مقدمة الجزء الثالث من المثنوي

المقدمة العربية

الحكم جنود الله يقوِّي بها أرواح المريدين، وينزِّه بها علمهم عن شائبة الجهل، وعدلهم عن شائبة الظلم، وجُودهم عن شائبة الرياء، وحلمهم عن شائبة السَّفَه، ويقرِّب إليهم ما بَعُدَ عنهم من فهم الآخرة، وييسر لهم ما عسر عليهم من الطاعة والاجتهاد.

وهي من بيِّنَات الأنبياء ودلائلهم، تخبر عن أسرار الله وسلطانه المخصوص بالعارفين، وإدارته الفلك النورانيِّ الرحماني الدُّرِّي الحاكم على الفلك الدخاني الكريِّ كما أن العقل حاكم على الصوَر الترابية وحواسِّها الظاهرة والباطنة. فدوران ذلك الفلك الروحاني حاكم على الفلك الدخانيِّ الكُرِيِّ، والشهب الزاهرة والسُّرُج المنيرة والرياح المنشأة، والأراضي المدحيَّة، والمياه المطردة نفع الله بها عباده وزادهم فهمًا. وإنما يفهم كل قارئ على قدر نُهيته، وينسك الناسك على قدر قوة اجتهاده، ويفتي المفتي مبلغَ رأيه، ويتصدق المتصدِّق بقدر قدرته، ويجود الباذل بقدر موجوده، ويقتني المَجود عليه ما عرف من فضله.

ولكن مفتقد الماء في المفازة لا يقصِّر به عن طلبه معرفة ما في البحار، ويجدُّ في طلب ماء هذه الحياة قبل أن يقطعه المعاش بالاشتغال عنه، وتعوقه العلة والحاجة، وتحول الأعراض بينه وبين ما يتسرع إليه.

ولن يدرك هذا العلم مؤثر بهوى، ولا راكن إلى دعة، ولا منصرف عن طلبه، ولا خائف على نفسه، ولا مهتمٌّ لمعيشته إلا أن يتعوذ بالله ويؤثِرَ دينه على دنياه، ويأخذ من كنز الحكمة الأموالَ العظيمة التي لا تكسد ولا تورث بميراث الأموال، والأنوار الجليلة، والجواهر الكريمة، والضِّياع الثمينة، شاكرًا لفضله، معظِّمًا لقدره مجلِّلًا لخطره.

ويستعيذ بالله من خساسة الحظوظ، ومن جهل يستكثر القليل مما يرى في نفسه، ويستقلُّ الكثير العظيم من غيره، ويعجب بنفسه بما لم يأذن له الحق.

وعلى العالم الطالب أن يتعلم ما لم يعلم، وأن يعلِّم ما قد علم، ويرفُق بذوي الضعف في الذهن، ولا يعجب من بلاهة أهل البلادة، ولا يعنُف على كليل الفهم كَذَٰلِكَ كُنتُم مِّن قَبْلُ فَمَنَّ اللهُ عَلَيْكُمْ.

سبحان الله تعالى عن أقاويل الملحدين، وشرك المشركين، وتنقيص الناقصين، وتشبيه المشبِّهين، وسوء أوهام المتفكرين، وكيفيات المتوهمين.

وله الحمد والمجد على تلفيق الكتاب المثنوي الإلهي الرباني، وهو الموفق المتفضِّل، وله الطَّول والمنُّ لا سيما على عباده العارفين على رغم حزب يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم، والله متمُّ نورِه ولو كره الكافرون، إنا نحن نزَّلنا الذكر وإنا له لحافظون، فمن بدَّله بعدما سمعه فإنما إثمه على الذين يبدِّلونه إن الله سميع عليم.

والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبيه محمد وآله وعترته الطيبين الطاهرين، وسلَّم تسليمًا كثيرًا وحسبنا الله ونعم الوكيل.

المقدمة الفارسية المنظومة

يا ضياء الحق حسام الدين هات، ثالث الدفاتر فالسنة ثلاث مرات. افتح علينا كنز الأسرار، ودع في الدفتر الثالث الأعذار. قوَّتك من قوة الحق تخلق، لا من عروق بالحرارة تخفق. إن سراج الشمس المضيء، ليس بالفتيل والزيت يُضيء. وسقف السماء الدائم، ما هو بالأطناب والعمد قائم. وليست بالطعام قوة جبريل، بل من رؤية الخلَّاق الجليل. وكذلك قوة أبدال الحق من الحق، لا من الطعام والطبَق. وكذلك خُلِقَت عيونهم من النور، ففاقوا الروح والملَك البصير. إنك موصوف بأوصاف الجليل، فجاوِزْ نار الأمراض كالخليل. النار برد وسلام، وإنما العناصر لمزاجِك خُدَّام. لكل مزاج أصل من العناصر، ومزاجك فوق كل درجة ظاهر. إن مزاجك من العالم المنبسط، فهو لصفات الوحدة ملتقط. وا أسفَا لساحة أفهام الخلق، ضاقت وليس للخلق حلق١ بحذق رأيك يا ضياء الحق الأغَرّ، تهب حَلواك حلقًا للحجر.٢
أصاب حلقًا يوم التجلي الطور، فشرب الخمر ولم يكن عليها بصبور.٣
(صار دكًّا منه وانشق الجبل
هل رأيتم من جَبَلْ رقصَ الجمل)؟
هبة اللقمة من الإنسان للإنسان، وإنما هبة الحلق للخالق الديَّان. يهب حلقًا لكل جسم وروح واحدة، ولكل عضو منك على حدة. لتكون إجلاليَّ العمل، بريئًا من الزَّيف والدغَل٤ فلا تفشي لأحد سر السلطان، ولا تريق الشُّهد للذِّبَّان. تتلقى أسرار الجلال الأذنان، ممَّن خرس كالسَّوسَن وله مائة لسان٥ ويهب الحلق للتراب لطف الوهَّاب، ليشرب الماء وينبت مئات الأعشاب.

ثم يهب الحلق والشفة للحيوان، ليأكل العشب في كل مكان. فإذا أكل العشب سَمِنْ وترّ، فصار طعامَ الإنسان لا مَفرّ.

ثم يحور الترابُ أكَّالَ البشر، حين يفارقه الروح والبصر. وكم رأيت ذرَّات مفتَّحة الأفمام، إن أبيِّن أُكُلَها طال الكلام. له على الأقوات بالأقوات إنعام، وللمرضِعات مرضِعات من لطفه العام. ويهب الأرزاق أرزاقًا كما يشاء، وإلا فكيف ينمو البُرُّ بغير غذاء؟ لا أرى لهذا الكلام انتهاءً، قلت جزءًا وأنت تعلم أجزاءً. العالم كله آكل ومأكول، والباقيات مُقبِل ومقبول،٦ هذا العالم وسكانه منتشرون، وذاك العالم وقطَّانه مستمرُّون. هذا العالم وعشَّاقه إلى انقطاع، وأهل ذاك العالم للخلد والاجتماع. فالكريم من لنفسه أهدى، ماء الحياة الذي يبقى أبدًا. الكريم هو الباقيات الصالحات، قد خلص من الأهوال والآفات. إن تكن آلافًا فهي واحدة لا أكثر، ليست كالخيالات بالعدد تُكثِّر.٧
وللآكل والمأكول مَريء وحَلْق، وللغالب والمغلوب عقل وحذق، وقد وهب الحلقَ لعصا العدل، فكم أكلت من عصا وحَبْل.٨ ولم يزد جوفها بهذا الأكل، لم يكن حيوانيًّا أكلها والشكل. ثم وهبَ اليقينَ حلقًا كالعصا، فأكل كل خيال يُرى. فللمعاني حلوق كالأعيان، ورازق حلوق المعاني هو الله المنَّان.٩ فليس بين الثرى والثريا خَلق،١٠ إلا له لجذب قُوتِه حلق. وحلق الروح من فكرة البدن خليّ، فقوته إذًا إجلاليّ.

والشرط تبديل المزاج فاعلم، بمزاج السوء موت الأشرار يُحتَم. إذا صار مزاج الإنسان أكْل الطين، فهو شاحب سقيم مهين. فإن تبدَّل مزاجه القبيح، أضاء كالشمع وجهه الصبيح.

إن المرضع التي تغذو الرضيع، وتنعِّمه بهذا الصنيع. إن حالت بينه وبين الأثداء، فتحت له طريق الحدائق الغناء. فالثدي لهذا الضعيف حِجاب، دون آلاف النعم من طعام وشراب.

فحياتنا إذًا موقوفة على الفطام، فاجهد رويدًا وحسبك هذا الكلام. غذاء الإنسان الدَّمُ وهو جنين، يأخذ الغذاء من نجَس مهين. فإذا فطم من الدم فاللبن غذاؤه، وإذا فطم من اللبن فاللقمة كفاؤه. وإذا فطم من اللقمة فهو لقمانيّ، يحاول الظفر بالسر الربَّانيّ.١١

ولو قيل للجنين في الرحم: في الخارج عالمٌ جِدُّ منتظم. أرض ذات بهجة وسعة، بالنعم والأطعمة مترعة. وجبال وصحاري وبحار، وحدائق وزروع وأشجار. وسماء رفيعة ذات ضياء، وشمس وقمر ونجوم زهراء. وجنات في عُرس وحبور، بالجنوب والشمال والدَّبُور. لا يحيط الوصف بما فيها من العجائب، وأنت في هذه الظُّلَم والمصائب. تغتذي الدم في هذا الخباء، في حبس ونجَس وعناء. لردَّ هذا القول وأنكر، وأعرض عن هذه الرسالة وكفر. وقال: محال وخداع وغرور، عَمِي وهمُه عن هذا التصوير.

لم يدرك جنسَ الشيء بصرُه، فسَمْعُه يأباه وينكره. وكذلك عامة الناس في هذه الدنيا، يحدِّثهم الأبدال عن العقبى. يقولون هذه الدنيا بئر مظلمة الأركان، وخارجها عالم وراء الروائح والألوان. فما يكون من أحد تصديق، فإن الطمع حجاب صفيق. يُصمُّ الطمع الأذن عن الاستماع، ويُعمي الغرضُ العين عن الاطلاع. وكذلك حجب الجنينَ حرصُه على الدم، وهو غذاؤه في وطن الظُّلَم. حجبه عن حديث هذا العالم، إذ لم يعرف إلا الدم من المطاعم.

هوامش

(١) منبسط وملتقط وخلق وحلق جاءت في قافية الأصل بلفظهما.
(٢) يعني أن كلامه يخلق الإدراك والفهم في العقول القاسية التي هي كالحجارة.
(٣) يريد جلال الدين بالحلق في هذا الفصل الإدراك والقبول حينًا والبلع والازدراء حينًا آخر كما يأتي.
(٤) الإجلالي المنسوب إلى الإجلال؛ أي إلى الصفات الجليلة يعني صفات الله تعالى.
(٥) أوراق السوسن المحيطة به تشبه باللسان، والمراد من استطاع الكلام وكف عنه حفظًا للأسرار.
(٦) يعني المعاني الخالدة التي ليست من عالم الحسِّ.
(٧) لما قال إن الكريم هو الباقيات الصالحات أراد أن يفسر الإخبار عن المفرد بالجمع فقال: إن الصالحات — وإن كانت آلافًا — حقيقة واحدة، والحق واحد مهما تعددت أمثاله، ليس كالخيالات التي لا يجمها حقيقة فهي معددة مكثرة.
(٨) إشارة إلى عصا موسى وتلقفها عصي السحرة وحبالهم.
(٩) انظر إلى هذا الفكر الشامل؛ عالم الأعيان آكل ومأكول، وعالم المعاني كذلك: يأكل اليقين الشك، والحق الباطل. وقد جاء في الكتاب الكريم: بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ.
(١٠) في الأصل: أز مه تا بماهي، أي من السمك إلى القمر، وقد سوغ الجمع بينهما في الفارسية تقارُب اللفظين: ماهي وماه.
(١١) يعني إذا راض نفسه وأقل الطعام، صار حكيمًا كلقمان.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤