الفصل الخامس

النهر والروافد

١

إذا كانت الكتُب التي عكفنا عليها أنا ونهاد في ذلك الصيف هي التيار الرئيسي لما نكتسبُه من معرفة، فلقد كانت لمجرى النهر روافدُه وهي دفقاتُ الوعي التي تصُب فيه وتختلط به، فتُكسِب المياه ألوانها الخاصة ومذاقها المتميز، وأعني بدفقات الوعي إدراكَ كلٍّ منا لما يجري من حوله في العالم، وقد تلتقي هذه الروافد وقد تتعارضُ ولكنها تمتزج في التيار الرئيسي آخر الأمر، وكانت الصحفُ اليومية وصحفُ نهاية الأسبوع هي المصدر الرئيسي لوعي كلٍّ منا، وكلما أضيف رافدٌ جديد إلى تيار الماء تغيَّر لونُه واتسع مجرى النهر، وكان من هذه الروافد في صيف ١٩٦٨م أنباء ثورة الطلاب في فرنسا، وكان يُقال إنهم يثورون على البِنيوية باعتبارها مذهبًا فلسفيًّا ونقديًّا لغويًّا، وراعتنا ردودُ الفعل الإنجليزية إزاءها؛ فرئيس الجمهورية شارل ديجول رجلٌ شامخ وشخصيةٌ ساحرة ولكن الإنجليز يقولون إنه يفكِّر بعقلية القائد العسكري الذي يعتبر الثورة تمردًا والتمرد خيانة، وزعيم الحزب الاشتراكي فرانسوا ميتران، الذي كان في الثانية والخمسين تقريبًا، يتحدَّث بتؤدةٍ وبمنطق الخبير، فيكتسب الأنصار من الشباب، ويتوسَّل في ذلك برأس حربة (على حد تعبير الصحف الإنجليزية آنذاك) تتمثَّل في كوهين بنديت، الذي كان يُطلَق عليه زعيم اليسار الجديد، وكان عالي النبرة حادَّ التعبير، فاتَّبَعه ملايين الطلاب، وأغلَقَت جامعة السوربون أبوابها للمرة الأولى منذ إنشائها قبل ٧٠٠ سنة، وامتد الإضراب ليشمل العمال والموظَّفين وكادت فرنسا أن تواجه الشلل الكامل في الحياة العامة، ولم تكن الصحف البريطانية تُبدِي التعاطُف مع أيٍّ من الطرفَين؛ فبريطانيا تنفر من «شخصية» ديجول لأنه يمثِّل الوطنية المتطرفة، ولأنه كان يُذكِي في النفوس الكبار نار المنافسة القديمة بين إنجلترا وفرنسا على سيادة «ما وراء البحار» إبَّان عصر الاستعمار القديم، وبريطانيا تخاف اليسار الجديد؛ لأنه يذكِّرها بالثورة الفرنسية ويهدِّد بنشر أفكار التغيير في بلدٍ أشَد ما يقُضُّ مضجعه هو التغيير الثوري؛ ولذلك لم نجد في الصحف التي نقرؤها تحليلًا لجذور الإضراب والاضطراب بل أنباء «الفوضى وغياب النظام الذي يُنذِر بالخراب».

ولما كنتُ قد أصبحت شكَّاكًا أومن بالتريُّث وبعدم التسليم بصحة أي شيء قبل التحقُّق منه، فقد لجأتُ إلى المستر ويلكينز (Wilkins) أستاذ اللغويات (علم اللغة) الذي كان متخصصًا في اللغة الفرنسية، والذي كان كثيرًا ما يُحدِّثنا عن المناهج النقدية واللغوية الجديدة، ومنها البِنيوية، وكانت له زوجةٌ فرنسية، وكانت تربطه علاقةٌ حميمة بكلية بدفورد وكان يزورها بانتظام قبل الانتقال (وهذه من المصادفات العجيبة) إلى جامعة ردنج التي انتقلتُ إليها فيما بعدُ. وكان ويلكينز دائم التردُّد على غرفة الأساتذة (استراحة الأساتذة والدراسات العليا) وكنا يوم الثلاثاء ٤ يونيو ١٩٦٨م حين قصدتُ إلى الاستراحة المذكورة فلم يَخِب ظني؛ إذ كان واقفًا وحده بجانب الباب الزجاجي المفضي إلى الحديقة (French window)، وعندما شاهدَني حيَّاني وقال لي: «الكلية مهجورة هذا الصباح.» وفهمت أنه يستفسر عن سبب غياب الأساتذة دون مُبرِّرٍ ظاهر، رغم أن يوم الثلاثاء يوم عملٍ مهم، فذكَرتُ له أن الجميع يتناولون مأدبةَ غداءٍ رسمية أقامتها الكلية للمديرة (Principal) التي تقاعدَت (وهذه هي الوظيفة الإدارية التي تتضمن مهامَّ العميد لدينا ولكنها ليست وظيفةً أكاديمية).
وبعد الكلمات التقليدية عن جوِّ يونيو، وهم يُسمُّونه يونيو الملتهب (flaming June) (وتستخدم هذه الصفة على مستوى اللغة الدارجة باعتبارها من ألفاظ السِّباب، ربما بسبب إشارتها إلى الجحيم) سألتُ الأستاذ عن سر استمرار هياج الطلبة بعد أن وافقَت الحكومة الفرنسية على رفع المرتَّبات بنسبة «غير معقولة» هي ٣٥٪، فكنتُ كمن ألقى بحجر في الماء، فانداحت الدوائر التي تتسع باطراد؛ إذ شرح بإيجاز أن نظام التعليم الفرنسي يقوم على التلقين (instruction) لا على التربية (education) وأسهَب في تِبيان الفرق، وهو ما كنتُ أعرفه خير المعرفة، ثم قال ما لم أكن أعرفُه وهو أن اعتراض الطلاب على ما تُسمِّيه الصحافة البريطانية بالمناهج أو بالمقرَّرات المعتمدة قديم، وثورتهم عليها «موثَّقة» (أي مسجلة) في العديد من مطبوعاتهم ونشراتهم التي ازداد عددها زيادةً مذهلة في الخمسينيات، وكان من دوافعها الباطنة تيار التمرد الذي اجتاح العالم الغربي كله بعد الحرب العالمية الثانية، فالكل يثور على تُراث الحرب؛ لأن الحرب كانت تمثِّل لهم قمة العبث (the absurd) أو البلاهة (العبط!) لأنها دمَّرَت وأهلَكَت دون معنًى ودون دلالة.
وفي نبرة حماسٍ نادرة قال ويلكينز: «ولكن المِرجَل الذي يغلي سنواتٍ طويلة لا بد أن ينفجر يومًا، وهو يثور على رموز القديم، رموز الحرب، والألفاظ الطنَّانة المرتبطة بذلك كله، والتي تتدفَّق من رمز الحرب الأول ديجول!» فقلتُ له وما شأن البِنيوية باعتبارها مذهبًا في اللغة وفي التحليل النقدي بديجول؟ فابتسم وقال: «هذه هي القضية! ينبغي ألا يكون لها شأن! ولكن القنبلة كان لا بد لها من فتيلٍ يفجِّرها، وكانت الثورة على البِنيوية هي هذا الفتيل!» وابتسمتُ وقلتُ له مداعبًا: كان أولًا مِرجَلًا caulderon ثم أصبح قنبلة؟ فضحك وقال أنت لا تقبل خلط الاستعارات مثل البِنيويين! وأحسستُ أن الجو قد هدأ فاستزدتُه فقال: «يتفاخر الفرنسيون بأنهم ملوك تحليل النصوص، وهم يعتَزُّون كلَّ الاعتزاز بطاقة «العقل الفرنسي» الإبداعية على الغوص وراء العلاقات المتداخلة بين المعاني والأبنية، ويرون أن آفاق التحليل «لا محدودة» بل و«لا نهائية» فإذا ببعض الأساتذة يَدْعون إلى اتباع أساليبَ شكليةٍ محضة، بل ويقطعون بأنها صادقة دائمًا؛ لأنها مثلُ نُظُم الأبنية النحوية في اللغة، ذات جذورٍ عميقة في نفس الإنسان بل وفي حياته البيولوجية، وإذا بهم يُحاوِلون تلقينها للطلاب!» وقلتُ له إن لهذه الأبنية جاذبيتها ودلالتها، والدراسة الأدبية تؤكِّد فائدتَها في التحليل، وقبل أن أسترسل قاطعَني قائلًا: «أنا لا أنكر ذلك، ولكن الطلاب كانوا يريدون أن يثوروا، وبدءوا بالثورة على من يفرض عليهم منهجًا، خصوصًا إذا كان المنهج «مستوردًا» من الشرق ومن الغرب!» وفهمتُ أنه يشير إلى ياكوبسون (جاكوبسون) الروسي وتشومسكي الأمريكي، فقلتُ له إن المعرفة عالمية، وإن الأدب هو الأدب، فأومأ وعلَت وجهَه سحابةُ تأمُّلٍ عميق، ثم قال: «للأسف! لم ينظر أحد إلى البِنيوية باعتبارها منهجًا قابلًا للنقض، بل اتخذها الطلاب ذريعةً لتفريغ شحنة غضبهم من نظام التعليم الفرنسي، ومن ورائه نظام الحياة برمَّته وقالوا إنه كان يجب بعد الحرب أن يتغير فإذا به يتحجَّر! إن ديجول ما يزال يُعلِن عظمة فرنسا، وبالأمس زار مقاطعة كيبيك في كندا وقال إنها فرنسية، ورغم استقلال الجزائر فما يزال يشير إليها باعتبارها أرضًا فرنسية!»
ونهض ويلكينز ثم نظر في ساعته فعلمتُ أن الموضوع أكبر من أن يُحسَم في ساعة الغداء، فنهضتُ أنا أيضًا وسِرتُ معه ونحن نستكمل الحوار في الطريق إلى سيارته، وعندما فتح باب السيارة قال لي: هل قرأتَ دريدا (Derrida) فأجبتُ بالنفي، فقال سوف تسمع عنه كثيرًا وتقرأ له، وسوف يُهلِّل الفرنسيون له ويكبِّرون لأنه فرنسي وإن كان جزائري المولد! وهو لا يبني بل يهدم! إنه روح هؤلاء الشباب! وانطلَق بسيارته باسمًا.

وعدت إلى المكتبة حيث كان عليَّ أن أَفرغَ من تنظيم قائمة المراجع التي ستُوضع في ذيل الرسالة، وكانت المكتبة شبه خالية؛ فالشمس ساطعة والحديقة تُغرِي الجميع بالتنزُّه، ولكنني كنتُ راضيًا بالنظر من الشُّباك الكبير بين الفَينة والفَيْنة إلى النباتات اليانعة بلونها الأخضر الزاهي، وأحواض الزهور المتناثرة هنا وهناك، ثم العودة إلى أوراقي. وفي الخامسة مساءً خرجتُ أسير وحدي وأنا أفكِّر فيما قاله أستاذ علم اللغة، وعندما وصلتُ إلى المنزل وجدتُ نهاد تتحدَّث بحماسٍ عن ثورة الطلاب في فرنسا، وشاهدنا أخبار الساعة السادسة في التليفزيون، وكان أهم ما فيها قرار العمال الفرنسيين بالإضراب يومَي ١١ و١٥ يونيو، وبعدها تناولنا العشاء وعُدنا للقراءة.

figure
في الحديقة عام ١٩٧١م.

وذهبتُ إلى كافرشام يوم الخميس مساءً وقضيتُ الليلة في بيت الضيافة وفي الصباح زرتُ عبد اللطيف الجمَّال في غرفته فوجدتُه يقرأ رواية بالألمانية لتوماس مان، وجعل يحدِّثني عن ذلك الكاتب حديثًا مسهبًا، واقترح ألا أعود إلى لندن وأن أقضي اليوم معه، فأخبرت نهاد تليفونيًّا، ثم خرجتُ معه إلى وسط البلد (ردنج) سيرًا على الأقدام وهو يحدِّثني عن توقُّف عمله في الرسالة، واهتمامه برصد تأثير نيتشه على أ. أ. ريتشاردز، وكان يُقرأ نيتشه بالألمانية، وقلتُ له إن شكري عياد نصحَني بأن أنتهي من الرسالة وأعود، فقال عبد اللطيف دون اكتراث: تعود؟ وماذا في مصر يمكن أن تعود إليه؟ وأجبتُه إجابة كنت أظُنها مُقنِعة، ولكنه قال إن مصر تمُرُّ بمرحلة انكسار، والأفضل لمن جعل القراءة عمل حياته أن يعيش خارجها، وكان ردِّي على ذلك «معقولًا» أيضًا، ولكنه كان يُبدِي من اللامبالاة ما أقنعَني بعدم الرد، وذهبتُ إلى العمل في المساء، وفي الصباح سمعنا نبأ اغتيال بوبي (روبرت) كينيدي، شقيق جون كينيدي الذي كان قد اغتيل أيضًا قبل خمس سنوات! وقلِقْت؛ لأن القاتل كان اسمه سرحان بشارة سرحان! فماذا سيكونُ تأثيرُ ذلك في موقف أمريكا من العرب؟ ولم يكن قد مضى على اغتيال مارتن لوثر كنج إلا نحو شهرَين، وكنا ما نزال نتابع مسيرات الزنوج والفقراء في أمريكا، وعُدتُ إلى لندن وقد بدأَت هموم الأنباء تُثقِل فكري، وقضيتُ مع نهاد الأربعة الأيام التالية ونحن نُتابِع تلك الأحداث، وإذا بأحد الأصدقاء يُحادِثني تليفونيًّا ويقول لي إن الطلاب في مصرَ قاموا بمظاهراتٍ صاخبة وإن جمال عبد الناصر ألقى فيهم خطابًا مهمًّا، وأبديتُ الرغبة في أن أستمعَ إليه فأتى لي الصديق بالشريط (وما زلتُ أحتفظ به) وسمعناه مراتٍ عديدة، حتى فيما بين فترات القراءة والاستذكار!

٢

لم يحدث في يوليو (شهر الثورات) شيءٌ مثير أو ثوري، سوى وصول خطاب سمير سرحان، وتوقَّع وصوله في أغسطس، وكان قد أرسل شريطًا صوتيًّا به معظم الأغاني الجديدة، وكانت الشرائط آنذاك بكراتٍ مستديرة تتراوح مدتها الزمنية بين ساعة وأربع ساعات، وفقًا لطول الشريط وإمكانيات الجهاز وسرعة التسجيل، فإذا استخدمتَ التراكات tracks (أي المجاري الممغنطة) الأربعة والسرعات البطيئة فقد يستغرق الشريط ١٦ ساعة! وكانت رسائلنا سِجلًّا حافلًا لكل ما يدور في حياتنا الخاصة والعامة، وما أزال أعودُ إليها كلما ضاقت بي الدنيا لأستروح نسماتِ الماضي. وفي يوم ٢٠ أغسطس وصل سمير سرحان مع نهاد جاد (زوجته) إلى محطة فكتوريا بالقطار من ساوثهامتون Southampton؛ حيث رست السفينة التي ركباها في نيويورك، وقابلتُهما في المحطة وعُدنا إلى المنزل، وسَهِرنا نحن الأربعة، ولم ننَم إلا بسبب الإرهاق، وفي الصباح، وكان يوم الأربعاء ٢١ أغسطس، فتحتُ الراديو لأسمع أنباء الغزو السوفييتي لتشيكوسلوفاكيا (الذي شاركَت فيه قوات حلف وارسو)، وتركتُ الجميع نائمين وخرجتُ لشراء الإفطار والبحث عن صُحف المساء (وأولاها كان يصدر في العاشرة)؛ إذ لم تكن أنباء الغزو قد نُشرَت في صحف الصباح؛ لأن القوات تحرَّكَت ليلًا ودخلَت براغ في الرابعة صباحًا، فوعدَني بائع الصحف بإرسال النُّسَخ إلى المنزل حالما تظهر. وما إن استيقظ الجميع حتى كانت الصحف بين أيديهم.

وقرأ سمير الصحف باهتمام، فهو قارئٌ نهِم، وقال بسرعة حين لاحَظ انزعاجي «يعني كنت عايزهم يسيبوا ألكسندر أفندي يفركش العملية؟!» وضحكتُ من أعماقي، وكانت ضحكةً صادقة لم أضحك مثلها منذ يونيو ١٩٦٧م؛ فهو يتمتَّع بقدْرٍ كبير من اللماحية الفَكِهة، ورغم ما شاع عن مَيْله لكتابة التراجيديا ومَيْلي لكتابة الكوميديا، فنحن نشترك في الإيمان بضرورة رؤية كل شيء من مختلف زواياه، وتعدُّد الزوايا يكفُل اكتمال الرؤية، كما أنه يُتيح النظر من زاوية الفكاهة، وهي الزاوية التي ينظُر منها الكاتب الساخر، والتي لا غنى عنها لأي كاتب. وبعد المناقشات المحتومة انطلقنا إلى محطة فكتوريا أولًا للسؤال عن مِعطَفٍ كان سمير سرحان قد نَسِيَه في القطار، وما إن سألنا عنه حتى أتى به الموظَّف فحملَه سمير على ذراعه وخرجنا لقضاء اليوم في ربوع لندن.

كانت كل زيارة يقوم بها سمير سرحان إليَّ في لندن تملؤني بالثقة في المستقبل، وتؤكِّد لي أن مشاغل الحياة العامة التي بدأتُ أهتم بها يجب أن تحتل المرتبة الثانية أو الثالثة بعد الدراسة والحصول على الشهادة، وروى لي تفصيلًا كيف فرض على نفسه العمل يوميًّا في الرسالة، وكان يكتب «صفحةً واحدةً على الأقل» كل يومٍ حتى يضمن انشغاله بالموضوع وعدم انصراف ذهنه إلى أي شيءٍ آخر، وتمنَّيتُ في أعماقي أن أستطيع ذلك، ولكن ولعي المشبوب بالقراءة «خارج الرسالة» وبالناس ولغتهم ولهجاتهم كان كثيرًا ما يشغلُني عن التخصص، وكان عملي الجديد بالترجمة، على ما فيه من جاذبية وسحر، مرهِقًا، فإذا قام المراجع الإنجليزي بتعديلِ عبارة كتبتُها أو تصحيحِ خطأٍ وقعتُ فيه، جعلتُ همِّي أن أدرُس السبب، خصوصًا بعد أن قرأتُ كتابًا عن الأساليب، وأصبحتُ مشغوفًا بفنون صنعة الكتابة، وقد انتهى بي ذلك الشغَف إلى أن سجَّلتُ موضوع الدكتوراه فيما بعدُ في «الأساليب الشعرية» وكيف تطوَّرَت من الكلاسيكية الجديدة إلى الرومانسية.

ورحل سمير ونهاد جاد بعد يومَين، وبدأَت زهور الصيف تذوي، وعندما حل الخريف اصطحبتُ نهاد إلى المدينة الجامعية في جامعة ساسكس، وقضيتُ ليلتَين وحدي، وفي السادسة صباحًا في اليوم الثالث أيقظَني رنين التليفون من تلك الجامعة، وكانت المتحدثة هي المشرفة على بيت الطلاب، وأمرَتْني بالحضور فورًا. وعندما ذهبتُ بعد نحو ساعتَين قالت لي المشرفة إن نهاد لا تستطيع تحمُّل الحياة وحدها هناك، وإنها (أي المشرفة) قد استصدَرَت لها استثناءً بأن تقيم في لندن، وتأتي مرةً في الأسبوع لمقابلة الأستاذ، وكان الأستاذ هو العلامة الأسكتلندي ديفيد ديتشيز Daiches.
وبدأَت نهاد دراستَها الجادة للماجستير، وكان النظام أمريكيًّا مُستحدَثًا يتطلب الجهد المستمر طيلة العام الدراسي ثم كتابة بحثَين في تخصُّصَين متكاملَين، واختارت نهاد تخصُّص الرواية وتخصُّص الدراما، وكانت تسافر وحدها مرةً في الأسبوع، وكنت أسافر أنا إلى كافرشام فأقضي ليلةً أو ليلتَين خارج لندن، وبدأَت اهتماماتي بالترجمة واللغة تستغرق كثيرًا من الوقت الذي كنتُ خصَّصتُه للرسالة، حتى كِدتُ أيأس، ولكنني عقدتُ العزم على الانتهاء منها في نوفمبر، واجتزتُ الامتحان التحريري بنجاح، وإن لم أجرؤ على تقديم الرسالة، فقال لي المشرف إنه يفضل نقل الإشراف إلى أستاذةٍ أخرى تحتمل تلكُّؤي وتباطُؤي، فقابلت رئيسة القسم وهمسَت لي إن المشرف مريض والأفضل أن أعمل مع الأستاذة أجنيس ليثام Agnes Latham فقابلتُها وطلبَت مني أن تقرأ ما كتبتُ حتى الآن، ولم يمضِ أسبوع حتى استدعَتْني وقالت لي: «كيف تبذل كل هذا الجهد وتقيم كل هذا الصرح من الدراسة لدرجة M. A فحسب؟ لسوف أطلُب من الجامعة تحويلها إلى M. Phil — إلا إذا كنتَ تريد تحويلَها إلى دكتوراه.» وفزعتُ لما تقول وأكَّدتُ لها أنني أريد أن أبدأ بدايةً جديدة وأن أغيِّر الموضوع في الدكتوراه، فقالت لا بأس، ثم اقترحَت بعض التعديلات في الفصول وطلبَت مني الاستعداد للامتحان المقبل؛ أي في فصل الربيع، حتى تكون موافقة الجامعة على التحويل قد وردَت.
واطمأن قلبي لِما قالته المشرفة، وراجعتُ نفسي فوجدتُ أن كلامها صحيح، وأن الخطَّة كانت تتميَّز بالطموح بأكثر مما ينبغي على نحو ما حذَّرني منه المشرف، وقد علمتُ أنه كان يعاني من مرضٍ عُضال لم يُمهِله؛ إذ توفي مع البروفسور جيفري تيلوتسون زوج رئيسة القسم في مطلع عام ١٩٦٩م، وكان عليَّ أن أُعيد تقسيم الفصول، فعملتُ جادًّا في إصلاح ما يحتاج إلى إصلاح، وقد اكتشفتُ أن عيوب الصورة الأولى للرسالة (والتي ما زلتُ أحتفظ بها) كانت تتلخَّص في عدد من الملامح التي ترجع إلى طريقتي الخاصة في التفكير ومن ثَم في الكتابة، ألا وهي الاستطراد digression — العدو الأول للبحث العلمي وللكتابة العلمية. وكان أهم شاهدٍ على ذلك وجود حواشٍ مطوَّلة في الكثير من صفحات الرسالة؛ إذ كان يعنُّ لي خاطرٌ أثناء متابعة الحُجة التي أقيمها في متن الرسالة فأُدرِجه في الهامش، وربما تفرَّع الخاطر فولَّد فكرة أراها مهمةً فأتوسَّع فيها مما يحوِّل الإشارة الهامشية إلى حاشية، وقالت لي المشرفة إن كثيرًا من هذه الأفكار يجدُر إدراجه في المتن، أو إرجاؤه إلى حواشٍ منفصلةٍ في ذيل الرسالة، وقد فعلتُ ذلك في الصورة المعدَّلة، وأجد من الطريف أن الكثير من الكتَّاب الأمريكيين يفعلون ذلك الآن في كتبهم — والمثال الحاضر على الاستطراد في ثنايا المتن نفسه هو ستانلي فيش Fish (خصوصًا في كتابٍ أصدَره عام ١٩٨٩م بعنوان «التصرف الطبيعي» Doing What Comes Naturally وجون إليس الذي يؤجِّل الحواشي في كتابه (اللغة والمنطق والفكر) Language, Logic and Thought (١٩٩٣م) إلى مكانها في آخر الكتاب مثلما فعل في كتابه (مناهضة التفكيكية) Against Deconstruction (١٩٨٩م)، ولقد تطوَّر نظام وضع الهوامش marginalia والحواشي endnotes فلم تعُد الهوامش (الإشارات إلى الكتب والمؤلِّفين) تُوضَع في الهامش بل في غضون المتن نفسه، وأصبحَت الحواشي تُلحَق بالكتاب أي تُوضَع في ذيله، أما الاستطراد في تضاعيف الحديث نفسه فقد أصبح السمة الغالبة على كتابة الكثيرين من كتَّاب الثمانينيات والتسعينيات، وأقول بالمناسبة إن ذلك مما يُرهِق المتخصِّص الذي قد يبدأ قراءة كتاب عنوانه «النقد التفكيكي» مثل كتاب فنسنت ليتش بهذا العنوان المنشور عام ١٨٨٣ Vincent Leich فيتَوقَّع أن يقدِّم له المؤلف فصولًا في النقد التفكيكي ولكنه يجد شطحاتٍ والتواءاتٍ يتوه فيها بين الفكرة ونقيضها، فيَضِلُّ ولا يهتدي، فإذا كان ذلك حال المتخصِّص فما بالك بغير المتخصص؟ وذلك هو، بالمناسبة، السر في عدم نجاح ترجمة الكثير من أمثال هذه الكتب إلى العربية، ولكن الدفاع التقليدي عن مثل هذا المنهج هو أنه كتابٌ لا رسالةٌ جامعية؛ أي إنه مجموعة من الأفكار وثمار القراءات المنوَّعة في موضوعٍ واحدٍ يجمع بينها، ولكن الرسالة هي تسجيلٌ لنتائجِ بحثٍ علمي، وينبغي فيه التركيز والضغط حتى لا يتشتَّت القارئ.
ولقد توقَّفتُ بعضَ الشيء عند «عيب» الاستطراد؛ لأنني تعلَّمتُ من ممارسة الكتابة النقدية (بل والإبداعية) على مدى الأعوام الثلاثين الماضية أن القارئ بصفةٍ عامة، ومهما بُلِغ من تفصيل القول في «أنواعه» (على نحوِ ما يفعل إيزر Iser) يبحث عن فكرةٍ واحدة أو فكرةٍ رئيسية، ويتوقَّع من الكاتب الإيضاح والشرح والتبسيط، وكم من كتابٍ قرأتُه في غِمار جمعي للمادة فعانيتُ في فهمه الأمرَّين! وجهدتُ حتى أصل إلى مقصد صاحبه، فإذا بالنتيجة لا تُساوي ما بُذل في سبيلها من عناء!! ولكنني لم أكن تعلَّمتُ الدرس بعدُ، وكانت معاناة كتابة الرسالة أو إعادة تنظيم مادتها هي أول خطوةٍ في هذا السبيل.
لقد أكسبَني هذا الجهد خبرةً لا تُقدر بمال، وتعلَّمتُ في خِضَم «التعامل» مع الكلمات ومع أبنية العبارات كيف أهيئ القارئ لتلقي النتيجة التي أُريد أن أصل إليها، بالتلميح إلى آراء الثقات أحيانًا، وبضرب الأمثلة أحيانًا أخرى، ثم أتدرَّج في بناء الحُجة حتى إذا وصلتُ إلى المرحلة التي يطمئن قلبي فيها إلى أن طرح مقولتي أصبح يستند إلى دعائمَ صُلبة ومقنِعة، صُغْتُها في ألفاظٍ واضحة وموجزة. وآتت جهودي أُكُلها، فما إن قرأَت المشرفة الفصل الأول حتى أرسلَت لي بطاقة بريدية (ما زلتُ أحتفظ بها) تقول فيها حرفيًّا “Congratulations! What depth, what lucidity!”؛ أي إنني أُهنِّئك على العُمق والوضوح، ولقد فرحتُ بما قالته، ووجدتُ فيه عزاءً عن التأخير؛ إذ انقضَت السنة الثالثة وأنا ما زلت أصُوغ وأتأمَّل، وقد يكون من المناسبة أن أذكُر أن تخفيف النَّبرة كان من عوامل إحكام حرفة الكتابة، إلى جانب تخفيف النبرة بإدراج عبارات الاحتراز، واللجوء في ذلك إلى تغيير أنماط أَبنية العبارات، وأذكر أنني عدَّلتُ عبارة في الصورة الأولى للرسالة كنتُ أقول فيها إن الشاعر رغم إنكاره للإيمان بتناسُخ الأرواح أو بنظرية أفلاطون عن عالم المُثل (ideas لا ideals) فإنه يوحي بذلك إيحاءً صريحًا، وهذه عبارة قد يقبلُها القارئ من شاعرٍ كبير مثل سيسيل داي لويس Cecil Day-Lewis أو أستاذٍ ضليع مثل إرنست دي سلينكورت (Ernest de Selincourt) أو حتى هيلين داربيشر Helen Darbishire (تلميذة الأخير) ولكنه لن يقبلها من دارسٍ مبتدئ، وقد عدَّلتُها إلى «إن المقولات (statements) الواردة في قصيدة «مشاعر الخلود» والتي قد تُفهَم حرفيًّا على أنها تعبيرٌ عن إيمان بفكرةٍ فلسفيةٍ أو دينية، قد تكون أسلوبًا جديدًا في بناء الصورة الشعرية دون استعمال المجال اللغوي المباشر، على نحو ما بيَّنَته فلورنس مارش في كتابها الذي سبقَت الإشارة إليه، وإذا كان الشاعر قد أنكر في شيخوخته (عام ١٨٤٧م) في الحواشي التي أملاها على الآنسة إيزابيلا فنيك Fenwick أنه كان يؤمن بتناسُخ الأرواح أو بأفلاطون، فربما كان ذلك لأنه تحوَّل إلى العقيدة المسيحية التقليدية، وإن كان ذلك لا ينفي أن القارئ الذي اطَّلع على هذه القصيدة عندما نُشرَت أول مرة عام ١٨٠٧م، قد رأى فيها ما يُوحِي بالإيمان بتناسُخ الأرواح أو بالفكر الأفلاطوني.»

الفارق بين التعبيرَين شاسع؛ فالعبارة الثانية تنتفع بالمقالات والتبريرات المستندة إلى آراء الثقات، وهي وإن كانت تخلُص إلى النتيجة نفسها، فإنها تنسبُ تلك النتيجة إلى «قارئ» القصيدة في زمنٍ محدَّد، وهو تحرُّزٌ شائع في الأسلوب الإنجليزي، لكنه لا يمنع من التعميم؛ فليس معنى إحساس القارئ بذلك الإيحاء عام ١٨٠٧م هو أن القارئ لن يشعر به في عام ١٩٦٨م، وإن كان التعبير يُوحي بالتحرُّز، وغني عن البيان أن جميع العبارات التي سبقَت هذه النتيجة تتضمن أساليب الاحتمال والشك مثل «قد تُفهم حرفيًّا» و«قد تكون أسلوبًا جديدًا» و«إذا كان .. فربما كان ذلك لأنه» وهو مما يوحي بأن الكاتب يتوخَّى الحذَر، ولا يريد إطلاق الأحكام، وإن كان في النهاية يقول ما يريد أن يقوله!

وإلى جانب ذلك كان أسلوب التعديل ينتفع كما قلتُ بتعديل الأبنية واستخدام تفاوت النبرة عن طريق بناء العبارات التي تُوحِي بأنها ذاتُ أهميةٍ ثانوية (subordination) وهو ما لا يظهر في الترجمة العربية لعدم ولوعنا بهذا اللون من الأبنية، وقد ناقشتُ ذلك فيما بعدُ في كتبي عن الترجمة، ولا أظُن أن المجال يتسع هنا للإفاضة في هذه الأساليب الإنجليزية المتخصِّصة.
استغرق العمل في رسالة الماجستير فترةً أطول مما قدَّرتُ لها، وفرحتُ أنها تحوَّلَت من M. A. إلى M. Phil. فالدرجة الأخيرة «درجةٌ بحثية» research degree ولكنها ما تزال تُسمَّى الماجستير بالعربية، ولا تعترف الجامعات العربية بالفرق بين الأُولى التي يمكنُ الحصول عليها بكورسات وامتحان وبين الأخيرة، فكان لا بد من التسجيل للدكتوراه. وكنتُ في مطلع عام ١٩٦٩م قد أحكمتُ صنعة الترجمة إحكامًا، ولم يعُد العمل في كافرشام يستغرق إلا وقتًا محدودًا، وكنتُ أقضي عطلة نهاية الأسبوع فيها خارج لندن، ونهاد تُجهِد نفسها كل الإجهاد لإعداد الأبحاث المطلوبة منها، وكان أساتذتُها سُعداءَ بها كل السعادة.
وكنتُ عندما أعود إلى المنزل يوم الإثنين، أحاول تعويض غيابي بالخروج مع نهاد، وكثيرًا ما كانت مناقشاتنا تدور حول بحوثها، وقراءاتها، وأحيانًا كنتُ أصحبها في القطار إلى الجامعة، ونخرج بعد مقابلة الأستاذ للنزهة قبل العودة إلى لندن، ولكن يوم الأربعاء كان يوم المسرح، وكنا نخرج في الواحدة ظهرًا فنركب المترو حتى محطة هولبورن ثم نسير حتى مسرح أولدويتش مثلًا، أو إلى محطة واترلو (Waterloo) ثم نسير إلى المسرح القومي (في الأولد فيك) (Old Vic)، ولن أنسى يوم أن تأخَّرنا أو تأخَّر بنا القطار دقائقَ معدودةً فأخذنا نجري جريًا حتى وصلنا في الموعد (الثانية والنصف ظهرًا) ونحن نلهثُ ولم نكَد نجلسُ حتى بدأ العَرْض!

٣

وفي يوم السبت ١٩ يوليو عام ١٩٦٩م جاء الدكتور رشاد رشدي لزيارة لندن، وكان قد حصل على منحة من المجلس البريطاني لزيارة بعض المعالم الثقافية في إنجلترا، فقابلناه أنا ونهاد وفرحنا به، كما قابلَه عبد اللطيف الجمَّال، واستأجر غرفةً في منطقة جلوستر رود Gloucester Road في وسط البلد، ثم لحق به عبد المنعم سليم الكاتب المشهور، وكنا نتجول أنا ورشدي في أرجاء لندن وهو يقُص علينا طرفًا من ذكرياته، وكان يدهَش من اختفائي في عطلة نهاية الأسبوع في كافرشام، وعندما علم أنني سوف أسجِّل للدكتوراه في مطلع العام الجديد عرض عليَّ العودة إلى مصر، ووعَد بأن يساعدني في الحصول عليها بسرعة، ولكنني رفَضْت؛ فالحياة في إنجلترا لم تكن مجرَّد تمهيدٍ لشغل منصبٍ ما في مصر (علمي أو ثقافي)، بل وسيلة للنهل من معينٍ لغوي وثقافي لا ينضب.
وذات يومٍ صحبتُه لشراء زوجٍ من الأحذية، فقابلنا فتاةً من كُليتنا تُدعى جون مالوي Joan Malloy، وكان اسمها الأصلي كورديليا مثل اسم ابنة الملك لير في مسرحية شيكسبير الشهيرة، وعرَّفتُه بها وعرَّفتُها به، ولم أكن قابلتُها منذ سنواتٍ طويلة، وتحديدًا منذ يوليو ١٩٦٦م؛ إذ كان من عادتنا أن نتناقش في الفكر الاجتماعي ربما لأنها تدرُس علم النفس وتُجري تجارب بحثها على الكهَنة، وكانت تتردَّد بانتظام على الكنائس لإجراء المقابلات معهم، وتمكَّنَت من تسجيل شرائطَ صوتيةٍ طويلة لأحاديثهم، وكانت تستعين بالكمبيوتر — الذي كان في مهده — في تحليل نتائجها، وكانت تُحدِّثني كثيرًا عن شابٍّ يُدعى ألكسندر يدين بالكاثوليكية؛ ومن ثَم فقد أقسَم قَسَم الامتناع عن الزواج طيلةَ حياته، وبألا يقرب المرأة، ولكنه كان يبدو لها «مادة» صالحة للتجارب، فهو قوي البنية فارع الطول، وشعره أحمر وعيناه سوداوان ثاقبتان، مما جعلها تَحدُس أنه من أصلٍ أيرلندي، وكانت كثيرًا ما تتحدث عن قوة نفاذ عينَيه، وتسردُ التفاصيل الدقيقة عن صوته الدافئ، وكان يبدو أنها كانت مُولعةً به، وهي بيضاءُ عيونها سوداء، وذات طولٍ غير عادي، وكانت تقول إن شكلها يختلف عن الشكل الإنجليزي التقليدي الذي يُوصَف بأنه مثل ثمرة الكُمَّثرى؛ فهي ضخمةُ الصدر نحيلةُ العجز، وكان الزملاء يضحكون منها، وكانت سوزان الأمريكية تقول لها إن هذا هُراء؛ فالإنجليز في رأيها شعبٌ هجين hybrid (ولو أنها استعمَلَت كلمةً يقتصر الإنجليز على استعمالها في وصف الكلاب mongrel مما أغضب جون).

وخرجنا أنا ورشاد رشدي وجون إلى الطريق دون أن يشتري أحدٌ شيئًا، وفجأةً قال رشدي بلهجةٍ إنجليزية تُحاكي لهجة أبناء الذوات: «دعيني أدعوك إلى العَشاء.» ورحَّبَت جون فورًا، ولم أدهَش لذلك؛ فالإنجليز يُرحِّبون بكل ما من شأنه توفير النقود، وقد يكون التعبير: «دعني أشترِ لك عَشاء.» ولو قالها رشدي للاقَت القبول، وشعرتُ أن وجودي قد يُفسِد خطط «أبو الرشد»، فتذرَّعتُ بحُجةٍ واهية ولكنه أصَر على أن أصحبهما، وما إن جلسنا في المطعم الإيطالي الذي اختارته حتى تفرَّع الحديث وتشعَّب، ولم أشأ أن أترك رشدي يحكي عن أمجاده في مصر؛ فهذا مما لا يُقال على مائدة العَشاء، فسألتُها عن أخبار ألكسندر، فانطلقَت تحكي أخبار السنوات الماضية.

قالت جون: «كانت علاقتي به محكومًا عليها بالفشل منذ البداية (doomed) ويبدو أنني أسرفتُ في لقاءاتي معه، وفي طرح أسئلتي والاستماع إلى إجاباته، ويبدو أنني كنت مدفوعةً بدافعٍ لم أستطع حتى الآن تحديد كنهه، فأبحتُ له أن يعرف عني ما يزيد على ما يطلُبه كاهن الاعتراف، وربما تماديتُ في ذلك جسديًّا (ماديًّا؟ physically) فأفصَح لي عن حقائقَ لم تكن تخطر ببالي، وبدأ يتصرَّف بتصرُّفاتٍ غريبة، أو قل إنني وجدتُها غريبة من كاهنٍ نذَر على نفسه البعد عن المرأة، فسألتُه سؤالًا مباشرًا عن علاقته بالشماس (deacon) الذي كنتُ كثيرًا أراه يُحوِّم حولنا أثناء حديثنا في الخلوة، فقال لي إنكِ فتاةٌ بارعة الذكاء .. كيف عرفتِ وجود علاقة؟ ونحَّيتُ المسألة بلا اكتراثٍ حتى لا أقطع سيل حديثه فجعل يُقسِم أغلظ الأيمان أنه وإن كان يُعينه في قضاء وطَره إلا أنه لم يعشَق سواي، وأنه منذ أن عرفَني قد نبذ صغار الشمامسة (sextons and sacristans) من ذوي الجمال الأخَّاذ، وسألتُه صادقةً: هل لي أن أسجِّل ذلك في المذكِّرات الخاصة ببحثي؟ فتَلعثَم وقال إنه حائرٌ لا يدري ما يصنع، وقرَّرتُ آنذاك أن أمتنع عن زيارته خوفًا عليه.»
وتمهَّلَت جون وهي ترشُف قدح النبيذ الإيطالي الأحمر، ونظَرَت إلى الشجرة التي تتدلَّى أغصانُها فوق الشرفة التي نجلسُ فيها كأنما تبحث عن الكلمات الصحيحة، ثم قالت في تُؤَدة: «أظنها قصةً معروفة لكم أيها الأدباء، ولكنها كانت جديدةً عليَّ كل الجِدَّة؛ إذ أخذ ألكسندر يتردَّد عليَّ بانتظام، وأستطيع الآن بما تُتيحه القدرة على التذكُّر من إصدار الأحكام الصائبة (with the benefit of hindsight) أن أقول إنني كنتُ أُحبه ولم أكن أريد له ذلك المصير المؤلم.» وصمتَت فقلتُ لها أستحثُّها: «هل ترك الكنيسة؟» فقالت «بل أُصيب بصدمةٍ عصبية أدت إلى انهياره النفسي، ونقلوه بعد شهورٍ معدودة إلى مستشفى الأمراض النفسية؛ حيث كان يُصاب أحيانًا بوجومٍ واكتئابٍ يمنعه من الكلام أيامًا، وأحيانًا بهياجٍ يستلزم استخدام القوة للسيطرة عليه.»
وكان رشدي صامتًا طوال الوقت، ثم نطَق أخيرًا فسألها: «أما يزال هناك؟» فردَّت على الفور: «لا، بل انتحر المسكين! وكان من الحالات التي سجَّلتُها في الرسالة، فكانت من دراسات الحالة (case studies) التي أعجَبَت المشرف، بل إنه طلبَ إدراجَ صورة ألكسندر في الرسالة، ووافَقْت، وسوف تُطبع الرسالة قريبًا.»

ونظرتُ في ساعتي حتى أُنبِّه الحضور إلى أن الوقتَ قد تأخر، وأن عليَّ أن أعود إلى نهاد، فسمحا لي بالانصراف، وعندما قابلتُ رشدي بعد ذلك كان يتحاشى ذكر جون مالوي تحاشيًا مطلقًا، ولم أشأ أن أسألَه عما حدَث بعد رحيلي، احترامًا لصمته.

ولم يكن لي أن أقابل جون مالوي بعد ذلك مطلقًا، خصوصًا بعد انتقالنا إلى ردنج، ولكن قصَّتها ظلَّت مخطوطةً في المفكرة، وكنتُ كلما قرأتُها أتساءل عما تُراه قد حدث لها مع آخرين، وكنتُ كثيرًا ما أتطلع إلى الكتب الجديدة لعلي أرى رسالتَها المطبوعة، ولكنني لم أوفَّق في ذلك أيضًا، وعندما قصصتُ القصة على نهاد قالت لي: «إنها عقدةٌ نفسيةٌ متحركة!» وعندما عُدت إلى مصر بعد سنواتٍ وتعمَّدتُ ذكر اسمها في سياقِ حديثٍ عابرٍ لرشاد رشدي لم يعلِّق، وحوَّل وجهه عني (عامدًا؟) كأنما ليتحاشى الإشارة إليها.

وكانت نهاد مشغولةً آنذاك بكتابة بحثٍ عن كوميديا المسرح الإنجليزي، بعد نجاحها في كتابة بحثٍ مطوَّل عن جوزيف كونراد، وكانت تتردَّد أثناء الصيف على رودني هيلمان، الذي كان يتولَّى الإشراف على هذا البحث، وكانت تقُص عليَّ أنباء زميلاتها مثل «نولا» الكندية، وبداية انشغالها بالبحث في المسرح، وأعتقد أن تلك هي بداية غرامها بالمسرح الذي يزداد اشتعالًا على مرِّ الأيام.

وفي أكتوبر حصلَت نهاد على الدرجة، وإن كان موعد حفل تسليم الشهادة هو ديسمبر ١٩٦٩م، وكنتُ أنا قد اتفقتُ مع كريستوفر سالفسن Salvessen وهو مدرِّس (محاضر) في جامعة ردنج ومؤلِّف كتابٍ شهير عن وردزورث هو The Landscape of Memory على تسجيل الدكتوراه اعتبارًا من يناير ١٩٧٠م؛ أي بعد انتهاء نهاد من الماجستير، وحتى أكون قريبًا من محل العمل، واتفقتُ أنا ونهاد على الانتقال إلى ردنج؛ فلقد أحبَّت الريف وأصبحَت تكره الزحام في المدينة، كما كانت تتطلَّع إلى العودة إلى العمل بعد الانتهاء من الدراسة. وكان سالفسن اسكتلنديًّا لطيف المعشر، وافق على الموضوع والعنوان، ووافق رئيس القسم جوردون المتخصِّص في ييتس (W. B. Yeats الشاعر الأيرلندي المشهور) ولم يعُد أمامنا في أكتوبر سوى البحث عن مكانٍ للإقامة في أحضان الطبيعة خارج لندن.

٤

ووجدنا شقةً خالية وغير مؤثَّثة للإيجار في مجموعة من المساكن الجديدة التي أقامتها إحدى الشركات العقارية في شارع داربي Darby Road الذي لا يبعُد عن محل العمل إلا ميلًا واحدًا، ولا عن وسط قرية كافرشام إلا بضعَ مئاتٍ من الأمتار، ولكن المساكن كلها مقامة وسط الطبيعة الخلابة، وتحيط بها مساحاتٌ خضراء شاسعة، ويصطَف الدَّوْح على جنَباتها، وكانت الطرق إما مرصوفةً أو معبَّدة بالزلط، وعلى الجوانب مجارٍ لمياه الأمطار تؤدي إلى خزاناتٍ أرضية حتى لا تتجمَّع في برك أو تنصرف إلى مجرى نهر التيمز Thames القريب من القرية، وكان هناك كل ما نحتاجه من الأثاث؛ مِنضَدة تصلُح مكتبًا، وسرير، وبعض الكراسي، إلى جانب أدوات المطبخ (التي نقلناها معنا من لندن) واشترينا ثلاجةً جديدة بنحو خمسين جنيهًا ما تزال تعمل عند أحد معارفنا (منذ نوفمبر عام ١٩٦٩م) وكانت إيطالية الصنع ماركة إنديسيت (Indesit)، كما ذهبتُ إلى أحد المزادات فاشتريتُ جهاز طَهوٍ (موقد وفرن) يعمل بالغاز الطبيعي بجنيهَين وكان في حالةٍ ممتازة، وقد أعطيتُه عند رحيلي لصديقٍ فلسطيني يدعى دهَّام العطاونة، وما يزال يعمل، كما اشتريتُ من المزاد خزانةً ذاتَ أدراجٍ بجنيهَين، ومرآةً كبيرة بجنيهَين (تركناهما) ومرآةً مستطيلة لا تزال لدينا بخمسة جنيهات، وباعني زميلٌ عراقي درسوار Sideboard (Dressoir) ومنضدةً وكرسيَّين وسجَّادة (كلها بأربعة عشر جنيهًا) وما يزال الدرسوار لدينا، وكانت الشقة لا تحتاج إلى تدفئةٍ خاصة؛ فبالمنزل تدفئةٌ مركزية، وكان الإيجار الشهري ٢٦ جنيهًا.
واستقر بنا المقام في جوٍّ هادئ بل وشاعري، وسجَّلنا اسمَينا عند أقرب طبيبةٍ تابعة لهيئة الصحة الوطنية National Health Service (مثل التأمين الصحي لدينا) واسمها مونيكا لاتو Monica Latto وكانت من اسكتلندا هي وزوجها، (وفي أوائل السبعينيات أهداها زوجُها سيارةً حمراء بمناسبة العيد الخمسيني لزواجهما، وفي عام ١٩٩٧م قامت نهاد وابنتي سارة بزيارتها وكانت ما تزال في قَيد الحياة) وكان خريف عام ١٩٦٩م ذا جمالٍ مذهل، وكانت نزهاتنا أنا ونهاد بمثابة نزهاتٍ في الحدائق؛ فحيثما يمَّمْت أشجار وبساتين، ولكل منزل حديقةٌ أمامية وأخرى خلفية، وكانت زيارتنا للندن تقتصر على الذهاب إلى المسرح، ولم تلبث مكتبتُنا الخاصة أن امتلأَت بالكتب، واشتريتُ جهاز تسجيلٍ ضخمًا بالتقسيط، وجهاز تليفزيون أبيض وأسود؛ فالألوان لم تأتِ إلى التليفزيون إلا عام ١٩٧٠م، وقَنعْنا به، وكنا نسعَد بالبرامج الوثائقية في القناة الثانية ﻟﻠ B B C وبالأفلام التي تعلَّمنا منها الكثير، ولم يعُد كشكول مصطلحات اللغة الإنجليزية يكفي التعبيرات الجديدة، فاشتَرينا كشكولًا جديدًا، وأهم شيء هو أننا لم يكن لدينا تليفون!

وبدأتُ أتردَّد على الكلية لمقابلة المشرف على الدكتوراه، وكان على النقيض من المشرف القديم تمامًا، كان شابًّا وكان الأول هَرِمًا، وكان بشوشًا متواضعًا وكان الأول يتصنَّع الابتسام فحسب، ولم أكن أتصوَّر أن الطابع الاسكتلندي يختلف عن الطابع الإنجليزي إلى هذا الحد، وكان وجودي في بلدة الجامعة يتيحُ لي أن أمكث طُول اليوم في المكتبة حتى يحين موعد العمل في المساء فأذهب وأُترجِم ما قُدِّر لي أن أُترجِم ثم أعود، وقد أقُص على نهاد طرفًا مما ترجمتُه أو أُناقشها في دلالة بعض الأحداث، وأذكُر أننا كنا، ذات يومٍ من أيام رمضان، قد اتفقنا على إعداد طعامِ إفطارٍ خاص، وبينما أنا أستعد للذهاب إلى المنزل، إذ جاء المشرف ليُخبِرني أن الرئيس بومدين قد ألقى خطابًا ويُريدُني أن أُترجِمه، فقلتُ له إنني على موعدٍ للإفطار مع زوجتي، فقال لي: «تفضل .. مع السلامة!» همس: «هل تُحب أن تسهر سهرةً رمضانية في ترجمة الخطاب؟» وضحكتُ وانصرَفْت. كان اسمه محمود سامي، وكان تركيًّا من قبرص يحسُده الإنجليزي على نقاء لغته وجمال نطقه، وهو يكتب اسمه «ميموت» لا «محمود»، ولكن سامي لا خلاف عليها!

كان العمل بالترجمة — كما سبق أن قلت — بالغَ التنوُّع؛ فقد يُطلَب من المترجِم ترجمةٌ نصية كاملة لخطابٍ سياسي؛ فالإنجليز لا يقتنعون بالترجمات المحلية التي تنقلُها وكالات أنباء الشرق الأوسط مثلًا، أو إعداد مقتطفاتٍ من حديثٍ مُطوَّل، أو تلخيص تعليقٍ أذاعته إحدى الإذاعات العربية، وكانت معظم المحطَّات العربية تُسمَع بوضوح في إنجلترا، كما كان الإنجليز يهتمُّون بما تذيعه إذاعة موسكو العربية، ويدخُل ذلك في باب دراسة الرأي العام وتأثير الإذاعة فيه، وهو لا شك نشاطٌ إعلامي وكل نشاطٍ إعلامي له جانبه السياسي، ولكن جانب السرية منفيٌّ تمامًا عنه؛ فما تذيعه إذاعةٌ ما، هو ما تريد له أن يُعلَن لا أن يُخفى، وهي تريد للأخبار التي تذيعها أن تُعرف وتُعلن لا أن تُكتم وتُخفى؛ ومن ثَم لم أكن أرى في عملي إلا مساهمةً في ترجمة المادة المذاعة بالصورة التي أُحب أن تصل بها إلى الأجانب، وكان البرنامج العام من إذاعة القاهرة لا يصل بوضوحٍ إلى لندن، بخلاف صوت العرب، وكانت الأخبار متشابهة، بل إن صوت العرب سبق البرنامج العام يوم ٧ أكتوبر ١٩٧٣م في إذاعة البلاغ العسكري الذي يُلخِّص نتائج العبور العظيم في اليوم السابق في الخامسة والنصف صباحًا بتوقيت لندن، وحين ترجمتُه وأذاعته اﻟ B B C نقلًا عن راديو القاهرة — وقالت ذلك — كان سبقًا إذاعيًّا؛ أي إن للمسألة جانبًا إخباريًّا محضًا كان يقنعني بسلامة الغَرض من هذه الترجمة.
ولكن — إلى جانب الفائدة اللغوية — كان هناك جانبٌ مهم هو الوعي بما يدور في العالم العربي، خصوصًا في الجناح الغربي من الوطن العربي، وهي المحطَّات التي لا نكاد نتابعها في مصر، فازداد وعيي بقضايا دول المغرب العربي، وأذكُر أننا يوم أول سبتمبر عام ١٩٦٩م، وكان يوم الإثنين، ويوم عُطلة تُسمَّى عُطلة البنوك Bank Holiday كنا في رحلةٍ تابعةٍ لنادي الطلاب العرب خارج لندن، فوجدنا صُحف المساء تقول إن انقلابًا حدث في ليبيا، وعندما عدنا إلى لندن سمعنا أنباء الثورة وسمعنا عن قائدها الأول سعد الدين أبو شويرب، قبل أن نسمع عن معمر القذافي، وفي آخر الأسبوع عندما ذهبتُ للعمل وجدتُ أوراقًا ملفوفة، قيل لي إنها وكالة الأنباء الليبية باللغة العربية، وانهمكتُ في ترجمةِ ما بها فأحطتُ بمعلوماتٍ تزيد ألف مرة عما نقلَته الصحف الإنجليزية. وتغيَّر اسم الوكالة فيما بعدُ إلى وكالة أنباء الثورة العربية وتغيَّر اختصار اسمها بالإنجليزية من LNA إلى ARNA وكان أهم «زبون» لما أُترجمه هو مكتب الأخبار News Bureau الذي كان يرسل ما أُترجمه بالتلكس إلى غرفة الأخبار الرئيسية في لندن لإذاعته مع ذِكر مصدره.
figure
إحدى رحلات نادي الطلبة العربي إلى الريف، ويبدو في الصورة إبراهيم فوزي ومحمد مصطفى رضوان وصلاح الغباشي وشاهيناز ونهاد ونجاة وسامي أبو طالب ومحمد نوح.
كما كنتُ أستفيد من الاطِّلاع على أخبار العالم؛ إذ كان يُطلب من العاملين بالترجمة وبالتحرير أن يقرءوا أنباء اليوم والأمس حتى يعرفوا ما هو جديد، وحتى لا يُترجِموا «أخبارًا» قديمةً ظانين أنها جديدة؛ فالصحف لا تنشر كل شيء، وقد مكَّنَني ذلك من متابعة وجهة النظر العربية والمصرية خصوصًا عندما بدأَت حرب الاستنزاف في صيف ١٩٦٩م وبدأ المصريون يثبتون صلابتهم في التصدي للغطرسة الإسرائيلية، وكان الارتباط بإذاعة الوطن بمثابة الإبقاء على الحبل السُّري الذي انقطَع لدى الكثيرين؛ فمعظم المصريين والعرب في الغربة لا يقرءون ولا يسمعون إلا ما تنقله وسائل الإعلام الغربية، وفي يونيو ١٩٦٩م كنتُ قد أتممتُ عام التدريب وأصبحَت تَرجماتي موثوقًا بها، ومنحوني ما يُسمَّى «التثبيت» في الوظيفة establishment فانتقلتُ إلى مكتب الأخبار، وصرتُ المرجع في الأخبار المصرية، وكثيرًا ما كنتُ أرفض الأنباء التي قد تسيء إلينا، مهما يكن من صحتها الظاهرية، محتجًّا بعدم دقتها، وأصبح رئيس قسم الأخبار الإنجليزي يثق بي، ورغم وجود مصريٍّ آخر معي هو عبد اللطيف الجمَّال في قسم الترجمة فعندما كان يقول «المصري» كان الجميع يعرفون أنه يعنيني. وكان في القسم بعض العرب من الأقطار الأخرى، وكثيرًا ما كان النقاش الذي يصل إلى درجة الخلاف يدبُّ بيننا باعتباري ممثلًا للموقف المصري والمؤمن بمشروعية كفاحنا، وكان الإنجليز يحترمون ذلك، ولا يتعدَّون حدود العمل المهني والرسمي في معاملاتهم معي؛ فالآخرون متزوجون من أجنبيات وتحوَّلوا على مرِّ الأيام إلى صورٍ باهتة (شاحبة؟)؛ لا هي عربية ولا إنجليزية، وكان شرينجهام — رئيس قسم الإنتاج — ذو الزوجة المصرية يعرف ذلك، وكان يعرفه رئيس الأخبار كلها!

وما إن حلَّ عام ١٩٧٠م حتى كانت نهاد قد نجحَت في اختبار أمناء المكتبة — وهي مكتبة الأخبار بنفس المبنى — وبدأَت العمل معي، غير أنها كانت تعمل في المواعيد العادية، وأنا أعمل وفقًا لمتطلبات الأخبار في وردياتٍ بعضها مسائي وبعضها صباحي، فكنا نذهب أحيانًا إلى العمل معًا ونعود معًا، وأحيانًا لم نكن نلتقي إلا في فترات الغداء في المبنى نفسه، وأحيانًا كنت أُصادِفها عائدة إلى المنزل وأنا على وشك بداية الورْدِيَّة.

٥

وكان عام ١٩٧٠م عام الصداقة الجديدة التي نشأَت بيني وبين توم هيتون، وهو إنجليزي نشأ وترعرع في اليمن أثناء وجود والده مع القوات البريطانية في عدن، وكان يعرف اللغة العربية ويفهمها قراءةً وكتابة، ولكنه لا يتحدَّث بها بطلاقة، وعندما تخرَّج في كلية المعلِّمين انتدب مفتشًا (موجهًا) للغة الإنجليزية في اليمن أيضًا، وكان ما يزال في مقتبل العمر، فنشأَت بينه وبين رجال التعليم فيما كان يُسمَّى باليمن الجنوبي أو جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية صداقةٌ عميقة، رغم أنه كان يحمل جنسية رجال الاحتلال ويمثِّل الاستعمار ويرمُز له في أعينهم، وكان نموذجًا للتناقُض بين مُثُلِ الإمبراطورية القديمة ونظرة «بريطانيا الجزيرة» (الدولة الأوروبية ذات السلطة المحدودة) منذ عام ١٩٥٦م، وكان من الطبيعي أن نختلف حول كل شيء، سياسيًّا لما ذكرتُه من أسباب، واجتماعيًّا لأنه طلَّقَ زوجته الإيرانية وأرسل ابنه منها معها للتعلُّم في أمريكا، وأصبح يعيش مع امرأة تُدعى جاكلين (وندعوها نحن جاكي) دون زواج، كان يتخبَّط في حياته بين الغرب والشرق، فهو لا يؤمن بالزواج؛ لأنه يرى فيه «مؤسسة اجتماعية» فاشلة، تتطلب من المشاركين فيها تنازلاتٍ متوالية دون أن تقدِّم لهم أية مزايا في مقابلها، وكان يردِّد دائمًا ما يعتبره مَثلَه الأعلى وهو أن يعيش الإنسان لذاته لا لشخصٍ آخر، فإذا لجأتُ أنا إلى طرح الحُجج المعارضة قال لي “appease appease and you’re crushed!” أي الإنسان يُسعِد غيره حتى يتحطم، ويبدو — والله أعلم — أن زوجته الإيرانية كانت ذات شخصيةٍ قوية فكان يُضطَر إلى إرضائها على حساب رغباته حتى انفصلا وأخذَت الغلام وسافرَت إلى أمريكا. أما علاقته بجاكي فتُسمَّى cohabitation أي الحياة معًا دون زواج، وكان يفضِّل ذلك النظام على الزواج؛ لأن الزوج أو الزوجة فيه لا يتعرضان لضغط «المؤسسة» وتبعاتها المالية، ويتوهَّمان (في رأيي) أنهما أحرار. ولا داعي للإفاضة في رأيي هنا، فقد قلتُه ذات مرة لعلي النشار، المهندس العبقري الذي تزوَّج إنجليزية وهاجر معها إلى أمريكا؛ إذ قلتُ له: «إنني أدعو لكل من أُحبه أن يرزقه الله زوجةً مثل نهاد.» وكان ردُّه أن الاستثناءات لا يُقاس عليها!

عندما التحق توم هيتون بقسم الترجمة كان يواجه صعابًا كثيرة في فهم اللغة العربية، وكان يلجأ إليَّ حتى أشرح له، كما كان يكتُب إنجليزيةً غير نقية، وغير سلِسَلة، وكان مردُّ ذلك في رأيي إلى طول عمله بالتعليم؛ فتعليم اللغة الإنجليزية يُورِث المرء قدْرًا كبيرًا من التزمُّت فيما يتصوَّر أنه صحيح أو خطأ، بل ويحدُّ من النماذج اللغوية التي يتصوَّر فيها الصحة، مما يقطع الأسباب بينه وبين اللغة الحية على ألسنة الناس وفي الصحف، وكان يدهَش للسلاسة التي أكتُب بها تلك اللغة، خصوصًا حين اطَّلع على الفصل الأول من رسالة الدكتوراه وحديثي عن تنوُّع الأساليب الشعرية بتنوُّع الأنواع الشعرية في أواخر القرن الثامن عشر. وكانت هيلاري وايز المتخصِّصة في علم اللغة ومؤلِّفة كتاب «النحو التحويلي للعربية المصرية» ما تزال تجمع المادة عن العامية، وتتصل بي أنا ونهاد حتى نزوِّدها بالمعلومات التي تريدها عن تلك «اللغة» (أو عن ذلك المستوى اللغوي) وأذكُر أنها زارتنا ذات يومٍ في المنزل، فاطَّلعَت على تحليلي للأساليب المذكورة وعجبَت كيف يتسنَّى لي أن أُقيم تلك الفروق بين أسلوب السرد مثلًا وأسلوب الوصف وأسلوب التأمل، واقترحَت عليَّ أن أستعين بالكمبيوتر في الإحصاءات فقلتُ لها إنني أتصدَّى للنصوص الحية، لا لعدد من الكلمات التي تُحصى وتُعَد، فقالت ولكنك تُحصي الصفات وتصنِّفها وتُحصي الأفعال والتراكيب وتصنِّفها، فجعلتُ أشرح لها كيف أفعل ذلك من داخل النص لا من خارجه، ولكنها أصرَّت على أهمية الكمبيوتر في ذلك الجهد، وهو ما لا أُسيغُه حتى الآن.

وفي يونيو كنتُ قد كتبتُ الفصل الثاني في صورته الأولى، وكنتُ كشأني دائمًا طموحًا لا أُغفِل أدق التفاصيل (وكان أستاذي السابق رحمه الله يقول لي إنك تبغي الكمال فيما لا كمال فيه) وما إن حلَّ أول يوليو حتى وصلَنا خطابٌ من الدكتور نوح الذي كان قد انتقل إلى إدنبره مع أُسرته يدعونا إلى زيارته، وكانت فرصةً ذهبية لقضاء أيام عطلة في شمال إنجلترا وفي اسكتلندا، فأخذنا الأتوبيس السياحي أنا ونهاد الذي يغادر محطة فكتوريا في الثامنة مساءً ويصل إلى إدنبره في الفجر، وغلب النُّعاس نهاد في أول الطريق، ثم استيقظَت في نحو الثالثة وهي تقول لي (وقد غفوتُ من اهتزاز الأتوبيس): انظُر الجبال وألوان الشفَق في حي البحيرات! كان مشهدًا يخلبُ اللُّب، وأفاق معظم الركاب وأخذوا يشهَقون للجَمال المذهل، وبعد ساعة تقريبًا وصلنا إلى إدنبره، وضوء الصباح يتسلَّل من وراء الجبال، ولم تلبث الشمس أن طلعَت، فذهبنا إلى منزل الدكتور نوح، وكان قد استأجر منزلًا كاملًا، فأيقَظْنا أهل الدار، وأوصلَتنا «فتان» زوجته إلى غرفتنا (إذ أصرُّوا على استضافتنا لديهم) فنمنا ساعة أو ساعتَين، ثم صحَونا في نحو التاسعة لنبدأ اليوم الجديد!

figure
في رحلة إلى الجنوب عام ١٩٧٣م.

وسمعنا ونحن نشرب الشاي الدكتور نوح يقول لزوجته هل أتى الدكتور حامد باللحم؟ وردت عليه ردًّا لم أسمعه، ثم جاءت الفتاتان راندا ورحاب مع خالد الصغير ليُسلِّموا علينا، وطبعًا سألتُه عن موضوع حامد! كان حامد يدرُس الطب في إدنبره، وينطبق عليه تمامًا قول طه حسين في الأيام: «قضى عشرين سنة لم يظفر بالدرجة ولم يستيئس من الظفر بها.» وكان قد اكتشف أن العرب والمصريين يُحبون الكوارع و«لحمة الرأس» والسَّقط، فصار يعمِد في الصباح الباكر إلى السلخانة؛ حيث يقابل صديقًا باكستانيًّا يذبَح الحيوانات بالطريقة الإسلامية، فيزوِّده بهذه الأشياء مقابل قروشٍ زهيدة، ثم يمُرُّ بها على بيوت العرب والمصريين لتوزيعها عليهم، بأسعارٍ «معقولة»، وتدريجيًّا أصبح يأتيهم باللحم كذلك مُقطعًا بالطريقة الشرقية، فراجت تجارتُه، واشترى منزلًا، لكنه لم ينسَ أبدًا دراسة الطب، فإذا قال له أحدهم: «عد إلى مصر.» غَضِبَ غضبًا شديدًا وقال: كيف أعود دون الدكتوراه؟

وبعد نزهة في ربوع إدنبره عُدنا إلى المنزل لنستمع إلى أخبار حرب الاستنزاف، وكانت تلك أيام إسقاط الطائرات الفانتوم الإسرائيلية، وكان الدكتور نوح لديه راديو رائع نسمع فيه مصر بوضوح، وكانت أجهزة الإعلام البريطانية تُشير إلى إسقاط هذه الطائرات بنسبة الفضل لا إلى مهارة المصريين بل إلى عظمة الأسلحة السوفيتية، وكنا نغتاظ مما يقوله المذيع مثلًا من أن «الصواريخ السوفيتية أسقطَت الطائرات الإسرائيلية» وهو لا يقول «السوفيتية الصنع» ولا «الطائرات الأمريكية» كأنما كان الاتحاد السوفيتي هو الذي يتصدى لإسرائيل! ومع ذلك فقد كان العرب جميعًا جذلين مستبشرين، وبعد السياحة في اسكتلندا بدأنا جولة في حي البحيرات، وزرنا كوكرماوث Cockermouth مسقط رأس وردزورث، وكنت أنطق اسم البلدة النطق الشائع في جنوب إنجلترا؛ أي بإدغام الميم والثاء، ولكن أهل البلدة كانوا ينطقون الاسم «ماوث» (بمعنى مَصَب، وهي اللاحقة التي تدخل على أسماء الأنهار) فعجبتُ لذلك، ثم ذهبنا إلى كيزيك Keswick وسِرنا على الأقدام (مثل الشاعر) حول بحيرةٍ صغيرة محيطها ١١ ميلًا قطعناها في ثلاث ساعات، ثم زرنا بحيرة وندرمير Windermere، ووقفنا تحت جبل سكيدو Skiddow الذي يذكُره الشاعر كثيرًا، وأخيرًا ركبنا الحافلة وعُدنا إلى لندن، متوقِّفين بكبرى المدن الإنجليزية في طريقنا.

وفي أواخر يوليو توقَّفَت حرب الاستنزاف، بعد أن أعلن عبد الناصر في خطاب عيد الثورة قبول مصر لمبادرة روجرز وزير الخارجية الأمريكي، الذي كان يتوسَّط لعقد اتفاق سلام بين العرب وإسرائيل؛ بحيث يسري وقف إطلاق النار اعتبارًا من ٧ أغسطس، وكان السد العالي قد اكتمل قبل عيد الثورة بيومَين، فتفاءلنا بهذه الأنباء الطيبة، ولكن الصراع بين الفلسطينيين وحكومة الأردن تصاعَد بعد ذلك، بعد أن رفض المجلس الوطني الفلسطيني مبادرة السلام، يوم ٢٨ أغسطس، وبدأ القتال بين الفلسطينيين والأردنيين يوم ٧ سبتمبر (أيلول الأسود) وقام الفلسطينيون باختطاف طائرتَين؛ إحداهما بريطانية وكانت متجهة إلى نيويورك، وأطلقوا سراح الرهائن ثم فجَّروا الطائرة، مما جعل أجهزة الإعلام البريطانية لا تتحدَّث إلا عن «الإرهاب» بتحيُّزٍ واضحٍ ومزعج، ولما اشتدَّت حدة القتال أمر الملك حسين الدبابات بالنزول إلى شوارع عمان، فانسحب رجال منظمة التحرير الفلسطينية وبسَطوا سيطرتهم على المدن الواقعة في شمال الأردن، وكانت الأنباء تقُضُّ مضاجعَ العرب في كل مكان، فتدخَّل عبد الناصر في أواخر سبتمبر، ودعا إلى عقد مؤتمر قمةٍ عربية في القاهرة، وتُوِّجَت جهودُه بإحلال السِّلم بين الجانبين يوم ٢٦ سبتمبر، وبدأ رحيل الزعماء العرب، وبعد توديع أمير الكويت يوم ٢٨، أُصيب بنوبةٍ قلبية لم تمهله.

كان ذلك يوم الإثنين، وكنتُ أغفو دقائق قبل استئناف القراءة، وكانت نهاد تسمع أخبار التليفزيون حين صاحت صيحةً ارتجَّت لها أرجاءُ المنزل، فهبَبتُ من غَفْوتي أسألها ما الخبر، وعندما علمتُ لم يكن في أيدينا سوى البكاء. وقالت نهاد: «لا بد أن أعود إلى مصر، ما الذي سيحدُث الآن؟» وقامت فارتدَت ملابس الخروج وارتديتُ ملابسي وخرجنا نسير في الطرقات، كمن يهيم على وجهه حائرًا لا يدري أين تقودُه قدماه، لم نكن نتوقَّف ولا ننظر إلى ما حولنا، ولم نكن نتبادل أي كلماتٍ مهما تكن؛ فالحزن العظيم لا يُعبِّر عنه سوى الصمت، وكان الليل قد حَطَّ وأظلمَت الحوانيت وأُغلقَت الأبواب، ومرَرْنا بحانةٍ كان عهدي بها صاخبةً متلألئة فخُيِّل إليَّ أن الحزن يَرينُ بأثقاله عليها، وعبَرنا النهر ووصلنا إلى محطة القطار، وكانت الساعة قد جاوزَت العاشرة مساء، وعندما سمِعنا هدير القطار وقفَت نهاد وقالت: «لو كان يستطيع أن يحملني الآن إلى مصر!» ثم قفلنا راجعين فلم ندخُل إلى المنزل إلا بعد منتصف الليل وقد بلغ بنا الإرهاق مبلغه.

كان موعدي يوم الثلاثاء ٢٩ / ٩ مع المشرف لأسمع رأيه في الفصل الثاني، فذهبتُ متثاقلًا لا أكاد أُحِس بالرغبة في لقائه، وعندما دخلتُ غرفتَه في الثانية تمامًا رحَّب بي وكان قد فتح الفصل أمامه، ثم قال: «أراكَ اشتققْتَ لنفسك منهجًا خاصًّا في تناول الأسلوب.» وكان مثل هذا التعليق يُوحِي بالاعتراض ولكنني قبل أن أفتح فمي قال: «ولكنكَ أحسنتَ استخدامه.» ثم تصفَّح الفصل وتوقَّف عند كلمةٍ مركَّبة كتبتُها وهي highly-rated وقال: «هل تعرف أن هذا التعبير أمريكي؟» وكانت لهجتُه حادة، فأنكرتُ أنني كنتُ أعلم ذلك، فأشار إلى معجمٍ ضخم مفتوح أمامه وقال لي: «تفضَّل! اقرأ هذا الباب!» وقلتُ له إن تغييرها ممكن فقال ببسمةٍ صافية: حذَارِ من هذه «المطبَّات»! ولم يلبث أن قال: ولماذا تستخدم تعبيرًا مثل severe objurgations والبدائل السهلة متوافرة؟ فاعتذرتُ من جديد، وفجأةً قال لي: يبدو أن العرب قد صُدموا لوفاة عبد الناصر! وشرحتُ له الموقف فأبدَى تفهُّمه، وسلَّمني الفصل وقال لي: هل ستسافر إذن إلى مصر؟ فقلتُ له لا ولكن زوجتي ستُسافر، وانصرَفْت.

٦

وفي يوم الخميس الأول من أكتوبر سافرَت نهاد إلى لندن لحضور الجنازة الرمزية التي صاحبَت جنازة عبد الناصر في القاهرة، وكانت ترتدي ثياب الحِداد وتلبس نظارةً سوداء حتى لا يرى أحدٌ آثار البكاء، وقصَّت عليَّ قصصَ الأحزانِ الرهيبةِ التي أعرَبَ عنها العرب وغير العرب من المتعاطفِين معنا وكان من بينهم فتاةٌ إنجليزية متزوجة من عراقي، وكانت تبكي عبد الناصر بكاء الحبيبة لحبيبها، وكان طابور الناعين غير مسبوق، فكأنما كانت مظاهرة إيمان بما كان الراحل يرمز له، لا مجرَّد تعبيرٍ عن الحب والصدمة. وبدأَت نهاد في اتخاذ إجراءات العودة إلى مصر لرؤية ما جرى لها بعد رحيل القائد والأب الروحي، فذهبنا إلى المكتب الثقافي يوم الجمعة للحصول على خطابٍ إلى شركة مصر للطيران حتى يمنحنا تخفيضًا، ولكن الزحام على الشركة كان غريبًا، ولم تكن هناك أي أماكنَ خاليةٍ قبل ديسمبر، فقَنعْنا بذلك، وحجَزنا التذكرة وعُدنا.

وعندما عُدتُ وجدتُ خطابًا من خالي عبد الحليم (التاجر) يقول لي فيه إنه في لندن وإن معه ضيفًا هو رئيس مجلس إدارة الشركة التي أصبح خالي مستشارًا فنيًّا فيها بعد «تأميم» تجارته، وإنه يتوقَّع أن يراني، فذهبتُ إليه صباح السبت، وبادرَني قائلًا: من تُرى سيخلُف عبد الناصر؟ وقلتُ إن نائب رئيس الجمهورية هو أنور السادات، فقال: «لا لا .. السادات ما ينفعش.» ولم أشأ أن أُناقِشَه في السياسة؛ فالواضح أنه كان يُريدُني في «مأمورية» خاصة، واتضح أنها كانت تتعلَّق بالترجمة بين رئيس الشركة وبين بعض الشركات الإنجليزية التي كان يريد شراء بعض المستلزمات منها (الكيمياويات وأدوات المعامل)، وأكَّد لي خالي رحمه الله ألَّا أُفصِح عن تفاصيل المفاوضات، وأن أكتُم الأمر؛ فذلك الشخص مهمٌّ وعلى علاقة خاصة بالكثيرين من «الكبار»، وفعلًا لم أفتح فمي بكلمةٍ عما دار حتى هذه اللحظة، وسوف أُبقي اسمه سِرًّا حتى بعد ثلاثين عامًا، وبعد أن تُوفي، رحمه الله.

عندما اصطحبتُ الزائر الكبير يوم الثلاثاء التالي (٦ / ١٠) إلى أول شركةٍ قال لي بلهجةِ مَن اعتاد الأمر والنهي: «سوف أُكافِئك ماليًّا على عَملِك، ولكن لا تقُل لخالك.» ولم أعقِّب. وفي مكتب رئيس الشركة الإنجليزي دارت أُولى المفاوضات التي لم تَستغرِق إلا ساعةً أو بعض ساعة، وكانت تتلخَّص في أن تقوم الشركة الإنجليزية بتوريد كمياتٍ كبيرة من مادةٍ كيميائية معيَّنة إلى الشركة المصرية بسعرٍ سبق الاتفاق عليه، وأن تُحوِّل الشركة المصرية الثمن إلى البنك الذي حدَّدَته الشركة الأجنبية حالما يتأكد الخبراء من مطابقة الشحنة للمواصفات المطلوبة، على أن تُحوِّل الشركة الإنجليزية العمولة الخاصة برئيس مجلس الإدارة إلى بنك حدَّده الزائر الكبير في ألمانيا. لم تكن هناك أي صعوبةٍ في الترجمة، وكان الحوار سهلًا ومُيسَّرًا، وعجبتُ من ضرورة الزيارة إذا كان الاتفاقُ قد تم سلفًا عن طريق الخطابات، وكنتُ أُترجِم ما يُسمَّى بالترجمة التتبُّعية consecutive أي إنني كنتُ أدوِّن ما يقال باختصار، ثم أترجمه ترجمةً دقيقة، وسرعان ما اتضَح لي السبب الحقيقي للزيارة؛ إذ إن الزائر الكبير كان يريد أن يرفع نسبة العمولة من ٥٪ إلى ١٠٪، وعندما ترجمتُ هذا الجزء من الحوار اعترض التاجر البريطاني وقال: ولكننا اعتدنا دفع ٥٪ فقط إلى جميع زملائك، فردَّ الزائر الكبير قائلًا: وهل كانوا يمنحونك التسهيلات التي سوف أمنحُها لك؟ وتساءل التاجر الإنجليزي عن نوع هذه التسهيلات، فأخرج الزائر الكبير ورقةً من جيبه وقال لي: تَرجِم! وكانت الورقة تقول (وهي مكتوبة بخط اليد): إن الشركة المصرية تقبل أن يكون تركيز المحلول الكيماوي أقل من التركيز المعتاد، وهو مما لا يُدرَج في قائمة المواصفات، مما يوفِّر للشركة نسبةً كبيرة من التكاليف، كما أن ذلك سوف يسمَح بتعبئة المحاليل في زجاجات بلاستيك وهي أرخص كثيرًا من العبوات الزجاجية المعهودة. وبدَت الدهشة على وجه التاجر وبدا عليه التردُّد، وراجعَني فيما قُلتُ علَّني أكونُ قد أخطَأْت، ولكنني أكَّدتُ له ما ورَد في الورقة، فقال لي: آسف! لا بد أن أتكلَّم في التليفون. واختفى.

ومكثنا صامتين ننتظر والزائر الكبير يؤكِّد ضرورة عدم الإفصاح لخالي عما دار في هذه الجلسة، وقد أجبتُه إلى ما طلب، وعندما عاد التاجر الإنجليزي قال: لا بأس! ولكن أرجو المرور غدًا لتوقيع عقدٍ جديد بحضور المحامي، فابتسم الزائر الكبير وقال فليكن. ونهَضنا فقال الآن نذهب إلى شركةٍ أخرى.

وتكرَّر ما حدث مع التاجر الإنجليزي الأول غير أن الزائر الكبير طلب رفع النسبة إلى ٧٪ فقط، وعجبتُ في نفسي، واتضَح من الحوار أنه قد دبَّر ما يلي: الصفقة كانت توريد ميكروسكوبات، وهذه تُصنَّع وفقًا للطلب by order وقد يستغرق تصنيعها شهورًا أو عامًا كاملًا، وقد اتفق رئيس مجلس الإدارة (الزائر الكبير) مع أعضاء المجلس على صرف الثمن كله (full disbursement) حالما تصل أول دفعة من الصفقة، مما يتيح للمال أن يُوضعَ في البنك ويُدِرَّ أرباحًا قدْرُها نسبة ٦٪، تذهَب نسبة ٣٪ منها إلى التاجر، مطروحًا منها ١٪ لقاء الدفعة الأولى، و٢٪ تُضاف إلى عمولة رئيس مجلس الإدارة، ومثلما فعل الأول قام التاجرُ بإجراء اتصالٍ تليفوني (لعله بالمحامي) ثم عاد ليعلن موافقتَه. وخرجنا على أن نمُرَّ في اليوم التالي لتوقيع عقدٍ جديد.

وسألتُه ونحن في الطريق إن كان تخفيض نسبة التركيز في المحلول سوف يؤثِّر على فاعليته فضحك وقال: «إطلاقًا! لا تكن ساذجًا مثل خالك! هذه المحاليل لا تُستخدَم في الصناعة، ولكنها تستخدم في المُختبَرات المدرسية، ونحن نورِّدها للمدارس والجامعات فقط! فهل تتصور أن المدرسة سوف تعرف قوة تركيز المحلول؟ ولو عرفَت فهل يؤثِّر ذلك في شيء؟ لسوف يُذيب الحامض ما يوضع فيه مهما كان تركيزه! لا تكن حنبليًّا!» وضحكتُ حتى أُخفِّف من توتُّر الموقف، ثم عُدتُ أقول ضاحكًا حتى لا أغضبه: «كان عندنا مدرس اسمه شكري ديمتري يستطيع معرفة قوة تركيز المحلول!» وأطلق ضحكةً مجلجلة ونحن في قطار المترو، ثم قال: «وفيه كام شكري ديمتري في مصر؟» ثم همس لي: «وحتى لو عَرفَ المدرس ذلك، فسوف نُناقِشه ونشكِّك في نتائجه، فإذا أصَرَّ أرسلنا له زجاجةً أخرى من زجاجات ألمانيا الشرقية!»

وعندما قابلتُ خالي سألَني عن المفاوضات وهل كُلِّلَت بالنجاح فأكَّدتُ له أن الزائر الكبير قد أبرم اتفاقياته بنجاح وربما لن يحتاج إليَّ في اليوم التالي، ولكنه اتصل به تليفونيًّا فقال له إنه يريدني لمهمةٍ أخرى، فذهبت إليه يوم الأربعاء، فقدَّم لي ورقة مالية بخمسة جنيهات، فقلتُ له إنني لا أتقاضى أجرًا على ذلك، وإن شئتَ فإن أجري اليومي في الترجمة ١٨ جنيهًا! فضحك وقال: «أنت لا تعرف مدى نفوذي وسلطتي في مصر.» فأسرعتُ أقول: فاعتبِر خدماتي هديةً مني إليك! وقال في اللحظة نفسها: «هدية مقبولة!» ثم تواعدنا على اللقاء في اليوم التالي، وقابلني هاشًّا باشًّا وقال: «أنتم ناس طيبون، وأنا أساعد خالك؛ لأنه ﺑ «يعرف ربنا» رغم ما أعلمُه عنه من علاقةٍ مع التجار الألمان، ولكنني ساندته وحميتُه من بطش عامر.» وانطلقنا فوقَّعنا العقدَين، ثم رحل الزائر الكبير مع خالي إلى ألمانيا أولًا ثم إلى مصر، وعندما عُدتُ إلى نهاد لم أشأ أن أُعكِّر صَفْو أحزانها على وفاة عبد الناصر، ولم أشَأ أن أقول لها ما يحدُث في القطاع العام، وإن كان في أعماقي صوتٌ داخلي يهتف: أين أنت يا عبد الناصر حتى أقُصَّ عليك ما رأيتُه وما سمعتُه؟! رحم الله عبد الناصر.

وشُغلَت نهاد في الخريف بالاستعداد للسفر، وكان يبدو لي أنها كانت تريد أن تطمئن إلى أن مصر ما تزال حيةً تُرزق بعد وفاة عائلها، أما أنا فشُغِلتُ بترجمة خطابات السادات في عُطلة نهاية الأسبوع، وبدراسة مسرح القرن الثامن عشر في إنجلترا ساعاتٍ طويلةً كل يومٍ في مكتبة الكلية، تمهيدًا لكتابة الفصل الثالث عن مسرحية «سكان الحدود» The Borderers التي كنتُ أراها شيكسبيرية المذاق، ولا تكاد تنتمي إلى القرن الثامن عشر إطلاقًا!

وسافرَت نهاد، وعندما عادت كانت قد شُفيَت تمامًا من الحزن، بعد أن ذاقت الأمرَّين في محاولة استخراج تأشيرة الخروج من المجمَّع، وكانت تتردَّد عليه يوميًّا حتى يسمحوا لها بالسفر، ولولا جهود الأستاذ صليحة والدها رحمه الله ما خرجَت ثانيةً من مصر. لكن تلميحاتها هذه المرة كانت واضحة؛ فالكل في مصر يتساءل عن عدم إنجابنا للأطفال، وكان لسان حالها يقول «أريد طفلًا!» وكذلك كان لسان حالي أيضًا!

٧

لا شك أن السنوات الأربع التي عشناها معًا دون أطفال قد قرَّبَت بيننا كثيرًا فكانت نهاد لي نعم الصديق، وكانت قراءة الكتب معًا والذهاب إلى المسرح معًا من الظواهر الفريدة بين الدارسين المتزوِّجين هنا، ولأختم هذا الفصل بحادثةٍ ما تزال تختزنها ذاكرة نهاد «الانتقائية» (eclectic) وإن كنتُ غير واثقٍ من أسس اختياراتها.

حدث في صباح يوم أحد، وكنا نقرأ معًا صُحف نهاية الأسبوع أن دَقَّ أحدهم الباب فقمتُ إليه فإذا برجل وامرأة طاعنَين في السن يُلقِيان عليَّ تحية الصباح، ثم سألاني: أنتم مؤمنون بالله؟ فخِفتُ أن يكونا من «شهود يهوه» وهي طائفة يرميها الناس بالخَبل، فأسرعتُ أقول نحن مسلمون! فابتسم الرجل وقال: إذن تؤمنون بالله. وتقدَّم للدخول مع المرأة! لم أستطع منعَهما ونهضَت نهاد فرحَّبَت بهما وصنعَت لهما الشاي، وما إن جلسا حتى انطلَق كلٌّ منهما يتحدث بإسهاب عن الفِرَق الدينة التي بلغ عددها — فيما قالا — ٢٥٠ فرقةً وطائفة، وحدَسْتُ ما يرميان إليه؛ فمن المؤكد أنهم سيقولان إنها جميعًا ضالة، وإنهما ينتميان إلى الفرقة الناجية، بل وسوف يدعُواننا إليها. وصَحَّ ما توقعتُه وإن كانا قد استغرقا وقتًا طويلًا في التمهيد للدعوة. أما ما يعتبرانه الفرقة الناجية فهي المورمونية، أو طائفة المَلَاك مورمون، وسوف ألخِّص فيما يلي ما قالاه؛ إذ أفادني فيما بعدُ، دون أن أدري، في فهم أحد التيارات الرئيسية في الفكر الغربي وهو التيار الديني.

بدأ العجوزان الحديث بانتقاد أخلاق أهل العصر، والقطع بأن مَردَّ ذلك كله إلى نضوبِ مَعينِ الحياة الروحية لدى الجميع؛ لأن الدين تحوَّل إلى مؤسساتٍ بشرية، تخضع لأهواء المفسِّرين، وقد تنحرف هذه المؤسَّسات حتى لو صدق القائمون عليها؛ لأنهم بشر وشيمة البشر الخطأ، والدين في رأيهما نبعٌ متجدِّد ولا يجب أبدًا أن يقول أحدٌ بانقطاع الوحي؛ فالله الذي خلق العالم لم يتركْه في أيدي الكهنة بل يوحي دائمًا إلى كل روحٍ بالرؤى التي تُساعِدها على إدراك جلالته وعظمته، والإسلام في رأيهما شاهدٌ على ذلك؛ فالمسلم يتوجَّه إلى ربه بالصلاة وحده، ويتحمل وحده أوزاره، ويثاب على فِعاله أو يُعاقَب، مهتديًا بضميره وبالروح التي هي قبَسٌ من روح الله.

وبدأ الضَّيفان في دعوتنا إلى تأمل المورمونية التي تقول إن الروح إذا نمَت وتَرعرعَت أصبحَت إلهًا؛ ولذلك فإنهما يؤمنان بأن في أعماقنا آلهةً كثيرة هي الأرواح التي تدفَعنا إلى فعل الخير وتَصرِفنا عن ارتكاب الشرور، ودَعَيانا إلى تأمُّل تعاليم المَلَاك مورمون وهي التي يضمُّها سِفر مورمون الذي ترجمه (القديس) جوزيف سميث في أمريكا في النصف الأول من القرن التاسع عشر، وتعاليمُه لا تتناقض في رأيهما مع الإسلام؛ فهي تدعو إلى تعدُّد الزوجات، وتعدُّد وجهات النظر، وقالا إن الخلاف والاختلاف من سمات البشر؛ ولذلك فالدين الحقيقي لا بد أن يسمح بذلك وهذا هو ما تدعو إليه المورمونية، ونظرتُ في ساعتي ثم نهضتُ إيذانًا بانتهاء الزيارة فنهَضا وانصَرفا!

وكان لدينا في العمل شابٌّ أمريكي يُدعَى «ألان» (ولا أعرف له اسمًا آخر) أُشِيعَ عنه أنه مورموني، فسألتُه عما سمِعتُه من العجوزَين فقصَّ عليَّ القصة بالتفصيل، قبل أن أقرأ عنها بعد عشر سنوات في قصص شرلوك هومز (هولمز) التي كتبَها السير آرثر كونان دويل Doyle البريطاني، ومُوجَزها أن في الولايات المتحدة مؤسَّسةً كنسية تُسمَّى كنيسة القديسين المتأخرين Church of Latter-Day Saints تؤمن بأن هناك سِفرًا يُسمَّى سفر مورمون Book of Mormon تعتبره تلك الكنيسة من أسفار الكتاب المقدَّس وإن كان لم «ينزل» إلا في القرن التاسع عشر على رجلٍ يُدعَى جوزيف سميث فترجمَه في عام ١٩٣٠م، ونشره في بالميرا Palmyra (تُقابِل تدمر العربية) بولاية نيويورك في العام نفسه، وقيل إن الكتاب المذكور مُترجَم عن اليونانية القديمة، وقيل عن العبرية، وقيل عن غيرها، ولكن إثبات ذلك مُحال؛ لأن تلك النصوص المزعومة قد فُقدَت، والكتاب يقُص قصةَ هجرةِ مجموعة من اليهود (العبرانيين) إلى أمريكا، من القدس، في عام ٦٠٠ قبل الميلاد، بقيادة نبي يُدعَى «ليحي» Lehi، ثم انقسم المهاجرون إلى طائفتَين؛ الأولى هي اللامنيون Lamanites الذين نسُوا عقائدهم وأصبحوا من الهمَج والبرابرة، ومن نَسلهِم انحدَر الهنود الحمر الذين وجدَهم كريستوفر كولومبس في أمريكا، والثانية هي النفيتيون Nephites الذين أخذوا بأسباب الحضارة وبنَوا المدن العظيمة، وأصبحَت لهم ثقافتُهم الخاصة، وتركوا آثارًا رائعة، ولكن اللامانيين كانوا لهم بالمرصاد فلم يكُفُّوا عن محاربتهم حتى قضَوا عليهم في عام ٤٠٠ الميلادي تقريبًا، ولكن الكتاب المذكور يقول إنهم قد استقَوا تعاليم المسيحية الحقَّة عن يسوع بعد رفعه إلى السماء، وكتبَها نبيهم مورمون على ألواحٍ من الذهب الخالص، إلى جانب تاريخ الطائفة بطبيعة الحال، وتركها مورمون لابنه موروني الذي أضاف كتاباتٍ أخرى إليها ودفنَها في الأرض حيث مكثَت ١٤٠٠ سنة، حتى كُتِبَ لها أن ترى النور من جديد على يدي موروني نفسه الذي بُعث من مرقده وكان يتخذ صورة ملاكٍ حينًا وصورة نبيٍّ حينًا آخر، فأسلمَها إلى جوزيف سميث الذي سارع بتَرجمتِها قبل أن تختفي إلى الأبد.

وسألت روجر كولمان (الكاثوليكي) عن رأيه في هذا الكلام فضحك وقال إن كل ما يعرفه هو أن المورمونيين لا يشربون الخمر ولا يأكلون لحم الخنزير! وسألتُ آخرين من البروتستانت فقالوا لي إنهم يعتبرون المورمونيين كُفارًا، وكنتُ في المكتبة أنظر أصل القصة حين خطر لي أن أسأل أحد الأمريكيين؛ ففي أمريكا ما لا يقِلُّ عن خمسة ملايين من أتباع هذه الطائفة، وسألتُ عن زميلةٍ لنا من أمريكا تُدعى إليزابيث فقالت لي السكرتيرة: «آه! المورمونية؟» فقلتُ في نفسي: «يا محاسن الصُّدف!» وسعيتُ إليها حتى قابلتُها، وكأنما كانت تتوقَّع مني الهجوم على العقيدة؛ إذ بادرتني قائلة: «ليس صحيحًا أن العقيدة مستوحاة من رواية القس سولومون سبولدينج، وليس صحيحًا أنها من ابتكار جوزيف سميث، فهذه من تخرُّصاتِ أعدائنا الذين وطَّنوا النفس على الكفر والإلحاد!».

وأكَّدتُ لها أنني لم أقرأ تلك الرواية، وأن كلَّ همِّي هو أن أعرف المزيد عن العقيدة لا أن أطعَن فيها أو أدرُس تاريخها، وعندما شعَرَت أنني صادقٌ صحِبَتني إلى الكافيتريا حيث اشترى كلٌّ منا فنجان شاي وشَرعَت تقول:

«مذهبنا الراهن مذهبٌ روحي، وهو يفرض على الفرد مسئوليةً روحية يتخطى بها تكاليف (بمعنى طقوس) الكنيسة، وأكبر دليلٍ على ذلك تجاوزُنا للنظم الكنسية التي تقوم على اعتبار الجسد دَنَسًا، وما دامت الروح طاهرةً فلا بد أن يكون مسكنها طاهرًا، والطهارة في مفهومنا تعتمد على الماء؛ فالتعميد يجري بغمر الجسد في الماء، والاستحمام من وسائل التطهير المؤكَّدة، ونحن نفضل المأكولات الطاهرة مثل الفواكه والخضر، ومعظمنا نباتيون، ولا نشرب الخمر؛ لأنه يُغيِّر من الفطرة وكل ما يلوِّث الفطرة أو يُدنِّسها فهو نجس، ونحن نؤمن بالخير الذي يتجلى في الحرية والإنجاب والتواصُل؛ ولذلك نؤمن بتعدُّد «رفقاء المضجع» استجابةً للفطرة ونبذًا للحرمان وتحقيقًا للإشباع الروحي.»

وأسهبَت إليزابيث وأطالَت، فأدركتُ أن شيوع المذهب دليلٌ على جاذبيةٍ خاصة فشكرتُها، ولكنني عندما أردتُ الانصراف قالت لي: «إذا أردت أن تعرف المزيد فارجع إلى الأستاذ ماثيوز الذي يُعتبَر حُجةً في تاريخنا.» وقد فعلتُ ذلك في نفس اليوم، فقال لي دهشًا: «ومتى كان المسلم مهتمًّا بالمورمون؟ لا بد أنه التعطُّش للمعرفة!» ولكن ما قاله كان مذهلًا! قال ماثيوز إن المورمونيين يشكِّكون في صحة ترجمة الكتاب المقدَّس، وإن سِفر مورمون الذي يزعم جوزيف سميث أنه ترجمَه عن أصلٍ مفقود لا يمكن أن يكون كتابًا مقدَّسًا؛ فهو «محاكاة شعرية» لأسفار العهد القديم ويقوم على فكرة «الدائرة»؛ أي إن التاريخ يسير في دوائر، فالناس تنزع إلى الخير في أول الزمان ومن ثَم تحيا في رغدٍ من العيش، ثم تَنزِع إلى الشر فيُصيبُها البؤس والهلاك، ثم تتوب فيعود العيش الرغد وهكذا، وأما الكتابان اللذان يزعم جوزيف سميث أنه اكتشفهما وهما كتاب إبراهيم وكتاب موسى وأدرجهما في كتابٍ له لم يستكمل تأليفه، (واسمه لؤلؤةٌ غالية الثمن) (Pear of Great Price)؛ فقد اكتشف العلماء منذ أعوامٍ قليلة أنهما منقولان عن كتاب الموتى الذي وضَعه قدماء المصريين، وكانت بعض أجزائه المترجَمة بعد اكتشافه وحل رموز اللغة المصرية القديمة قد نُشرَت في أوروبا في أواخر عهد سميث، ولا أدلَّ على ذلك من البردية التي صوَّرها سميث (أو مَن خلفه) ووضَعها في صَدْر كتابه إذ أكَّد الخبراء أنها تزوير في تزوير، وأن ما بها لا يعدو أن يكون ترجمةً حرفية عن الترجمة الفرنسية للشعائر الجنائزية المصرية، وقد أُعيد اكتشافُ البردية المصرية التي تتضمَّنها في مُتحَف متروبوليتان للفن بنيويورك عام ١٩٦٦م، وقام الخبراء بمضاهاةِ ما جاء فيها بالبردية التي يزعُم سميث أنها البردية الأصلية.
أما أخطر ما نبهني إليه ماثيوز في هذا كله فهو ما لم يُفصِح عنه الزائران المُسنَّان، ولا ألان، ولا إليزابيث، ألا وهو أن «الطهارة» التي كانت تتحدَّث عنها تنطبق أيضًا على لون الجلد، فلم يذكر لي ألان، ولا وجدتُ في المراجع التي أوصاني بقراءتها، ما يدُل على أن اللامانيين كانوا من ذوي الجلد الداكن؛ ولذلك فقد دفعَهم «الخبث» بمعنى الحطَّة المتأصلة في فطرتهم إلى التمرُّد والهمجية، في حين اتجه النفيتيون ﻟ «كرمٍ» متأصلٍ في لونهم الأبيض إلى بناء الحضارة والتمدُّن، وإذا كانت الدورة (الدائرة) الأولى قد كتبَت الغلَبة للشر فانتَصَر الهنود الحمر على ذوي البشرة البيضاء (الطاهرة) فلقد أتت الدورة الثانية بالنصر لأصحابه، وأصبح الخير ظافرًا في ولاية «أوتاه» (Utah) الأمريكية، ثم ساد القارة كلها، حتى «تلوَّث» أخيرًا بسبب الهجرة من أفريقيا!

وعندما فرغتُ من تأمُّل هذه الحقائق اتجهتُ إلى كتابٍ في التاريخ يؤكِّد نظرة الأستاذ المتخصِّص والموضوعي، وعندما قرأتُ بعد عودتي إلى مصر بعدة سنوات أن السلطات الكنسية العليا سمحَت للملونين (بمعنى غير ذوي البشرة البيضاء) بأن يَشغَلوا بعض المناصب الكهنوتية فيما أصبح يُسمَّى بحركة إعادة تنظيم الكنيسة عام ١٩٧٨م، ذكرتُ ما نبَّهَني إليه ماثيوز وتأكَّدَت لي صحتُه من كتب التاريخ (لا أسفار المورمون). وفهمتُ أيضًا سِر إلغاء تعدُّد الزوجات (والأزواج) عندما تذكَّرتُ ما قالته إليزابيث عَرَضًا من أن والدتها يهودية، وكان المفروض من ثَم أن تكون يهودية، ولكنها فضَّلَت حرية الروح، واعتنقَت المورمونية، فأنجبَت من زوجها المورموني أطفالًا تحرَّروا من لون أمها الداكن، فتخلَّصوا من الرابطة «الشرقية».

وعندما قصصتُ ذلك كلَّه على نهاد بعد عَودتِها أبدَت دهشتَها، ثم قالت مقولةً ما تزال تُردِّدها عندما أقُص عليها قِصَصي: «إنت بتهتم بحاجات غريبة!»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤