟ على أعمدةٍ يستقرُّ سطحه،
القاعة تلمَع والمخدَع يتألَّق،
وتماثيل المرمر تقفً هناك وتنظر إليَّ.
ماذا فعلوا بك، يا طفلتي المسكينة؟
أتعرفُه حقًّا؟
إلى هناك! إلى هناك
أودُّ أن أذهبَ معكَ يا من ترعاني.

•••

هل تعرف الجبل ودَربَه الملفوفَ في السَّحاب؟
الدابَّة تبحثُ عن طريقها في الضباب،
في الكهوف يسكُن أبناءُ التنِّين الكبار،
الصخر يَهوي ومِن فَوقه الطوفان،
أتعرفُه حقًّا! إلى هناك! يمضي طريقنا!
آه أيها الأب، دعنا نذهب!

أغنية انتقلَت من فمٍ إلى فمٍ وتجوَّلَت من لغة إلى لغة، وتلقَّفَتها أصابع المُلحِّنين والعازفين حتى كادت تُصبِح مِلكًا للمُغنِّين في الطرقات والحارات. أنشدَتها فتاةٌ مسكينة طوت صَدرَها على سرها المُحزن الرهيب، وضمَّها الحنين الذي ظل يشغل حياتها المعذَّبة القصيرة، حتى طواها الموت، سِر الأسرار. لم تعرف الأجيال المُتعاقِبة التي سحرتها الأغنية إن كانت تُعبِّر عن حنين صاحبتها التعسة «منيون» إلى الجنوب، بلد الدفء والنور، أم تُعبِّر عن شوق الشاعر الذي أنشدها على لسانها في روايته الكبرى «فيلهم ميستر». واختلف الشراح حول هذا البلد الذي تزدهر فيه أزهار الليمون، ويتوهَّج البُرتقال الذهبي، وتهُبُّ الريح الناعمة من السماء الزرقاء، وتقف أشجار الغار ساكنةً شامخة. قالوا إن هذا البلد لا بد أن يكون في الجنوب، وإن هذه الأشجار والثمار والسماء الصافية لا تكون إلا في إيطاليا، بلد الدفء والفن والنور، الذي ما بَرِح أبناء الشمال العظام يحنُّون إليه ويُهْرَعون إلى أحضانه، من رسامهم المجيد «دورر» إلى شاعرهم الأكبر جوته، ولم يكن من العسير عليهم أن يربطوا بين شوق الفتاة الصغيرة وبين شوق الشاعر الذي «هرب» ذات صباحٍ من بلاد الضباب إلى بلاد الشمس وسَجَّل مشاعره عنها في رحلته الإيطالية. ولم يكن من العسير أيضًا أن يجدوا في حياته النفسية ما يُؤيِّد ظنهم، وفي حياته القلقة الشغوفة بالأسرار ما يُبرِّر حُبه للشمس وشَوْقه إلى النور.

وانتقَلوا إلى المقطوعة الثانية من القصيدة، فلم يَعدَموا دليلًا على فرضهم وإن صادفَتْهم مع ذلك مشكلاتٌ لم يهتدوا فيها إلى حل؛ فالفتاة المعذبة تَسأل حبيبها وراعيَها الذي يَكبَرها بأعوامٍ كثيرة ويربطها به حبٌّ عجيب: هل تعرف البيت؟ ثم لا تزال تصف هذا البيت حتى يُساوِرنا الشك في أن يكون بيتًا كسائر البيوت التي نعرفها! إن سطحه يستقر على أعمدة، والردْهة تلمع بالنور، والمخدَع يتألق. والتماثيل المرمرية واقفةٌ هناك تنظُر إليها وتسألها في إشفاق: ماذا فعلوا بكِ، يا طفلتي المسكينة؟ فأي بيت هذا الذي تتكلَّم فيه تماثيل المرمر ويُضيء كل شيء، وتسكُن كل حركة كأنما يغمُره هدوء الأبد والخلود؟ هل يُمكِن أن يكون بيتًا يزوره الإنسان ويُلِحُّ على زيارته؟ وماذا يفعل هناك وكلُّ شيءٍ يتألق بنور كأنه لم يخلق لعيون البشر، وتغلفه أسرار لا يقوى عليها البشر؟ وهذه التماثيل المرمرية، ما الذي جعلَها «تقف» هناك كأنها تنتظر الفتاة المسكينة، لا لتضُمَّها وترعاها وتتعهَّد شبابها، بل لتسألها السؤال الأخير الذي لا يبدو له جواب: ماذا فعلوا بكِ يا طفلتي المسكينة؟ هؤلاء الذين فعَلوا بها ما فعَلوا، هؤلاء الذين ظلَموها هذا الظلم الذي حرَّك حتى تماثيل المرمر، أين هم وما شأنهم وهل يمكن أن ينتموا إلى نفس العالم الذي تقف فيه هذه التماثيل؟ «يقف، ويسكن، ويستقر»، لمعانٌ وتألُّق ونورٌ يغمُر كل مكان، تماثيلُ واقفةٌ صامتة تنظُر في إشفاق وتسأل عيونُها عن الظلم الذي لحِق بالطفلة التعيسة. أين يكون هذا كله؟ في أي بيت؟ وفي أي مكان؟ أتُراهُ رمزًا وراء كل البيوت وكل الأمكنة؟

على أن الشُّرَّاح حين انتقَلوا إلى المقطوعة الثالثة والأخيرة من القصيدة واجهَتْهم الحَيْرة، وراحوا يلفُّون حولها ويدورون، مُحاوِلين أن يحشروها في نسيج تفسيرهم لها كتعبيرٍ عن الشوق الإيطالي في نفس الشاعر والفتاة. وأغلب الظن أنهم كانوا يعترفون بأنه تفسيرٌ لا يكفي، وأن الأبيات الخمسة الأخيرة أصابتْهم برعشةٍ غريبة لا يمكن أن تأتي من إيطاليا ولا من غيرها من البلاد؛ فبعد أن وصفَت الفتاة الطبيعة والبيت الذي تقصده، عادت إلى الشيء الذي كان ينبغي أن تبدأ به. لقد رجعَت إلى وصف الطريق المؤدي إليها، ولكن يا له من طريق! إنها تسأل «الأب» (لاحظ أنها لا تقول يا أبي بل تقول أيها الأب!) عن الجبل الذي يلتف دربه في السحاب، وتتحدَّث عن الدوابِّ التي تبحثُ عن طريقها في الضباب. وبعد أن تصف الجبل وطريق الجبل تهبط فجأة إلى الكهوف التي يسكُنها أبناء التنين العجائز الذين ينفُثون النيران من أفواههم البَشِعة، وينشُرون الرعب في كل مكان حولهم، ثم تنتقل إلى الصخور التي تهوي ومن فوقها الطوفان، لترسمَ صورةً من الانهيار الكوني أو ما يُسمِّيه الغربيون باﻟ «أبوكاليبسه» على نحوِ ما صوَّرها سِفر أيوب وجاءت في رؤيا يوحنا. ومع أن الجبل يلُفه السحاب، والطريق إليه غارق في الضباب، ومع أن أبناء التنين يسكُنون في كهوفه ويتربَّصون بكل عابرِ سبيل، والصخر يهوي ومن فوقه الطوفان، وكل شيء يثير الخوف والارتعاش، ويبتعد عن النور والتألُّق والسكون الذي رأيناه في المقطوعة السابقة، مع هذا كله فإن الطفلة لا تزال تهتفُ باندفاع: إلى هناك! إلى هناك! إنها تقول في يأس واستسلام إن طريقنا — لا طريقها هي وحدها — يمضي إلى هناك، هو القدَر الذي لا مهرب منه ولا نجاة، فلنذهب إذن ولا نتردد. أيكون هذا الجبل بكل ما فيه من صور الفزع هو الطريق إلى البلد الذي تزدهر فيه ثمار البرتقال والليمون وتهُب الريح ناعمة من السماء؟ أم يكون هو الطريق إلى البيت الساكن الذي تلمع ردْهته «ويتألَّق» بالنور مخدعه؟ وكيف تكون كل هذه الصور المفزعة طريقًا وهي نفسها نهاية وهاوية؟ أم تُراها تكون المستَقَر الأخير بعد أن ترى البلد الذي حنَّت إليه، وتطوف بالبيت الذي وجَدَت من ينتظرها فيه؟ وإذا كان الأمر كذلك فلماذا جاء ترتيب هذه المقطوعة في النهاية وكان مكانها في البداية؟ أيكون خطأً وقع فيه الشاعر أم هو الذي قصد إليه؟

أسئلةٌ كثيرة تُوشِك ألا تنتهي! لعل السر الذي يلُف القصيدة من أوَّلها لآخرها هو الذي جعلَنا نقع فيها بغير أملٍ في الجواب، أو لعل شخصيةَ الفتاة التي تنتشُدها والمصير التعس الذي أحاط بمولدها وموتها هو الذي يجعل كل كلامٍ يُقال عنها أشبه بالرعشة والارتجاف.

لنُحاول إذن أن نفهَم القصيدَة من «داخلها» فهي الطريقة التي يبدو أنها أسلمُ من كل طريقةٍ سواها في فَهم الشعر والأعمال الفنية على وجه الإجمال، ولنبتعد ما استطعنا عن كل التفسيرات التي تَتذرَّع بحياة الشاعر والفنان أو تبحَث عن مبرراتها في ظروفه النفسية أو الاجتماعية؛ فقد تكون لهذه التفسيرات فائدتُها المحقَّقة في إلقاء الضوء على النص الأدبي، ولكن لا ينبغي أن تكون هي الأساس ونقطة الانطلاق.

القصيدة أغنية تأتي على لسانِ إنسان، وهذا الإنسان شخصية في رواية أو خيط في شبكةٍ كبيرة من الأحداث والوقائع والشخصيات، فكيف نستطيع أن نفهم الأغنية قبل أن نعرف من هو المُغَني؟ صحيح أن الرواية ربما كانت مجهولةً عند معظم القُراء، ولكن هذا لا يجوز أن يمنعنا من الحديث عن هذه الطفلة المسكينة (منيون) التي وقف بها النضجُ بين براءة الطفولة، وأشواق المراهقة، وراحت تهُب عليها من وراء الزمان والمكان رياحٌ تحمل معها رعشة السر والعذاب.١

•••

نحن نُقابِل القصيدة في بداية الكتاب الثالث من رواية جوته «فيلهلم ميستر: سنوات التعلُّم». إننا نُحسُّ لأوَّل وهلة كأنها نسمةٌ من عالمٍ غريب، مستقلةٌ بذاتها عن أحداث الرواية ووقائعها، غير مندمجة فيها كغيرها من القصائد والأغنيات التي تُغنِّيها هي نفسها أو تُنشِدها شخصيةٌ أخرى هي عازف القيثار العجوز. إن بطل الرواية فيلهلم — هذا الشاب الذي يتعلَّم ويبحَث عن نفسه في عوالم المسرح والنبلاء والطبقة الوسطى وتُسجِّل حياته قصة الثقافة والتربية في القرن الثامن عشر — يسمع موسيقى أمام بابه، ويُميِّز صوتَ منيون التي تُغنِّي فيَفتَح لها الباب «ودخلَت الطفلة وأنشدَت الأغنية التي سجَّلْناها الآن.» أعجبَه اللحن والتعبير، وإن لم يستطع أن يفهم كلمات الأغنية. وطلب منها أن تُعيد عليه المقطوعات وتشرحها له، ثم دوَّنها وترجمَها إلى لغته، ولكن ترجمته، كما يقول الكاتب، لم تستطع أن تُحاكي الأصل إلا من بعيد، بل إن براءة التعبير قد اختفَت منها، حين رَبَط بين أجزائها وجعَل من لغتها الكسيرة شيئًا مُنسَّقًا متوافقًا. لم تستطع الترجمة إذن أن تَعكِس سِحر اللحن الأصيل. كانت الطفلة تبدأ كل بيتٍ باحتفال وروعة، كأنها تُريد أن تلفِت الانتباه إلى شيءٍ فريد في بابه، أو تنقل خبرًا له أهميته، وفي السطر الثالث زاد الصوت خفوتًا وحزنًا، وأخذَت تنطق سؤالها: «هل تعرفه حقًّا؟» بنغمةٍ غامضةٍ متأنية، وتُعبِّر بقولها: «إلى هناك! إلى هناك!» عن شوقٍ طاغٍ، كما تقول «دعنا نذهب.» فتخرج من فمها تارةً مُتوسِّلة مُلحَّة، وتارةً أخرى مُستحِثَّةً واعدة، وعندما انتهت من إنشاد أغنيتها للمرة الثانية سكَتَت لحظة، ونَظرَت إلى فيلهلم نظرةً جادةً وسألَته: «هل تعرف البلد؟» أجاب فيلهلم: لا بُد أنه إيطاليا. من أين جئت بهذه الأغنية الجميلة؟» — قالت «منيون» بصوتٍ له دلالته، وبغير أن تنفي أو تؤكد ما قالته: «إيطاليا! إن ذهبتَ يومًا إلى هناك، فخذني معك، أنني أتجمَّد هنا من البرد.» وعاد فيلهم يسأل، وكأنه ظَفِر منها بالجواب الصحيح: «هل كنتِ هناك من قبلُ، يا صغيرتي العزيزة؟» لكن الطفلة ظلَّت صامتة، ولم يستطع أن يستخرج من بين شفتَيها كلمةً واحدة.

هل رأت «منيون» هذا البلد من قبلُ؟ وإن صح أن إيطاليا هي بلدُ الجنوب التي تحِنُّ إليها فهل نشأَت فيها ورأت عيناها أزهار الليمون وشجر البرتقال الذهبي؟ إن هذه الطفلة التي تقترب من سن الفتاة وما تزال تحتفظ ببراءة الطفولة وأسرارها، هذا الإنسان الغريب الذي تكشَّف حُبه لفيلهم في مناسباتٍ عديدة، فلم يَدْرِ هل هو حب الابنة لأبيها وراعيها أم حب الفتاة لحبيبها، لا بد أن تكون لها قصة، وقصتها نعرفها على لسان الطبيب الذي يزورها في مرضها الأخير، ويُذكِّرنا (في الكتاب الثامن من الرواية) بصور من تلك الأغنية القديمة التي حار في أمرها (في الكتاب الثالث منها). لقد خرج الطبيب من عندها وانفرد بفيلهم ليقول لها إن هذه الطفلة تطوي صدرها على سِرٍّ لا تُريد ولا تستطيع أن تبُوح به. إن طبيعة الطفلة الطيبة تكمُن في شوقها العميق لرؤية وطنها، وشوقها إلى فيلهم، هو الشيء الأرضي الوحيد فيها؛ كلاهما يمتد بها إلى بُعدٍ لا نهاية له، وكلاهما عسير النوال على هذا الوجدان الفريد. لعلها نشأَت في ضواحي ميلانو، كما يقول الطبيب، واختطفَتْها جماعة من الراقصين على الحبال وهي ما تزال طفلة. غير أن المرء لا يستطيع أن يعرف منها أكثر من ذلك، ربما لأنها كانت لا تزال أصغر من أن تُدرِك اسم المكان الذي وُلِدَت فيه واختُطِفَت منه، أو لأنها أقسمَت بينها وبين نفسها ألا تكشِف لإنسانٍ حي عن أصلها ونشأتها. إن الذين عثَروا عليها تائهة وراحت تصفُ لهم بلدها ومسكنها وتتوسل إليهم بالدموع أن يُعيدوها إلى وطنها أخذوها معهم واعتقدوا أنها لن تستطيع أن تعود إليه وحدها. أطبَق على المسكينة يأسٌ فظيع، وخُيَّل إليها أن العذراء المقدَّسة تجلَّت لها ووعدَتها أن ترعاها وتتولى أمرها، ومن تلك الليلة أقسمَت قسمًا مقدسًا ألا تثق في المستقبل بأحد ولا تروي قصتها لأحد بل تحيا وتموت على الأمل في معونة الله. لم يعرف الطبيب ذلك كله من الطفلة بل جمعَه من فلتات لسانها، وأضغاث أحلامها، وغرائب اعترافاتها واغتيالاتها، وتشنُّجات قلبها المسكين الذي تُوشِك أشواقه المعتمة أن تُوقِف ضرباته.

إن حفلةً تُقيمها راعيتُها الحنون «ناتاليه» للفتيات اللائي تتعهَّدهن بالتربية قد تُلقي الضوء على طبيعتها الحافلة بالأسرار؛ فقد سمِعَت هذه الفتيات من أفواهِ أبناءِ الفلاحين أن الملائكة والسيد المسيح يظهرون في بعض الأحيان بأشخاصهم للأطفال فيُكافئونهم أو يُنزِلون بهم العقاب. ورأت ناتاليه أن تُحقِّق لهن هذه الرؤية واختارت «منيون» لتقوم بدور الملاك، ولَبِسَت الطفلة ثوبًا أبيض خفيفًا، ولفَّت حول صَدرِها حزامًا ذهبيًّا، ووضعَت في شعرها المنسدل جوهرة، وعلى كتفَيها جناحَين ذهبيَّين. وما إن تجلَّت الطفلة حتى هتَف الأطفال «إنها منيون»! ومنَعَتْهم الرهبة والجمال من الاقتراب منها. قالت الطفلة وهي تمُد ذراعها بسلةٍ في يدها: ها هي ذي هداياكم. وتجمَّع الأطفالُ من حولها، يتأمَّلونها ويسألونها. قال طفل: «هل أنت ملاك؟» أجابت منيون «تمنَّيتُ لو أكون.» سأل طفل آخر: «لماذا تحملين في يدك زنبقة؟» ردَّت منيون: «ليت قلبي كان نقيًّا وصريحًا مثلها، إذن لأصبحتُ سعيدة.» سأل طفلٌ ثالث: «ما هذه الأجنحة؟ دعينا نراها!» فأجابت منيون «إنها تُمثِّل أجنحة أجمل، لم تُفرد بعدُ.» وهكذا راحت تُجيب بالرمز العميق على كل سؤالٍ بريء. وبعد أن ردَّت على كل سؤال، وأرضت كلَّ تطلُّع، وبدأت الدهشة تختفي من العيون الصغيرة، طلب إليها الحاضرون أن تنضُوَ عنها ملابسها العجيبة، فقاومَت بكل ما تستطيع، وأمسكَت معزفها وجلسَت على مكانٍ مُرتفعٍ وراحت تُنشِد هذه الأغنية، في صوتٍ ساحرٍ رقيق:
دعوني أظهر، حتى أكون،
لا تنزعوا عني الثوب الأبيض!
أنا أمضي مسرعة من الأرض الجميلة
لأهبط في ذلك البيت المكين.

•••

هنالك أرقُد لحظةً قصيرة،
ثم تتفتَّح العين على المشهد الجميل،
هنالك أتركُ الغلالة الصافية،
وأدَعُ ورائي الحِزام والإكليل.

•••

وتلك الأشكال السماوية
لا تسأل عن رجلٍ ولا امرأة،
ولا الملابس ولا التجاعيد
تُحيط بالجسَد المُنير.

•••

حياتي عِشتُها حقًّا، بلا هَمٍّ ولا عناء،
لكنني حَملتُ من الألم العميق، ما يكفيني
الحزن جعلَني أشيخُ قبل الأوان،
فأعيدوا إليَّ خلود الشباب!

وصمَّمَت راعيتها «ناتاليه» أن تتركَ لها الثوبَ وتُعطيَها ثيابًا أخرى تسير فيها كما تسير النساء، وتُعبِّر فيها عن جانبٍ خفيٍّ من طبيعتها، فها هي ذي الآن لا تجري ولا تقفز كما كانت تفعل من قبل، بل تدفعها نزعةٌ غامضة إلى التنزُّه فوق ذُرى الجبال، والسير على أسطح البيوت، والانتقال من شجرة إلى شجرة، ولعلها في أيامها الأخيرة كانت تحسُد الطيور التي اهتدَت إلى مُسكنِها الأخير فراحَت تَبني أعشاشها بين الأغصان في نظامٍ واطمئنان!

ولكن ما هي إذن قصَّتها؟ ما حكاية الأعمدة والتماثيل التي عَلِقَت صُوَرها في ذاكرتها، والتماثيل المرمرية التي تنظر إليها وتسألها: ماذا فعلوا بك يا طفلتي المسكينة؟ إننا نعرف في ختام الرواية كيف كانت نهايتها. كان فيلهلم بطل الرواية الذي يبحث عن نفسه مع ناتاليه يتفرجان على قاعة الماضي التي دُفنَ فيها عمِّها وملأها قبل موته بالتماثيل والصور والتوابيت العجيبة، وكانا يُوشِكان أن يغادرا القاعة حين أقبل فلياس الصغير (ابن فيلهلم) ومنيون وهما يتسابقان لإبلاغ النبأ المفرح الفاجع؛ فقد وصلت «تيريزة» التي أراد فيلهلم أن يتزوجها، والتي أقبلت لتكون عروسه وحبيبته. ألقت منيون بنفسها على صدر راعيتها ناتاليه وقلبها المريض يدقُّ في عنف، وكأنه شاء أن يعلن للمرة الأخيرة عن حبه الغريب لفيلهلم وغَيْرته من العروس الموعودة. قالت لها ناتاليه: «يا صغيرتي الشريرة، ألم تُحرَّم عليك كل حركةٍ عنيفة. انظري كيف يدقُّ قلبُك!» أجابت منيون وهي تتنهد: «دعيه ينكسر؛ فقد طالت دقاته.» ولم تكد العروس تعانق فيلهلم وتهتف به: «يا صديقي وحبيبي وزوجي، إنني لك إلى الأبد.»، ولم يكد فيلهلم يقول لها «يا عروسي.» حتى رفعت منيون يدَها اليسرى إلى قلبها، ثم مدَّت ذراعها الأيمن وهي ترتجف وما هي إلا لحظةٌ حتى صرخَت وسقطَت ميتةً أمام قدمي ناتاليه. كان الرعب هائلًا، ولم يلاحظ أحدٌ حركة من القلب أو النبض، حملَها فيلهلم على ذراعه ومضى بها إلى أعلى، وتعلَّق الجسد الذي يرتعش رعشاتِه الأخيرة فوق كتفَيه. لم يستطع الطبيب أن يحمل لهم العزاء وكما عجز الطب عن رد الحياة إلى الكائن المحبوب. ويلتئم الجمع بعد أن دفنت منيون في «قاعة الماضي» ليسمعوا حكايتها من مُذكِّرات المركيز كما يقرؤها عليهم القسيس التقي؛ فالمركيز يصف أباه الجادَّ، الذي راح يفرض على نفسه وعلى البيئة المحيطة به قوانينَ صارمةً لا ترحم. كان للأب أبناءٌ ثلاثة تعهَّدهم بالتربية القاسية، لكي يُشرِف الأول على أملاكٍ واسعة، ويصبح الثاني (وهو المركيز) رجلًا من رجال الدين، والثالث (وهو أصغرهم) جنديًّا، ولكن الأخير كان يبدو عليه الميل إلى الهدوء والحياة الحالمة، والاتجاه إلى العلوم والموسيقى والشعر، وأفلَح الأَخوان الأخيران بعد صراعٍ عنيف في إقناع الأب بتبديل الحياة المقبلة التي رسمَها لهما، ورضي الأب وإن لم يقتنع أبدًا بصواب هذا الرأي، وعاش أيامه الأخيرة منعزلًا عن المجتمع، لا يكاد يخالط أحدًا غير صديقٍ قديم خدَم فترةً في الحرب وفقَد زوجتَه هناك، وعاد مع ابنته التي كانت تبلُغ العاشرة من عمرها ليعيش في هدوء في ضيعته. كان يحضر لزيارة أبيه في أيامٍ معلومة من كل أسبوع، ويُحضِر معه ابنتَه البالغة من العمر عَشْر سنوات، التي كانت تزدادُ مع الأيام روعة وجمالًا، ودخل الأخ الأصغر أوغسطين الدير، واستسلم بكُلِّيته لحياةٍ خشنة كانت ترفَعه أحيانًا إلى سماء المتعة والوجد، وتَخفِضه أحيانًا أخرى إلى حضيض اليأس والملل، وتحسَّنَت حالتُه شيئًا فشيئًا بعد وفاة أبيه، ولكنَّه راح يطلُب من أخوَيْه أن يُخلِّصاه من العهد المقدَّس الذي قطَعه للكنيسة، وأن يُوافِقا على زواجه من جارتهم «سبيراتا» التي كان يبدو أنه وقَع في حبها. وحينَ ألحَّ الأخوان في الأمر على قسيسِ الأُسْرة وكاشفاه رغبة أخيهما، تردَّد كثيرًا ثم أطلَعَهما على السر العجيب. لقد كانت سبيراتا شقيقتَهُما من الأب والأم؛ فقد أحس الأب العجوز في أواخر حياته بأن الطبيعة قد تغلَّبَت عليه، وأنه يوشك أن يُرزَق بطفل، في وقتٍ يُستبعَد عليه ذلك وعلى زَوجتِه، وكأن الناس لا يزالون يتندَّرون بحالةٍ مشابهة حدثت في المنطقة، فأخفى الأب النبأ عن الجميع، ووضَعَت أمُّهُم سِرًّا، وأرسلَت الطفلة إلى الريف، وتعهَّد الصديق بأن يُعلِن عن أُبوَّته لها، كما تعهَّد القسيس بأن يكتُم السر فلا يَبوحُ به إلا إذا اقتضَت ذلك الضرورة القاسية. وحاوَلَ الأخوان أن يُقنِعا شقيقَهما بالحقيقة، ولكن بلا فائدة. كان في كل مرة يقول لهما والغضب يتطاير من عينيه: «وفِّرا خُرافاتِكما الكاذبة للأطفال والبلهاء. لن تنزعوا سبيراتا من قلبي؛ فهي لي. إنها ليست شقيقتي بل زوجتي!» كان يروي لهما كيفَ أعادَتْه سبيراتا إلى الحياة وأبرأَتْه من الوحدة والانعزال، وكيف وهَب نفسه بكُلِّيتها لهذه الفتاة التي لم يعرف قبلها أحدًا، وأصاب الأخوَيْن فزعٌ رهيب حين فاجأهما ذاتَ يومٍ بأن سبيراتا قد حملَت منه، وفعل القسيس كل ما يستطيع، ولكنَّ حُبَّ شَقيقتِهما كان أشدَّ قُدسيةً في عينَيه من كلِّ ما هو مقدَّس، والأُبوَّة التي حكَمَت بها الطبيعة كانت أسمَى من كل القوانين التي وضعَتْها الأديان والأخلاق. إن الطبيعة الخيرة قد عوَّضَته أخيرًا عن حَيْرته ويأسه، وأنعَمَت عليه بالحب وهو أسمى عطاياها، ومُحالٌ أن يُفرِّط في هذه العطية. إن من قاسى ما قاساه من العذاب يملكُ الحق في أن يكون حُرًّا. لقد جمع الحب بينهما فلن يُفرِّق بينهما إلا الموت.

وحاول الأخوان أن يُقنِعاه، فأصَرَّ على موقفه، وأشار عليهما القسيس أن يحبساه في البيت، ولكنه استطاع أن يفلِت منه، وأراد أن يستقل مركبًا تقلُّه إلى الشاطئ الآخر حيث تعيش زوجتُه وشقيقتُه، ولكن الملاحين الذين أسَرَّ إليهم القسيس بالخبر أوصلوه إلى الدير، واجتمَعَت عليه هموم الندم والتوبة والشك فنام في القارب، ولم يعُد إليه هدوءُه حتى سمِع باب الدير يُغلق وراءه.

أما الأم فقد أخفى الجميع عنها النبأ، وتعهَّدها أحدُ آباء الكنيسة بالرعاية، وراح ينقل إليها أخبار الحبيب الذي لم يَرَه، وينصحها بأن تهتم بالطفل وتضَع ثقتها في الله، وبدأ يُطلِعها على خطيئتها شيئًا فشيئًا، ويُهيِّئ روحها المتدينة للإنابة والتوبة.

ونمَت الطفلة وتفتَّحَت طبيعتُها الغريبة مع الأيام؛ تعلَّمَت المشي والغناء بأسرعَ مما كان يُقدَّر لطفلةٍ في مثل سنها، بل لقد أتقنَت العزف على القيثار بغير أن يُعلِّمها أحد، ولكنها كانت تكشف عن عجزها عن التعبير، الذي لم يكن راجعًا إلى نقصٍ في أعضاء النطق بقَدْرِ ما كان راجعًا إلى عجزٍ في قدرتها على التفكير، وكانت الأم تراها وهي تلعب وتنمو أمام عينَيها، ويُعذِّبها الصراع الذي يدُور في نفسها بين فَرحة الأم بابنتها وبشاعة الجريمة التي كانت سببَ وجودها.

وأخذوا الطفلة منها لتعيشَ مع قومٍ يسكُنون عند البحيرة، ولاحَظَ الناس ولعَها بتسلُّق الجبال وحبها للسير فوق القمم وتقليد راقصي الحبال الذين كانوا يَفِدون كثيرًا إلى تلك المنطقة. كانت تقفز وتجري، وتغيب عن البيت وتتوه بعيدًا، ولكنها كانت تعودُ دائمًا، هناك يجدُونها تحت أعمدة المدخل الرئيسي لأحد البيوت الريفية المجاورة، تجلِس لحظاتٍ على الدَّرَج لتستريح ثم تنهض لتسير في القاعة الكبيرة وتنظُر إلى تماثيلِ المرمر قبل أن تعود إلى البيت، ولكنها ذهبَت في يومٍ من الأيام ولم تعُد، ووجَدوا قُبَّعتَها طافيةً على سطح الماء، غير بعيدٍ من الموضع الذي ينحدر فيه أحد الأنهار إلى البحيرة، ورجَّح الناس أن تكون قد سقَطَت بين الصخور وهي تتسلَّقها على عادتها، ولكنهم لم يعثروا لجسدها على أثَر.

وسمِعَت الأم بوفاة ابنتها، فتلقَّت النبأ في هدوء وصفاء، وربما أظهَرت شُكرها لله الذي استَردَّ وديعته المسكينة، وأراحها بكارثة موتها من كارثة أكبر في حياتها، واعتقدَت أن الطفلة قد كفَّرت عن خطيئتها وخطيئة أبوَيها، وأن اللعنة التي نزلَت عليها قد رفعها الموت عنها. وانتشَرت الخرافات عن البُحيرة التي تطلب بين حينٍ وحينٍ فتاةً بريئة، ولا تُطيق الجثث الميتة، بل تَقذِفها إلى الشاطئ حتى آخرِ عظمة فيها، وعن الأُم التي غَرِق طفلها في الماء، فراحت تدعو الله والقدِّيسين ألَّا يَحْرموها من عِظامها، وتتجوَّل على الشطآنِ لتجمعَ العظام التي يلفِظها الموج، وقذَفَت العاصفة بالجُمجُمة، ثم لَفظَت الجذْع، ولمَّا اجتمعَت العظام لفَّتْها في ثوبٍ وذهبَت بها إلى الكنيسة، ولم تكَدْ تدخُل من بابها حتى أحسَّت بأن الثوبَ ينتفخ، ولم تكَد تضعُه على درجات المذبح حتى بدا الطفل يصرخُ ويخرجُ من الثوب كاملًا، ولم ينقُص فيه شيء سوى عظمةٍ صغيرة في الإصبع الأصغر لليد اليمنى، لم تسترح حتى عثَرت عليه، ودفنَتْه في الكنيسة.

تأثَّرت الأمُّ المِسْكينة بهذه الحكايات، فلم تنقطِعْ عن التجوُّل على الشاطئ أملًا في العثور على عظامِ ابنتها. لم يكن أحدٌ يجد في نفسه الجرأة ليُصارِحها بأن العظام التي تجمعُها ليست إلا عظام حيوانات وأسماك ميتة، فقد كانت تعيش على أملِ أن تَحمِل طِفلتَها ذات يومٍ إلى كنيسة القديس بطرس في روما، لتضعها أمام البابا وبقية الآباء، ليُعلنوا بين صيحات الجماهير أن خطيئةَ أبوَيْها قد غُفرَت إلى الأبد، وكان الناس يرونها كل يوم وهي عائدةٌ من الشاطئ، تضُم يدَيْها في حنانٍ على العظام الصغيرة، فيقفون ليُشبِّكوا أذرعهم على صدورهم ويُسرِع الأطفال إلى تقبيل يدَيها وطَرَف ردائها.

واقتَرحَ الطبيب أن يضَعوا إلى جانب العظام التي دأَبَت على جمعها هيكلًا عظميًّا صغيرًا، لعله أن يعينها على الشفاء، أو يرُدَّها عن البحث الذي لا ينتهي ويُضاعِف أملها في السفر إلى روما. وكان ما توقعه الطبيب؛ فقد كانت فرحةُ الأم تزداد مع كل قطعةٍ جديدة يُقدِّمونها إليها، حتى اكتمل الهيكل العظمي الصغير، فعَكفَت عليه تُشبِّكه بخيوط الحرير، كما هي العادة المتبعة مع عظام القديسين. وفي يوم من الأيام جاء الطبيب لزيارتها، وأرادت السيدة العجوز التي ترعاها أن تُريَه كيف تُمضي وقتَها فأخرجَت الهيكل من صندوقه لتعرضه عليه، كانت الأم في تلك الأثناء نائمة، وحين استيقظت ذهبت إلى الصندوق ففتَحَتْه، وخرَّت على رُكبتيَها راكعةً وهتفَت في فرح: «نعم! إنه حق! لم يكن حلمًا. إنه حق! افرحوا معي يا أصحابي! لقد رأيت الطفلة الجميلة مرة أخرى، وقفَت أمامي وألقت القِناع عن وجهها الساطع، وغمر نورها الحجرة، وتجلَّت كالملائكة، وارتفعَت عن الأرض، ولم تستطع أن تُعطيَني يدها على الرغم من محاولتها، ولكنها نادت عليَّ ودلَّتْني على الطريق. سأتبعها على الفور يا أصحابي، وسيفرح قلبي. حزني تلاشى ورؤية طفلتي التي بُعثَت حيةً جعلَتْني أُحسُّ بطعم السعادة في السماء.» من ذلك اليوم انصرفَت بكيانها عن كلِّ ما يتصل بالأرض، وأخذَت روحُها تتحرر شيئًا فشيئًا من قيود الجسد، حتى وجدوها في النهاية شاحبة الوجه، ولم تفتح عينَيها بعد ذلك أبدًا؛ فقد كانت قد أصابتها الحالة التي نُسمِّيها بالموت.

أما أخوها أوغسطين فقد لَبِث مقيمًا في الدير، منع الرهبان أخوَيه من زيارته، فكانا يذهبان للاطمئنان عليه من بعيدٍ وهو يسير في حديقة الدير أو ممراته. وكانا يسمعان أنه دائم القلق، لا يستريح لحظةً إلا إذا جلَس ليعزفَ أو يُغنِّي على قيثارته، وأنه يرى في الليل رؤيا تُعذِّبه وتقتُل نومه؛ غلامًا جميلًا يقف إلى جوار فراشه ويُهدِّده بسكينٍ لامع في يده، وتُعاوده الرؤيا بالنهار وهو يسير في فِناء الدير فلا يدري وسيلةً للهروب منها إلا بالمزيد من القلق والعذاب، وكم كان منظره يُؤثِّر في القلب وهم يرونه واقفًا في نافذة زنزانته ينظر إلى ما وراء البحيرة! ومع أن الجميع أخفَوا عنه نبأ وفاة زوجته وشقيقته وكيف أصبحَت قديسةً يحُج إليها الشعبُ ويتَبرَّك بها، فلا يدري أحدٌ كيف عرف الخبر، ولا كيف استطاع أن يُنفِّذ خطة الهرب من الدير في دهاءٍ مذهل. وفي الليل ذهب إلى حيث رقدَت حبيبته، لم يكن هناك إلا بعض المتبتلين حول تابوتها، وصديقتها العجوز عند رأسها. نظر إلى الجثمان لحظةً ثم مدَّ يده وتناول يدَها، ولما أفزعَتْه برودتُها تركها تسقُط من يده وتلفَّت حوله قلقًا قبل أن يقول للعجوز: لن أستطيع أن أبقى معها الآن؛ فأمامي سفرٌ طويل، ولكنني سأعود في الوقت المناسب، فأبلغيها ذلك حين تصحو!

•••

هل تعرف البلد الذي تزدهرُ فيه أشجار الليمون؟

في الشجر المُعتِم تتوهَّج ثمار البرتقال الذهبية؟

قلنا من قبلُ إننا نُفاجأ بهذه الأبيات في مطلع الكتاب الثالث من رواية فيلهلم ميستر، إنها تبدو كصوتٍ غريب على عالم الرواية الواقعي، لا هو يجد مكانه في سياق النص كسائر الأشعار، ولا هو ينمو من موقفٍ مُعيَّن فيها، وحين ننتهي من قراءتها لا ندري من الذي يُغنيها، حتى إذا عرفنا أخيرًا أنها الطفلة المسكينة «منيون»، عاودَتْنا الحَيْرة فلا ندري عن أي شيءٍ تُغنِّي ولا أي بلدٍ تقصد؛ فها هو ذا التتابُع الزمني الذي تجري فيه الأحداث قد انقطع، وها هي ذي قوةٌ غريبة قد نفذَت إلى دائرة الحياة اليومية للأبطال، قوةٌ تخلع الزمن — هذه الصورة التي لا يكون بغيرها فكر ولا وجود — من أساسه، وترفض أن تنضوي تحت قوانين العالم المعقول، وهي لا تخرج بنا عن الزمان فحَسْب، بل تُقصِينا كذلك عن كل بُعدٍ مكاني حين تسأل عن مكانٍ لا تعرفه ولا تُسمِّيه، مكان لا السائل يدريه ولا المسئول، شيء كأنه يأتي من وراء العالم يحمل معه رعشةَ السر وغموض الأرواح. صحيح أن الكاتب يُفيض في وصف الأغنية فيقول إنها تصدُر من أعماق القلب في صوتٍ مُؤثِّر بالغ التعبير، فائق الروعة والسحر، ومع ذلك فهو بهذا الوصف لا يزيدُنا إلا حَيْرة، والجهد الذي يبذُله ليُدخِلها في نسيج الواقع لا يستطيع أن يسُدَّ الهوة التي انشقَّت فجأة في أرض الواقع، ثم إن الأغنية التي تقرؤها ليس هي نفسها أغنية منيون، بل ترجمةٌ ألمانية لها، لا تستطيع أن تُحاكي الأصل إلا من بعيد. صحيح أننا نعلم من قراءتنا للرواية أن شخصية منيون خليط من دماءٍ فرنسية وإيطالية وألمانية، كما نعرف عن طفولتها أنها كانت تُعاني صعوبةً في الكلام، لعلها أن تكون نتيجةً لاضطراب الفكر أكثر من أن تكون خللًا في أعضاء الكلام.

ومع ذلك فإن الكاتب يؤكد لنا أن الأغنية مُترجَمةٌ عن «لغةٍ غريبة»، أية لغة هذه؟ لا يمكن أن تكون هي اللغة الإيطالية، وإلا لكان الحوار الذي يأتي بعدَها بين فيلهلم ومنيون عن البلد الذي تقصده لا داعي له، وبخاصة وأن الكاتب يرفُض أن يُحدِّده بأي بلدٍ معين ولو كان هذا البلد هو إيطاليا، إذن فلا بد من الجواب الوحيد عن السؤال السابق، مهما بدَت غرابة هذا الجواب. إن الأغنية لا تتكلَّم بأية لغةٍ على الإطلاق، والمعاني التي تُحاوِل أن تنقلَها إلينا لا تَتجسَّد في لغة، ولو لم يكن الأمر كذلك لما قال الكاتب إنها ممزَّقةٌ لا ترابُط فيها وإن ترجمة فيلهلم لها هي التي جعلَتْها على ما هي عليه، وأدخلَت عليها التناسُق والالتئام.

وحتَّى هذه اللغة الجديدة التي ظَهَرت فيها ليست إلا انعكاسًا باهتًا لها، والرداء الذي ظَهرَت به ليس إلا صورةً شاحبة لمعنًى غيرِ أرضيٍّ يفلِتُ من كل تحديد، وتصبح القصيدة بذلك قطعة مما يمكن أن نُسمِّيه بالشعر الأصلي الذي تُحاوِل اللغة عَبثًا أن تلتقِطَه في الكلمات، تُصبِح، إن جاز التعبير، جوهرًا أو مثالًا أفلاطونيًّا تُعوِزُه المادة. وليس من قبيل المصادفة أن يقف المؤلف عند اللحن فيقول إن سِحرَه لا يَعدِله شيء، وأن يتحيَّر القارئ أمامها فلا يفهم كلماتها ولا يدري أي بلدٍ تقصده. وليس أسهل علينا من القول بأن البلد هي إيطاليا، وأن الأغنية تُعبِّر عن حنين منيون وحنين الشاعر إلى إيطاليا، ولكن الرؤية التي تنقلها إلينا لا تقبل هذا التحديد؛ فليست رؤيا مكان؛ لأنها تخرجُ من حُدودِ عالم المكان والزمان، وليست رؤيا باﻟ «كلمات» لأنها تنقلنا إلى مملكة من الألحان الخطرة التي لا تعرف الكلمات أو إلى منطقة الأسرار التي تخلو من «الترابط» والتلاؤم والانسجام.

منيون تقول: إلى هناك! إلى هناك! ثلاث مراتٍ تُلِحُّ على حبيبها وسيدها وراعيها أن يمضي بها إلى «هناك»، وهناك هذه لا بد أن تكون مكانًا يندفع إليه شوقها وتوسُّلاتها؛ فهو مرةً «بلد» وأخرى «بيت»، وثالثةً جبل في ثلاث مقطوعاتٍ متتالية. هل نقول إنها تُعبِّر عن شوقها إلى الجنوب، إلى إيطاليا بلد الدفء والنور؟ قد يصح هذا على المقطوعتَين الأُوليَين، ولكن ما بالُ المقطوعة الأخيرة تنتهي بنا حيث كان ينبغي أن نبدأ؟ وكيف تَصِف الطريق المُفزع — لعله ممر في جبال الألب، تزدحم فيه ذكرياتٌ مخيفة عن مغامراتِ الطفلة بين الصخور وفي أعالي الجبل وعند الجدول المُتدفِّق — بعد أن انتهت من وصف البلد والبيت الذي تقصده؟ هذه الرؤى القلقة التي تمتلئ بها المقطوعة الأخيرة من الأغنية من جبل يلفه السحاب والضباب، وكهوف تسكُنها سُلالة التنين، وصخور تَهوي ومن فوقها الطوفان؛ هذه الرؤى لا يمكن أن تنسجم مع الشوق إلى الجنوب، ولا يمكن أن يكون لها مكانٌ في إيطاليا. لا مفَر إذن من تفسير هذه المقطوعة الأخيرة من داخل القصيدة لا من خارجها وبغير أن نُقحِمَها قسرًا في حياة الشاعر أو ظروفه النفسية! ولا بد بالتالي أن نُسقِط عبارة الحنين إلى إيطاليا من حسابنا.

لا شك أنه حنينٌ هذا الذي يرفُّ علينا من الأغنية، حنينٌ تنطق به كلماتها كما ينطق به لحنها، لكنه حنين من نوعٍ خطير ومخيف؛ فالهدف الأخير من الرحلة الذي تُلحُّ عليه منيون ليس بلدًا ولا بيتًا، ولكنه شيء وراء العالم، شيء لم تخطُ فيه قدَم ولم تَرَه عين إنسان. إنها تتحدث عن جبل يسير دربه في السحاب، وهو في حقيقته درب يسير إلى اللامتناهي، درب لم يُخلق لتسير عليه الأقدام، والطريقُ مُعتِم يخترق الضباب، ويزدحم بكائنات من عالمٍ خرافي؛ فهنا التنِّين، وحشُ ما قبل التاريخ أو وحشُ نهاية التاريخ وعلامة انقضائه. وتكتمل صورة الانهيار الكوني حين تتحدث القصيدة عن الصخور التي تهوي من فوقها الطوفان.

إن منيون تتغنى هنا بهذا الطريق الجميل المخيف إلى العدم، إلى الموت، إلى الأبد الساكن المميت، الذي اختفت منه الأجسام والأشكال، وراح السحاب والضباب والطوفان يُغرِق كل ما هو ثابت ومرئي فيه، هو طريقٌ يصعد في أوله إلى أعلى، إلى حيث تتلاشى كل صورة عن المكان، ولكنه سرعان ما يعود فيهبط فجأة إلى الهاوية حيث تنحدر الصخور؛ ذلك أن عالم الأبد، أو بالأحرى ما ليس بعالم ولا يُوجَد في عالم، يستوي فيه الأعلى والأدنى، والقمة والقرار «اهبط إذن، أو أستطيع أن أقول اصعد؛ فالأمر سواء.»

ألا يدور الزمان كذلك على نفسه؟ ألا تلتحم البداية بالنهاية؟ وإلا فما هو المعنى الأصيل الذي ينبغي أن نفهمه من «أبناء التنين العجائز»؟ أليست صورةً للانهيار الكوني، لليوم الأخير؟ ألا تنحل أجزاء الصورة إلى العناصر الكونية الأولى؟ ألا تجتمع الأرض (الجبل والصخر) والهواء (السحاب والضباب)، والماء (الطوفان) والنار (التنين رمزٌ للحيوان الذي ينفُث النار في التصوُّر الشعبي) في هذه الصورة المفزعة الأخيرة؟

ومع ذلك فإن منيون تُلحُّ على حبيبها وراعيها أن يحملها إلى هناك، إلى موضع بعيد وراء كل مكان وزمان. ومن هنا تغير نداؤها الأخير هناك! أود أن أمضي معك يا حبيبي، لأنها كانت تعرف البلد كما تعرف البيت، غير أنها تقول الآن: إلى هناك، إلى هناك، آه أيها الأب، دعنا نذهب. فلا تحدد مكانًا ولا هدفًا، بل تترك الطريق مفتوحًا بلا هدف محدد يصل إليه. وليس عجيبًا بعد ذلك ألا تخاطب السيد ولا الحبيب بل تقول أيها الأب، فترمز بذلك للألوهية نفسها.

إذا فهمنا المقطوعة الأخيرة بهذا المعنى، أمكن أن نفهم المقطوعتين السابقتين على ضوء هذا التفسير، وأصبح من السهل أن نجعلهما مرحلتين من مراحل الطريق الموصل إلى راحة الأبد أو سكون العدم. بذلك تصبح المقطوعات الثلاث صورًا مختلفة لرؤيا ميتافيزيقية واحدة، لا يمكن أن نستبعدها على شخصية «منيون» المفعمة بالأشواق والأسرار.

حقًّا إن المقطوعة الأُولى ترسمُ لنا خلفيةً من الطبيعة الإيطالية، ولكننا لا يجبُ أن نقفَ عند أشجار الليمون والريحان والغار أو عند ثمار البرتقال الذهبية بما هي أشجار وثمار؛ ذلك لأنها رمز للحياة نفسها. صحيح أن النباتات التي تُصوِّرها لنا نباتاتٌ تنمو في الجنوب، ولكن الصورة ترسمُها لنا في حالة النماء العضوي الذي تتطور فيه حركة الحياة؛ أزهار الليمون هي النبات في مرحلة التفتُّح، وثمار البرتقال الذهبية هي النبات في مرحلة النضوج. صباحٌ ومساءٌ يطويان رحلة النبات من الزهرة المتفتِّحة إلى الثمرة الناضجة، حتى تُتوَّج الصورة بأشجار الريحان والغار، والقارئ يعرف أنهما رمز الحياة الأبدية على اختلاف الشعوب والعصور؛ فهي أشجارٌ دائمة الخضرة، تكشف فيها الطبيعة عن الثبات في التغيُّر، والتغيُّر في الثبات وهي الظاهرة التي طالما تحدَّث عنها جوته؛ ولذلك فهي أَوْلى الأشجار بأن تُوصَف بالتحرُّر من قيود الزمن.

ومنيون لا تتغنَّى هنا بصورةٍ من صور النبات، ولكنها تُذكِّرنا بحكاية الحياة والنماء؛ هناك الصباح والمساء، وهناك الاخضرار الدائم إلى الأبد، والحياة التي تدور في دورة العَوْد الأبدي الذي لا ينتهي. إن الطفلة تسأل في احتفال، كأنها تُشير بإصبعها أو تُحاوِل أن تلفت الأنظار؛ ذلك لأنها تتغنَّى بسر الحياة نفسها. وقد لا يخلو من معنًى أن نتذكَّر كيف أن الشاعر في كتابته الثانية للقصيدة قد استبدلَ الشجر الأخضر بالشجر المُعتم، وشجرة الريحان «المرِحة» بشجرة المسك الساكنة، ولعله أحسَّ أن الظلام والسكون أنسبُ للتعبير عن دورة الحياة الخالدة وأكثرُ اتفاقًا مع الثبات والنضوج.

فإذا انتقَلْنا إلى المقطوعة الثانية وجدنا أن تيارَ الحياة قد توقَّف، وأن الزمان الذي يتحرك فيه كل ما هو حيٌّ قد أخلَد إلى السكون؛ فالأغنية تدُور الآن في عالم المكان النقي الخالص الذي لا يتحرك فيه شيء؛ إذ لا حركة بغير زمان. لقد تجمَّدَت الحياة في صورة المكان المُطلَق؛ فهنا البيت والأعمدة والقاعة والمخدَع؛ كل شيء هنا ساكنٌ وهادئٌ ومطمئن، حتى الأفعال تلاشت منها الحركة! إنها تلجأ إلى أفعال مثل: يَطمئِن ويلمَع ويتألَّق ويقِف، بعد أن كانت تلجأ في المقطوعة السابقة إلى أفعالٍ مثل: تزدهر، وتتوهَّج، وتهُب. والبيت الذي تصفُه لا يمكن أن يكون بيتًا مما يسكُنه الأحياء بل بيتُ الأموات الذي يمتلئ بتماثيل المرمر، ليس بيتًا من بيوت البشر، بل هو «البيت» على وجه الإطلاق؛ فكل شيءٍ فيه نحتٌ ومعمار، وكل شيءٍ فيه فن، وهل يصنع الفن شيئًا غير هذا؟ أليس هو الذي «يُخلِّد»، أليس هو الذي يُوقِف تيار الحياة المُتدفِّق «ليُثبِته» في لوحة أو قصيدة أو تمثال. وهل يكون عجيبًا بعد ذلك أن يكون الفن قاسيًا على الدوام؛ لأن قسوته تُقيِّد المعنى في الكلمة، وتأْسِر الفكرةَ في الحجر واللون، وتسجل النغمة في الصوت. هل قلت يقسو؟ لا بل يقتُل ويخنُق الحياة فيما ليس فيه حياة. ومع ذلك، ويا للمفارقة، يمتلئ العمل الفني بالحياة، بعد أن يتجرد من الحي أو بعد أن يَفنَى الفنان! ولم يَبعُد أرسطو عن الحقيقة كثيرًا حين قال إن الفن «ميمزس» (محاكاة) فليس الفن هو الحقيقة الحية والواقع المُتدفِّق، بل هو الحقيقة المُتمثِّلة، والواقع المُتصوَّر الذي نُشاهِده وننفعلُ به ثم نُثبِته (أو قل نقتلُه!) في كلمة أو حجر أو لون! ومع ذلك فلا خلاص إلا بالفن، أو لنقل مع «شوبنهاور» أن الفن هو السبيل الوحيد إلى الخلاص من وحش الزمان المُجتَر، وهو الحالة السعيدة التي تقف فيها إرادة الحياة لتهدأ وتطمئن بعد طُولِ صراع.

لذلك تسأل تماثيلُ المرمر طِفلتَنا المسكينة بعد أن ختمَت رحلةَ العذاب وبلغَت بلد الضباب: ماذا فعلوا بكِ يا طفلتي المسكينة؟ فالفن لا يسأل الآن على لسان التماثيل المرمرية عن الحياة التي لا تتوقف حركتها، والتي لا تعرف هدفًا غير ذاتها بل يسأل: لِمَ كان كلُّ هذا؟ وما معنى تلك الرحلةِ كلها؟ لأن الفن وحده هو الذي يستطيع أن يتوقف ويتأمل، وهو وحده الذي يستطيع أن يتخلص من حركة الحياة وعَنائها وتطوُّرها. ماذا فعلوا بكِ؟ والسؤال ليس مُوجَّهًا لكِ وحدكِ يا منيون بل لكلِّ طفلٍ مسكينٍ قُذِف به إلى الحياة أو حُكِم عليه بالحياة. إنه سؤالٌ يفيض بالشفقة والأمومة والحنان؛ فالفن وحده هو الذي يستطيع أن يهَب العزاء، والبيت الهادئ الذي تقف فيه تماثيل المرمر وتسأل كلَّ طفلٍ مسكينٍ عن الظلم الذي عاناه هو المكان الوحيد الذي تستطيع منيون أن تستريح فيه مع كل الأطفال.

ومع ذلك فإذا كان الفن وحده هو الذي يهَب العزاء، فهو وحده الذي يعزل الإنسان عُزلةً مخيفة؛ لأنه هو الفن «المميت» أو بيتُ الأموات الذي لا يجد الإنسان فيه غير تماثيل المرمر الباردة، وغير القاعات التي تلمَع، والغرف التي تتألَّق بغير دفءٍ ولا حياة.

وليست منيون وحدها هي التي تُريد الهرب إلى هذا البيت؛ لأن كل فنانٍ يُريد أن يلجأ إليه، على الرغم مما ينتظره فيه من العذاب، لا بل من نهايةِ كلِّ عذاب، والشاعر نفسه قد لجأ إليه في شباب على لسان طفله المسكين «فرتر» الذي هرب بالانتحار إلى بيت العدم «لأنه لم يستطع أن يجد الحب في بيت الحياة.» أعني لم يستطع أن يتشبَّث بالحي، وأورست (في مسرحيته «أفيجينيه») قد هرب إليه بأشواقه إلى العالم السفلي وحنينه إلى أن ينزع من صَدرِه تَشنُّج الحياة، وكذلك الشاعر المسكين «تاسو» الذي اضطُر أن يُقيم في بيت الفن بعد أن عانى مرارة الفشل في بيت الحياة؛ كلهم إخوةٌ للطفلة المسكينة منيون، وكلهم أبناءٌ للشاعر «جوته» الذي أحَسَّ بقوة الفن القاهرة للزمن، القاتلة للحياة كما لم يُحسَّها أحدٌ بعده حتى توماس مان.

في هذا البيت المميت تقف تماثيل المرمر، لا تتحرك ولا تتكلم، حتى سؤالها الحنون تقوله قبل أن تنطق به الكلمات. إنها جامدة جمود الموت، ساكنة سكون الخلود، مع ذلك فنظرتُها تسأل السؤال الرحيم: ماذا فعلوا بكِ يا طفلتي المسكينة؟ ماذا جنَوا عليكم، يا أيها الأطفال؟

•••

هكذا تتتابع المقطوعات الثلاث واحدة بعد الأخرى، كأنها محطاتٌ على طريق السفر الطويل، على الدرب الذي لا عودة منه. لقد سارت من مملكة الحياة الزاهية إلى مملكة الموت الساكنة، حتى وصلَت إلى العدَم الذي لا شكل فيه ولا شيء؛ ذلك هو حنين منيون إلى سكون الأبد، إلى الخلود الميت أو الموت الخالد. وإلى هذا الهدف المخيف تحاول أن تُغري فيلهلم وتُلِح عليه متوسلة «إلى هناك! إلى هناك! يا سيدي ويا حبيبي.» غير أنها حين تصل إلى المرحلة الأخيرة من رحلتها الرهيبة لا تعود تُخاطبه ولا تقول له يا أبي بل تقول «أيها الأب.» ذلك لأنها لم تعُد تتوسل إلى بشرٍ لا يملك أن يمضي بها إلى راحة الموت أو طمأنينة الخلود، ولا تجد أحدًا تخاطبه غير «الأب» في السماء.

إن صور هذه الرحلة تعود في فصول الرواية الأخرى، في المكان الذي نشَأَت فيه عند البُحيرة التي ظنوا أنها غَرِقَت فيها، في الموضع الذي دار فيه ذلك الحب المُحرَّم بين أبيها وأمها الشقيقَين، وكل هذه الأمكنة تصبح رموزًا في الأغنية الفريدة وخيوطًا في نسيج الرؤية الغريبة التي تحملُها الطفلة المسكينة في صدرها. إنه ذلك الشوق المخيف إلى عالمٍ تستريح فيه، تبوحُ به إلى حبيبها وراعيها حين تُعبِّر عن حنينها إلى الحياة نفسها وإلى بيت الخلود المقيم. لكن يبدو أن هذا الشوق أخطر مما تظن؛ فهو لا ينتهي إلى الموضع الذي ينتهي فيه عذابها فحسب، بل ينتهي فيه العالم بأَسْره فتتحلَّل عناصره ويَنحدِر في قاع الكارثة؛ ولذلك لم تستطع أن تستنجد بالحبيب ولا السيد الذي يحميها، وإنما لجأت إلى الأب أو الإله لعله يرحمها في ذلك الموقف العصيب. هناك يتلقَّى الإله المخلوق المسكين ويضمُّه إليه، وهناك يصل الحنين إلى غايته، ويخفُت الصوت القائل: إلى هناك! إلى هناك! أَوَدُّ أن أمضي معك يا حبيبي.

•••

ذلك هو الحنين الذي عبَّرت عنه «منيون» ودفعَت حياتها من أجله، كما كانت الضحية التي قدَّمَها الفنان جوته إلى معبد الفن القاتل المخيف؛ قدمها وقلبُه يتمزَّق، حتى تُكتَب له الحياة كإنسان يريد أن يعيش ليخلق. ومهما يكن رأينا في هذا الشوق الغريب المخيف، ففي صَدرِ كلِّ واحدٍ منا شيءٌ من هذا الشوق، يستيقظ لحظةً في حياتنا فنهتفُ بأحبَّائنا، أو نهتفُ بأنفسِنا إن لم نجد من يسير إلى جوارنا: هل تعرف البلد البعيد؟

١  يُستحسَن الرجوع إلى الرواية الأصلية، كما يستطيع القارئ أيضًا أن يرجع إلى مقالةٍ عن أغنية منيون في هذا الكتاب الذي اعتمدتُ عليه كثيرًا: Seidlin, Oskar; Von Goethe Zu Thomas Mann, s. 23–37—Göttingen, Vandenhoeck und Ruprecht, 1963.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤