تصدير

هذا هو الجزء الثاني من سيرتي الذاتية «واحات العمر»، وعنوانه «واحات الغربة» يُعفيني من الحديث عنه؛ فهو يتناول أحداثَ السنوات العشر التي قضيتُها مغتربًا أطلب العلم في إنجلترا، ١٩٦٥م إلى ١٩٧٥م، والواحاتُ التي أعنيها هنا هي لحظاتُ الوعي التي ما تزال حيَّةً نابضة في النفس، وهي اللحظات التي تؤكِّد لنا حياة الروح، كياننا الذي يكتنفُه الغموض أبدًا، منابعُه مجهولة، ومساراتُه متعدِّدةٌ ملتوية متشابكة، ومصبُّه بحرٌ شاسع بلا شطآن، لكنه كالزمن إحساسٌ بالوجود وإطلالٌ على ما وراء الزمن — على الخلود.

ولقد شاركَني الكثيرون حياة الغربة في تلك الواحات فنفَوا عنها الغربة؛ منهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر، ومنهم من شاركَني مشاعري الدقيقة وكابدها لحظةً بلحظة، ومنهم من لا يزال يذكُر تفاصيلَها — بل من يذكُرها خيرًا مني — وأنا أذكُر أسماءهم الحقيقية، وأرجو أن يغفروا لي إغفالي بعضَ التفاصيل التي أفلتَت رغم أنفي من الذاكرة، أو التي تُنكِرها الذاكرة — على حدِّ تعبير وردزورث (disowned by memory) — فذاكرتي تستعين بالأوراق التي سجَّلتُ فيها تلك الأحداث، وهي أوراقٌ واهية قد تسجِّل الواقعة ولا تسجِّل الدلالة، ونحن نغوص في أعماقنا استرجاعًا لها وهي عصيَّةٌ متأبِّية، وقد يرى بعضهم أنني أغفلتُ ما هو مهمٌّ وسجَّلتُ ما هو غيرُ جديرٍ بالتسجيل، ولكن الغوص في أعماق النفس لا يأتي دائمًا باللآلئ، بل قد يكون الغوصُ هو الغاية، لا ما يعود به الغوَّاص.

إلى هؤلاء جميعًا أُهدي هذه الصفحات، وإذا كنتُ أهديتُ الجزء الأول من واحات العمر إلى زوجتي نهاد صليحة، التي صاحبَتْني وتحمَّلَتني في معظم أشواط الرحلة، فأنا أُهدي هذه الصفحاتِ أيضًا إليها وإلى ابنتي سارة التي رأت النور أوَّلَ ما رأته في الغربة، وإلى أبناء جيلها الذين لا يعرفون ما كابده الآباء في تلك الرحلة الشاقة. ولقد حاولتُ أن أتحرَّى الدقة قَدْر طاقتي في رصد التواريخ والأحداث، ولكن الكمال لله وحده، ونحن بشرٌ نصيب ونخطئ. ولا شك أنني سوف أُرحِّب بأي تصويبٍ قد يَلفِت الأصدقاءُ نظري إليه، مثلما رحَّبتُ بتصويب بعض الأخطاء التي وقعَت سهوًا في الجزء الأول من واحات العمر.

وأرجو من القارئ أن يغفرَ لي إدراجَ بعض الألفاظ الأجنبية في الكتاب؛ إذ إن جُلَّ مذكِّراتي مكتوبة بتلك اللغة، وكنتُ أخشى أن أُغيِّر كثيرًا من مذاقِ ما سمعتُه وسجَّلتُه إن أنا ترجمتُ كل شيءٍ إلى لغتنا الجميلة. لقد تحرَّيتُ الدقة كما قلتُ وكانت الدقة تقتضي إدراج بعض العبارات بحروفها، راجيًا من القارئ أن يقبل عذري واعتذاري.

ولا بد لي أخيرًا أن أشكر الأصدقاء الذين شجَّعوني على هذا الغَوص المُضني في أعماق النفس، وقرءوا النص بعناية، وأبدَوا ملاحظاتهم القيِّمة؛ فهو سِجلٌّ لأيامٍ أرجو ألا تسقُط من ذاكرتهم، وأن ينتفعَ به من لم يشهَدها ولم يكن يدري بها.

والله من وراء القصد.

محمد عناني
القاهرة ١٩٩٩م

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤