انتظر فسوف تستريح

حول قصيدتين لجوته وبرخت
فوق كل القمم
هدوء،
على أعالي الشجر جميعًا
لا تكاد تُحِسُّ
نفسًا واحدًا،
الطيور الصغيرة صامتة في الغابة.
انتظر فحَسْب،
أنت أيضًا
سوف تستريح.
قصيدة كتبها جوته في ليلة السادس من شهر سبتمبر عام ١٧٨٠م، على جدار كوخٍ خشبيٍّ متواضع، بالقرب من «المنأو»، كان قد تعوَّد في أسفاره أن يقضي الليل فيه. القصيدة تحمل عنوان «قصيدة مشابهة»، وتأتي في طبعاتِ أشعاره على صفحةٍ واحدة بعد قصيدةٍ أخرى جعل عنوانها «أغنية متجولٍ في الليل»١ ويرجع تاريخها إلى عام ١٧٧٦م.
أنت يا من تأتي من السماء،
وتسكن كل العذاب والألم،
وتملأ قلب من تضاعفَت تعاسته
بالسرور المضاعف،
آه! لقد تعبت من الترحال
ما معنى الألم كله؟ ما معنى السرور؟
يا أيها السلام الحلو
تعالَ، آه تعالَ إلى صدري!

في القصيدة الأولى يُعبِّر الشاعر عن شَوقِه إلى الراحة والهدوء، في عالمٍ تلفُّه السكينة والسلام. إنه لم يصل إلى هذا الهدوء بعدُ، ولكنه يتهيأ له في ثقة، وينتظره في اطمئنان، وبناء القصيدة نفسه يُعبِّر عن هذا الهدوء، ويعكس التجانُس الكامل بين التكوين اللغوي وبين حركة الإيقاع في الطبيعة. ليس هناك انفصالٌ أو تنافُر بين إحساس الشاعر الذاتي وبين حالة الطبيعة الموضوعية بل توازُنٌ كامل بين الرؤية الكونية وبين الإحساس الكوني. إن «الأنا» لا تُطِل برأسها لحظةً واحدة، ولا تُفسِد الانسجام الشامل السعيد. إنها تشعُر بنفسها كما لو كانت قاربًا صغيرًا يتهَدْهد على سطح البحر الكبير، وتتحد مع العالم المحيط بها فلا تعود تقول له «أنا» و«أنت»، والشاعر نفسه يخاطبها بقوله «أنتِ»، كما خاطب العالم الكبير من قبل وقال له «أنتَ». ما من صراعٍ أو تضادٍّ تُحاول القصيدة أن تُعبِّر عنه، بل استسلامٌ وديع وانتظارٌ هادئ، واطمئنان إلى أن النفس التي لم تتخلص بعدُ من عذابها ستستريح يومًا من الأيام على صدر الأم الكبيرة.

القصيدة تهبط شيئًا فشيئًا في خطٍّ ناعمٍ يمتد من القِمَم العالية إلى أعالي الشجر في الغابة، حتى تصل إلى الأرض التي يقف عليها الشاعر. إنها تسير من الجو الخارجي إلى الجو الباطني، من اللانهاية الشاملة إلى قمم الجبال الصماء، ثم تتدرج في سُلَّم الحياة العضوية من الأشجار إلى الطيور إلى الإنسان، حتى تُصبِح القصيدة نفسها عالمًا عضويًّا صغيرًا يعكس العالم العضوي الكبير. ما من تشبيهٍ أو وصف، أو رمز، أو استعارة، بل ثلاثة حقائقَ بسيطة تنتهي بأمل في المستقبل. على أن نقص الصفات والأسماء المفردة لم يجعل من القصيدة شيئًا باردًا جامدًا، بل بث فيها روحًا كونيةً نابضة. إنه يقول القمم، والطيور، وأعالي الشجر، لا يُخصِّص منها شيئًا أو يُسمِّيه، بل يلمح النموذج العام الذي يختفي وراء الأفراد، ويرى الوجود الأزلي الكائن وراء الظواهر، ثم يُعبِّر عنه بكلماتٍ مباشرة بالغة التعميم والبساطة، ويصوغه في إيقاعٍ موسيقيٍّ واحدٍ منسجم.٢
إن اللغة نفسها تكشف مباشرةً عن إحساس الشاعر برهبة السكون في المساء؛ فيكفي أن نقرأ كلمة هدوء Ruh ونمد «الواو» فيها لنشعرَ بالهدوء الشامل الذي يُرفرِف بجناحَيه على الطبيعة بعد الغروب. والهمسة الرقيقة في كلمة «نفس Hauch» تكاد تُصوِّر لنا الطبيعة كلها كأنها كائنٌ يزفُر زفرة المستريح، أو كأنها بين أوراق الشجر أنَّات الريح. إن الشاعر يكاد يحبس أنفاسه وهو يتصنَّت إلى آخر أنفاس الرياح وهي تُحتضَر بين الأوراق، ويصبح السكون هو الكلمة الرئيسية في القصيدة، وتطوف الذات المستغرقة في الكل بالقمم والأشجار والطيور الناعسة لتعود إلى السكون الشامل في الطبيعة وفي القلب. إن اللغة لم تعد في حقيقة الأمر تُصوِّر السكون في المساء، بل أصبحت هي نفسها سكون المساء، والراحل المتجول في الليل والغابة لم يعُد يُواجه الطبيعة ليملأ عينَيه منها، أو ليلاحظ الهدوء الذي سيلمس صدره المتعب ذات يوم، ولم تعُد الطبيعة شيئًا آخر يحيط به أو يعكس أشواقه ومشاعره، بل لقد ذاب بكُلِّيته فيها، واتحدت نبضاتُ قلبه الصغير مع قلبها الكبير، وأصبح يُحس بنفسه كما لو كان قطرة ماء في المحيط. إنها الآن تعانقه، وترى فيه نهاية تطورٍ عضوي طويل، سار من غير الحي إلى الحي، ومن المعدن إلى النبات إلى الحيوان، من قمم الجبال، إلى أعالي الشجر، إلى الطيور، إلى الإنسان. ولغة القصيدة لا تُعبِّر عن عملية الخلق الأزلية في الطبيعة فحَسْب، بل لقد أصبحَت هذه العملية نفسها لغة صاغها الشاعر في مادته، وأذاب التجربة الذاتية والتجربة الموضوعية في بوتقةٍ صغيرة، جمعَت حكمته الكونية الشاملة. وكأني بفاوست الذي بذل حياته في البحث والعَناء ينتظر أن تُحقِّق السماء وَعْدَها له بالخلاص.

القصيدتان المذكورتان مرتبطتان ارتباطًا وثيقًا بحياة جوته. لقد كتبهَما في أوائل عهده بالإقامة في بلاط «فيمار»، بين عامَيْ ١٧٨٠م، ١٧٨٦م، في منتصف الطريق بين شبابه في فرانكفورت وبين رحلته الشهيرة إلى إيطاليا. كلا القصيدتَين يصل إلى الصياغة العبقرية ويُمثِّل ذروة شاعرية يعجز كل تفسيرٍ نثري عن التعبير عنها، وكلا القصيدتين يُعبِّر بالمقطع الواحد المُركَّز والنغْمة الباطنية الحرة عن الطابع المميز لأعظم قصائد جوته؛ فهما شخصيتان إلى أبعدِ حد، كما أنهما عامتان إلى أبعدِ حَدٍّ أيضًا. إنهما تُصوِّران موقفًا شخصيًّا مَرَّ به الشاعر في قمةِ نُضجِه الكلاسيكي. كان وجدانه في ذلك الحين مسرحًا لألوان من الصراع تتطاحَن فيه، بينما كان عقله المتيقِّظ أبدًا قد حدَّد له الطريق وبيَّن له الهدف، ولكنَّ القصيدتَين تنطبقان كذلك على كل إنسان يجد نفسه في موقفٍ مشابه، حتى ليكاد يُحِسُّ أنهما قد كتبا له وحده، مثلما يُحِس الإنسان أمام كل عملٍ شِعريٍّ حق.

كان جوته في السابعة والعشرين من عُمره حين ابتهَل إلى السلام أن يلمس صدره: «يا أيها السلام الحلو. تعال، آه تعال إلى صدري!» وكان في الثانية والثلاثين من عمره حين راح يناجي نفسه التي ما زالت تبحث عن السلام: «انتظر فحَسْب. أنت أيضًا سوف تستريح.»

غير أن من الخطأ أن نبحث في حياته الشخصية عن تفسير للقصيدتَين؛ ذلك لأنهما في صميمهما انسانيتان إلى الحد الذي يختفي فيه الشخصي في العام تمام الاختفاء؛ فليس الذي يستنزل السلام على قلبه هنا إنسانًا بعينه، بل هو الإنسان بوجهٍ عام، في كل موقفٍ مشابه يمُر به. إنهما تعبيرٌ طبيعي عن القلب الإنساني، وُضِع في القالب الكلاسيكي؛ أي القالب النموذجي العام.٣

نقول إنهما تعبيرٌ طبيعي، ولكنَّنا لا نستطيع أن نُنكِر سِحر اللغز المُحيِّر فيهما، والذي يجعلنا نسأل أنفسنا كيف استطاع الشاعر بهذا المضمون البسيط، في هذا الشكل المُوجَز، أن يبعَث من قصيدتَيه كل هذا الإشعاع الشعري الباهر، ويُؤثِّر فينا كل هذا التأثير؟ إن دقَّة البناء اللغوي، وسِحْر النغم الشعري، ووَحْدة الحركة الإيقاعية في اللغة وفي الطبيعة؛ كل هذا قد يُساعِدنا على الإحساس بالقصيدتَين ولكنه لن يُقرِّبنا من الحقيقة الشاملة التي تكمُن في القصيدة الأُولى بوجهٍ خاص. هذه الحقيقة لا بد لنا أن نبحث عنها في الجو النفسي والعقلي، في عالم الخيال والشعور الذي تضعُنا فيه، ويتجاوز بنا كلَّ ما تنقلُه إلينا الكلمات.

قلنا إن القصيدتين تُعبِّران عن موقفٍ إنساني عام، ولكن هذا لا يعني أنه موقفٌ عادي بل الأَوْلى أن يُقال إنهما ترتفعان بنا فوق كلِّ ما هو عاديٌّ ومألوف ارتفاعًا لا يصل إليه الإنسان إلا بمقدارِ ما يكون إنسانًا بحق. إنهما صلواتٌ يعلو بها الإنسان فوق الحياة، في طريقه إلى «الكل» أو «الواحد» أو «الله» أو ما شئتَ له من أسماء، ولكن صلوات جوته صلواتٌ عالمية أو أرضية إن صح هذا التعبير، صلواتُ مؤمنٍ بالعالم والأرض التي يرى فيها مجلَى الفعل الأبدي الخلاق. هي صلواتٌ دينية، وإن لم ترتبط بدينٍ معين، يُعبِّر فيها الشاعر عن تقوى المؤمن الذي جعل من الأرض مَعبَده، ومن وحدة الوجود الشاملة عقيدته. قد يكون ما يقوله في هذه القصيدة شيئًا أبسط من البساطة، شيئًا يُخيِّل إلينا أن في استطاعةِ كل إنسان أن يقوله، ولكن المعجزة هنا هي نفس المعجزة في كلِّ شِعرٍ حقيقي، وهي أنه يُعبِّر عما نشعُر به فحَسْب، ويَنطِق عما أَحسَّ به قلب الإنسان دائمًا دون أن يقوى على الإفصاح عنه. انتظر فحَسْب. أنت أيضًا سوف تستريح! من منا لا يقولها لنفسه حين يعزُّ العَزاء، ومَن منا لا ينتظر من الشاعر أن يقولها له؟ ومَن عسى أن يقولها له سواه؟

فوق كل القمم
هدوء،
على أعالي الشجر
لا تكاد تُحِس
نفسًا واحدًا.

كانت هذه هي تجربة جوته الكونية، جمع فيها حكمته المُؤثِّرة النبيلة، وعَبَّر فيها وهو في شبابه عن موقفه الذي لم يتغير في شيخوخته، فإذا تصوَّرنا شاعرًا حديثًا يستعير هذه الأبيات نفسها ليُعبِّر عن موقفه من الحياة والكون والإنسان فكيف يا تُرى تبدو هذه القصيدة؟

إن هذا ما فعله الشاعر برتولد برخت (١٨٩٨–١٩٥٦م) حين كتَب ما يشبه أن يكون متنوعاتٍ شعرية على هذه الأبيات من جوته. لقد سمَّى قصيدته «قدَّاس النسيم»، فلنقرأها معًا لنرى كيف أصبَحَت صلاة جوته الهامسة في يدِ شاعرٍ ثائرٍ حديث:

١

ذات مرةٍ جاءت امرأةٌ عجوزٌ من بعيد،

٢

لم يكن قد بقِي لديها خُبزٌ تأكله،

٣

الخبز أكلَه الجنود.

٤

هنالك سقطَت في البالوعة، وكانت باردة؛

٥

فلم تعُد تُحِسُّ بشيءٍ من الجوع،

٦

عندها صمتَت الطيور الصغيرة في الغابة
على أعالي الشجر،
هدوء
فوق كل القمم،
لا تكاد تُحِسُّ
نفسًا واحدًا.

٧

وذات يوم جاء طبيب الموتى من بعيد،

٨

قال: العجوز مُصِرَّة على مظهرها.

٩

عندها وارَوا العجوز الجائعة التراب،

١٠

وهكذا سكتَت المرأة العجوز.

١١

أما الطبيب فراح يضحك عليها،

١٢

كذلك الطيور الصغيرة صمتَت في الغابة
على أعالي الشجر،
هدوء
فوق كل القمم،
لا تكاد تُحِس
نفسًا واحدًا.

١٣

وذات يوم جاء رجلٌ وحيد من بعيد،

١٤

ولم يكن لديه أيُّ إحساس بالنظام،

١٥

ووجد في المسألة شيئًا على غيرِ ما يُرام،

١٦

كان يُعِد نفسه صديقًا للعجوز،

١٧

قال: ينبغي أن يجد الإنسان ما يأكله، أرجوك …

١٨

عندها صمتَت الطيور الصغيرة في الغابة
على أعالي الشجر،
هدوء
فوق كل القمم،
لا تكاد تُحِس
نفسًا واحدًا.

١٩

وذات يومٍ جاء فجأةً مُفتِّش البوليس،

٢٠

وكان يحمل في يده هراوةً من المطاط،

٢١

ضرب بها الرجل على مُؤخر رأسه حتى صارت كالعجين،

٢٢

وعندها سكت هذا الرجل أيضًا عن الكلام،

٢٣

ولكن المُفتِّش قال، بصوتٍ ردَّده الفضاء،

٢٤

والآن تصمُت الطيور الصغيرة في الغابة
على أعالي الشجر،
هدوء
فوق كل القمم،
لا تكاد تُحِس
نفسًا واحدًا.

٢٥

ثم جاء ذات يومٍ ثلاثة رجالٍ من ذوي اللحى من بعيد،

٢٦

قالوا: ليست القضية قضية إنسانٍ واحد بمفرده.

٢٧

وأخذوا يُعيدون هذا القول، حتى أصبح له ضجيج،

٢٨

ولكن ما لَبِث الدود أن نفَذ في لحمهم، حتى وصل إلى العظام،

٢٩

ثم سكت الرجال ذوو اللحى عن الكلام،

٣٠

عندها صمتَت الطيور الصغيرة في الغابة
على أعالي الشجر،
هدوء
فوق كل القمم،
لا تكاد تُحِس
نفسًا واحدًا.

٣١

وذات يومٍ جاء رجالٌ كثيرون من بعيد،

٣٢

أرادوا أن يتكلموا مع الجنود،

٣٣

ولكن الجنود تكلموا بالرصاص،

٣٤

هنالك سكَت الرجال جميعًا عن الكلام،

٣٥

ومع ذلك كانت على جباههم تجعيدة،

٣٦

عندها صمتت الطيور الصغيرة في الغابة
على أعالي الشجر،
هدوء
فوق كل القمم،
لا تكاد تُحِس
نفسًا واحدًا.

٣٧

ثم جاء ذات يومٍ دبٌّ عظيم من بعيد،

٣٨

لم يكن يعرف شيئًا من العادات السائدة، ولا كانت به حاجة إلى معرفتها،

٣٩

على أنه لم يكن ابن الأمس، ولا كان من طبعه أن يهاجم كل حيوان،

٤٠

والتهَم الطيور الصغيرة في الغابة،

٤١

عندها لم تعُد الطيور الصغيرة تصمُت في الغابة
على أعالي الشجر،
ضجيج
فوق كل القمم،
تُحِسُّ الآن
نفسًا يضطرب.

ماذا فعل برخت بقصيدة جوته؟

إنه لم يُغيِّر من ترتيب أبياتها فحسب، بل غيَّر ذلك من مضمونها، ووضعها داخل إطار قصةٍ درامية تتطور تطورًا ديالكتيكيًّا يسخر من واقعٍ اجتماعي، ويحُضُّ على الدهشة منه، والثورة عليه؛ فهناك العجوز التي تبدو من بعيد وهي تتقدم في الغابة، عجوزٌ خائفة، لم يَبقَ لديها من الخبز ما تأكله؛ فقد اغتصَبه منها الجنود، وتسقط في بالوعة البؤس والنسيان فلا تعود تُحِس بأثَرٍ للجوع، وعندها تسكُت الطبيعة التي لا تكترث بأحد، وتصمتُ الطيور في الغابة، ويسود على أعالي الشجر هدوء، ويُخيِّم فوق كل القِمم سكونٌ لا تُحِس معه نسمةً واحدة، ويأتي الطبيب فيُقرِّر أنها ماتت، ويصمت صمت العاجز عن تغيير شيء، وتصمتُ معه الطيور في الغابة، ويعود الهدوء إلى أعالي الشجر، والسكون إلى قمم الجبال. ويأتي ذات يومٍ رجل كان يعد نفسه صديقًا للعجوز (ربما لأنه واحد من طبقتها) يُحِس بأن في المسألة شيئًا على غير ما يُرام، وأن من حق الإنسان أن يجد ما يأكله، ولكنه يأتي وحده، والوحيد لا يملك أن يُغيِّر من نظام الكون شيئًا، وتصمتُ الطيور في الغابة، ويمُد السكون ظلَّه على القمم، وتَحبِس الرياح أنفاسها على ذُرى الأشجار. ويتحد ثلاثة رجال في إحساسهم بالظلم، ويقولون: ليست القضية قضية إنسانٍ واحد بمفرده؛ لأن ما حدث للعجوز يمكن أن يحدث لنا أيضًا. ولكنهم لم يكونوا يملكون غير الكلام، وثَرثَروا لحظة ورفعوا أصواتهم بالاحتجاج، ثم جاء رجال البوليس فأسكتوهم إلى الأبد عن الكلام، وربما انتبهَت الطيور الصغيرة لحظة ولكنها عادت إلى السكون، وبقي الهدوء يُرفرِف على أعالي الشجر وفوق قمم الجبال. وانتقل السخط إلى عددٍ أكبر من الرجال، أرادوا أن يتكلموا مع الجنود فرَدَّ عليهم هؤلاء بالرصاص، وسكَت الرجال أيضًا عن الكلام، وسقَطوا على الأرض ﺑ «تجعيدة» فوق الجباه، وبَقِيَت الطيور صامتة في الغابة، والهدوء منتشرًا على قمم الجبال؛ فلم يكن في مقدور الرجال أن يهزُّوا بثورتهم الطيور والأشجار والجبال؛ إذ لا يثير الطبيعة إلا ثورةٌ لا تقِل عنها قوة، ولا يُزلزِلها من جمودها القديم غير زلزالٍ بشري عظيم. وما دام الناس عاجزين عن تغيير نظام بنظام، وما داموا لا يملكون لتبديد الظلم والظلام غير الهتاف والكلام، فليتقدم إذن وحشٌ عظيم من بعيد، وحشٌ لا يعرف شيئًا عن عادات الناس وتقاليدهم ولا هو في حاجةٍ إلى معرفتها، وليلتَهِم الطيور الصغيرة كما يحلو له، عندها لن تسكُت الطيور الصغيرة في الغابة، ولن يستمر الهدوء على أعالي الشجر، بل ستسمع الضجيج فوق كل القمم، وستُحس بالأنفاس تَضطرِب في كل مكان.

وهكذا تُصبِح قصيدةً من قصائد التراث الشعري المقدس الذي يعيش فيه الشاعر موضوعًا للتهكم والسخرية، ويُصبِح الشعر الغنائي أداة للكفاح السياسي والاجتماعي. إن الشاعر الثائر يجرد الشعر من طُموحه الأزلي، ويربطه بعجلة الأحداث المعاصرة له، ويُعطي للكلمة وظيفةً جديدة، فلا تعود وسيلةً للكشف عن حقيقة الوجود، بل سلاحًا من أجل مستقبلٍ أفضل، لا يستغل فيه الإنسان الإنسان. إنه الآن يُعلِّم القارئ كيف يُغيِّر العالم على نحوِ ما قال له في قصيدةٍ أخرى:
غَيِّر العالم فهو يحتاج إلى التغيير!
ويصبح كل شيء قابلًا للتغيير، حتى صمت الطيور في الغابة، وسكون الريح على أعالي الشجر، والهدوء الشامل على قمم الجبال. ما من قانونٍ أبدي يكمن وراء الظواهر ويستعصي على التبديل، بل كل شيءٍ يتغير، نفسه في إحدى قصائده «أغنية عن سيولة الأشياء»:٤
مهما أطلت النظر إلى النهر
الذي يسيل في خمول
أبدًا لن ترى نفس الماء،
أبدًا لن يرجع منه
ما ينحدر إلى أسفل،
ما من قطرة منه
تعود إلى منبعه،
لا تتشبَّث بالموجة
التي تتكسَّر على قدمَيك،
طالما وقفتَ في الماء
فسوف تتكسَّر عليهما
أمواجٌ جديدة.
إن وظيفة الشاعر الجديدة قد أصبحَت صدى لوضعه الجديد في المجتمع. لم يعُد للشاعر، في رأي برخت، من حق في الحياة إلا إذا وضَع نفسَه في خدمة التغيير الثوري عن طريق الاشتراكية. لم يعُد له الحق في التعبير عن عواطفه الذاتية، بل صار واجبه أن يُعبِّر عن مشكلات المجتمع، وتحوَّلَت عملية الخلق الفردي إلى عمليةٍ جمعية، تهدف إلى تغيير ظروف البيئة والمجتمع. إنه يستطيع الآن أن يتحدث في نغمةٍ جديدة، ويكتب بأسلوبٍ جديد، يعمل فيه بنصيحةِ لوثر التي يدعو فيها إلى النظر إلى فم الشعب. البؤس والتعاسة والثورة تصبح موضوعاتٍ تستحق أن تُكتب عنها السوناتا ويُؤلَّف عنها النشيد. العمال البسطاء، والمكافحون من أجل القوت اليومي يحتلُّون مكان القادة والملوك والنبلاء. حماسُ العاطفة ورقَّة الكلمة وسُكْر الحواس يترك مكانه التهكُّم الساخر، واللفظ الوقِح، والغلظة المتعمِّدة، والكلماتُ التي تدخل في الدم فتصدُم وتجرَح وتهزُّ الجسم كالكهرباء. ويصبح البيت الشعري وسيلةً لإحداث «أثَر الإغراب»٥ الذي يدور حوله مسرحه الملحمي الذي ارتبط به اسمه وأراد به إزالة الوهم من المسرح، وتربية المتفرج على الحكم الموضوعي على ما يعرضه الممثل أمامه، وخَلْق مسافةٍ بين الممثل والدور الذي يعرضه دون أن يندمج فيه، وبين الجمهور والمسرح الذي تجرَّد من سِحْر التمثيل والتخييل.

ذلك هو الفرق بين الشاعر العميق ذي النظرة الكونية الشاملة، الذي يرى الكمال كله في فَناء الواحد في الكل، وبين الشاعر الثائر الذي يدعو إلى تغيير الكل عن طريق فهم الواقع والكشف عن متناقضاته والتمرُّد المشترك عليه. في القصيدة الأُولى حركةٌ باطنية تُصوِّر استسلام الفرد لأحضان الكل الكبير، وفي القصيدة الثانية حركةٌ تُعبِّر عن تضامُن الفرد مع المجموع، وتُصوِّر ثورة المظلومين التي تشبُّ وتَكبَر شيئًا فشيئًا كعمود النار حتى تصبح طبيعةً ثانية تُخرج الطبيعة نفسها عن جمودها الأبدي وتُجبِرها على تغيير نظامها الخالد إلى حد المشاركة في آلام الإنسان. إن الشاعر هنا ينتزعُ القارئ من موقف التلقِّي السلبي، ويُفزِعه من مَلجئِه الأمين، ويبعث فيه الخجل من نفسه أمام ثورة العصافير!

لم تعُد وظيفة الشاعر أن يجيب على سؤال، أو يحمل العزاء إلى المحزونين، والراحة إلى المتعَبين. إن الشعر عنده قد أصبح سؤالًا ملحًّا لا ينقطع. إنه لا يقبل العالم على ما هو عليه، ولا يرى أن هناك يقينًا يرتفع فوق الشك (فالشيء اليقيني الوحيد لديه هو الشك نفسه!) بل يُعلِّمنا أن نسأل: لِمَ كان هذا كذلك، وهل هناك ضرورةٌ تمنع من تغييره؟ إنه الآن يُدهش، ويُزلزل، ويقلق، لا يَنسِج من شعره قِناعًا يضعُه على وجه الحقيقة، بل يُمزِّق كل الأقنعة، ويَقلِب كل القيم والموازين، ويجعل شعره نفسَه حقيقة ومعرفة، تُؤذِن بزلزلةٍ اجتماعية، وتُبشِّر بمستقبلٍ جديد. ومهما اختلفنا مع برخت في طبيعة هذه الزلزلة، فنحن لن نملك معه إلا أن نفتح عيوننا لنندهش ونقلق ونثور، ولن نملك أن نرى الظلم على اختلاف صوره دون أن نرفع صوتنا بالسخط عليه، حتى يختفي الاستغلال، ويصبح الإنسان عونًا وصديقًا للإنسان. شاعران، وطبيعتان، لا شك أنك ستختار منهما ما يتفق مع طبيعتك ومزاجك، فأما برخت فلن يترك لك فرصة الانتظار، بل سيُحرككَ إلى الفعل والتغيير. وأما جوته فسيأخذ بيدك إلى الطبيعة العظيمة ويُلقي بك على صدرها الرحيم ويقول لك:
انتظر فسوف تستريح.
١  أعمال جوته الكاملة، المجلد الأول، طبعة هامبورج، ص١٤٢. انظر كذلك التعليق على القصيدتَين في نفس المجلد، ص٤٧٧-٤٧٨. Goethes Werke; Hamburger Ausgabe, Band I, s. 142, 477-478.
٢  فريتس شتريش، الشاعر والزمن، يرن، ١٩٤٧م، ص٦٠ وما بعدها. Fritz Strich, Der Dichter und die Zeit, Bern, 1947, s. 60 f.
٣  ﻫ. أ. كورف، تحول الصورة الشعرية عند جوته، الجزء الأول، ليبزج، ١٩٥٨م، ص٢١٠–٢١٤. H. A. Korff; Goethe im Bildwandel seiner Lyrik, Leipzig, 1958. S. 210–214.
٤  فالتر مشج، من تراكل إلى برخت — شعراء النزعة التعبيرية، ميونيخ، بيبر، ص٣٥–٦٥. Muschg, W.; Von Trakl zu Brecht, Dichter des Expressionismus. München, Piper, s. 35–65.
٥  Verfremdungseffekt أو VE كما يؤثر برخت في بعض الأحيان أن يكتبها!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤