الفصل الأول

لندن

١

عندما حلَّقَت بي الطائرة المصرية أوَّلَ مرة فوق مدينة لندن، أفقتُ من الغَفْوة التي غلَبَتْني بعد سَهَر الليلة السابقة، وفتحتُ عيني لأرى من النافذة الضيقة سحاباتٍ قليلة، خفيفةً وشفَّافة ومتباعدة، يسطعُ عليها ضوء الشمس، ويلُوحُ فيما بينها على الأرض ما يُشبِه البستان الكثيف، تقوم في أرجائه بيوتٌ منخفضةٌ متناثرة ضئيلة الجِرْم، يضرب لونُها إلى الحُمرة، فتصوَّرتُ أننا ما زلنا في الريف بعيدًا عن قلب المدينة؛ إذ كنتُ أتوقَّع ناطحاتِ سَحاب أو قل بعض المباني السامقة التي أصبحَت علَمًا على الحواضر الغربية، ولكن الطائرة حوَّمَت مرتَين في دائرتَين متَّسعتَين، وكانت تزداد اقترابًا كلَّ مرة من الأرض، دون أن تظهَر المباني السامقة، ثم اخترقَت السحاب وبدأَت الهبوط، فازدادت ملامحُ البستان وضوحًا، فأيقنتُ أننا سنهبط في الريف المحيط بلندن.

كانت الساعة تقترب من الواحدة ظهرًا، وكان اليوم يوم الأربعاء ١٢ مايو ١٩٦٥م والمطار حافلٌ بالناس، وعلى الجدران لافتاتٌ تحمل سهامًا توجِّه القادمين إلى الأماكن الخاصة بكل فئة، ووجدتُ السهام التي أتَّبِعُها تحدِّد الفئة التي أنتمي إليها (مع بعض ركاب الطائرة) وهي فئة الأجانب (ALIENS) تمييزًا لهم عن أبناء البلد، وانتهَى مَسَاري إلى شُباك فحص جوازات السفَر، فدفعتُ إلى الموظَّف الجالس فيه بجواز سفري ووقفتُ أنتظر.

كان الجواز يقول إن من حقي السفر إلى ليبيا فقط، وكنتُ أخشى أن يسألَني الموظَّف عن دلالة ذلك، وخفت أن أتلعثَم في قص القصة؛ إذ كان من حق طالبِ البعثة استخراجُ جواز سفر، وكانت لوائح مصلحة الجوازات والجنسية آنذاك تقضي بعدمِ استخراجِ جواز سفر إلا إذا نُصَّ فيه على البلدِ المسموحِ بالسفر إليها، ولم تكن الموافقة على سفري إلى لندن قد صدَرَت من مكتب الأمن، فوضع المسئولون ليبيا باعتبارها الدولةَ المأمونةَ الوحيدة آنذاك، وعندما أنهيتُ إجراءات الأمن الخاصة بالسفر إلى بريطانيا كتب الموظَّف في الجواز الذي ما زلتُ أحتفظ به «أُضيفت إنجلترا بمعرفة المصلحة».

كيف أشرح للموظَّف ذلك كله بالإنجليزية؟ وهل تُراه يُدرِك أن مسألة الأمن لا تعني أنني قد أكون خطرًا على الأمن؟ وهل تُراه يفهم العبارة الخاصة «بإضافة» إنجلترا مع أنها البلد الذي تقدَّمتُ بطلَب السفر إليه دون غيره؟ ولكن خوفي لم يطُل؛ إذ كان الموظَّف شابًّا باسِمَ المُحيَّا، انتهى من تسجيل بيانات الجواز بقلمٍ في يده، قبل شيوع استخدام آلات التصوير وبعدها الكمبيوتر، ثم سألَني عن مقصدي فقلت له «الدراسة»، ولم تبدُ الدهشة على وجهه بل بدا مطمئنًّا واثقًا من صدقِ ما أقول، وعندما طَرحَ المزيد من الأسئلة عن الشاعر الإنجليزي الذي تخصَّصتُ فيه (وهو وليم وردزورث) William Wordsworth أجبتُه إجاباتٍ يبدو أنها أسعدَته؛ إذ قال إنه درس بعض أشعاره في المدرسة، وعندما بدأ يُلقي بعضَ أبياتٍ من قصيدة له، أكملتُها له فضحك، وتمنَّى لي حظًّا سعيدًا وسلَّمَني الجواز، وطلَب مني أن أتجه بعد أن يستقر بي المقام إلى أقرب مَخفرِ شرطة لتسجيل نفسي (اسمي وعنواني) واستخراج بطاقةِ إقامة، وانصرَفْت.

وعندما وصلتُ إلى منطقة الحقائب وجدتُ حقيبتي المنتفخة، فحملتها حملًا فلم تكن لها عجلات، ولم يكن بالمطار حمالون أو عرباتٌ لنقل الحقائب، وعندما وصلتُ إلى موظَّف الجمارك طلب مني أن أفتحها ففتحتُها، ثم قال كلامًا لم أفهم منه إلا أنه يطلُب مني إغلاقها، وبعد أن أغلقتُها أشار لي إلى باب الخروج، فسرتُ مُثقَلًا بطيء الخطو حتى كدتُ أن أتعثَّر فتوقَّفْت. وقبل أن أخرج، ناداني أحدهم فالتفتُّ إليه، فطلب مني الاقتراب تاركًا حقيبتي في مكانها بجوار الباب.

واصطحبني هذا الموظف إلى رجل الجمارك الأول، وكان يواجه فيما يبدو مشكلةً من نوعٍ ما، ولم يستطع أن يشرح لي المشكلة. ولمحتُ إلى جواره راكبًا مصريًّا يتحدَّث بلهجة أهل الصعيد، وقد بدا الارتباكُ على وجهه، ولاحت حبَّات العَرق على جبينه، وانعقَد لسانه بعد فترة فلم يعُد يتكلم لا بالإنجليزية ولا بالعربية! وسألتُ المصري سؤالنا التقليدي «خير؟» فأشار إلى الحقيبة التي أتى بها، ونطق بعباراتٍ مقتضَبة لم تُفصِح عن الكثير، فسألتُ موظَّف الجمرك إن كانت المشكلة خاصةً بما يحمله، ففتَح الحقيبة وإذا بغطائها قد انتظمَت فيه خيوطٌ مثبَّتة في الجانبَين، وبها أعدادٌ كبيرة من حبَّات البامية الناشفة (المجفَّفة) فبدت كأنها خيوطُ مِسبَحةٍ أو عدة مسابحَ طويلة، وحدَسْتُ أن والدته أو زوجته هي التي أعدَّتها له طعامًا في الغربة، وكانت الصفوف المنتظمة المعلَّقة في غطاء الحقيبة الداخلي تشبه الرصاصات الصغيرة التي يضعها الجنود حول أسلحتهم أو على صدورهم فيما مضى من الزمان. كان المصري حائرًا لا يدري كيف يُقنِع الموظف أن هذه «الطلقات» هي طعامٌ مصريٌّ محبَّب، والموظَّف يُلِح في سؤالي عن سبب إحضارِ هذه الأشياء إلى لندن، خصوصًا؛ لأن الزائر ليس طالبًا، بل كان في الواقع من أقرباء ضابطٍ في الجيش يُعالَج من إصابةٍ أُصيب بها في حرب اليمن، وكان قد أتى له بهذا الطعام المصري لكي يطبُخَه له في المستشفى، ونصحتُ الزائر ألا يذكُر قريبه الضابط، وأن يتخلى عن البامية إذا أَصرَّ موظَّف الجمرك على ذلك، ولم يطُل انتظارنا إذ حضر اثنان من زملاء الموظَّف، وقالا إن رئيسهما يُصِر على عرض الأشياء الغريبة على الخبراء، ويُصِر على رفض السماح للمصري بالدخول إلى بريطانيا، ولما تحمَّستُ في تبيان «مناقب» البامية، قال أحدهما لي: وما يدرينا أنها ليست مخدِّرات؟ واستبعدتُ ذلك القول بحزم وقوة، وإزاء نبراتي الواثقة، قال أحدهما: سنسمح له بالدخول بضمانكَ أنت، ووافقْت، ووقَّعت في ورقةٍ صغيرة، ثم طلب الموظَّف من المصري أن يفُك خيوط البامية، ففعل ذلك والحزنُ يعتصره، وقدَّم له أحد الموظفين كيسًا شفَّافًا (نايلون) وضع البامية فيه، و«حرَّزَها»، وألصَق عليها بطاقةً تحمل اسمَ المسافر ورقمَ جواز سفره، وسمَح له بالذهاب.

وعندما خرجتُ من المطار كان عليَّ أن أجد مكانًا أقضي فيه الليل قبل أن أذهب إلى الجامعة في الصباح، وأن أذهَب أيضًا إلى مكتب البعثات، وكنتُ أحفظُ عنوانه وأُكرِّره حتى لا أنساه. وكان عليَّ أن أذهَب إلى المدينة أولًا وأن أسألَ مثل بطلِ قصيدةِ حجازي «يا عم من أين الطريق؟» ولم تطُل حيرتي إذ تقدَّمَت مني فتاةٌ هندية وقالت بلهجةٍ إنجليزية كُتِبَ عليَّ أن أعيش معها سنواتٍ طويلةً فيما بعدُ: هل تُريد الذهاب إلى لندن؟ فأومأتُ بالإيجاب فقالت إذن هيَّا — سوف نشتركُ في سيارة أُجرة خاصة — وفي لمح البرق كان السائق قد وضع حقيبتي في السيارة، وأجلسَني إلى جواره، والهندية وأصحابها في المقعد الخلفي، وانطلَقنا نحو لندن، وفي الطريق سألَني السائق بلهجة أولاد البلد في لندن (Cockney) عن المبلغ الذي سأدفعُه له وأدركتُ مرماه على الرغم من أنني لم أفهم كل كلمةٍ قالها، فقلتُ له بلهجةٍ عرفتُ فيما بعد أنها لهجة المثقَّفين والأجانب «خمسة شلنات» فقال fair enough وأردفَها بكلامٍ كثير لم أفهم معظَمه، ولكنَّني تساءلتُ في نفسي عن معنى العبارة، وعما إذا كانت تنمُّ عن الرضا حقًّا، وظللتُ طول الرحلة أتأمَّل الطريق الذي تقومُ الأشجار على جانبَيه، والسيارات وهي مارقةٌ بسرعةٍ فائقة، وشمس مايو الجميلة وهي تسطَع على الخُضرة من حولي.
ووصلنا إلى محطة فكتوريا، ودفعتُ إلى الرجل ما طلَبه، ثم اتجهتُ إلى سيارة أُجرة رسمية، من التي ما تزال تعمل في لندن، وطلبتُ من السائق أن يتجه بي إلى أحد بيوت الشباب، وكان معي عنوانُه، وانطلَقنا على الفور، وعندما وصلتُ رأيتُ أن العدَّاد يقول أربعة شلنات، ففعلتُ ما أوصاني به الأصدقاء بأن أضفتُ إليها بقشيشًا قدْره نصفُ شلن (ستة بنسات)، وتناول الرجل النقود دون تعليقٍ سوى كلمةٍ مقتضَبة هي “Ta, guv” اكتشفتُ فيما بعدُ أنها تعني «شكرًا يا أستاذ» وأنها تتكوَّن من كلمتَين لا كلمةٍ واحدة هما العامية الدارجة لتعبير “Thanks, Governor!”، وفي بيت الشباب اكتشفتُ أن أجر المبيت (مع الإفطار) هو ١٥ شلنًا، وكان معنى هذا أنني إذا لم أُسرِع إلى مكتب البعثات للحصول على المال فسوف أُفلسُ بعد قليل؛ إذ كان كل ما سُمِحَ لي بحمله من النقود عندما خرجتُ من مصر هو خمسة جنيهاتٍ استرلينية أنفقتُ منها أكثر من جنيه في يومٍ واحد. وبعد أن وضعتُ حقيبتي في الغرفة خرجتُ للسير في الطريق الواسع الممتد، والربيع يكسو المنطقة بالزهور والخضرة الزاهية والدفء الجميل.
figure
محمد عناني وعيسى موسى (من ليبيا) والدكتور/نعيم إليافي (من سوريا) يمسك المِظلَّة.
كانت تجربةُ إفطار الصباح فريدةً لم أعهد لها مثيلًا في حياتي. كان بيت الشباب يعجُّ بالأجانب، معظمهم أوروبيون، وكان الإفطار يتكوَّن أساسًا من السمك، سمك الرنجة غير المدخَّنة، وهناك البيض لمن يريد، واللبن، و«كورن فيلكس» الذي أصبح معروفًا في مصر، والشاي! وكان الجميع يلتهمون الطعام بشهيةٍ كبيرة، ولاحظتُ عدم وجود مكانٍ لغسل الأيادي والفم، فعُدتُ إلى الغرفة لأداء ما اعتدتُ عليه، ثم انطلقتُ إلى مكتب البعثات. وهناك قابلتُ مستر فيولنج Fuling، وهو فيما يُقالُ أجنبي (أي غير بريطاني) يُحب المصريين وقضى معظَم سِني حياته عاملًا بالمكتب، فاستقبلَني بالترحاب، وانتهَينا من بعض الأوراق الرسمية، ثم أخذَني إلى مدير المكتب؛ حيث تناولتُ شيكًا بعشرة جنيهات، باعتباره جزءًا من مُرتَّبي الذي يبلغ ٤٥ جنيهًا في الشهر، إلى جانب ثلاثة جنيهات «علاوة لندن». وبعد أن وضعتُ النقود في جيبي (إذ كان فرع البنك مجاورًا للمكتب) اتجهتُ إلى كلية بدفورد Bedford College التابعة لجامعة لندن؛ حيث قابلتُ رئيسة القسم الأستاذة تيلتسون Tillotson، وسألَتني عن سبب تأخُّري في المجيء، وقابلتُ بعض الأساتذة الآخرين، ومنهم مستر كيرجنفن Curgenven، الذي حدَّده القسم للإشراف على دراستي. وقال لي المشرف ضاحكًا: «لقد أتيتَ بالجوِّ الصَّحو من مصر!» ثم ضرب لي موعدًا في يوم الإثنين التالي. وانصرَفْت.
figure
البط فوق سطح البُحيرة المتجمدة في حديقة ريجنت.
خرجتُ من باب الكلية التي تقع في وسط حديقة ريجنت Regent’s Park لأجد ما لا يُمكِن أن أصفه إلا بالجنة! كانت الحديقة منبسطةً لا تبدو لها نهاية. وفي وسطها تجري قنواتُ المياه العذبة التي تسبَح فيها الطيور — البط بأنواعه التي كنتُ أعرفها جيدًا، والإوز العراقي (التَّم) الذي يشيرون إليه خطأً باسمِ البجع — وحولها على الأشجار طيورٌ أوروبية لا تأتي إلى مصر إلا في الخريف عندما تعبُر المتوسط لقضاء الشتاء في السودان، وبدأتُ أتعرَّف على بعضها من صوتها، ودهِشتُ لأنها كانت لا تفزع حين أقتربُ منها، بل تنظُر إليَّ في حَيرة أو تساؤل! وظللتُ أسير بين الأشجار حتى وجدتُ مكانًا خُصِّصَ للجلوس، وانتثَرَت فيه المقاعد الخشبية وبعض المناضد ومن حولها الكراسي، وكان على البُعد أطفالٌ يلعبون الكرة ويتواثبون فرحين صائحين في مكانٍ خُصِّص لهم، وكانت نسائم العصر منعشة تحمل أريج بعض الزهور التي انتظمَت في أحواضٍ خاصة، ورأيتُ رأي العين زهور النرجس الأصفر Daffodils التي كتَب عنها وردزورث قصيدتَه المشهورة، فبُهِرتُ وتسمَّرتُ في مكاني أنظُرها كأنما غبتُ عن الوعي!
وأفقتُ من دهشتي عندما سقطَت بجواري كرةٌ ألقى بها بعض الصبية، فالتقطتُها ونظرتُ حولي باحثًا عن صاحبها وإذا بفتاةٍ كأنها من حُور الجَنَّة تُقبِل نحوي في سعادةٍ باسمة ضاحكة، فألقيتُ إليها بالكرة، فضَحكَت وهي تلتقطُها ثم مضت. وتذكَّرتُ وصف جيمس جويس James Joyce للفتاة التي رآها على شاطئ البحر في رواية «صورة الفنان شابًّا» A Portrait of The Artist as a Young Man وعجبتُ كيف استطاعَ ذلك العبقري أن يُبدِع تلك الصورة في كلماتٍ قليلة، ولو حاولتُ أنا أن أُصوِّر هذه الفتاة ما استطعتُ ولو سوَّدتُ صفحاتٍ وصفحات! وذكَرتُ قصيدة «تيرنر» Turner بعنوان «ترنيمة إلى مجهولة» Hymn to her unknown التي كان رشاد رشدي قد نشَرها في أحد كُتبه، وبدأتُ أُحِس بصدقِ ما قاله وردزورث في قصيدة المقدِّمة The Prelude (التي كنتُ أدرُسُها حين ذاك في مصر) عن الخيال، وبصدقِ ما قاله عن عجز اللغة البشرية عن التعبير عما يجيشُ في النفس حقًّا، وهو عجزٌ يثير الأسى والحزن:
Sad incompetence of human speech

كان الخيال قد رسَم لذلك الشاعر صورةً مهيبة لقمم جبال الألب، ولما عَبَر الجبال لم يواجه المهابة بل واجه الخيال، وها أنا ذا أواجه واقعًا يتضاءل معه كلُّ خيالٍ لي، وتَعجِز إزاءه كل قوة من قُوى التصوُّر والوَهْم! وظللتُ في مكاني ثابتًا ألتهِم بعينيَّ صور الأشجار والأزهار والطيور والأطفال، وفي المشهد كله تموجُ روح البسمة الرائعة في وجه تلك الفتاة — كانت كأنما تقول إنني الحياةُ نفسها، وإنني روحُ الوجود بل وإنني الخلود!

لا أدري كم مَرَّ عليَّ من الوقت وأنا أشهدُ تلك اللَّوحة، وكنتُ أعرف تمامًا أنني أشعر بما شعر به جويس عندما قال إن صورة الفتاة سكنَت روحه إلى الأبد.

Her image passed into his soul for ever

فلكَم تعدَّدَت الأماكن التي زرتُها، ولكم كثُر انتقالي وترحالي، ولكم شاهدتُ أزهارًا ورياحين! ولكن تلك اللَّوحة الحية ظلَّت تتملَّكُني وتُشرِق في أعماق نفسي كلما ضاقت بي الدنيا، وما فتِئتُ أعودُ إليها أتملَّى ألوانَ طيورها وحركةَ أزهارها على شط الماء، ونسمات الربيع المنعشة فيها، وبسمة الصبيَّة المجهولة التي ستظل صَبِيَّة إلى الأبد في نفسي.

٢

في اليوم التالي ذهبتُ إلى المقر الرئيسي لجامعة لندن بجوار «رَسِل سكوير» Russell Square أو ميدان رَسِل، المسمَّى باسم عائلة الفيلسوف الشهير برتراند رَسِل، وكان هدفي هو البحث عن سكنٍ دائمٍ عن طريق مكتب خدمات الطلبة، قابلتُ الموظفة فأعطَتني بعضَ العناوين وبعضَ النصائح، ثم خرجتُ إلى نادي الجامعة الذي يُسمِّونه اختصارًا «يولو»؛ أي اتحاد «طلبة» جامعة لندن، فقابلتُ بعض المصريين، وبعضُهم يشغل الآن مناصبَ مرموقةً في الحياة الأكاديمية والعامة، ثم أطلعتُهم على أحوالي، فاقترح بعضهم علَى سامي أبو طالب (الدكتور الآن) أن يستضيفني مؤقتًا، قائلين إن لديه الآن غرفةً خالية، بعد عودة زوجته وابنه إلى مصر، وأنَّ بإمكانه أن يؤجِّر لي الغرفة. ووافق سامي على الفَور، وكان أجر الغرفة جنيهَين وربعَ جنيه في الأسبوع، وهو مبلغٌ معقول؛ لأن أجر الشقة الكاملة ستة جنيهات. وفي غضون ساعاتٍ كنتُ قد انتقلتُ من بيت الشباب إلى الشقة، وكانت تقع في شمال لندن في منطقة تُسمَّى «فنزبري بارك» Finsbury Park، وكان اسم الشارع هو «ولبرفورس رود» Wilberforce Road، وقد أُطلق عليه اسم هذا المُصلِح الاجتماعي، ابن القرن التاسع عشر؛ لأنه كان فيما يُقالُ أول من بنى به مسكنًا سمَح للزنوج بالإقامة فيه، والمعروف أن ولبرفورس هو صاحب الجهود التي أدَّت إلى تحرير العبيد. وبعد أن وضعتُ حقيبتي في الغرفة الصغيرة، ذهبتُ أنا وسامي لمقابلة صاحب المنزل وهو تركي من قبرص له شاربٌ طويل مبروم، وعينان برَّاقتان، فاستقبلَنا بالترحاب، وقد وضع على الجدار صورة السلطان عبد الحميد، وقال لنا إنه لا يؤجِّر المسكن أو أيَّ بيتٍ من البيوت التي يملكُها إلا للمسلمين، وكان ذلك البيت مُقامًا على مساحةٍ صغيرة من الأرض ويتكوَّن من ثلاثة طوابق، وباعتباره مسكنًا لأسرة واحدة (في الأصل) مثل سائر البيوت التقليدية في إنجلترا، كان الطابق الأعلى يتكون من غرفتَين فقط، وبعد درَجٍ صغير يُوجَد مطبخٌ صغير، وبجواره مرحاض، ثم بعد درَجٍ آخر يُوجَد الطابق الثاني حيث غرفتان ومطبخ، أما الطابق الأرضي فبه غرفتان ومطبخ وحمَّام ويُطِل على حديقة المنزل الخلفية. وكان صاحب المنزل يقيم بالطابق الأرضي مع أسرته، ويؤجِّر الطابق الأوسط لأُسرةٍ باكستانية، وعلى نحوِ ما هو متَّبع في البيوت الإنجليزية يُوجَد مفتاحٌ واحد لباب البيت الخارجي، أما الغُرف فلا مفاتيح لها، ولا يُغلِقها أحد بالمفتاح، ولو كان مُستأجرًا. وكان الإحساس بالأمان هو القاعدة التي لا استثناء لها (في تلك الأيام) وكان الإنجليز يتفاخرون بأن أي إنسانٍ إذا أراد أن يدخل أيَّ بيتٍ يستطيع ذلك دون إثارة الشك، ولقد تعلَّمتُ فيما تعلَّمتُ آنذاك المثل الذي يعتبر البيت المثل الأعلى في الأمان وهو “as safe as houses”.
كما تعلَّمتُ في تلك الأيام الأولى من إقامتي في إنجلترا مدى تقدير الإنجليزي للصدق والأمانة. وكان بعض الكُتَّاب يعزون ذلك إلى تقاليد الحركة الدينية البيوريتانية (التي ترجمها بعضهم بتعبير «التطهيرية» وإن كانت أقربَ في معناها إلى التزمُّت أو إلى الأصولية) ولكن خبرتي بالحياة البريطانية نقضَت هذا التفسير فيما بعدُ؛ إذ إنني أميل إلى اعتبار نزعة الصدق واحترام الصادق وأداء الأمانة من سمات المجتمع التجاري الذي يعتمد على الثقة؛ فالثقة لازمة لإبرام الصفقات بسرعة وتسيير حركة الأعمال التجارية. وأذكُر أنني كنتُ أدهَشُ في تلك الأيام الأولى؛ لأن أحدًا لم يكن يطالبني قَط بإبرازِ ما يثبت شخصيتي (كبطاقة الهُوية أو جواز السفر) عند صرف شيكٍ أو الدفع بشيك، بل إن الكلية لم تطالبني بأية أوراقٍ رسمية عند التسجيل للبحث العلمي! ويؤكِّد ذلك إطلاق الإنجليز — دون شعوب الأرض — على المحتال (النصَّاب) لفظ «خائن الثقة» “con” man — وهي اختصار confidence trickster — كما أذكُر أنني عندما انتقلتُ من مسكني إلى مسكنٍ آخر، ذهبتُ إلى بائع الصحف الذي كان يُرسِل لي الصحيفةَ اليوميةَ في الصباح لتسوية الحساب قبل الرحيل، وعندما شرحتُ له الموضوع قال: «لا بأس! اعتَبِر صُحفَ الأيام السابقة هدية! تكفيك متاعبُ الانتقال!» فكأنما كان يُكافِئني على الأمانة، مدركًا أنني كنتُ أستطيعُ الرحيل دون سداد الدَّين.
figure
الدكتورة هدى حبيشة ومحمد السوري أمام حجر رشيد بالمتحف البريطاني عام ١٩٦٦م.
وفي تلك الأيام الأولى شهدتُ حادثةً ما تزال محفورةً بتفاصيلها الدقيقة في ذاكرتي، وكنا ما نزال في شهر مايو؛ إذ خرجتُ مع سامي أبو طالب للتريُّض في المنطقة في المساء، وكان الطريق شبه خالٍ من السابلة، وفي الهواء لذعةُ بردٍ خفيفة، وما كدنا نغادر الشارع الذي نقيم فيه إلى الطريق الرئيسي الواسع حتى شد انتباهنا صُراخٌ قادم من الجانب الآخر للطريق، وكان مصدره حانةً إنجليزية يُسمُّونها pub وهي اختصار لتعبير (public house)؛ حيث يحتسي الروَّاد الجِعَة الإنجليزية بصفةٍ أساسية، ويتناولون بعض الوجبات الخفيفة، وجميع تلك الحانات تُغلِق أبوابها عادةً في الحادية عشرة مساءً. وقفنا نرقُب مصدر الصُّراخ فإذا بامرأةٍ إنجليزية تخرج من الباب وهي تصيح بلهجة أبناء لندن «إنه زوجي، إنه زوجي!» لم تكن ملامحها واضحة ولكنها كانت في منتصف العمر تقريبًا، تميل إلى السمنة، ولم يلبث «الزوج» أن خرج، فإذا هو هنديٌّ قصيرٌ رَبْعة القوام داكن اللون وخَطَ الشيبُ شَعَره، ومن خلفه شابَّان إنجليزيان يبادلانه السباب، وفجأةً ازدحم الرصيف المتسع بالشبان الإنجليز الذين خرجوا من الحانة ثم علا صياحهم في وجه الهندي، وانقضُّوا عليه، فأخرج مُديةً من ملابسه وجعل يُلوِّح بها في وجوههم، وصُراخ المرأة يعلو ويشتد، وأحاط الرجال بالهندي وهو يُحاوِرهم حتى نجح أحدهم في إسقاطه من الخلف على الأرض، وإذا بالجميع ينهالون عليه ضربًا وركلًا حتى خِلنا أنه قد قُتِل، ثم انفَضَّ الجميع فجأةً وانطلقوا يَجْرون هاربين حين نبَّهَهم أحدُهم إلى قدوم الشرطة. جلسَت المرأة على الرصيف تَلطِم خدَّيها وتبكي، وحين وصلَت الشرطة لم يجدوا سواها وزوجها فنقلوهما في السيارة وانطلقوا مسرعين.
وقلت لسامي هامسًا في فَرَق: هذا تأثير الخمر! فقال: بل كراهية الأجانب. وقص عليَّ طَرفًا مما شَهِده على مدى السنوات الثلاث الماضية من أحداث تؤكِّد تلك النزعة العدوانية التي تتحوَّل إلى العنف الدامي في لَمْح البَرْق، وإن كنتُ ما أزال أعتقد أن الخمر هي التي أطلقَت تلك النزعةَ الجائحةَ الجامحة. وشرح لي سامي خوف الناس من الشرطة؛ لأن رجال الشرطة لا يرحمون، وعقوبة العنف رادعة، ولو لم يفِرَّ المعتدون لتعرَّضوا لأقصى العقوبات؛ فالقانون الإنجليزي ينُص على أقصى عقوبةٍ للإخلال بالأمن (أو حرفيًّا «تعكير صفو السلم» Disturbing the peace).
figure
د. محمد مصطفى رضوان ود. سعد حجازي أثناء رحلة لبيت الطلاب العرب.

عندما قابلتُ الأستاذ المشرف في الموعد المحدَّد (في الساعة الثانية يوم الإثنين ١٧ مايو)، ناقشَني في تفاصيل الرسالة، وكنتُ قد قطعتُ فيها شوطًا كبيرًا في مصر، فأشار إليَّ بأن أقتصر في الدراسة على الكُتب الثلاثة الأولى من قصيدة المقدِّمة، ولكنني كنتُ طموحًا فأردتُ توسيع نطاق البحث ليشمل الكتب الثلاثة عشرَ كلَّها في النسخة التي كتبَها عام ١٨٠٥م، ثم أصبحَت أربعة عشر كتابًا في النسخة المنشورة في عام وفاته، عام ١٨٥٠م، ووعدَني بتوسيع نطاق البحث في مرحلةٍ لاحقة، ولكنه طلب مني أولًا أن أُطلِعه على نموذج من كتابتي، واقترح أن أقرأ كتابًا وأُعِدَّ له عرضًا في ثلاثة آلاف كلمة، وآتي به في الأسبوع التالي. واستعرتُ الكتاب من المكتبة، وعُدتُ به فرحًا إلى المنزل إذ كان من الكتب النادرة التي طالما سمعتُ عنها وقرأتُ مقتطفاتٍ منها في غضون كتبٍ أخرى دون أن أطَّلِع عليها. وما إن دخلتُ غرفتي حتى انكببتُ عليه ألتهمُه التهامًا مستعينًا بالمعجم الذي اشتريتُه بعشرة شلنات، حتى غلبَني النُّعاس، واستأنفتُ القراءة في اليوم التالي فلم أذهب إلى الكلية، ولم أتوقَّف عن القراءة إلا لأداء الواجبات، ولكنني لم أنتهِ من قراءته حتى اليوم الثالث — يوم الأربعاء — وعندها بدأتُ الكتابة.

كنتُ أعرف أن ذلك المقال — كما يُسمُّونه (essay) — بمثابة اختبارٍ لقدرتي على التعبير، فتعمَّدتُ التنميق والزركشة، محاكيًا كُتَّاب الملحق الأدبي لصحيفة التايمز (TLS) أو ما يُسمِّيه شكري عياد «التأنُّق في الأسلوب»، وكتبتُ عشرَ صفحاتٍ قدَّرتُ أنها تضُم ثلاثة آلاف كلمة، وراجعتُها بدقة، ثم أسرعتُ إلى الكلية، وكان ذلك يوم الخميس ٢٠ مايو، فوضعتُ المقال في دُرج البريد الخاص بالأستاذ وخرَجْت.

كان الجو الصحو يُغرِي بالسير في الحديقة، فسِرتُ الهُوينَى أرقُب الطيور والزهور وأتأمل أنواع الأشجار الأوروبية التي لا نألفُها في مصر، وأنظُر إلى صفحة الماء الساكنة، وأتطلَّعُ إلى السحابات التي لا تكاد تتحرَّك عند الأُفق حتى بدأَت تصطبغ بألوان الأصيل، فأيقنتُ أن اليوم يطوي صفحته، وأن عليَّ أن أُهرعَ عائدًا لشراء بعض اللوازم المنزلية قبل أن تُغلِق المحلات أبوابها.

وعندما عُدتُ إلى المنزل حدَّثني سامي عن رسالته، وكانت عن أثَر الثقافة في تعليم اللغة الإنجليزية في مصر، وتحادَثْنا طويلًا في الصعوبات التي تكتنف مناهج التعليم بسبب اختلاف المفاهيم، وعرض عليَّ بعضًا من النتائج التي توصَّل إليها، وما يتصوَّره من أساليبَ للتغلُّب على الصعوبات الثقافية، ووجدتُ الموضوع شائقًا لكنني لم أفهم ما يعنيه بالنحو التحويلي transformational grammar، ولم أكن سمعتُ بعدُ عن تشومسكي وأوستن وسيرل (Chomsky, Austin, Searle)؛ إذ لم تكن علوم اللغة الحديثة قد «وصلَت» إلى مصر في تلك الأيام، فبدأتُ أسألُ وهو يُجيب حتى حان موعدُ النوم.

وفي اليوم التالي — يوم الجمعة — اقترح سامي عليَّ أن أصحَبه إلى مسجد لندن لأداء فريضة الجمعة، فتوضأنا وذهبنا فرأيتُ عجبًا، كان معظم المصلِّين ممن لا يعرفون العربية؛ فهم مسلمون من بلدانٍ أفريقية وآسيوية، وبعضهم من أوروبا، وكان عدد المصريين لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة، وكلهم يستمع إلى خطبة باللغة العربية ويؤدي الصلاة طبعًا باللغة العربية، كان من بينهم جارنا في المنزل (باقر) الباكستاني، وبعد الصلاة تحادَثْنا فعرفتُ أنه من طائفة الإسماعيلية، ولم أكن أعرف عنها شيئًا حينذاك، فكنت أستمع في صمتٍ لما يُقالُ ونحن نسير خارجَين عَبْر الحديقة المجاورة للمسجد، حتى تفرَّق الحشد الحاشد وذاب في زحام الطريق.

كنت مشغولًا أثناء العودة بالتفكير في خطبة الجمعة، كانت ولا شك من الخطب المحفوظة، وذكَّرَتني بالخطبة التي كان يلقيها الشيخ «حمدتو» في مسجد الشيخ قنديل في رشيد؛ فهي تبدأ بالصلاة والسلام على النبي، وتلاوة آية، ثم تأتي العبارات المعهودة: «أما بعد فأوصيكم عباد الله بتقوى الله، وطاعة أوامره واجتناب نواهيه …» وقلتُ في نفسي: هل يفهم المصلُّون هذا الكلام؟ إنهم ولا شَكَّ يفهمون الآياتِ وقِصارَ السور التي يقرءونها في الصلاة، ولكن تُراهم يفهمون معنى «تقوى الله»؟ وهل من الجائز إلقاء خطبة الجمعة بالإنجليزية؟ وهل هي خطبة حقًّا (homily) أم موعظة (sermon)؟ وما الغرضُ منها في لندن؟ ولم تتوقَّف تساؤلاتي بعد كل جمعةٍ أُصلِّيها في ذلك المسجد.
وذهبتُ يوم السبت إلى «اليولو» حيث قابلتُ بعض المصريين، فعلمتُ منهم أن كلية المسرح في لندن (رادا وهي اختصار Royal Academy of Dramatic Arts) ستُقدِّم حفلًا في نفس اليوم مرتَين؛ الأول ماتينيه (نهاري وإن كان يبدأ مثل جميع المسارح في الثانية والنصف ظهرًا)، والثاني مسائي، وأن المسرحية هي «عطيل» لشيكسبير Othello، وأن البطل الذي يقوم بدور عطيل هو المصري أحمد عبد الحليم، ولم أتردَّد. ذهبتُ وشاهدتُ العرض، وبَهرَني ذلك العملاق المصري وهو يؤدي دور القائد المغربي الذي نهَشَته أنياب الغَيرة فقتل زوجتَه ظلمًا، وكنتُ أُتابع حركاتِه وسكناتِه بمزيجٍ من الإعجاب والاعتزاز بموهبته الفذَّة، وسعيتُ إليه بعد انتهاء العَرض وقلتُ له إنني سأكتُب عن العَرضِ في مجلَّة المسرح القاهرية، وطلبتُ صورًا تُنشَر للعرض، فوعد أن يأتي بها بعد أيام، وعندما صدَرَت جريدة المسرح الإنجليزية The Stage كان فيها مقالٌ يمتدح أداءه، كما ذكَرَت صحيفة التايمز The Times اليومية نبأ حصوله على ميدالية الشرف. وكتبتُ المقال وأرسلتُه إلى مصر؛ فرئيس التحرير هو رشاد رشدي، وسكرتير التحرير هو فاروق عبد الوهاب (الدكتور، الذي يعمل أستاذًا بجامعة شيكاغو حاليًّا) ولم يلبَث المقال أن نُشِر في العدد التالي من المجلَّة بعنوان «عطيل جديد من القاهرة».

٣

عندما قابلتُ المشرف يوم الإثنين التالي كان منفرج الأسارير، بشوشًا كعادته، ولكن تعليقه على مقالي لم يكن يبعث على الاطمئنان؛ إذ بدأ — بعد تعبيرٍ عام عن الرضا — بتعداد عيوبي الأسلوبية، وأهمها ما كنتُ أظُنه مزيةً كبرى وهو التأنُّق في العبارة! وجعل يردِّد أن الكاتب عليه أن «يختفي» وراء كتابته لا أن يُبرِز ذاته، وأن يَعمِد إلى البساطة في التعبير حتى يفهَمه القارئ دون عناء، وأن بناء الجُمل الطويلة المعقَّدة يُرهِق القارئ، وأشار بالقلم إلى بعض عباراتي التي قال إنها عسيرةُ الفهم، وإن عليَّ أن أضع الوضوحَ نُصبَ عيني لا الصياغة البديعة! وأردف قائلًا إنه سيمنحُني فرصةً أخرى، لكتابة عرضٍ لكتابٍ آخر، وموعدنا الأسبوع التالي. كان معنى ذلك أنه لم يرضَ عن المقال، وعبَّرتُ عن احتجاجي قائلًا إن كاتبة الكتاب تستخدم الأسلوب نفسه، ولكنه ردَّ في هدوء قائلًا: إذن عليك أن تتولَّى تبسيطَ الأفكار بلغتك وبسطَها بسطًا مستفيضًا expatiation فذلك من حَقِّ القارئ عليك. وانتهت المقابلة وخرجتُ أحمل المقالَ الذي خيَّب الظن، وعُدتُ إلى المكتبة فاستعرتُ كتابًا آخر وذهبتُ إلى المنزل لا ألوي على شيء.
كنتُ أشعُر أنني طُعِنتُ في أعزِّ ما أملكُ وهو قدرتي على الكتابة، أو على التعبير الواضح الجلي، وأن عليَّ أن أجتهد حتى أُبرِّر حُسن ظني بنفسي، فعكَفتُ على الكتاب الثاني أقرؤه على مهَل، وأتوقَّف عند النقاط المهمة، فأنقل منه فقرةً أو بعض فقرة، في أوراقٍ صغيرة مُقوَّاة (مثل البطاقات) حتى انتهيتُ من الفصل الأول. وجعلتُ أسأل نفسي ماذا تقول الكاتبة (واسمها EnidWelsford واسم الكتاب Salisbury Plain) ثم كتبتُ ما تصوَّرتُ أنها تقولُه في صفحةٍ واحدة، وانتقلتُ إلى الفصل الثاني. وهكذا قضيتُ ثلاثة أيام لا همَّ لي إلا إيضاحُ الأفكار التي لم تكن في الواقع عميقة ولا جديدة عن الشاعر وردزورث، على عكس الكتاب الأول الذي كان يناقش العلاقة بين الرمز والصورة في شِعر الشاعر نفسه (لمؤلفةٍ أمريكيةٍ تُدعى Florence Marsh) وانتهيتُ يومَ الخميس من الكتاب، ولكنَّني لم أكن قد انتهيتُ من المقال، فتفرَّغتُ له صباح الجمعة ونقَّحتُ المسوَّدة، ودعمتُه بمقتطفاتٍ من كلام ولسفورد نفسها، حتى طال فأمعَن في الطول. ولكنني كنتُ راضيًا عنه فلم أحذف أي شيء، وأسرعتُ إلى الكلية فوضعتُه في دُرج بريد الأستاذ وخرَجْت.

لم أكد أعود إلى المنزل حتى وصل خطابٌ في بريد العصر من سمير سرحان، يقول لي فيه: إنه سوف يُسافِر يوم السبت (اليوم التالي) من مصر إلى أمريكا، وإنه سوف يتوقف يومًا وليلة في لندن ليراني. وطرتُ فرحًا وأخبرتُ سامي أبو طالب فقال لي إنه يستطيع قضاء الليلة هنا معنا، وفي صباح اليوم التالي اتجهتُ إلى المطار في إحدى الحافلات المخصَّصة لهذا الغرض وأجرُ الرحلة ثلاثة شلنات ونصف، وانتظرتُ وصولَ الطائرة المصرية، وخرجنا معًا إلى لندن. وحكى لي في الطريق أن الدكتور محمد مندور تُوفي وأن الدكتور لويس عوض مال على الدكتور رشاد رشدي أثناء العَزاء وقال له «الدور علينا بقى» فغضِب رشدي غضبًا شديدًا لأنه لا يُحب ذِكر الموت، ولولا شعوره بالواجب الاجتماعي ما حضَر العَزاء أصلًا. وظلِلْنا نتجاذب أطراف الحديث حتى وصلنا إلى المنزل، ثم انطلقنا إلى وسط المدينة لأول مرة.

figure
محمد السوري، محمد عناني، أمام حجر رشيد في المتحف البريطاني عام ١٩٦٦م.
كانت تلك ليلة السبت (أي عشية الأحد ٣٠ مايو ١٩٦٥م) وهي تقابل ليلة الخميس لدينا (أي عشية الجمعة) وكان ميدان بيكاديلي Piccadilly Circus غاصًّا بروَّاد المسارح والسينما، فتجوَّلنا ما شاء الله لنا أن نتجوَّل، من ليستر سكوير Liecester Square إلى شارع ستراند The Strand حتى وصلنا إلى مسرح أولدويتش Aldwych — مقر فرقة شيكسبير الملكية، وعرَّجْنا على مسرح كَفِنْت (كوفِنت) جاردن Covent Garden حيث تُعرضُ مسرحيةٌ موسيقية، وأخيرًا عُدنا إلى المنزل وقد أنهكَنا طُول التَّجْوال، فوجدنا سامي أبو طالب في انتظارنا وقد أعدَّ لنا عشاءً خاصًّا، وبعد الطعام أكمَلنا السمَر في غرفة سامي حتى حان موعد النوم، وفي الصباح اصطحبتُه للمطار وفي حلقي غُصَّة؛ فقد بدأَت أيام الغُربة حقًّا، وعليَّ أن أنتظر عامًا على الأقل حتى تنتهي نهاد خطيبتي من دراستها وتلحق بي في لندن.
أصبح قطار المترو (The Underground) عادةً يومية، أستقلُّه في الصباح في الثامنة حتى أصل إلى الحديقة فأسير حتى الكلية، ثم أنتظر افتتاح المكتبة في التاسعة فأكون أوَّلَ الداخلين، وأقرأ حتى الحادية عشرة — موعد القهوة — فأخرج لتناوُل القهوة بأربعة بنسات، ثم أعود للقراءة حتى الثانية عشرة والنصف، فأخرج لتناوُل الغَداء، حتى الثانية — وكان ذلك موعد الأستاذ يوم الإثنين — أما في الأيام العادية فأعود إلى المكتبة حتى الرابعة — موعد الشاي — ثم أستأنف القراءة حتى السابعة — موعد العشاء!
وعندما قابلتُ المشرف في ذلك اليوم (٣١ / ٥) لم أُلقِ بالًا إلى هشاشته فهي لا تعني شيئًا، بل ركَّزتُ اهتمامي في الألفاظ التي سينطقها كأنما كان مستقبلي متعلقًا بها، وعندما بدأ الحديث كان ما يزال يُحدِّق في الأوراق التي كتبتُ فيها المقال، ثم استدار فجأةً ليقول «أرى أنك تعلَّمتَ الدرس» فأردف ذلك ببسمةٍ صافية، ثم قال كأنما يُكلِّم نفسه «لم تكن هذه الفتاة تلميذةً مجتهدة في يومٍ من الأيام .. ما رأيك في هذا الكتاب؟» وتملَّكَني الصمت والذهول. لم أكن أدري أنه يعرف المؤلِّفة معرفةً وثيقة، ولم أكن أعرف رأيَه الشخصي فيها ولا في الكتاب، فتلعثمتُ وهو ينقل بصره بيني وبين الأوراق، فأجبتُ على سؤاله بسؤالٍ من عندي، وهي حيلةٌ أوصاني بها الدكتور مجدي وهبة (رحمه الله) للخروج من المأزق، فقلتُ: «ما رأيك في المقال؟» ويبدو أن الأستاذ فَطِن للحيلة فقال ضاحكًا: «يبدو أنك راضٍ عن الكتاب!» وهنا أدركتُ أنه كان يريدني أن أُهاجم المؤلِّفة، فقلتُ بنبراتٍ واثقة وضعتُ فيها كل ما أملك من التواضع: «لقد حاولتُ عرض ما تقول بأمانة، وموضوعية.» ونجحَت الحيلة؛ إذ قال بسرعة «وأتيتَ في مقالك بالأفكار التي سرقَتها من أستاذنا السير موريس رحمه الله! هذه من لصوص الأفكار يا مستر عناني! هل تعرف أنها سرقَت مني أنا عبارةً وضعَتْها في بحث التخرُّج عندما كنا في أوكسفورد Oxford؟ وهل تتصوَّر أنها كوفئَت على تلك العبارة بتقدير ممتاز في البحث؟» وصمَت ليرقُب تأثير ذلك الخبر عليَّ فسألتُه: «عبارة واحدة؟» فأسرع يقول «كانت العبارة الأساسية (Key) التي أوضحَت للمُمتحِن إلمامَها بالموضوع!» وقلتُ في دهشةٍ صادقة هذه المرة: «وماذا فعلتَ أنت؟» فضحك وقال: «كان ذلك من زمنٍ بعيد، وقد أغلقنا الملف وانتهينا!» ولم أجد ما أقولُه فساد الصمت، وقام ليُفرِغ لنفسه شرابًا من الجلوكوز يستمدُّ منه القوة؛ فقد كان شيخًا واهنًا، ثم قال: «أعتقد أنك قادر على الكتابة، ويجب أن تبدأ بصياغة عنوانٍ دقيقٍ للرسالة حتى يتسنَّى التسجيلُ قبل انتهاء الفصل الدراسي.» وسألتُه إن كان العنوانُ وحدَه كافيًا للتسجيل فأجاب بالإيجاب، وقال إن ما كتَبتُه في خطاباتي لرئيسة القسم مُقنِع وسيرضَى عنه مجلس الجامعة (The Senate) وسألتُه عن الإجراءات والأوراق المطلوبة، فقال: «اذهب إلى سكرتير الكلية، وعُد إليَّ غدًا أو بعد غد بعنوانٍ دقيق، فإن لم تجدني فاتركْه في درج الخطابات.» وانصرَفْت.

كان العنوان هو الذي سبق الاتفاق عليه، ولكن التحديد مشكلة، وآثرتُ عدم الإصرار على تناول جميع الصور الشعرية في قصيدة المقدمة برُمَّتها، والاكتفاء بالصور الأساسية في الكتب الستة الأولى، وكتبتُ العنوان وجئتُ في اليوم التالي فوضعتُه حيث طلب، وعُدتُ إلى المكتبة، وبدأتُ منذ ذلك اليوم، وكنا في أوائل يونيو، رصدَ كُل ما كُتِب في الموضوع، وتلخيص كل مقالٍ أو كتابٍ في بطاقةٍ صغيرة (كارت) وإعداد هذه البطاقات للرجوع إليها عند الحاجة للاستزادة من كتابٍ من الكتب، وقدَّرتُ أن هذا العمل سيستغرق شهرًا أو شهرَين، ولكنني آليتُ على نفسي أن أنتهي منه قبل تحليل الشعر نفسه. وكانت المكتبة زاخرةً بالكُتب التي تتناول شعر الشاعر، وبالدوريات العلمية الحافلة بما كُتب عنه، فكانت ساعات اليوم تفِر سِراعًا وأنا منهمكٌ في ذلك العمل المضني حتى انقضى الفصل الدراسي، واطمأنَّ قلبي إلى أنني سوف أعرفُ كل ما كُتب عن الشاعر حتى عام ١٩٦٥م.

٤

ولكن شهور الصيف سرعان ما انقضَت دون أن أنتهيَ من ذلك العمل، وكنتُ أُدرِك كل يومٍ مدى التحوُّل في كل شيء حولي؛ فلم يكد شهر سبتمبر يأتي بأجواء الخريف حتى اختلف وجه الطبيعة، وتغيَّرَت ألوانُ أوراقِ الشجر، وبدأَت الرياح تعصفُ أحيانًا بلا مطر، وإن كانت الأمطار تسقُط بلا نمطٍ ولا نظامٍ من أي نوع، وكنتُ أُحِس في كل يومٍ بذلك التغيير، وأفهَم منه مدى انشغال الإنجليز بالطبيعة، بل وبدأتُ أفهم الشعر الذي أقرؤه فهمًا جديدًا؛ فالإنجليزي يُحب الطبيعة حبًّا مشبوبًا، وهو دائم التفكير في حديقة منزله وزهور شُجيراته، والمجلات التي تُعالِج موضوعات «البستنة» horticulture (أي غرس أشجار البساتين المُثمِرة والمُزهِرة ورعايتها) كثيرةٌ لا حصر لها، وأحاديث طُلَّاب الدراسات العليا وأعضاء هيئة التدريس في غرفتنا (The Common Room) كثيرًا ما تدور حول أنواع الأزهار والثمار التي يزرعونها في حدائق بيوتهم، وبدأتُ أفهم أيضًا سر ميل الشعراء إلى تحديد أنواع الأزهار في أشعارهم؛ فالأزهار جزءٌ من الثقافة الإنجليزية، ورعايتها جزءٌ لا يتجزَّأ من تفكير الإنجليز بل ومن اللغة الإنجليزية نفسها، ووجدتُني رغم أنفي أتعلم التمييز بين الزَّنبَقة Tulip والأُقحُوانة Daisy، وبين القَرنفُلة carnation والبنَفسِجة Violet، وبين أنواع الورود، ثم أقف حائرًا عند عشرات أسماء الأزهار التي لم أكن أعرف لها مقابلًا بالعربية، واجتهدُت حتى أصبحت أعرف اﻟ blue bells واﻟ foxgloves واﻟ orchids وغيرها، وفرحتُ لأنني استطعت إدراك المعنى الصحيح لبيتٍ ورَد في قصيدة المقدمة، وكنتُ أسأتُ فهمَه في مصر وجاء فيه:
Planting my snowdrops among winter snows
إذ كنتُ لا أعرف أن snowdrop اسم زهرة، وتصوَّرتُ أنها تعني قطعةً صغيرة من الثلج!
كان جمال الخريف أخَّاذًا، وكنتُ أرقُب الحديقة من مجلسي في المكتبة، وكثيرًا ما كنتُ أترك القراءة وأتطلَّع فتراتٍ طويلةً إلى الأشجار وهي تنفضُ أوراقها وتتعرَّى غصونها مع هبَّات الريح، وفي ذاكرتي أبيات الشاعر شلي Shelley، وكان الجو أحيانًا يكفهرُّ وتغيبُ الشمس خلف السحاب، وأنا أُقلِّب بصري بين ما أقرأ وما أشاهد، حتى انقضى سبتمبر، وفاجأَني سامي أبو طالب ذات يومٍ بأنه سوف يترك الشقة؛ لأن إدارة البعثات أخبرَتْه أن كلية التربية قرَّرَت إيقاف مرتَّبه لأنه لم يحصل بعدُ على أي درجةٍ علمية تُبرِّر بقاءه في البعثة، وقال إنه سوف يُضطَر إلى الالتحاق بعمل «بعض الوقت» في بيت الطلاب بجامعة لندن بالقرب من ميدان رَسِل، مقابل الإقامة والطعام وبعض قروشٍ زهيدة، حتى يستطيع الانتهاء من الرسالة!
وقَع الخبر عليَّ وَقْع الصاعقة، ولم أكن حزينًا فحسب لأنه سوف ينتقل إلى مسكنٍ آخر، بل أيضًا لأنه كُتبَ عليه أن يعمل عملًا يدويًّا حتى يستطيع الاستمرار، وكان الأمل في أن تغيِّر الكلية رأيها أو أن تتراجع عن قرارها شبهَ معدوم، وكان سامي طالبًا مُجدًّا قطع شوطًا كبيرًا في اكتساب المعرفة بعلوم اللغة الحديثة وهي بعدُ في مهدها، وكان يُتابِع الجديد ولا يتركُ شيئًا دون تمحيص، فأحسستُ أنه مظلوم، وقلتُ في نفسي إن ما حدث له يمكن أن يحدُث لأي إنسان، خصوصًا بعد أن زارني كرم محسن ذات مساءٍ عاصف في أواخر سبتمبر! وأذكر أنه كان يوم الجمعة (٢٤ / ٩) إذ جاء في الصحف نبأٌ يفيد اتفاق مصر والمملكة العربية السعودية على وقف إطلاق النار تمهيدًا لإنهاء حرب اليمن. وكان كرم محسن زميلًا يسبقني بعامٍ في الدراسة، وتخرَّج بتقدير جيد جدًّا وعُيِّن مدرسًا للغة الإنجليزية بالقسم، ثم حصل على بعثة إلى اسكُتلندا وسافر قبلي بعامَين، وكنتُ أتصوَّر أنه قد بهر الجميع في جامعة إدنبره Edinburgh بجدِّه واجتهاده؛ ولذلك فوجئتُ عندما طرق بابي في لندن ذات يوم وهو مهمومٌ كاسف البال، وجلس يُغالِب الدموع ليقُص عليَّ رسوبه في الامتحان التأهيلي QualifyingDiploma الذي تعقده تلك الجامعة لجميع المتقدمين للدراسات العليا قبل التسجيل للدرجة (أولًا لدرجة M. A. أي الماجستير التي قد تتحول إما إلى M. phil. التي هي وسط بين الماجستير والدكتوراه أو إلى Ph. D. أي الدكتوراه) وذلك بعد دراسةٍ قد تستمر عامًا واحدًا يعقُبه ذلك الامتحان، أو لمدة عامَين إذا لم يوفَّق الطالب في الامتحان الأول، ويُمنَح الطالب الناجح ما يُسمَّى بدبلوم الدراسات العليا postgraduate diploma وهو ليس درجةً علمية بل خطوة تأهيلٍ للبحث العلمي.

وجعلتُ أُناقِش كرم محسن في التفاصيل، فقصَّ عليَّ أنهم طالبوه بقراءة عدة نصوص لشيكسبير في مادة الدراما وكتابة أبحاثٍ عن النقد الحديث الذي كان ملمًّا به، وتوسَّع وأفاض في مَيل بعض الأساتذة إلى اضطهاد الأجانب، وقال إنه يظُن أنهم يهود (وقد اعتدتُ سماع ذلك فيما بعدُ من الذين لم يُوفَّقوا) وأضاف إنه سيتحوَّل إلى جامعةٍ أخرى قد تكون أرحَم وأشفَق، وذكر لي بعض الجامعات الإنجليزية التي قبلَته ثم مضى (وعلمتُ فيما بعدُ أنه صادف صعوباتٍ كثيرة عاد بعدها إلى مصر دون الحصول على الدرجة).

كان الموقف كئيبًا، وبدأتُ أتردَّد على بيت الطلاب العرب الذي يُسمُّونه نادي الطلاب العرب ومقرُّه هو مكتب البعثات؛ أي مكتب المستشار التعليمي والثقافي المصري، وتعرَّفتُ فيه على معظم المصريين وبعض الطلاب العرب من خارج مصر، وكان من بينهم من همَس الهامسُ بأنهم «مخابرات» أي عيونٌ ترقُب سلوك الطلاب وترصُد أقوالهم، فكنتُ أتعمَّد تحاشي المشاركة في المناقشات السياسية، وأحوِّل دفة أي مناقشة إلى اللغة الإنجليزية وصعوباتِها، وهم في حَيرة من أمري! كان بيت الطلاب صورةً مصغَّرة من الجو السائد في مصر والبلدان العربية «التقدُّمية» وكان الخوف هو الشعور السائد بين الجميع! من يدري قد يكونُ من تُحادِثه من «العيون» وقد يكون حديثه فخًّا منصوبًا للإيقاعِ بك! ورأيتُ السلامة في تحاشي هذا وذاك، وإن كانت ثقتي لم تتزعزع ببعض زملاء الكلية الذين كانوا يدرُسون تخصُّصاتٍ مختلفة.

كان ضيقُ ذات اليد من أهم ما يشغلُني آنذاك، فاقترح عليَّ أحدهم أن أتجه إلى القسم العربي بهيئة الإذاعة البريطانية علَّني أستطيع أن أكتبَ شيئًا يأتي بعائدٍ ماديٍّ معقول. كان رئيس قسم الدراما هو الكاتب السوداني الطيب صالح، وكان رئيس قسم المنوَّعات اسمه عبد الرحيم الرفاعي، ويرأس القسم الأول إنجليزيٌّ اسمه دكورث Duckworth ويرأس الثاني سيدةٌ اسمها مسز شرينغهام Mrs. Sheringham وكان صالح والرفاعي قد اطَّلَعا على ترجماتي لشيكسبير التي نُشِرَت في مجلة المسرح القاهرية، فاقترحا أن أكتُب بعض الأحاديث الإذاعية، فكتبتُ حديثًا عن رديارد كبلنج Kipling قصَّاص الإمبراطورية البريطانية وشاعرها، وسلَّمتُه إلى سعيد العيسى وهو فلسطيني يعمل رئيسًا لقسم الأحاديث، فأبدى رضاه عنه، خصوصًا ما ترجمتُه من قصائدَ عثَرتُ عليها في المجموعة التي نشَرها ت. س. إليوت وكتب لها المقدِّمة، ولكنه لم يجد قصيدتَه المفضَّلة والشهيرة التي يُشار إليها عمومًا باسمِ قصيدة “If” والتي يقول مطلعُها:
If you can keep your head when all about
You are losing theirs and blaming it on you …

ومعناها:

«إذا استطعتَ أن تظل ثابتَ الجَنان،
وطاشَ عقلُ كُل من يُحيط بك،
وقال إنك السبَب …»

فتساءل كيف أُغفِل قصيدةً شهيرةً مثل تلك القصيدة، ولم يقتنع بما ذكرتُه عن عدم إدراج إليوت لها في المختارات، وأكَّد لي أن الحديث الإذاعي لن يكتمل إلا بها؛ ومن ثم اتجهنا إلى المكتبة وأتينا بديوان الشاعر، وفي دقائقَ كنتُ أعددتُ ترجمةً منظومةً للأبيات الأولى منها، مما أدهشَه دهشةً واضحةً، فقال فلنُضِف الأبياتَ إلى الحديثِ ففعلنا، وانتهَينا من التسجيل في أقلَّ من نصف ساعة، وانصرفتُ على أن يرسل لي العقد الخاص بكتابة الحديث بالبريد، يتلوه الشيك. وكان العنوان الذي أعطيتُه إياه هو عنوان المنزل الجديد الذي انتقلتُ إليه في أكتوبر، وهو منزلٌ قديم بُني قبل الحرب العالمية الأولى، فبدت عليه دلائل الهرَم، ولذلك قصةٌ موجزة.

بعد أن انتقل سامي أبو طالب إلى بيت الطلاب، كان عليَّ أن أبحث عن مسكنٍ آخر بسرعة، وفي المنطقة نفسها، لأنني أصبحتُ أعرفها، وحيث يقيم عددٌ من إخواني المصريين، وحيث ألتقي بهم في نهاية الأسبوع أحيانًا؛ مثل فؤاد أبو حطب، وحامد زهران، وحسنين ربيع وغيرهم، وقد تعرَّفتُ في منزل حامد زهران الذي كان تخرَّج في قسم الجغرافيا ولكنه كان يدرس التربية وعلم النفس، على سمير رضوان الذي كان يدرُس الاقتصاد، وكان يتحدَّث عن الاشتراكية بحماس وإيمان منقطع النظير، ثم دار الزمان وسمعتُ صوته أثناء مقامي شهرًا في جنيف للعمل بالترجمة في الأمم المتحدة عام ١٩٩٢م، سمعتُ صوته في التليفون يسأل عن محمد العليمي، أحد خريجي القسم والعاملين بالأمم المتحدة، ولما سألتُ إن كان المتحدث هو الشخص نفسه الذي تفوَّق في جامعة كيمبريدج وكان من أبرز الدارسين ودعاة الاشتراكية، جاءني الردُّ بالإيجاب مع تذييلٍ قصير مفاده أنه أصبح من كبار الدعاة الإسلاميين، شأنه في ذلك شأن محمد العليمي نفسه. ولم أشأ أن أطرح المزيد من الأسئلة؛ فالقصة متكرِّرة ومألوفة، وأعود إلى قصة الانتقال إلى المنزل «الجديد».

كان من عادة أصحاب المنازل الذين يريدون عرض غرفة أو شقة للإيجار أن يعلنوا عن ذلك في بطاقاتٍ صغيرة توضع في لوحةٍ خاصة خارج المحلات التجارية مقابل قروشٍ زهيدة، وكنتُ قد اعتدتُ قراءة هذه البطاقات وفك رموزها التي تُحدِّد «نوع» الساكن المطلوب، وكان معظم المعلنين من العجائز أو الأرامل اللائي أصبحن يعشن في وحدةٍ بعد وفاة الزوج ورحيل الأبناء، أو بعد فقدان الأهل، وما كان أكثرهنَّ في تلك الأيام؛ فلم يكن مضى على الحرب العالمية الثانية سوى عشرين سنة، وكانت تلك السيدات اللائي فقدن رجال الأسرة ما زلن قادراتٍ على العمل (على تقدُمهنَّ في السن) وكان وجود السكان الأفراد في الغرف المفروشة يمثِّل مصدرًا للدخل، ويوفِّر لصاحبة المنزل The landlady عملًا يشغلُها ويُنسِيها آلام الوحدة. وكان الشائع في تلك الأيام أيضًا وجود عبارة في ذيل البطاقة تقول «لا نقبل الملوَّنين» مثلًا (no coloured) أو لا نقبل أبناء أيرلندا، أو لا نقبل الأطفال أو الكلاب إلى آخر ذلك.
وانتقيتُ بطاقة لا يضع صاحبها شروطًا من أي نوع، ويقول إن الغرفة إيجارها ثلاثة جنيهات إلا ربعًا في الأسبوع، فأسرعتُ بالاتصال برقم التليفون فوجدتُ ترحابًا، وطلب المتحدث مني أن أتجه إلى المنزل وأن أُخبِر من يفتح الباب أنني قد استأجرتُ الغرفة وأن لي أن أنتقل دون إبطاء، على أن يُحسَب الإيجار اعتبارًا من اليوم التالي. كنا يوم الخميس (٣٠ / ٩)، فتوجَّهتُ من فوري إلى المنزل في شارع أيزلدون (١٣, Isledon Road) (وكنتُ أظن أن حرف اﻟ S صامت ولكنني اكتشفتُ أنه يُنطَق زايًا!) الذي لا يبعُد إلا مائتَي متر تقريبًا عن منزلنا القديم، وعندما قرعتُ الباب فتحَت لي امرأةٌ سوداءُ هائلة الجِرْم، ضاحكة السن، شعرها أبيض كالقطن، وبدت خفيفة الحركة على ضخامتها، ترتدي ملابسَ زرقاءَ داكنة، وقالت كلامًا لم أفهَم معظمه، ثم اصطحَبَتني إلى الطابق الثالث (يوازي الثاني عندنا) وفتحَت لي الغرفة وقالت لي تفضَّل! كان بالغرفة شُباكٌ كبير يُطِل على فِناءٍ تابع لمحطة قطارات الضواحي، وقد تناثَرَت فيه قِطَع الحديد والأخشاب، ثم ارتجَّ البيت رجةً عظيمة حتى خلتُ أنه كاد أن يسقط، وبدَت أمارات الهلَع على وجهي وأمسكتُ بإحدى قوائم السرير، والتفتُّ إلى السوداء الضخمة في تساؤل وذعر وكانت الأواني الموضوعة على المنضدة تصطَك وتُحدِث جلَبةً مفزعة، فأجابَتْني بضحكةٍ مجلجلة قائلة: «إنه القطار! سوف تعتاد عليه!» وبعد أن هدأ رُوعي خرجتُ لا أدري هل أمضي في مشروع الانتقال أم أبحث عن مسكنٍ آخر، وعندما وصلتُ إلى باب المنزل قالت لي السوداء: «سأُعطيك مفتاح البيت عندما تأتي .. وإذا شئتَ أتيتُك بمفتاحٍ للغرفة .. أنا في انتظارك على العموم!» وخرجتُ إلى الطريق العام دهِشًا من كلامها. وبعد أن قلَّبتُ الأمر على وجوهه قرَّرتُ الانتقال في نفس اليوم، فأعدَدتُ حقيبتي وحملتُها على كتفي وسِرتُ حتى أفرغتُ ما بها في الغرفة الجديدة، ثم عُدتُ إلى المنزل القديم وملأتُها من جديد ثم عُدتُ فأفرغتُها وتركتُها، ورجعتُ إلى التركي لكي أودِّعَه وأعطيَه مفتاح المنزل، وعندما استقر بي المقام في الغرفة الجديدة، حاولتُ أن أروِّض نفسي على تقبُّل الأمر الواقع؛ فالغرفة لا تدفئة بها، ولديَّ مدفأة تعمل بالجاز (الكيروسين) أُوقدها ليلًا، وليس بالغرفة مكتب، بل منضدةٌ صغيرة لا تكفي كتبي وكرَّاساتي. والمشهد من الشُّباك قبيحٌ قبيح، وضجيج القطار يتكرَّر ليلًا ونهارًا، وعندما جاء صاحب المنزل يوم السبت (٢ / ١٠) لتحصيل الإيجار وجدتُه عملاقًا أسود، اسمه آشيل Achilles (مثل البطل الإغريقي أخيلاس) وكان يتحدث كأنما لا يُشارِكه الحوار أحد، وأكاد أذكُر كل كلمة قالها ذلك الصباح:

– صباح الخير يا مستر عناني .. أنت من مصر .. هذا حسن! أنا من أفريقيا! نحن جميعًا من أفريقيا. هل أعجبَتْك الغرفة؟ هذا حسَن! روزانا تقول إنك دمْث الأخلاق. هذا حسَن. هل تحتاج لشيء؟ هذا حسَن! إذا احتجتَ لشيء فاطلبه من روزانا! سآتي صباح السبت التالي!

لم تستغرق المقابلة سوى دقائقَ معدودة، اختفى بعدها آشيل ولم أعُد أسمع له صوتًا، بعد أن كانت جملة “That’s good” ترن في الفضاء مثل الرعد! وفي الهدوء العميق الذي ساد المكان بعد رحيله، وجدتُني أجلس على الكرسي الوحيد المواجه للنافذة، وأتأمل قضبان السكك الحديدية الصدِئة، وأكواخ المهمَّات المُهمَلَة، وأكوام الأخشاب والصخور المستخدمة في بناء الوصلات، وأحد العمال يصيحُ في زميلٍ له بلهجة من المُحال تحديد كُنهها، أنا لا شك أفريقي، ولكنني لستُ من هذه الفئة، وذكرتُ ما قاله سامي أبو طالب عن العنصرية والتعصُّب فقرَّرتُ ألا أشغَل بالي بالتصنيفات العِرقية، وأن أتفرَّغ للدرس حتى أعود إلى مصر العربية، وإلى من لا يعتبرني «غريب الوجه واليد واللسان»!
وقضيتُ عطلة نهاية الأسبوع ما بين القراءة وبين التريُّض في الحديقة العامة التي أُطلِق اسمها على الحي، وعُدتُ ابتداءً من يوم الإثنين إلى النظام اليومي في الكلية أُحاوِل أن أنتهي من تصنيف كل ما كُتب عن الشاعر ووضعه في البطاقات، حتى خلتُ أن المهمة اكتملَت، فأفضيت بالخبر السعيد إلى المصري الوحيد الذي كان يدرُس معي في كلية بدفورد وهو عادل مشرفة، وفي تضاعيف الحديث ذكرتُ له تلك الغرفة الكئيبة، وكان قد عرَّفني بطالبةٍ تخرَّجَت في قسم اللغة الفرنسية، وهي إنجليزيةٌ تدعى هيلاري وايز (Wise) وتدرُس اللغة العربية في غُضونِ بحثها عن النحو التحويلي الذي ما لبث أن «تحوَّل» إلى موضة في الستينيات وما بعدها. وما إن سمعَت هيلاري قصة آشيل حتى انطلقَت تُحدِّثني عن مغبة الحياة مع الزنوج، وكانت كأنما تذكِّرني بأحاديث جدتي — رحمها الله — إذ روت لي (أي جدتي) أن جدَّتَها كانت لديها جاريةٌ سوداء، واكتشفَت الأسرة ذات يومٍ أن لها ذيلًا قصيرًا، فتأكَّد لهم أنها «غُولة» وسرَّحوها خوفًا على أطفالهم منها. لم تزعم شيئًا مثل ذلك ولكنها ذكرت بعض «الوقائع» ثم اقترحَت عليَّ أن أتقدَّم بطلبٍ إلى بيت طلابٍ جامعي اسمه Lillian Penson Hall ومعنى Hall هو مقَر إقامة، فهو اختصار تعبير Hall of Residence الذي ما يزال مستعملًا في بريطانيا، وأما الاسم فهو اسم الأستاذة الجامعية التي تبرَّعَت بالمال اللازم لتحويل فندقٍ ضخمٍ اسمه Stephen Court Hotel إلى بيتِ طُلاب. وأرسلتُ الطلبَ بالبريد في اليوم التالي إلى عنوانه في تولبوت سكوير Talbot Square واستأنفتُ حياتي المعتادة.
figure
كارول أثناء العمل بالترجمة في كوينز هاوس.
وانقضَى أكتوبر وأنا أتحمَّل رائحة القرنبيط والكرنب المسلوق، وهم لا يضيفون إليه الكمُّون الذي يذهب بالرائحة، ولا يطبخونه بطريقتنا بل يسلُقونه سلقًا، وكانت الرائحة تملأ البيت في المساء، وما كان أبغضَها وأقبحَها! وفي يومٍ من أيام نوفمبر عُدتُ إلى الغرفة مُرهَقًا من طُول القراءة في المكتبة، فأويتُ إلى الفِراش بعد أن أوقدتُ المِدفأة ولكن قبل أن يشيعَ الدفءُ في الغرفة، وإذا بي أرتعدُ وأرتعد ساعةً أو ساعتَين حتى خِلتُ أنني سأَهلِك. وفي الصباح ذهبتُ إلى الطبيب، وكانت امرأةً شرقية الملامح اسمها هانا بيرمان Hanna Beerman، شرحتُ لها ما أصابني فكتبَت لي علاجًا ونصحَتْني بالدفء.
اشتريتُ الدواءَ وبعضَ الطعام الذي أوصَت به وعُدتُ إلى الغرفة، وكان ذلك يوم السبت فوجدتُ جارتي السوداء (ولم أكن رأيتُها من قبلُ) قد استضافت روزانا الضخمة، وبابُ غرفتِها مفتوح، فدعَتْني للدخول فدخلتُ وسلَّمت، فقالت الجارة إنها سمعَت رِعْدتي في الليلة السابقة؛ فقد كان السرير يهتز، ويبدو أنني كنتُ أتألم بصوتٍ مسموع دون أن أدري، وقالت إن ذلك كثيرًا ما يحدُث لمن يسكُن تلك الغرفة. وحينما لاحظَت دهشتي قالت: «إن الروح الباردة تسكنُها (haunted by a cold spirit)، ولا يُجدي فيها أي قَدْرٍ من التدفئة!» وضحكَت روزانا وقالت: «إنه يريد تدفئةً خاصة تُذهِب تلك الروح!» وضحكَت الأخرى. وأحسستُ بالرِّعدة من جديد! وقدَّمَت لي جارتي قطعةً من الكعك وفنجانَ شاي، وقالت إن البريد أتاني بخطابٍ قدَّمَته لي فأخذتُه وانصرَفْت.

وعندما فتحتُ الخطاب وجدتُه من بيت الطلاب المذكور، وهو يتضمَّن الموافقة على الانتقال إليه، على أن أُشارِك أحد الطلاب غرفتَه بإيجارٍ شهري قدره ١٤ جنيهًا أما الغرفة المستقلة فإيجارها ضعف ذلك! ولم أُضِع الوقت فانطلقتُ إلى الطابق السفلي حيث التليفون المشترك (لسكان المنزل جميعًا) ووضعتُ أربعة بنسات وطلبتُ بيت الطلاب وقلتُ لهم إنني قادم! وعندما جاء السيد آشيل بعد نحو ساعةٍ أبلغتُه الخبر فهاج وماج، وقال لا بد أن تُخطِرني قبل الرحيل بأسبوع، وأصررتُ على موقفي، فتصايحنا فجاءت جارتي، ثم جاءت روزانا، واقترحَت المرأتان أن أدفع نصفَ قيمةِ إيجار أسبوع بدلًا من الإخطار، ووافق آشيل وأخذ المال وانصرَف.

وأبدت المرأتان حُزنَهما لرحيلي، ولكنهما أظهرتا قَدْرًا لا بأس به من التعاطُف، وساعدَتني روزانا في حزم حقائبي (وكنتُ اشتريتُ حقيبة أخرى بجنيهَين ونصف) بل حملَت الحقيبة الثقيلة بنفسها، وطلبَت لي سيارة أجرة بالتليفون! وفي أقل من ساعةٍ كنتُ في مقَري الجديد على مشارف وسط لندن!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤