الفصل الثالث

الخريف الجميل

١

كانت الخطابات المتبادَلة بيني وبين نهاد خطيبتي شريان حياة، وحبلًا يصلُني بالواقع الذي كنتُ أعرف أنني سأعود إليه، ورباطًا متينًا يشدُّني إلى مصر، حبي الأول والأخير، ولم تكن نهاد تبخل عليَّ بالأخبار، وإن كانت في تلك الأيام تعمل بجد للانتهاء من دراستها الجامعية والمحافظة على الامتياز والتفوُّق ودرجة الشرف، ولم يكن لديَّ من الأنباء ما أنقلُه إليها؛ فحياتي على طرافتها رتيبة، وما إن انتهت الامتحانات حتى اتفقنا على عقد القران بالتوكيل، فأرسلتُ توكيلًا إلى أخي مصطفى (موثَّقًا من القنصلية المصرية) حتى يوقِّع العقد نيابةً عني (وتم ذلك فعلًا يوم ١٧ يوليو ١٩٦٦م) وبدأَت نهاد في القيام بإجراءات السفر، وكانت شاقةً مضنية، وأعلمتُ الجميع بالخبر، وطلبتُ من مديرة بيت الطلاب غرفةً كبيرة استعدادًا لقدوم نهاد، وكانت اللوائح هنا لا تسمح بمكوث الضيف (الطالب) أكثر من عامَين، فعلمتُ أننا لا بد أن ننتقل إلى شقةٍ خاصة بنا مهما بلغ إيجارها.

كنتُ كثيرًا ما أتأمَّل تردُّدي بين العالمين اللذَين أعيش فيهما، وأعجَب للمفارقات التي كُتِبَ عليَّ أن أحيا فيها ليلَ نهار؛ فعملي في مكتب بحوث المستمعين يُتيح لي معرفةً ثمينة بأفكار مُرسِلي الخطابات، ومعظمهم من شمال أفريقيا، وهي أفكار أمةٍ عربية ما تزال تتلمَّس طريق النهضة الذي أتلمَّسه، وتتأرجح مثلما أتأرجح بين الماضي العربي السحيق الذي يعيش في الوجدان حاضرًا ومستقبلًا، وبين الحاضر الغربي الذي نُحاوِل التكيُّف معه دون مساس بذلك الماضي، وكانت تلك الخطابات من النوافذ النادرة على ذلك الفكر، وكنتُ أقرأ هذه الخطابات وأختزنُ في ذاكرتي ما أراه ذا دلالةٍ خاصة، أو أنقل في كرَّاسة لديَّ بعضَ ما يرِدُ فيها من طرائف، حتى ولو لم تكن من الخطابات التي تُترجَم أو تُلخَّص.

واستطعتُ أن أصنع خطوطًا عامة للفوارق التي بدأَت تتضح بين الدارسين العرب في لندن، وبين البيئة الإنجليزية التي تُعتبَر غريبةً عن تقاليدهم إلى حدِّ التناقُض الصارخ، وقد اصطدمتُ بهذه التقاليد مرتَين في الشهور الأولى من عملي في الكلية؛ إذ كان من بين الذين يتناولون طعامَ العشاء كل يومٍ دارس اسمه بيتر، له لحيةٌ منمَّقة، وأسلوبٌ خاص في تناول الطعام، وكثيرًا ما كنا نتجاذب أطراف الحديث أثناء العشاء، على مدى أربعة أشهرٍ كاملة، حتى أصبحتُ أتصور أننا غدونا أصدقاءَ أو معارفَ على الأقل، وذات يومٍ شاهدتُه في فِناء الكلية مقبلًا نحوي فابتسمتُ له وحيَّيتُه ولكنه لم يردَّ الابتسام ولم يردَّ التحية ومضى في طريقه كأنني غير موجود، وفي المرة الثانية قابلتُ مسز تيلوتسون رئيسة القسم فابتسمتُ لها وحيَّيتُها وكان ردُّ الفعل مثل ردِّ فعل بيتر! تُرى ما عسى أن يقول العربي إذا فعل ذلك عربيٌّ مثله؟ إننا لا نقول إن لهم أعذارهم فهم مشغولون، ولا نقول إن لكل شيءٍ وقتًا مخصَّصًا لا يتعدَّاه، فالعمل لدينا يسير أو يتوقَّف دون أن نحاول وضع نُظُمٍ زمنية تحكمه، وزملائي قد يطرقون بابي في أي لحظة بل ويدخلون (فالباب مفتوح دائمًا) سواء كنت مشغولًا أو غير مشغول! وقد تعلَّمتُ من الإنجليز في تلك الأيام أن أحتفظ بمذكرة (مفكرة يومية Diary) أدوِّن فيها المواعيد مثل أوقات الذهاب للمسرح ومقابلة المشرف ومواعيد العمل في ترجمة الخطابات، وأُسجِّل فيها بعض ملاحظاتي، فكانت خير عونٍ لي على التكيُّف مع حياة العمل الدائب في لندن.
figure
حديقة هايد بارك في الشتاء وقد كساها الثلج شتاء ١٩٦٦م.
وكان من بين رُوَّاد غرفة الأساتذة في الكلية شابٌّ يبدو في أواخر الثلاثينيات اسمه كونراد رَسِل، كان من أسرة رَسِل الأرستقراطية، وكان مَن حولي يقولون إنه ابن برتراند رسل، ولكنني لم أكن ألتفتُ إلى حسَبه ونسَبه، بل شدَّني إليه أسلوبُه في الحديث وطريقتُه المنطقية في صوغ الحُجَج وبسطها، وكان يتكلَّم بلهجة المثقَّفين الخاصة، ولا غرو فقد كان يعمل أستاذًا للتاريخ الحديث، وكانت له زوجةٌ شابة تأتي مع طفلها الصغير (الذي لم يتجاوز عامه الثاني) لتناوُل الغداء معه في الكلية، وقد وجدتُ نفسي ذات يومٍ طرفًا في مناقشةٍ سياسية لم أكن أتوقَّعها ولم أكن أريدُها، وذلك عندما دخلتُ إلى غرفتنا بعد الغداء فوجدتُ كونراد يُحادِث طالبًا هنديًّا من طائفة السِّيخ اسمه سوخديف (أو سوخديب) حول مشكلات عهد الاستقلال في الدول التي تنتمي إلى ما أطلَق عليه ديجول تعبير العالم الثالث، وكان ديجول قد فاز برئاسة الجمهورية الفرنسية من جديد في ديسمبر ١٩٦٥م، وفاجأنا بعبارة le monde tertieme التي لم تكن ذات معنًى محدَّد آنذاك؛ فنحن في مصر نتحدَّث عن دول عدم الانحياز، باعتبارها تمثل كتلةً لا تنتمي للشرق ولا للغرب، ولكننا لا نعرفُ ما يقصده ديجول بالعالم الثالث، وعندما دخلتُ الغرفة كان النقاش قد تركَّز في مشكلة كشمير، وهي الإقليمُ المتنازَع عليه بين الهند وباكستان خصوصًا بعد الحرب التي اندلعَت بينهما في سبتمبر ١٩٦٥م، وكانت الصين تؤيد باكستان، وأمريكا تؤيِّدها أيضًا! وكان سوخديف مهمومًا بعد زيارة هيوبرت همفري نائب الرئيس الأمريكي في فبراير ١٩٦٦م إلى باكستان لإعلان استئناف مساعدَتها، والآن أصبحَت إنديرا غاندي رئيسة للوزراء في الهند ولم تعُد تتحدث في رأي سوخديف إلا عن السلام!

ولا أدري السبب الذي جعل سوخديف يتصوَّر أنني سوف أؤيِّد موقف الهند من قضية كشمير، والأرجح أنه كان مؤمنًا بعبد الناصر وكان يرى في حركة عدم الانحياز الوليدة حلفًا شرقيًّا بين الهند ومصر وإندونيسيا وبعض الدول الأفريقية، ولم يكن هذا الموضوع يشغلُني البتة؛ فالمعاني المطلَقة التي كنا نؤمن بها في شبابنا سرعان ما تصبح نسبية، ومعنى «الوحدة» مثلًا باعتبارها مثلًا أعلى قد يتغيَّر بتغير الظروف، وكنتُ أسمع عن سقوط زعماء وصعود زعماء (سقوط بن بيلا في الجزائر ونكروما في غانا وصعود كازافوبو في الكونغو … إلخ) فأمُرُّ على هذه الأنباء مر الكرام؛ لأن انشغالي بالأدب واللغة أدى إلى انشغالي بالناس — بالبشر الذين يعملون ويتعلَّمون هنا ثم يفصلون تمامًا بين حياتهم وحياة الآخرين، وكان كونراد رَسِل أصدق نموذجٍ لهؤلاء.

وعندما دعاني سوخديف للمشاركة في النقاش اعتذرتُ بأنني لا أعرف شيئًا عن المشكلة، وأن لنا في الشرق الأوسط (أو في الوطن العربي) همومًا من لونٍ آخر، وهنا قال كونراد بلهجة الواثق مما يقول: «ولكن إسرائيل مشكلةٌ مماثلة، وهي مشكلة لا تزول بتجاهُلِها.» وأكَّدتُ له أنني لا أتجاهلُها، ولكنني أومن بأن العرب يسعون لاحتوائها (أي لمنعها من التوسُّع) وأن النهضة العربية كفيلة بأن تُذيبَ الكيان العنصري حتى تصبح فلسطين مكانًا يجمع بين العرب واليهود، مع غلبة الثقافة العربية آخر الأمر؛ فبذا يقضي مسار التاريخ، وقلتُ إنني أتصوَّر عودة الشعب الفلسطيني إلى دياره حين يختفي التعصُّب العِرقي اليهودي، ويتحوَّل المثل الأعلى من الغلبة العسكرية إلى الارتقاء بمستوى معيشة الناس الذين ما يزالون يعانون من الفقر والجهل والمرض.

وقال كونراد: «أنت شاعر! فهذه أحلام الشعراء، والواقع يقول إن القوى المادية هي التي تُسيِّر التاريخ لا الآمال والأحلام.» وانطلَق يضرب الأمثلة لا من الشرق أو العالم العربي بل مما يُسمَّى بالديمقراطية الغربية، وأسهَب في تِبيان سيطرة بعض الطبقات (وصحتها «الفئات») على مسار السياسة البريطانية عَبْر القرون، وكيف أن «العقد الاجتماعي» الجديد وكان هارولد ويلسون يُسمِّيه social compact (لا contract) يعني الاحتفاظ لأصحاب الامتيازات بامتيازاتهم بشرط السماح للآخرين إذا استطاعوا أن يلحَقوا بهم، وقال لي في هدوءٍ شديد: «هل تعتبر أن حزب العمال يمثِّل العمال حقًّا؟ وهل تعتبر أن تأميم صناعة الصلب خطوةٌ في صالح الطبقة العاملة؟» وأجاب على التساؤلَين قائلًا: «انظر إلى عدد النواب اليهود في مجلس العموم، ٧٢ نائبًا يمثِّلون من؟ إنهم قطعًا لا يمثِّلون نصف مليون يهودي، وهم أقل الأقليات العِرقية عددًا في بريطانيا، بل هم يمثِّلون مصالح كبار التجار اليهود، أرباب تجارة الخِرَق مثلًا (The rag trade ومعناها تجارة البلو جينز blue jeans وأمثال تلك الأقمشة مما أصبح الشباب يرتديه باعتباره الموضة الجديدة) ومن وراء هذه التجارة ثقافةٌ كاملة تغتنم غضب الشباب على ويلات الحرب والدمار الذي خلَّفَته في الدعوة إلى التمرُّد الذي لا هدف له، وهي ثقافةٌ يُغذِّيها كبار الكُتَّاب من يهود أمريكا وإنجلترا (أرولد ويسكر، وبيتر شافر، وهارولد بنتر لدينا وعشرات لديهم برئاسة آرثر ميلر، ونورمان ميلار، وهنري ميلر، وصول بيلو، وجورج سيجال وغيرهم) وعندما أقول «لا هدف له» أقصد أن الشباب لا يعرف له هدفًا؛ فالتمرُّد من سمات الشباب في كل عصر، وقد يكون التمرُّد هو في ذاته الهدف! أما الغاية فهي خدمة مصالح كبار الرأسماليين الجدد!»
ولم أفهم غضب كونراد على الرأسماليين؛ فهو أرستقراطي ومن الطبيعي ألا يؤيد حزب العمال، ولكن هجومه على الرأسماليين بدا محيِّرًا، فعُدتُ أسأل عن صناعة الصلب وكيف لا يرضى عن تأميمها بعد أن دافع هارولد ويلسون دفاعًا مجيدًا عن ذلك أقنع الجميع؟ وهنا قال كونراد وقد بدأ ينظر في ساعته؛ إذ كانت تقترب من الثانية: «إن لعبة الانتخابات التي أتت بهارولد ويلسون إلى الحكم تتضمن مكافأة مَن أنفقوا عليها! لقد تعثَّرَت صناعة الصلب؛ لأن الآلات التي كنا نستخدمها بالية، أو قل إنها لم تعُد قادرةً على المنافسة مع غيرنا من المنتجين وتحديث هذه الصناعة يتطلَّب استخدام آلات جديدة لا قِبل لأرباب أو أباطرة صناعة الصلب (the steel tycoons) بتكاليفها؛ ولذلك رحَّبوا بتدخُّل الدولة لإقالتهم من عثرتهم بأموال دافعي الضرائب.» وقلتُ بصوتٍ حاولتُ أن يجاري صوت كونراد في انخفاضه وبُعده عن الحماس: «ولكن تحديث الصناعة سيعود بالخير على العمال وعلى الدولة.» فأومأ موافقًا وأضاف: «ويتضمن نجاح مرشَّحي حزب العمال في منطقة سالفورد Salford، ولو في المستقبل القريب.» ونهض من مجلسه وهو يقول: «ولكن هارولد ويلسون لن ينجح في أي انتخاباتٍ قادمة، بل ستأتي حركة البندول (the swing of the pendulum) بحزب المحافظين الذي سيُعيد الصناعة إلى أصحابها بعد أن تُصبِح عملًا مربحًا (a going concern) فتذكَّرْ ما أقول عندما يحدُث ذلك!» وخرج باسمًا.
وكانت تلك المناقشة بداية وعيٍ جديد بالحياة العامة، خصوصًا بعد أن تحقَّقَت نبوءة كونراد رَسِل فيما بعدُ وأتى حزب المحافظين إلى الحكم عام ١٩٧١م، وبدأ عهد التوسُّع الاقتصادي expansion وتخفيض سعر الفائدة على القروض من البنوك فيما يُسمَّى بعهد الأموال الرخيصة (cheap money) وكان هدفه المعلَن هو إتاحة النقود لمن يطلبها في عهدٍ أُطلِق عليه عهد تحريك النقود والأسعار (reflation) وإن كان قد أتى بالتضخُّم (inflation) الذي كان حزب العمال يُحارِبه، والغريب أن تكون من أسباب نكسة حزب العمال ما أقدم عليه وزير المالية العمالي جيمس كالاهان James Callaghan عام ١٩٦٩م من تخفيض لسعر صرف الجنيه الإسترليني مقابل العملات الأوروبية، مما دفعه إلى الاستقالة من منصبه، وذلك بعد ضغط الرأي العام؛ إذ قال بعض الصحفيين إنه نكَث بعهده، وأقول إن ذلك غريب؛ لأن انخفاض سعر الصرف استمر سنواتٍ وسنواتٍ في عهد المحافظين.

٢

كان من أهم ما خرجتُ به من المناقشات الجامعية على مدى عامٍ كامل هو الوعي بأن الأستاذ يتمتَّع بحرية تكاد تكون مطلقةً في تفكيره وبحوثه، وإذا كان ذلك مما لا يدعو للدهشة في العلوم الطبيعية كالكيمياء والفيزياء، فهو يدعو للدهشة حقًّا في العلوم الإنسانية، وكان مما يسَّر لي الوصول إلى هذه النتيجة اختلاطي بنماذجَ متعدِّدة من أفراد الطبقات الأخرى في المجتمع الإنجليزي، فكانت «كارول» السكرتيرة ذات الملامح الشرقية تحدِّثني عن صديقها وكيف حاولَت معه التشبُّه بالطبقات العليا فذهبَت للرقص في فندق هيلتون وكيف مثَّلَت دور إلايزا دوليتل Eliza Doolittle في فيلم سيدتي الجميلة عندما حاولَت التحدُّث بلهجة أبناء الذوات، وكيف انكشَف أمرُهُما حين لعبَت الخمر بالرءوس فانطلقا يتحدَّثان بلهجة أولاد البلد في لندن، وعلمتُ من «سالي» أن صديقها ديفيد يريد أن يذهب معها إلى إيطاليا في أغسطس، وكانت متردِّدة بسبب تحذير ريمون مِكَلِّف لها؛ إذ قال لها إن عليها أن تشترط عليه الزواج أولًا، وهي لا تدري ما تفعل، فهي تخافُ أن يتهمها بعدم الثقة فيه، وتخافُ أن يهجُرَها، ولم تكن أُسرتها تعترض، لكن خوفها من ريمون كان سبب تردُّدها.
figure
كارول زميلتنا في العمل في كوينز هاوس.
وجاء ديفيد ذات يوم إلى المكتب فوجدته شابًّا نحيلًا قصيرًا، غير وسيم، لا تبدو له ملامحُ محدَّدة (nondescript) وكانت «سالي» في رشاقة نجوم السينما، مرحة ضحوكًا، وعندما وجداني أجلس وحدي في ساعة الغداء، عازفًا عن الخروج، أسجِّل بعض الملاحظات في مفكِّرتي التي تضخَّمَت، طرقَا الباب ودخلا، فعرَّفَتني سالي به، وعرَّفَته بي قائلةً إنه مستر عناني الذي أطبع له الرسالة (وكانت تتولى نسخ الفصول بعد تعديلها على آلةٍ كاتبةٍ كهربائية لديها في المنزل). وقال ديفيد ضاحكًا “The one who’s swallowed the dictionary?” (أي أهو الذي ابتلَع القاموس؟) وأنكرتُ أنني ابتعلتُ شيئًا، فأردف قائلًا إنه لم يفهم حرفًا واحدًا مما كتبتُ، وضحكنا ثم سألني: «هل ستذهب مع نهاد إلى إيطاليا؟» وعجبتُ من سؤاله وردَدتُ عليه بسؤال: «ألا بد من ذلك؟» فردَّ قائلًا «كنتُ أتصوَّر أن الناس يتزوَّجون في إيطاليا!» وسألتُه بسرعة «وهل ستتزوج سالي في إيطاليا؟» فقال: «ولِمَ لا؟ ربما فعلَت» (why not? I might, you know) وتطرق الحديث إلى شراء المنزل، فالقاعدة أن يشترك العروسان في شراء منزل الزوجية أولًا، فهما يدفعان مقدارًا من المال أولًا (ألف جنيه على الأقل) ويدفعان الباقي على أقساطٍ شهرية للبنك، فالبنك هو الذي يقدِّم القرض لهما (الثمن الكامل الذي تتقاضاه الشركة العقارية) وكان في هذه الحالة ٣٥٠٠ جنيه، ويُعتبر المنزل مرهونًا للبنك حتى إتمام سداد القرض؛ ولذلك تُعتبَر الدفعات الشهرية (الأقساط) قيمة فك الرهن، ويُشار إليها عادةً باسم الرهن فقط، فيُقال (to pay the mortgage rate) ويُشار إلى الفائدة المفروضة على القرض باسم سعر فائدة الرهن (mortgage rate) واتضح من الحوار أن ديفيد لا يملك إلا ثلاثمائة جنيه، فقالت سالي: «أستطيع أن أُدبِّر المبلغ الباقي (I can manage the rest)» واعتَرضَ ديفيد أولًا، ثم قال: «سأردُّ لك المائتين عندما أفتح محل البقالة الخاص بي!» وغنيٌّ عن البيان أن سالي كانت تشعر بسعادةٍ غامرة، وعندما نهضا التفت إليَّ ديفيد وقال: هل الأستاذ المشرف هو الذي سيمتحنك في الرسالة؟ فأجبت بالإيجاب، فقال ألا يُعتبَر هذا من قبيل الغش (cheating)؟ وعندما رأى الدهشة على وجهي قال: «أعني أنه هو الذي تولَّى تصحيح الرسالة .. فما الذي سيمتحنُكَ فيه؟» وضحكتُ ولم أعلِّق فغادرا المكتب.
figure
سالي زميلتنا في العمل في كوينز هاوس.
كانت أحلام سالي وديفيد أحلام الطبقة الفقيرة، ولم تكن أفكارهما تتجاوز شراء المنزل وتدبير نفقات المعيشة، وكانت قد مضت على صداقتهما سنواتٌ طويلة، يخرجان للنزهة أو يذهبان إلى السينما، على مرأًى ومسمع من الجميع، ولم يكن ديفيد قد حصَل على أي شهادة، فهو school leaver وحسْب؛ أي إنه قضى فترة التعليم الإلزامي في المدرسة حتى سن الخامسة عشرة (رفعها حزب العمال إلى ١٦ بحجة رفع المستوى التعليمي وقال حزب المحافظين إن الهدف من ذلك تخفيضُ عدد تاركي المدرسة المسجَّلين في قوائم العاطلين) ثم عمل صبيًّا في محل بقالة، وكان دخلُه قليلًا وطموحاته أقل، أما سالي فكانت ماهرة في أعمال السكرتارية مثل الاختزال والآلة الكاتبة والأرشفة وما إلى ذلك، وتطمح في أن تصبح سكرتيرةً خاصة لمدير إحدى الشركات، وهذه فئةٌ يُطَلق عليها «مساعدة شخصية» (P. A. Personal Assistant) وتوازي منصب «مدير المكتب» لدينا. وقد كُتب لي أن أزورَها في المنزل وأرى والدَيها، وكانا مثل ديفيد يفتقران إلى الطموح، وقال والدها لي: I don’t encourage moonlighting أي لا أحبِّذ القيام بعملٍ جانبي إلى جانب العمل الأصلي؛ فالإنسان في رأيه لا بد أن يعيش ويتمتع بحياته، لا أن يكافح في طلب المال، وأكَّد لي أن «سالي» لم تكتب لي الرسالة إلا بسبب دماثة خُلقي، وأنها لا تسعى إلى أي لون من الكسب المادي.

٣

كان الإحساس الذي بدأ يتملَّكُني هو أن الأوروبيين يؤمنون بالنُّظم التي تُعفي الفرد من مكابدة ما يُكابِده الفرد في بلادنا؛ فنحن لم نرِث نظمًا ثابتة بل نُحاوِل وضع نظمٍ جديدة لا نعرف إلى أي حدٍّ يمكن أن تنجح، أما الإنجليز وهم من غلاة المؤمنين بالنُّظُم، ولا يكاد يتفوق عليهم إلا السويسريون فيما أعلم؛ فهم منذ البداية يقبلون ما تسير الدولة عليه، والثورة لديهم ضربٌ من الجنون بالمعنى العلمي (أي الذي يقتضي علاجًا في مصحة)؛ ولذلك فإن أي تغيير في المجتمع يستغرق دهورًا، وقد سبق ابن خلدون علماء الاجتماع المحدَثين في تِبيان أحد أسباب ذلك وهو طبيعة الجو؛ فالإنسان الذي ينشأ في بيئة أو في مُناخٍ يصعب التنبُّؤ به يميل إلى الاحتماء من تقلُّباته، ويسعى في سبيل ذلك إلى وضع نُظمٍ يُدخِل عليها تحسينات قليلة أو كثيرة عامًا بعد عام، حتى تصبح مأمونة، وحتى يجد ما يركن إليه ويثق به. وقد يدهَش من يعلم أن أرقام خطوط الأوتوبيس في لندن لم تتغيَّر على مدى الخمسين عامًا الماضية، وعندما أُشاهِد بعض الأفلام القديمة ألاحظُ تعليقات الإنجليز عليها كأنما لم يمضِ علينا زمن! ومثلما يؤمن الإنجليزي بالثبات، يعرف أن التغيير محتوم وهو يقبلُه على مضض، وكثيرًا ما يتحسَّر على الأيام الخوالي، ويكاد يتمنَّى لو وقف الزمن وظلت حديقته غنَّاء إلى الأبد! وكان صدقُ هذا الحدْس يتأكَّد لي كلَّما التقيتُ بالطاعنين في السن، وأذكُر أنني دخلتُ صيدلية وكانوا يُسمُّونها على أيامنا (Chemist’s) أي دُكَّان كيميائي (ثم تغيَّرَت بعد الوحدة الأوروبية إلى Pharmacy)، وطلَبتُ قطعة من الشَّبَّة لأضعها على جروح ما بعد الحلاقة وكنتُ أعرف أن اسمها alum وأن الاسم العلمي لها هو styptic فطلبتُها بالاسم العلمي، فنظر إليَّ الصيدلي الشاب دَهِشًا، فقلتُ له ألا نكتبها بحرف الواي (Y) وننطقها كالكسرة؟ فسمعتُ من أقصى الصيدلية شيخًا يصيح: «هل تغيَّر هجاءُ هذه الكلمة أيضًا؟ ما الذي يحدُث للعالم؟»
(Have they changed that too? What’s the world coming to?)

وطمأنتُ العجوز قائلًا إن الهجاء لم يتغيَّر ولكنني أجنبيٌّ غير واثقٍ من الهجاء الصحيح، فنهَض وجاء إليَّ متكئًا على عصًا غليظة ووقف يقُص عليَّ أحزان المهنة، وما صنعَتْه الكيماويات بصحة الشعب الإنجليزي، واسترسل في الحديث (وأنا به سعيد) عن مغبة الانسياق وراء المواد الصخرية التي تدخُل في صناعة الأدوية، ثم همَس لي قائلًا: سوف أتلقَّى خطابًا من الملكة بعد اثنَي عشر عامًا؛ أي عندما أبلغ المائة! وضحكتُ وقلتُ له: ربما لن أكون هنا لأرى الخطاب! وانصرَفْت. ويجمُل بي أن أُضيف أنني كنتُ أمُرُّ على الصيدلية كلما زرتُ لندن (وكنتُ أقيم خارجها منذ ١٩٦٩م) حتى عام ١٩٧٣م حين لم أجد لها أثَرًا، وسألتُ صاحب الدكان المجاور فقال إن صاحبها تُوفِّي وإن الورَثَة باعوها.

راعَني ذلك التمسُّك بالقديم والاستمساك بالتقاليد وأصبحتُ أرى فيه تفسيرًا للكثير مما ينسبُه البعض إلى التعصُّب أو ضيق الأفق narrow-mindedness (والمعنى واحد في التعبير الإنجليزي؛ أي إن  narrow-mindednessتوازي تمامًا intolerance وما يجري مجراها مثل bigotry … إلخ)؛ فالإنجليز لا يكرهون الأجانب بالمعنى المفهوم للكراهية بل هم يستريبون بهم، ويخشَون أن يأتوهم بما يُدخل ولو تعديلًا طفيفًا على أسلوب حياتهم (أي على ثقافتهم) والتعديل قد يعني التغيير، مصدر الخوف من المجهول! وعندما انسحب الإنجليزُ من مستعمراتهِم القديمة، كانوا مُضطَرِّين لأسبابٍ اقتصادية محضة إلى الإبقاء على الوشائج التي كانت تربطُهم بأهلها، وهكذا أنشَئوا الكومنولث commonwealth وهي كلمةٌ أخرى للفظة republic أي الجمهورية (فلفظة res اللاتينية تقابل wealth وكلمة publica تُوازِي common)؛ ومن ثَم فالمصطلح يعني أن دول الكومنولث تشكِّل فيما بينها اتحادًا جمهوريًّا! فهكذا أطلَق أوليفر كرومويل تلك الصفة على حكومته في القرن السابع عشر، عندما تحوَّلَت إنجلترا إلى جمهورية للمرة الأولى والأخيرة! ولكن الواقع ينفي ذلك؛ إذ كان الإنجليز في أعماقهم يخشَون هذا الامتزاج بأقوامٍ قد تؤدي معاشرتهم إلى التغيير! إن تقلُّب الجو، وتقلُّب البحر الذي لا بد لسكان الجزيرة أن يركبوه، والخوف من التقلُّب بصفة عامة، من العوامل التي أورثَت الإنجليزي ولَعًا بالثبات يصل إلى حد الولَه!
وقد وجدتُ نفسي في تلك الأيام أعيش في مجتمعٍ يتغير بسرعة لم يشهدها عَبْر تاريخه الطويل، ويُحاوِل التوافق مع حقائق الدنيا الجديدة؛ فلقد أدرك ذلك المجتمع أنه ينبغي ألا يُصدِّق دعوى التفوُّق العنصري، ويجب أن يقتنع بأن الإمبراطورية القديمة قد زالت وانقضت، فكان التمزُّق بين الوجدان العميق وبين حقائق الدنيا التي يقول بها العقل، والإنجليزي يفخر بأنه «متعقل» وكلمة reason ومشتقاتها تشغل مكانًا لا تشغله كلمةٌ أخرى في اللغة الإنجليزية، وما تزال الصفة reasonable تمثِّل لي مشكلةً في الترجمة القانونية، وأعترف أنني لا أعرف تحديدًا ما يعني تعبير «معقول» في عبارة «قدْر معقول من …» فأنت تقرأ مثل هذا التعبير في حُكم المحكمة beyond a reasonable doubt «دون قدْرٍ معقولٍ من الشك» وفي الحديث العابر “do be reasonable” «أرجوك تعقَّل!» وشتان بين هذه الصفة وبين العقلانية rationality! أقول إنني كنتُ أشهَد التغيير، وما زلت أحتفظ بصحيفةٍ اشتريتُها أيام إقامتي في بيت الزنوج (أو بقصاصةٍ منها) تحكي عن اعتزام إيان سميث (Ian Smith) إعلان استقلال روديسيا (الجنوبية) من جانب واحد، فيما كان يُسمَّى (Unilateral Declaration of Independence) UDI. لقد كان عصيان إيان سميث لحكومة الملكة بمثابة تغييرٍ لا يمكن قبولُه؛ فبريطانيا «تمنح» الاستقلال، سواء أكان ذلك لأقليةٍ بيضاء أم لأغلبيةٍ سوداء، أما أن تُعلِن دولةٌ استقلالها من طرفٍ واحد عن بريطانيا، ولو كانت الحكومة تتكوَّن من الإنجليز البيض، فهذا ما لا يمكن قَبولُه! ويكفي أن أذكر في آخر هذا القِسمِ التعبيرَ الذي دخل مصطلح الإنجليزية من أوسَع أبوابها وهو «رياح التغيير» (winds of change) الذي ورَدَ في خطبة هارولد ماكميلان في جنوب أفريقيا!

كان المجتمع الإنجليزي يتغيَّر في المدينة، وكنتُ أعيش في المدينة، وكنتُ أذكُر قول أستاذ مجدي وهبة: إذا أردتَ أن تعرف إنجلترا فاذهب إلى الريف! ولكنني كنتُ مرتبطًا بالمسرح وبالحياة الحافلة في المدينة، وأما الريف فكان يكفيني أن أراه في حديقة الكلية والحديقة المجاورة لبيت الطلاب.

٤

كانت أقوالُ أساتذتي مجدي وهبة ورشاد رشدي ولويس عوض تشغل مكانًا ثابتًا في ذهني عن إنجلترا في فتراتٍ مختلفة وأماكنَ مختلفة؛ فمجدي وهبة خريج جامعة أوكسفورد، ورشدي من جامعة ليدز، ولويس عوض من كيمبريدج، أما أنا فكنتُ أنتمي إلى الكلية التي تخرَّج فيها محمد مصطفى بدوي وشفيق مجلي، وكانت رئيسةُ القسم تقول لي إنهم كانوا أفضل سفراء لمصر في إنجلترا، وكنتُ أعيش في لندن، المدينة التي كان الدكتور صمويل جونسون يعتَز بالحياة فيها، وما يزال المنزل الذي كان يُقيم فيه قائمًا في عطفة من شارع ستراند (وهم يُسمُّونه The Strand فقط) وعليه لافتةٌ تحمل اسم الناقد الكبير ومؤلِّف أول معجمٍ إنجليزي نُسجَت حوله الأقاصيص في القرن الثامن عشر، وكان مجدي وهبة قد ملأ نفسي بحب هذا العملاق، ولم يكن من الممكن أن أنساه وأنا أقرأ أسلوبَه البديع ولغتَه الإنجليزية الصافية، مما أكسبني دون قصدٍ نزعةً كلاسيكية ما لبثَت أن رسخَت وتعمَّقَت، وفي جوهرها يكمنُ ما ذكرته عن العقل والتعقُّل وهو ما يجب عليَّ أن أوضِّحه بعض الشيء.
كانت روح القرن الثامن عشر التي نصفها بالكلاسيكية الجديدة تَرتكِز على الإيمان بأن الإنسان كائنٌ لا يختلف تكوينًا ونفسًا من مكان إلى مكان، ولا من زمان إلى زمان؛ فنوازعه معروفة ومرصودة، وقد أقام أصحاب الفلسفة الإنجليزية الواقعية؛ أي التي تستند إلى معطيات الواقع أُسسًا لدراسة الإنسان انطلاقًا من الحقائق المادية، واستخدموا المنهج التجريبي الذي نشأ في القرن السابع عشر أساسًا لإرساء قواعد العلم الطبيعي، فأقاموا بنيانًا من الأفكار المنطقية المستندة إلى الوقائع والتجارب، فيما أصبح يُسمَّى بالبراجماتية وقد استلزمَت هذه المدرسة الفلسفة مبدأ «الوسطية» في كل شيء؛ أي الابتعاد عن الشطَط واتباع الهوى الذي قد يضُر بالآخرين، وبرزَت في اللغة الإنجليزية صفاتٌ أصبحَت تُعتبَر محمودة مثل البديهة السليمة commonsense وlevel-headedness وعلى رأسها جميعًا كلمة الإنصاف fairness أو even-handedness وكلها تَحمَد العدل والاعتدال moderation باعتبارهما من سمات «التعقُّل». وكان الأجنبي الذي يستطيع استيعاب تلك الروح التقليدية يكتسب رضاء المجتمع الإنجليزي، ويفتح الإنجليزي له الأبواب مثلما يفعل الفرنسيون الذين يَقْبَلون من يُجيد لغتهم بل يعتبرونه واحدًا منهم (citoyen passé). ويكفي أن أختمَ هذه الفِقرة بالإشارة إلى إطلاق لفظ «الطبيعة» على من يتجنَّس بالجنسية الإنجليزية؛ إذ يُسمُّونه naturalized!
وقد ذكَرتُ في الفصل الأول أن الصفات الخُلقية التي ينسبها بعض النقاد إلى تراث النزعة البيوريتانية تُعزى في الحقيقة إلى الممارسات التجارية التي لا تنجحُ إلا بالصدق والأمانة، وقد أُضيفُ هنا أن صفات الوسطية والاعتدال والاتزان (balance) والإنصاف ربما ترجع أيضًا إلى الخبرات التجارية التي اكتسَبها الإنجليز على مَرِّ القرون؛ فهذه جميعًا من صفات التاجر الإنجليزي الناجح، وقَلَّ أن تجد بين الإنجليز من يُكتب له النجاح إذا لم يتصف (أو لم يُحاوِل الالتزام) بهذه الصفات. أما الاستثناءات فهي نوع من الاستثناء الذي يؤكِّد القاعدة ولا ينفيها.

وقد اضطُررتُ إلى هذا الاستطراد القصير لأنني أجد فيه تفسيرًا لاتجاه العقل الإنجليزي إلى الوضوح في التفكير والتعبير، وتفسيرًا لميل الإنجليز إلى الإقلال من الكلمات، واعتبار الاقتصاد في التعبير أسمى الفضائل وأعلى قِمَم البلاغة؛ فما نظنه من قبيل «البرود» الإنجليزي هو في الحقيقة ضبط للنفس وضبط للِّسان خشيةَ أن ينحرف أو يشتَط، وأحيانًا مخافة أن يقول ما يجب كتمانه، أو ما لا يجوزُ البَوحُ به، فإذا تكلَّم آخر الأمر وجدتَ أنه واضحُ الفكرة والعبارة، لا يخرج عن «المسموح به» اجتماعيًّا أو يجنح إلى «ما لا يُقال» (أي العيب)!

وأنا أذكُر ذلك كلَّه أيضًا لأنه أوضَح لي في سنوات التكوين البعيدة مدى تأثير التراث الإنجليزي في جيلٍ كامل من أساتذتنا، وأنا أعتَز بأنني تتلمذتُ على أيديهم، وإن كانت مبادئ هذا المنهج العلمي الصادق تضرب بجذورها — كما تعلَّمتُ في الكبر — في تُراثنا العربي، ولكننا ننساها أو نتناساها في هذه الأيام، ونطلق ألفاظًا عامةً ظالمة على تراثنا كله، بل لا نفرِّق (أو لا نكاد نفرِّق) بين عصور ازدهار العلم العربي وعصور التخلُّف التي اتسمَت بالنقل والمحاكاة دون تمحيص. ولكم كانت فرحتي حين اكتشفتُ أن الشاعر الذي أدرُسه (وليم وردزورث) إنجليزي الطابع بالمعنى الذي ذكَرتُه، وإن كنتُ هنا أستبق الأحداث؛ لأن ذلك لم يحدُث إلَّا في مرحلة الدكتوراه في مطلع السبعينيات، فلأعُد الآن إلى ما دعاني لهذه التأمُّلات العابرة — ألا وهو عودة «عبده» من العطلة ومعه كاثلين!

كانت المفاجأة مذهلة؛ كنا في شهر أغسطس ١٩٦٦م، وكان صيفًا حارًّا بالمقاييس الإنجليزية، وكان سمير سرحان قد زارني مرتَين في صيف ذلك العام، مرةً وهو في طريقه إلى مصر لحضور مؤتمر المبعوثين الذي تحدَّث فيه جمال عبد الناصر شخصيًّا إلى ممثِّلي الطلبة، وكان من أبرز أحداث ذلك الصيف، ومرةً أخرى وهو عائد إلى أمريكا، ومكث معي في الغرفة وتحادثنا عن أحوالنا باستفاضة، وتنزَّهنا وقَصَّ عليَّ ما يفعل ولكنه اعترض على التحاقي بالعمل المؤقت وطالبني بالانتهاء من الرسالة بأسرعِ ما يمكن حتى نعود لتحقيق أحلامنا في مصر، وبعد رحيله كنتُ أشعر بحزنٍ دفين لم يخفِّف منه سوى توقُّع فرحتي بوصول زوجتي، وكنتُ كل يوم أفعل شيئًا جديدًا استعدادًا لهذه الفرحة، بل كان لا يكاد يشغلُني بعد رحيل سمير سرحان سوى إرسال الخطابات والبرقيات تلهُّفًا على وصول نهاد.

وذات صباحٍ دافئ، لا سحاب ولا مطر فيه، خرجتُ قاصدًا النزهة، ولكنني لم أكَد أخرج من باب المصعد حتى وجدتُ «عبده» أمامي ومعه فتاةٌ إنجليزية سمينة، ناصعة البياض، قصيرة الشعر، عيناها زرقاوان، باسمة الوجه، فوقفتُ جامدًا لا أستطيع الكلام. وإذا بها تقول ضاحكة: «لا بد أنك محمد!» وقلت نعم. تفضَّلا. وقالت بسرعة: «كنا … أقصد …» وأكملتُ لها العبارة التي يستخدمها الإنجليز فكِهِين في مثل هذه الظروف: «كنتما في المنطقة فقلتما …» “you were in the neighborhood and thought …”. فضحكَت وقالت إنها «فكرة عبده!» وقلتُ لها: «لا بأس .. فلنخرج معًا إلى الحديقة (هايد بارك) فالجوُّ رائع!» وخرجنا.
كان عبده قد انقطع عن الاتصال بي فترةً طويلة، ولم أكُن أُتابِع أخباره بعد أن ترجمتُ له ما جاء في خطاب كاثلين الأخير، وكانت حياتي حافلةً بمشاغل الدراسة والعمل، فلم أشغل نفسي كثيرًا بهذه المسألة؛ ولذلك فضَّلتُ الصمت. وبعد أن توغَّلنا في الحديقة ونحن نعلِّق تعليقاتٍ مقتضَبة أو مسهَبة على الزهور، جلسنا جميعًا على مقعدٍ خشبي، وبدأَت كاثلين حديثًا طويلًا سجَّلتُ أهم نقاطه فيما بعدُ في مفكِّرتي، وسوف أُوجِزه هنا، قالت كاثلين:

«صارحَني عبده بأنه كانت له خطيبةٌ في مصر وأنها سوف تحضُر هنا بعد أن تزوَّجها بالتوكيل، وشرح لي موقف أهله من الموضوع، وتفهَّمتُ الموقف تمامًا، وقرَّرتُ أن الإنصاف يقتضي أن أتركه، وإن كان ذلك يحزُّ في نفسي، وقطعتُ على نفسي عهدًا بألَّا أراه بعد اليوم، وبأن نزورك معًا قبل الافتراق؛ فهو يعتبرك أخلَص أصدقائه، وسوف أرحل إلى الجنوب حيث أعمل مع والدي، ولكنني لن أعطيكما العنوان أو التليفون، حتى نُغلِق الكتاب تمامًا.»

وأدركتُ أن هناك أشياء لا أعرفها، وكان حدْسي يقول لي إن عبده قد كذب من جديدٍ حين زعم أن له خطيبةً وأنه تزوَّجها بالتوكيل، ولكنني قلتُ في نفسي: «لعل أهلَه قد زوَّجوه في غيبته فعلًا.» ولذلك لم أُعلِّق، وسألتُها إن كانت حصلَت على الدكتوراه أم لا، فقالت في غير اكتراث «الدكتوراه ليست عاجلة وأستطيع إكمالها فيما بعدُ.» واعترضتُ على ذلك فقالت بلهجةٍ جادة «ربما لم أُخلق للبحث العلمي. والأفضل لي أن أعمل!» وذكرتُ المشهد الأخير من مسرحية الخال فانيا لتشيخوف، حيث يُعزِّي فانيا نفسه بالعمل، وتحلُم سونيا بالسعادة في العالم الآخر، وتألَّمْت. وكان أشد ما آلمني هو نبرة الهدوء والثقة التي كانت تتحدَّث بها كاثلين عما تنتوي فعله، ولم أكَد أصدق أن هذه هي الفتاة التي كتبَت تلك الخطابات المُلتهِبة. تُرى هل نقلَت بعض الفقرات من رواياتٍ أخرى لم أقرأها؟ وكنتُ أسترقُ النظر إلى وجه عبده أثناء حواري مع الفتاة فأجده جامدًا لا يُفصِح عن أي انفعال، ولم أشأ أن أُحادِثه خشيةَ أن يقول ما لا يريد، وبعد نحو ساعتَين نهضنا وعُدنا أدراجنا فاقترحتُ عليهما أن يتناولا الغداء معي ولكن كاثلين قالت إنها لا بد أن تُدرِك القطار (وإنها تركَت حقيبتَها في المخزن الخاص بالمحطة) مما زادني دهشة، فعرضتُ الذهاب معهما، ولكنها قالت إنها تُفضِّل أن تذهب وحدها، تاركةً «عبده» في صحبتي! ودون دموعٍ أو انفعالٍ صافحَتْنا ودارت ومضت. وتَسمَّرتُ في مكاني ذاهلًا كأنني أشهَد مشهدًا في روايةٍ خيالية!

٥

رحلَت كاثلين، وسرنا بخطواتٍ ثقيلة نحو المطعم، وبعد أن طلبنا الطعام وجدتُ أن تطلُّعي إلى معرفة ما حدث يكاد يذهب بشهيتي، فقلتُ له بطريقتنا المصرية المباشرة: «ماذا حدث؟» وأجاب وهو يتطلَّع إلى النادلة وهي تُحضِر الأطباق: «سأحكي لك كل شيء فيما بعدُ!» ولكنني ألحَحْت، وتصوَّرتُ أن مشاعره الجياشة سوف تغلبه فيبكي أو أن اللحظة غير مناسبة؛ فهو يُصِر على الصمت وقد خلا وجهه من أي تعبير. كان وجهه مصريًّا أسمر، به قَدْر لا بأس به من الوسامة، وقد زاده النحول جاذبية، وكان بيده منديل ما يفتأ يمسح به عينَيه قبل إحكام وضع النظارة الطبية. ورسم لي خيالي أنه يمسَح الدموع لا حبات العرق، فقرَّرتُ إرجاء الحديث إلى وقتٍ لاحق.

وعندما صَعِدنا إلى الغرفة قمتُ بإعداد الشاي، وفضَّلتُ أن أتيح له مزية المبادأة، لكن صمته طال فلجأتُ إلى الحيلة وقلتُ له: «لماذا لا تستأجر غرفةً كبيرة هنا تقيم فيها مع العروس؟» وضحك فتفاءَلْت؛ ومن ثَم بدأ يحكي في إسهابٍ تفاصيل محاولة هروبه منها (أي كاثلين) وكيف عَثَرَتْ على مسكنه الجديد بعد يوم أو يومَين، وكيف قبلَت في الظاهر جميع الذرائع الواهية التي قدَّمها تبريرًا لمسلكه، ثم أصبحَت تقضي سحابة نهارها معه حتى أنسَتْه العمل ولم يعُد يذهب إلى الكلية، وكانت — كما يقول — «لا تشبع من حُبه» وتُرسِل إليه خطابات تقول له إنه «شمس الفراعنة وسر الحياة»، بل أتَتْه من القِسْم المصري بالمُتحَف البريطاني بمطبوعاتٍ عن اللغة المصرية القديمة وفكِّ رموزها، وبصورةٍ كبيرةٍ لحجر رشيد، ثم قالت له إنها تريد أن تتعلَّم العربية حتى تستطيع التفاهُم مع أهله، وبعد نحو ثلاثة أسابيع قالت له إننا علماءُ وعشَّاق، وإذا كان العلم لا وطن له، فالعشق لا وطن له أيضًا، وفي تلك الليلة «المنشودة» قالت له: «أعرف أن لديك سرًّا يمنعك من مبادلتي عاطفتي القوية.» وأكَّدَت له أنه مهما يكن من أمر هذا السر فهي على استعداد لمواجهته «حتى لو كنتَ متزوجًا!». وقال عبده:

«داهمَني الخوف منها، مثلما داهمَني الخوف على مستقبلي، ولمحتُ طوق النجاة، وكنت كالغريق الذي يتعلَّق بقشَّة، فكرَّرتُ ما قالته «حتى لو كنتُ متزوجًا؟» وقالت: «أنت متزوج ولا شك.» ثم عانقَتْني وقبَّلتني والدموع في عينيها قائلةً: «هذا هو العذر الوحيد الذي يمنعك من الانطلاق، ولطالما أحسستُ به في نظراتك الزائغة وتردُّدِك، فلا تخشَ شيئًا وصارِحني».» وقدَّمَت لعبده كوبًا آخر من الشاي فرشَفَه على مهَل، وبدا عليه الانفعال لأول مرة، ثم أردَفَ يقول إنها أخبرته أنها كانت دائمًا تُحِس أنه لم يكن «خالصًا» لها، وأنها كانت تُغافِل نفسها وتخدع عقلها أملًا في الاستيلاء عليه، وكانت تتصوَّر أن الأيام التي قضَتْها معه أخيرًا سوف تحقِّق غايتها، ولكن ذلك كان وهمًا؛ ومن ثَم رحلَت واتفقَت معه على اللقاء بعد أسبوع.

وعاد «عبده» بعد ذلك إلى الكلية، وقابل الأستاذ المُشرِف، واتفق معه على بعض الخطوات الخاصة بالبحث، وقال إن المشرف أحَس باضطرابه فطلب منه أن يمنَح نفسه عطلةً رسمية؛ فالفصل الدراسي كان قد انتهى يوم الجمعة ٢٢ يوليو، ومن حق كل طالب أن «يعيش»، وسأله «عبده» ماذا عساه يفعل فقال له: «اذهب إلى حي البحيرات في الشمال، وتعلم الاستمتاع بالطبيعة.» وطمأنَه على الدكتوراه قائلًا إنه سوف يسمح له بكتابة الرسالة في أكتوبر؛ فالنتائج التي حقَّقَها في المختبر تكفي، وضحك قائلًا: «نحن لا نتوقع منك بحثًا يأتي بجائزة نوبل!»

وقال عبده إن كاثلين لم تبتعد عنه أسبوعًا كما قالت، بل زارته في اليوم التالي وقالت له إنها عرفَت أن المسلم من حقه الزواج بأكثر من زوجة، وأنه ربما كان يفكِّر في اتخاذها زوجة ثانية، ولكنها لن تقبل ذلك، ولن تقبل أن تكون في المرتبة الثانية (وقد كتب عبده التعبير الذي استعملَتْه حتى يريني إياه وهو second fiddle قائلًا إنه يظُن أنها استخدمت فعل to play أيضًا)؛ ومن ثَم فقد قرَّرَت أن تتركَه لزوجته، وطلبَت منه تفاصيل الزواج، فقال لها إنه تزوَّجها بالتوكيل وإنها سوف تحضُر إليه يوم السبت ٢٧ أغسطس، وقال إنه لا يدري ما الذي جعلَه يحدِّد هذا الموعد؛ إذ كان حائرًا مضطربًا؛ لأنه يخشى أن تكتشف الحقيقة ولذلك فكَّر في أن يسافر إلى مصر وأن يتزوَّج فعلًا ولكن الأحداث لم تُمهِله؛ إذ قالت له برنَّة صدق لم يعهدها في فتاة من قبلُ: «فلنُسافِر معًا إلى حي البُحيرة أسبوعًا أو أسبوعَين، ثم أتركك قبل موعد وصول زوجتك بفترةٍ «معقولة»، على الأقل حتى تعتاد أن تنسى اسمي ولا تخاطبها بما كنت تناديني به (وهو كاثي)» ووافق عبده؛ لأنه كان كما يقول يشعُر بأنه قد وقع في فخ لا فكاك منه، وكان الحل الذي اقترحَتْه «معقولًا» وفعلًا سافرا أسبوعًا وقضيا ساعات جميلة كانت فيها مثال العاشقة المخلصة، تسهر على راحته وتفعل كل ما يتمناه حتى دون أن يطلبه، حتى تساءل ذات يومٍ بينه وبين نفسه لماذا لا يتزوجها؟ وكان يعجَب منها حين تصحو مبكرًا وتكتُب ما يشبه الخطابات الموجَّهة إليه، وكثيرًا ما يلمحُ الدموع في عينَيها خِلْسة، وإذا سألها قالت له: «لا .. لا شيء.»
figure
ماريون زميلتنا في العمل في كوينز هاوس.
وما إن عادا من الرحلة، وكان ذلك يوم الجمعة ١٢ أغسطس حتى اتفقا على زيارتي في اليوم التالي، وكانت قد سمعَت كثيرًا عن محمد الذي يعتبره «عبده» أخًا أكبر يُشتهر «بتعقُّله واتزانه»، واتخذَت جميع إجراءات رحيلها إلى منزل والدها، وجاءا إليَّ وكان ما قصصتُه عند مقابلتهما. وقلتُ لعبده إنها كانت تبذلُ محاولةً أخيرة لإقناعه، ولكنه قال إنها ذات إرادةٍ حديدية «وكان يمكن أن أتزوجها لولا شخصيتُها المسيطرة» وانطلق يرسمُ في خياله ما كان يمكن أن يحدُث له لو تزوَّجها وعاد بها إلى القاهرة، وقلتُ برنَّة الملاحظة العابرة إنها كانت ستكتشفُ كذبه عليها، فقال دون مبالاة: «لقد حدثَتْني كاثلين عن رواية قرأَتها للكاتبة ميوريل سبارك Muriel Spark اسمها بوابة مندلبوم تُصوِّر فيها اليهود والعرب في القدس، وتُصوِّر فيها إحدى الشخصيات (واسمه علي) على أنه كذَّاب بالطبع والسجية، وقالت لي أكثر من مرة إنها تعرف أن العرب كذَّابون!»

وفجَعَني ما أسمع! «هل وطَّنَت نفسها إذن على أنك كذابٌ بطبعك وسجيتك لأنك عربي؟ ولماذا لم تُناقِشها في ذلك؟» وهَزَّ كتفَيه غير مكترثٍ بحماسي ثم غمغم: «كثيرًا ما كنتُ أكذب عليها في أشياءَ صغيرة فتضحك، وكانت دائمًا تقول: «لا يهمُّني ما تكذب عليَّ فيه ما دام حبك صادقًا، ودلائل صدقه واضحةٌ ساطعة!» إنها فتاةٌ عجيبة يا عم عناني! ولو كان الإنجليز جميعًا مثلها لخرب العالم!» ونظر في الساعة ثم نهَض، فنهضتُ وأنا أدرك أنه يريد الخروج ﻟ «شم الهواء»، وخرجنا وقال لي ونحن في الطريق إلى محطة القطار: «مرت بي لحظات قلقٍ حين كنا نزور الكنائس فأُصلي بالعربية؛ فأنا أصلي كثيرًا، وكنتُ أخشى أن تسألَني إذا كان يجوز للمسلم أن يصلي في الكنيسة، ولكنها لم تسأل هذا السؤال أبدًا!»

وعندما وصلنا إلى المحطة قلتُ له: «هل ستحاول الاتصال بها من جديد؟» فردَّ ضاحكًا «وأخون زوجتي معها؟!» فقلتُ بنفس النبرة الضاحكة: «لا بد أن أراها حين تصل يوم ٢٧ منه!» فقال «ضروري .. أُمَّال!» وهمستُ وأنا أصافحه حين وصل القطار: «ولا تنس أن تختار لها اسمًا طريفًا!» ويبدو أن ضجيج القطار طمَس صوتي، فقال وهو يجري للحاقِ به «ماذا؟» فصحتُ «ولا يهمك .. مع السلامة!» ومضى القطار بعبده، وعُدتُ إلى الغرفة، وكانت الساعة قد جاوزَت الخامسة، فوجدتُ أنه قد ترك خطاباتِ كاثلين وبعض أوراقها، ولا أدري إن كانت قد تركَتْها هي معه عامدةً أم سهوًا، فوضعتُها على رفٍّ عالٍ بجوار الكتب، وهبطتُ إلى غرفة التليفزيون لأُتابِع أنباء الثورة الثقافية في الصين.

٦

يوم الخميس ٨ سبتمبر ١٩٦٦م «موعد وصول حبيبتي» كان ذلك ما كتبتُه في المفكرة، وذهبتُ مبكرًا إلى المطار، كان الجو صحوًا، وكان في السماء سحاباتٌ لا تقوى على حجب ضوء الشمس وذهبتُ إلى مكان انتظار القادمين، وظللتُ واقفًا لا أجرؤ على تحويل عينيَّ عن الباب الذي يخرجون منه، وفي نحو الواحدة ظهرًا رأيتُ نهاد تهبط السلَّم وهي ترتدي نظارة شمس وتحمل العود في يدها، وكنتُ قد أوصيتُها بإحضاره، وكان حمله مُربكًا ولم تكن قد اعتادته، فتعثَّرَت وكُسر كعب الحذاء، وقلتُ للحارس: «هذه زوجتي!» فابتسم وقال: «تفضل.» فهُرعتُ إليها لحمل العود، ولم نلبث أن أخذنا الحقيبة وخرجنا إلى الأتوبيس.

وبعد الدردشة العابرة قالت لي: «أين العمل؟ ألم تعِدني بأنني سأعمل؟» وضحكتُ وقلتُ لها: «ضروري إن شاء الله.» وكان حوارنا يتحول إلى الإنجليزية بسهولة ويسر، وما لبثنا أن وصلنا إلى الغرفة التي كنتُ قد اهتممتُ اهتمامًا بالغًا بتنميقها، وكانت نهاد رغم سهر الليلة السابقة متعطشة لرؤية المنطقة والحديقة وكل ما سمعَت عنه في خطاباتي، فخرجنا للغداء ثم للنزهة، وصحبتُها إلى مكان سوق السبت الذي يبيع المزارعون فيه منتجاتهِم بأسعارٍ زهيدة، (قفص الطماطم بخمسة شلنات وكيلو الموز بشلن … إلخ) ثم سرنا في شارع Bayswater المجاور للهايد بارك، ومَرَرنا بدار سينما ABC (وهي شركة لدور العرض السينمائية) فعرضتُ عليها مشاهدة فيلمٍ فكاهي رأيتُه من قبلُ وضحكتُ فيه «حتى قضقضتُ ضلوع صدري» كما يقول صلاح عبد الصبور، فوافقَت وقطعنا التذاكر ودخلنا، وكانت الساعة قد قاربت السابعة، ولم يكَد الفيلم يبدأ والظلام يسود، حتى خلَدَت نهاد إلى النوم العميق! وبعد انتهاء الفيلم عُدنا لتستأنف النوم الذي لم تكن ذاقَته في الليلة السابقة!
وخرجنا في الصباح إلى وسط لندن، وقضينا اليوم كلَّه ننهل من مباهج الطبيعة في الحديقة المجاورة، ثم سألتني جادةً: «أين الأحياء الفقيرة (slums) التي حدَّثتَني عنها في خطاباتك؟» فذهبتُ بها إلى منطقة المساكن القديمة في حي بادنجتون، وهي المساكن التي تُجاوِر محطة القطار ومخازن السكة الحديدية، وتصلُ في نهايتها إلى طريق إدجوير Edgware Road، ويطلقون عليها اسم المنطقة الغاربة twilight area (حرفيًّا المنطقة الغسَقية) ولكنها لم تَجِد فيها «الفقر» كما نعرفُه في مصر، وقالت لي إنها مساكنُ لا بأس بها، وقرأنا إعلانًا معلَّقًا على أحدها يعرض المنزل للبيع ويصف فيه صاحب المنزل منزلَه بأنه قد تم تحديثه؛ أي أصبح modernized ولم أكن أعرف حينذاك أن التحديث يعني إلحاق المرحاض بالمبنى نفسه؛ فالمنازل القديمة لا مرحاض بها، بل يُوجد المرحاض خارج المنزل في الحديقة الخلفية، ومرَرْنا على بائع السمك المقلي والبطاطس المقلية وهي الوجبة الشعبية التي تقابل الفول والطعمية عندنا، وقرَّرنا محاكاة الإنجليز في تناول هذه الوجبة، فطلبنا طبقَين صغيرَين two small portions سعر الواحد شلنان، فلفَّهَما البائع في أوراقٍ خاصة مثل ورق الصحف (لكن دون حبر الطباعة) وعُدنا لتناول الغداء في الغرفة.
وذهبنا يوم السبت إلى السوق الشعبية فاشترينا الفاكهة والخضر وحملناها إلى الغرفة، وعشنا أيامًا طويلةً جميلة على ثمار الصيف الإنجليزي، ورحَّبَت نهاد بمسرات المشي مسافاتٍ طويلة في الحديقة المُجاوِرة (الهايد بارك) أو في الشوارع الفسيحة، ونحن نتبادل الأخبار ونخطِّط للمستقبل، وكنتُ أُحِس صادقًا أن غربتي قد انتهت، وأن الله قد منَّ عليَّ بحبيبة ورفيقةٍ رائعةٍ هي نهاد، وكان سَيْرنا معًا مضرب الأمثال في بيت الطلاب، وعندما حل الخريف قرَّرنا أن نفكر جديًّا في مسألة التحاقها بدراسة الماجستير، وكانت المصاريف الدراسية خمسين جنيهًا في العام، ولكن موعد التقديم كان قد فات، فقرَّرَت نهاد أن تلتحق بمعهد لدراسة الآداب واسمه London Literary Institute مصاريفُه ثلاثةُ جنيهاتٍ في الفصل الدراسي، وأنشأه مجلس حي هولبورن في شارع جانبي هو (Stukely Street) بالقرب من مسرح كفنت جاردن، وقريبًا من مكان عملي، وهو معهدٌ أهلي لا يمنح شهاداتٍ رسمية، ولكنه يمنَح الثقافة لمن يطلبُها ويتولَّى التدريس فيه أساتذةٌ جامعيون، ولا يضع أي قيودٍ من أي نوعٍ على التسجيل للدراسة، وعندما ينتهي الطالب (مهما يكن عمره) من دراسة المادة التي يدرُسها يُمنح شهادة بأنه انتهى من دراستها وتفاصيل تلك الدراسة إذا كان يريد ذلك.

وأنا أذكُر الآن تلك الأيام بشوق وحنين، ولربما أضفى خيالي عليها جمالًا زاد من جمالها الفعلي؛ فقد كان كل شيء جديدًا، وأصبحَت رحلة المسرح رحلةً ذات مذاقٍ فريد؛ فكثيرًا ما كنا نقرأ المسرحية قبل مشاهدتها ثم نناقشها بعد المُشاهَدة، واكتسبنا في رحلات المسرح عادة الدقة المتناهية في احترام المواعيد، فمن يتأخر عن موعد رفع الستار مهما كانت منزلته، ولو كان ذلك دقائقَ معدودة، لا يُسمَح له بالدخول، وما تزال نهاد تستمسك بهذه العادة في مصر رغم ما تعرفه عن عدم احترام المواعيد لدينا، وقاعة المسرح مثل قاعة المعبد مقدَّسة، لا يأكُل فيها أحد ولا يدخِّن (طبعًا) ولا يتكلَّم، ولا يُوجَد ما يُسمَّى بالمقاعد الخالية؛ فالمسرح «كامل العدد» دائمًا، وعند الدخول نشتري البرنامج المطبوع بشلنَين، ونرجع إليه في صمتٍ إن توافَر الضوء الكافي، وفي الاستراحة يخرج من يريد إما إلى الكافتيريا لشرب المرطِّبات (الشاي أساسًا) أو للتدخين، أو للحديث في صالة الاستقبال الرحيبة.

وازداد الخريف جمالًا عندما بدأَت الرياح تَعصِف بالأوراق الذابلة، وكنا قد اعتدنا أن نلتقي أنا ونهاد في فترة الغداء إما لديها في كافتيريا المعهد أو في مطعم من سلسلة مطاعم الليونز Lyon’s Tea Shops (وأعتقد أنها اختفت الآن) وكان يقدِّم السلاطة بأربعة شلنات ونصف، وللطاعم أن يختار بنفسه ما يريد من الأطباق، فكان أول «بوفيه مفتوح» أراه في حياتي! لكن ألذ مذاقٍ سأظل أذكُره ما عشتُ هو مذاق ساندويتش الجبن الأبيض بالطماطم الذي أتت لي به نهاد ظهر ذات يوم من أكتوبر، وكان صحوًا مشرقًا، وكان من نوع الخبز الفينو الطويل، الذي يصفونه في إنجلترا بأنه «خبزٌ فرنسي»؛ إذ أضافت إليه نهاد قطعًا من الزيتون الأسود، فكنتُ أقضِمُه قضمًا بشهيةٍ لم أعهدها من قبلُ، ولا أظن أنني سأعرفها ما حييت.
figure
إلى اليمين الأصلع ريمون مكلف ود. سامي أبو طالب أصدقاء العمل في كوينز هاوس.
وسرعان ما تعرَّفَت نهاد على الطلاب العرب من نُزلاء بيت الطلاب المذكور، وصرنا نتسامر معهم ومعهن أحيانًا في المساء، وفي نوفمبر حَلَّت طالبةٌ سودانية ظريفة اسمها فهيمة، فكانت تحدِّثنا عن السودان حديثًا يختلف عما كنتُ أسمَعه من أصدقائي السودانيين الآخرين؛ مثل بشير إبراهيم بشير (أستاذ التاريخ الآن) وفاروق اليماني (المتخصِّص في المكتبات) والدكتور حسن شريف (الطبيب النابه) وكنا نستمع إليها في شغف، وذات يومٍ انضم إلى الحلقة ثلاثة من أبناء المغرب، هم فتحية وابنة أختها غيتة، وكان لغيتة أخٌ يُدعى محمد، وسرعان ما تحوَّلَت دفَّة الحديث إلى الأطعمة الشرقية فذكرتُ للمغاربة البامية المصرية (okra/lady’s fingers) فأنكروا معرفتَهم بها، وشَرحَت لهم فهيمة أسلوب «عمل الويكة»، والملوخية البُرَاني، فقالوا إنهم يعرفون الملوخية لكنهم لا يعرفون البامية. وهنا تطوَّعَت نهاد بأن تُعِد لهم وجبةَ بامية مصرية (مع الليمون طبعًا والفلفل الأخضر) واتفقنا على ذلك في عطلة نهاية الأسبوع. وما إن فتحَت نهاد غطاءَ حلة البامية المطبوخة باللحم الضاني حتى صاح الجميع «الله! ملوخية!» واتضح أن ذلك هو اسمها في المغرب. ولن أنسى الحرج الذي أصاب فهيمة حين سألَتها فتحية المغربية: «لماذا لا تغيِّرين اللباس السوداني؟» وكان المقصود هو «التوب» ولكن الكلمة العربية الصحيحة أصبحَت تعني للمصريين والسودانيين شيئًا آخر.

وقرَّرَت إدارة البعثات زيادة مرتبي سبعة جنيهات (علاوة زواج) ولكن ذلك لم يكن كافيًا، فكان عليَّ أن أقضي المزيد من الوقت في العمل، حتى كاد العمل في الرسالة أن يتوقَّف، ولكنني كنتُ أُواصِل قراءاتي المتنوِّعة مع نهاد، وكان لديها من الجَلَد والصبر ما أعجَب له، وذكرتُ ذلك ذات يوم للمشرف فقال لي: «لا تقلَق .. النساء بطبيعتهن صبورات! ألا ترى الدجاجة وهي ترقُد على البيض؟» وكنا نتبادل الكتب فتنتهي هي من الكتاب في يومٍ أو يومَين، ثم لا أنتهي أنا منه في أسبوعٍ كامل! وبدأنا رَصْد التعبيرات الاصطلاحية التي نسمعُها في حياتنا اليومية أو في الراديو أو نقرؤها في الصحف، وخصَّصنا لذلك كشكولًا ضخمًا امتلأ حتى ضاق بما فيه، ولم يكن بردُ الخريف الخفيف يمنعنا من التريُّض، وكانت اهتماماتنا المشتركة تزداد عمقًا واتساعًا كل يوم، وأعتقد أن العالم الجديد الذي كنا نعيش فيه بعيدًا عن الأهل والأصدقاء القُدامى ساعد على هذا التعميق، وتدريجيًّا بدأَت نهاد تتعرف على زملائي في العمل، وكنا نتغلَّب على أي خلافات بالتفاهم الباسم؛ إذ حاولتُ أنا أن أحاكي الإنجليز في نبذ الانفعال، كما كانت تلجأ هي إلى استخدام اللغة الإنجليزية في أي خلافٍ مما كان يكسر من حدة الانفعال لديها، ويُضفِي منطقًا هادئًا على كل شيء.

وما إن علم الإخوان العرب في الإذاعة بأن لديَّ آلة العود الشرقية، حتى قرَّروا قضاء سهرةٍ موسيقية في منزل أحدهم، فزارني أكرم صالح الفلسطيني واصطحَبني بسيارته إلى ذلك المنزل، وبمجرَّد أن بدأتُ العزف، وكان اللحن الذي طلبوه هو «ودَّع هواك وانساه وانساني/ عمر اللي فات ما حيرجع تاني» لمحمد عبد المطلب (تلحين محمود الشريف) حتى وجدتُ الدموع تسيل من عيونهم، فكان معظمهم يُغالِب النهنهات، خصوصًا «زغلول» وهو مصري فُرضت عليه حياةُ الغُربة فرضًا، فكان مقام الراست الشرقي يهز أعماقه، والإحساس باستحالة «عودة الزمن» يثير مكامنه، وكان الموجودون خليطًا من جميع البلدان العربية، وكلهم يبكي جرحه حتى حل الهزيع الثاني فانفَضَّ السامر، وأدركتُ أن العربي يحمل الوطن في قلبه إلى الأبد، وعندما عُدتُ إلى الغرفة كانت نهاد قد أوَت إلى الرُّقاد، فجلستُ وحدي أفكِّر في شتات اللغة العربية التي كانت تتناثر حولي، وكل كلمة ذاتُ جذورٍ تضرب في أعماق الوجدان وأعماق التاريخ.

٧

وفي ديسمبر فوجئتُ بصوتٍ لا أعرفه يُحادِثني في التليفون. قال إنه مصري انتهى من دراسة الطب وكان يقضي سنة الامتياز، لكنه كان طموحًا ويريد أن يصبح جرَّاحًا شهيرًا؛ ومن ثَم استخرج لنفسه «جواز سفر طالب»؛ لأنه إذا أكمل عام الامتياز وتخرَّج فلا بد أن يُعَيَّن في الأقاليم (أو في القرى والدساكر كما يُسمِّيها) واشترى لنفسه تذكرة طائرة، وأتى بتأشيرة خروجٍ سياحية، ذاق الأَمرَّين في استخراجها، إلى لندن. وأشار عليه أحد معارفه القدامى ممن سبقوه إلى لندن بأن يتصل ﺑ «عم عناني» حتى يُترجِم له ما يريد. وعندما قابلتُه وجدتُ شابًّا أسمر لوَّحَتْه الشمس، يتميَّز بخفة الظل والألمعية، ولا يتحدَّث إلا في الطب وأطلعَني على أوراقه الرسمية، وقال لي إنه يريد أن يتقدَّم للعمل في مستشفى مارلبون St. Mary Marylebone القريبة من منزل الطلاب، لكنه لا يريد أن يبدأ من الصفر؛ فمن كان طموحًا مثله لا بد أن يبدأ من القمة، وأفهمتُه أن ذلك لا يصلُح مع الإنجليز، أو مع الأوروبيين، وقصصتُ عليه قصة ناجي الحبشي عازف الفيولنسلُّو (الشيلُّو) المشهور، فعندما حصل على بعثة وذهب إلى إيطاليا للدراسة مع أشهر عازف كونشرتو (concertist) في أواخر الخمسينيات قدم نفسه على أنه عازف كونشرتو مصري، وكان ردُّ الأستاذ الإيطالي هو أنه ما دام كذلك فعليه أن يعود إلى مصر، وقال له: «العازفون يأتون إليَّ حتى يصبحوا عازفي كونشرتو! وما دمتَ قد أصبحتَ كذلك فعليك أن تعود إلى بلادك.» وبعد تدخُّل رجال البعثات في روما قَبِلَه الأستاذ ولكنه لقَّنه درسًا في التواضع؛ إذ فَرضَ عليه ألا يعزف شيئًا سوى السلالم الموسيقية وتمارين المبتدئين ثمانية أشهرٍ كاملة! ولكن سمير سيدهم (وكان ذلك اسم الشاب المصري) كان مُصِرًّا على المحاولة، فاقترحتُ حلًّا وسطًا يتمثل في أن يقدِّم «مشروع بحث» في عملية الغضروف التي يحتاجها الرياضيون في مصر على وجه الخصوص دون أن يلجأ إلى الكذب في شيء، فإذا وافق مجلس أمناء المستشفى Board of Governors على المشروع عيَّنوه باحثًا، فإذا نجح استطاع دخول عالم الجراحة من الباب الصحيح. ووافق سمير وكتبنا المشروع وقدَّمه واختفى أسبوعَين أو ثلاثة، ثم جاءني صوتُه على التليفون مبتهجًا جذلًا؛ إذ وافق مجلس الأمناء، وعيَّن له اثنَين من الأطباء الإنجليز (physicians) يعملان تحت توجيهاته، بحيث يبدأ الفريق عمله على الفَور اعتبارًا من أول يناير ١٩٦٧!
figure
كرستين في معمل الرياضة والفيزياء.
ولن يدهَش القارئ الذي يؤمن بذكاء المصريين إذا علم أنه لم ينقضِ عامان حتى نجح البحث الذي قام به فريق المستر سيدهم (وكانوا ينطقون اسمه سيدَمْ) وتم تعيينه أستاذًا مساعدًا بالمستشفى Senior Registrar وفُتحَت أمامه أبواب الترقي إلى درجة الاستشاري consultant ومن بعدها الأستاذ professor! وظللتُ أُتابِع أخبار المستر سيدَمْ شخصيًّا وفي الصحف طوال إقامتي في إنجلترا، والجرَّاح في إنجلترا لا يقولون له دكتور بل مستر، وكان يستشيرني في عُروض الوظائف التي تنهال عليه، وفهمتُ منه أن الجراحة فن وموهبة، وهي لا تحتاج إلى العلم الكثير بل إلى مهارة الأصابع والبديهة الحاضرة، وأن الجراح لا بد أن يستعين بطبيب يساعده في التشخيص ولا يضنُّ عليه بالمشورة. وقصة نجاح سمير سيدهم مثل قصة نجاح رماح البرعي وهو من أهم الجرَّاحين في مستشفى وست ميدلسيكس (West Middlesex) ولكن القصة ستأتي في مكانها.

كاد الخريف ينتهي وحلَّت بوادر الشتاء، وفي يوم ١٤ يناير ١٩٦٧م وصل خالي الدكتور مصطفى كمال بدر الدين مع زوجته اعتدال، وبلغَتْنا أنباء رفع المصاريف الدراسية في الجامعات الإنجليزية من ٥٠ إلى ٢٥٠ جنيهًا في العام!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤