الفصل الثالث

ظَلِلت أتردَّد على مكاتب الصحيفة عدة أشهر، وقد أغرتني الاكتشافات التي توصَّلت إليها، فضلًا عن عدم مصادفتي لأي عقبات ظاهرة، بمداومة البحث في نفس الاتجاه.

وخرجت أثناء ذلك بحصيلة وافرة من المعلومات، ملأت عدة كراسات. حقًّا إن جانبًا منها لم يكُن وثيق الصلة بأمر «الدكتور»؛ فقد اتسعت دائرة اهتمامي بالتدريج دون وعي مني، وامتدَّت إلى بعض الأمور العامة. وبدا وكأن الأنباء التي سبق أن قرأتها في حينها تصافح عينَي الآن للمرة الأولى، والظاهر أنها اكتسبت عمقًا جديدًا بفضل المنظور الزمني، الذي أتاح لي رؤيتها في ارتباطاتها المتشعِّبة.

وكنت أعود إلى منزلي في نهاية كل يوم مرهقًا، أشكو الدوار وصعوبة التنفُّس، فأرتقي طوابقه السبعة في إعياء إلى مسكني في الطابق الأخير، وبعد أن أغتسل وأتناول طعامي أغفو قليلا، ثم أنهض لأعمل من جديد، فأنقل ما دوَّنته في الصباح إلى بطاقات صغيرة من الورق المقوَّى، زوَّدني بها صديق عزيز دون أن يُخفي إشفاقه عليَّ، مسجِّلًا في أعلاها تاريخ نشر المادة، ومصدرها، ورأس الموضوع، توطئةً لعمل تصنيف ما يساعدني على الانتقال إلى المرحلة الثانية من البحث. ولا أنتهي من ذلك قبل ساعة متأخِّرة من الليل، فأنام نومًا قلقًا تتخلَّله أحلام مزعجة يتألَّف معظمها من عناوين الصحف. والقليل النادر من هذه الأحلام كان مصدر متعة، خاصةً إذا ما تصدَّرته الصور شبه العارية لجميلات العالم وفاتنات السينما، التي كانت تصادفني بين الحين والآخر.

وفي الصباح أغادر فراشي في صعوبة؛ إذ أجدني فريسةً لحالة من الهبوط، يضاعف منها تمثُّلي للمصاعب التي سأعانيها في الطريق قبل أن أصل إلى مبنى الصحيفة، والأخطار المبهمة التي تحف بعملي. ولا أستعيد حيويتي إلا عندما أستعرض في ذهني ما وصلت إليه من نتائج، والعالم العجيب الذي فتحته أمامي.

والواقع أن تغييرًا ما طرأ عليَّ في الشهور الأخيرة؛ فقد كنت في السابق سئمت كل شيء، ولم يكن مثولي أمام اللجنة، وتمسُّكي بالفرصة السانحة لتطوير مواهبي، سوى محاولة من جانبي لتجديد الاهتمام بالحياة. ولم يلبث البحث في أمر «الدكتور» أن أخذ بمجامعي، حتى إني بدأت أخشى الموت، وأدعو الله أن يجنِّبني حوادث المواصلات والأزمات القلبية، إلى أن أفرغ منه.

واضطُررت في أحد الأيام إلى الانقطاع عن الخروج عندما شعرت بالإرهاق، فجلست أراجع البطاقات التي دوَّنتها ووضعتها بنظام في صندوق أحذية من الكرتون؛ ليسهل عليَّ العودة إليها، واستخراج ما أريده منها.

اكتشفت أنه صار لديَّ كمٌّ من المادة لا بأس به، يغطِّي الخطوط الرئيسية للبحث، لكني كنت ما أزال جاهلًا بكثير من خلفيات بعض النقاط الهامة. وهي أمور لا جدوى من التماسها في الصحف المصرية أو العربية، التي تَحول الأوضاع السياسية والتقاليد الاجتماعية بينها والخوض في أعماق الظواهر وحقائق الأمور. عندئذٍ خطَر لي أن أستعين بالمجلات الأجنبية، لكن أين يتأتَّى لي أن أجد مجموعات من الأعداد القديمة لإحداها؟

كان الصديق الذي أمدَّني بالبطاقات هو الذي اقترح عليَّ أن ألتمس ضالتي في مكتبة السفارة الأمريكية. فذهبت إلى مقرها الجديد الذي انتقلَت إليه بعد أن أحرقت الجماهير الثائرة المقر القديم سنة ١٩٦٥م، احتجاجًا على مساندة الولايات المتحدة لموبوتو، رئيس زائير التي كانت تُعرف وقتها بالكنغو كينشاسا، ودورها قبل ذلك في اغتيال الزعيم الوطني لومومبا.

وجدت بالمكتبة مجموعةً من الأعداد المتفرِّقة لأشهر المجلات الأمريكية مثل «تايم» و«نيوز ويك»، فقلَّبت بين صفحاتها مركِّزًا اهتمامي على تلك المخصَّصة لأمور الشرق الأوسط، دون أن أعبأ بمطالعة الصفحات الأخرى أو النظر إلى الأغلفة؛ ولهذا لم أنتبِه إلى أن أحد الأعداد الذي أمسكته في يدي يحمل صورةً ملوَّنةً ﻟ «الدكتور» على غلافه، إلا بعد أن ألفيتني أرتجف من الانفعال وأنا أقرأ موضوعًا ضافيًا عنه غطَّى عددًا من الصفحات، وامتلأ بقدر وافر من المعلومات المثيرة.

كان تاريخ العدد يعود إلى عام مضى. أمَّا الموضوع فكان بمناسبة زواج ابنته من رئيس عربي. وكان هذا نبأً جديدًا عليَّ؛ لأن صحفنا لم تنشر الأمر في حينه. ويبدو أن الزواج أثار عاصفةً من التعليقات وقتها، لا بسبب فارق السن وحده الذي يربو على ثلاثين من الأعوام، وإنما أساسًا بسبب المدلولات السياسية والاقتصادية له.

وانتهزت المجلة هذه الفرصة فقامت بعرض سريع لسيرته، وكيف نشأ في أسرة فقيرة، ثم ابتسم له الحظ عندما قامت الثورة بحكم قرابته لأحد الذين آلت إليهم الأمور، وهي الصلة التي مكَّنته من وضع أول لبنة في صرح مجده؛ فبفضلها استطاع أن يحصل لأحد المنتجين السينمائيين على تصريح بتصوير ثلاثة أفلام كوميدية عن الجيش والطيران والأسطول، مقابل المشاركة في عائدها.

ومضت المجلة فقالت إنه — وقد تكَّون رأس المال — لم يكن من الصعب عليه أن يضاعفه في وقت قصير. فلم يكن خطؤه أن المشرفين على الاقتصاد — وقد استهوتهم الأفكار الاشتراكية — كبَّلوه بعديدٍ من القيود التي يتطلَّب اختراقها ملكات خاصة، وبالتالي ثمنًا مرتفعًا. وإذا كان «الدكتور» قد استفاد من تذليل هذه الصعوبات لمن يشاء، بحكم علاقاته الواسعة التي دعمها بسلسلة من الزيجات الناجحة، فإن الذي حقَّق الفائدة الحقيقية هو الاقتصاد القومي نفسه. وضربت المجلة مثلًا على ذلك بدوره خلال رئاسته لإحدى شركات المقاولات التابعة للقطاع العام؛ فقد كان يعهد بأغلب عملياتها لشركات خاصة يشترك في ملكيتها. ومهما كان الرأي في هذا العمل فلا جدال في أنه ساهم في دعم النشاط الخاص وإنجاز عديد من المشروعات الهامة في مجال الخدمات، يستمتع المصريون اليوم بثمارها، وكان من المستحيل أن تتحقَّق لو ترك أمرها للقطاع العام وحده.

وفي تلك الفترة تعرَّض «الدكتور» لمحنة عنيفة؛ إذ قبضت عليه السلطات وأودعته السجن. أمَّا السبب فيصعب تحديده؛ إذ تضاربت الأقاويل بشأنه، فقيل إنه كان مشتركًا في محاولة لقلب نظام الحكم، وقيل إنه تمادى في الدعوة للأفكار الاشتراكية، وهناك من أكَّد أنه كان ضالعًا في إحدى العمليات المالية المريبة، التي كان القانون يحرِّمها وقتذاك.

وتعرَّضت المجلة للشائعات المتباينة التي أحاطت به فوصفتها بأنها الضريبة التي يدفعها كل ناجح في البلاد العربية. وضربت مثلًا بشائعة تجزم أنه حضر الحفل الراقص الشهير الذي أُقيم عشية العدوان الإسرائيلي عام ١٩٦٧م في إحدى القواعد الجوية المصرية. وقالت إن هذه الشائعة لا تعني شيئًا على الإطلاق؛ لأن أغلب القادة المصريين حضروا هذا الحفل. أمَّا محاولة الربط بينه، في شائعة أخرى، وبين تسليم الجولان، فأمر ينقصه الدليل. ودلَّلت المجلة على وطنيته بالدور الذي لعبه في حرب الاستنزاف؛ حيث تولَّى مقاولة تنفيذ التحصينات الهائلة التي تكلَّفت ملايين الدولارات، وإن لم تتركه الشائعات وشأنه في هذا العمل الجليل أيضًا.

وقالت المجلة إن مرحلةً جديدةً بدأت في حياته عندما تحرَّرت مصر من السيطرة السوفياتية في السبعينيات، فنقل نشاطه إلى ميدان السلاح الذي يحقِّق العاملون فيه دائمًا أرباحًا خيالية، وأصبح من كبار مورِّديه، ممَّا كان له الفضل في الانتصار الذي حقَّقته حرب أكتوبر. إلا أن الثمار الرئيسية لهذه الحرب الناشئة عن الارتفاع الصاروخي لأسعار البترول في أعقابها، لم تسقط في يده، وهو ما يطمح الآن لتحقيقه بزواج ابنته، بعد أن فشل في إدراكه من خلال زيجته الثالثة التي لم تعمِّر طويلًا.

وبالرغم من أن «الدكتور» لم يتوقَّف عن توريد الأسلحة للحروب المحدودة في الشرق الأوسط وأفريقيا، وأعلن في أكثر من مرة عزمه على تشكيل فرقة قوية من المرتزقة مستعدة لخدمة من يدفع الثمن؛ فإنه أصبح من دعاة السلام، وعمل بنشاط في استيراد السلع الغذائية والسيارات والطائرات، مستفيدًا من سياسة الانفتاح.

وفي هذا الصدد استشهدت المجلة بالقول السائر في العالم العربي: «إذا لم يكن ﻟ «الدكتور» إصبع في إحدى الصفقات، كان له بالتأكيد نصيب في عائدها».

واستطردت تقول إن الأمر لا يخلو أحيانًا من بعض القصص الطريفة، مثل قصة المليون بدلة من مخلَّفات الحرب الفيتنامية التي تبرَّع بها الجيش الأمريكي للفلاحين المعدِمين في مصر، فوجدت طريقها إلى مخازنه حيث باعها بدوره لعدد من التجار مقابل ستة ملايين من الجنيهات.

واختتمت المجلة مقالها قائلة: «إن أحدًا لا يملك إلا الإعجاب بحيوية الملياردير العربي ونشاطه، ولا شك أن هذه الحيوية التي برزت في العقد الأخير، وطبعته بطابعها، مازال أمامها وقت طويل قبل أن تذوي، رغم الثمن الذي وضعه الإرهابيون لرأسه بعد ما تردَّد عن تعاونه مع الشركات الإسرائيلية. وإذا كانت سِنُّه الآن تجعله في حاجة إلى وسائل اصطناعية وكيماوية، أكثر من مجرَّد شد جلد الوجه، تعينه على القيام بواجباته العائلية أثناء زياراته لقصوره العديدة المتناثرة في أرجاء العالم العربي، فإنه لا يحتاج إلى شيء في صفقاته المالية والعمليات السياسية التي يشارك فيها من وراء ستار. ومهما قيل بشأن مبادئه الأخلاقية فإن أحدًا لا يستطيع أن يُنكر أن «الدكتور» وأمثاله يحملون مشعل التقدُّم والسلام والاستقرار للمنطقة التي طال بها التخبُّط في ظل التطرُّف.»

نقلتُ المقال كاملًا إلى كُرَّاسي، واستغرق مني ذلك عدة ساعات، عدت أثرها إلى منزلي راضيًا، فعكفت من فوري على تفريغه في بطاقات مستقلَّة، وإضافة بعض أجزائه إلى البطاقات القديمة حسب موضوعاتها.

وما إن انتهيت من ذلك حتى شعرت بأني قد استكملت استعداداتي، ولم يعُد أمامي ما يحول دون البدء في المرحلة الثانية من البحث.

كنت أميل إلى أن أجعل من سيرته العمود الفقري لعملي، فأبدأ بالأسرة التي وُلد فيها وظروف طفولته، ثم أنتقل إلى مرحلة التلمذة والمراهقة، ومنها إلى نشاطه الوطني، ثم مراحل صعوده التي يمكن حصرها بين ثلاث حروب متتابعة؛ هي العدوان الثلاثي عام ١٩٥٦م، والعدوان الإسرائيلي عام ١٩٦٧م، وأخيرًا حرب أكتوبر عام ١٩٧٣م، منتهيًا بالذروة التي يحتلُّها الآن على نطاق العالم العربي.

لكني لم ألبث أن تبيَّنت الثغرات التي يمتلئ بها هذا المنهج؛ فالمعلومات المتوفِّرة لديَّ عن المراحل الأولى من حياته قليلة للغاية، ولست أعرف حتى الآن ما إذا كان تلقيبه ﺑ «الدكتور» يرجع إلى شهادة علمية حصل عليها بالفعل. كما أن التقسيم نفسه تقليدي ليس فيه شيء من ابتكار أو تفرُّد، وأهم من هذا كله أنه يضعني وجهًا لوجه أمام سؤال يتعيَّن الإجابة عليه وهو: وماذا بعد الذروة؟ وواضح للجميع العلاقة الوثيقة بين السؤال وأحد المعاني التي أعطاها العرب لمصطلح اللمعان؛ وهو تحرُّك الجنين في الأحشاء، فضلًا عن خطورة الإجابة ذاتها منذ كان التكهُّن بمصيره — بعد كل هذه المعايشة والدراسة — أمرًا غير عسير.

وكنت غارقًا في التفكير حتى إني لم أشعر بحلول الظلام. وعندما تنبَّهت إلى ذلك أضأت المصباح الكهربائي المثبَّت إلى مكتبي، وعندئذٍ دقَّ جرس الباب.

وقد سبق أن ذكرت أني أقطن الطابق السابع، وأشرت إلى أن المنزل بلا مصعد. فرغم أن القانون يحتِّم على مالك المنزل الذي يزيد عدد طوابقه عن خمسة أن يزوِّده بمصعد، فإن مالك منزلي تمكَّن من التحايل على القانون بسهولة شديدة؛ إذ بنى الطابقَين الأخيرَين إلى الداخل قليلًا، وعندما لم يعُد من السهل رؤيتهما من الطريق، اطمأنَّ القانون وسكت، رغم ما تقدَّمنا به نحن السكان من شكاوى عديدة إلى الجهات المختصة.

المهم أن هذا الوضع لم يكُن يشجِّع أحدًا على زيارتي، وهو أمر لم يكُن يزعجني، بل على العكس كان مبعث راحة بالغة وخاصة في الآونة الأخيرة بحكم انشغالي الشديد. وإذا ما فعل أحدهم فإنه يُضطر بالطبع إلى ارتقاء الدَّرَج، وعندما يبلغ الطابق الأخير تكون خطواته قد أبطأت من التعب، وازداد وقع أقدامه ثقلًا. وبسبب رقة الجدران — الناشئة عن محاولة أخرى من محاولات المالك للتحايل على قواعد البناء المحدَّدة في القانون — أتمكَّن من سماع خطواته بوضوح وأنا جالس إلى مكتبي، من قبل أن يدق الجرس.

والحق أن أذنَي التقطتا وقع الأقدام من فترة، لكن الأمر لم ينتقل إلى وعيي لأني كنت غارقًا في التفكير، فلم أنتبِه إلى كثرة عددها؛ ولهذا السبب كانت دهشتي بالغةً عندما فتحت الباب ووجدت ذلك العدد من الرجال والسيدات الذين احتشدوا فوق الفسحة الضيقة الواقعة أمام مسكني.

كان الدرج غارقًا في الظلام؛ لأن المالك منع عنه النور الكهربائي، في محاولة للضغط على السكان كي يسحبوا شكاويهم؛ ولهذا السبب لم أتبيَّن وجوه الزائرين من الوهلة الأولى. وما لبثَت دهشتي أن تضاعفت بعد لحظات عندما تعرَّفت فيهم على أعضاء اللجنة التي مثلت أمامها منذ ما يقرب من عام.

دقَّ قلبي في عنف وأنا أتنحَّى عن الباب قائلًا في اضطراب: «تفضَّلوا … تفضَّلوا … لم أكُن أتوقع … لم أكن أطمع …»

وهذا حقيقي؛ فلم أتصوَّر أبدًا أن اللجنة يمكن أن تزورني في منزلي، بل إني في الفترة الأخيرة، بسبب انغماسي في العمل، نسيت وجودها تقريبًا، ونسيت حتى الغرض الأصلي من الدراسة التي انهمكت في إعدادها.

لم ينتظر أعضاء اللجنة دعوةً ثانية، ودلفوا إلى مسكني الصغير، فانتشروا في أرجائه على الفور، يتأمَّلون محتوياته، ويُلقون بنظراتهم خلف قطع الأثاث وتحتها. واهتمَّت العانس وزميلتها العجوز بمحتويات المطبخ الذي يواجه المدخل، بينما أحاط اثنان من العسكريين الثلاثة ذوي الرُّتب الرفيعة بثلاجة كهربائية قوية لديَّ من إنتاج الصناعة المصرية في الستينيات، وجعلا يقارنان بينها وبين الثلاجات الحديثة المستوردة.

أغلقتُ الباب ووقفت حائرًا عاجزًا عن الفهم. بحثت بينهم عن رئيسهم الذي لا يرى جيدًا ويسمع بأذن واحدة فقط فلم أجده. واستنتجت أنه إما لم يأتِ معهم أصلًا أو عجز عن صعود الدرج بسبب سِنِّه. ولاحظت وجود الرجل القصير القبيح الوجه، وزميله الأشقر ذي العينَين الملوَّنتَين. وكما حدث في المرة السابقة لم أتمكَّن من إحصاء عددهم من جراء عجزي عن التركيز، وانشغالي بإيجاد تفسير للزيارة غير المتوقَّعة.

قلت بصوت جاهدت أن أجعله مرتفعًا ثابتًا: «هل أُعد شايًا أم قهوة؟»

لم يردَّ عليَّ أحد فلزمت الصمت، ورأيتهم يتجمَّعون أمام صفوف الكتب التي وضعتها بنظام على أرض الممر المؤدِّي إلى غرفة نومي ويقلِّبون بينها. ووجدتها فرصةً نادرة — لم أتعمَّدها — يتبيَّنون منها سعة اطلاعي، خاصةً وأن الكتب في لغات متعدِّدة، وفروع متباينة.

انفصل الرجل القصير فجأةً عن الجميع واتجه برفقة زميله الأشقر في خطوات سريعة إلى الغرفة الداخلية التي أعمل وأنام بها، فهُرعت خلفهما.

كانت هناك أكوام من الكتب والصحف والمجلات في كل مكان، لكنهما تجاهلاها، ووجَّها اهتمامهما إلى المائدة الصغيرة التي أستخدمها في الكتابة. وكان سطحها مكتظًّا ببعض الملفات والصحف في جانب، وكوم من الكتب يعلوها أحد المعاجم في جانب آخر، بينما استقرَّ الكُرَّاس الذي كنت أعمل به في الوسط وإلى جواره البطاقات التي فرغت لتوِّي من ملئها، وصندوق الأحذية الذي اصطفَّت به بقية البطاقات في نظام كنت فخورًا به.

دار القصير حول المائدة وجلس فوق مقعدها، وانكبَّ على البطاقات يفحصها باهتمام وهو لا يُخفي انفعاله. أمَّا زميله فقد وقف يقلب في الملفات والصحف دون أن يشي وجهه بتعبير ما.

تكلَّم الأخير فجأةً وهو يستخرج قطعةً كبيرةً من الورق المقوَّى من بين الملفات، فقال: «ما هذا؟»

كان يشير إلى عدد من الصور المنتزعة من المجلات المصوَّرة، ألصقتها في براعة فوق قطعة الورق حتى بدت وكأنها صورة واحدة يتصدَّرها الرئيس الأمريكي كارتر، معطيًا وجهه لنا وهو ينظر فوق رءوسنا، بما يتفق مع منصبه من جلال، وإلى جواره مباشرةً صورة صغيرة الحجم للغاية لرئيس الوزراء الإسرائيلي بيجين، وقد استَبدلتُ سرواله الطويل بآخر صغير لأحد التلاميذ، فبدا الاثنان كما لو كانا أبًا وابنه. وفي نصف دائرة أمامهما ألصقتُ مجموعةً من صور أبرز الشخصيات في العالم العربي، من رؤساء وملوك وقادة ومفكِّرين ورجال أعمال، راكعين في وضع الصلاة وقد أعطَوا مؤخِّراتهم لنا.

ابتسمت مجيبًا: «إنها هواية أُمارسها بين الحين والآخر، فأنا أقص صور الأشخاص المعروفين من المجلات وأعيد لصقها على الورق المقوَّى بعد أن أختار لها الأوضاع التي تناسبها، وأضيف إليها صورًا أخرى في أوضاع مكمِّلة، إلى أن أحصل على لوحة متكاملة.»

ظلَّ يتأمَّل اللوحة باستغراب، فأضفت بعد لحظة: «كما تعلمون، فإن هناك مدرسةً فنيةً كاملةً تستند في عملها على أساس مشابه. وللوهلة الأولى يبدو الأمر بسيطًا للغاية، لكن الوصول إلى نتائج قيمة يتطلَّب النجاح في إيجاد ارتباطات تجمع بين الطرافة والجِدة من ناحية، والعمق الفكري من ناحية أخرى.»

لم يفُه بشيء، وإنما وضع اللوحة على جانب كأنما يريد العودة إليها فيما بعد، واستأنف البحث بين أوراقي.

أمَّا القصير فخاطبني دون أن يرفع بصره لحظةً عن البطاقات التي كان يفرزها في عناية: «لم نكن نتصوَّر أنك جمعت هذا القدر من المعلومات. إنه أمر يُثير الإعجاب حقًّا، بقدر ما يدعو للأسف.»

لم يُدهشني معرفة اللجنة بما أفعل، ولا استخدام القصير للغة العربية في حديثه؛ لأني كنت متأكِّدًا من إجادة أعضاء اللجنة لها. لكني انزعجت لكلمته كثيرًا، وانتظرت في قلق أن يوضِّح ما يعنيه.

رفع إليَّ عينَيه فاكتشفت لأول مرة أن بهما حَوَلًا منفِّرًا زاد خلقته قبحًا على قبح، ومضى يقول: «كنا نظن أن العقبات التي صادفتك ستصرفك إلى موضوع آخر. والواقع أننا كنا نتمنَّى ذلك لأننا … لأن هناك بين الأعضاء الموقَّرين من يعلِّق آمالًا كبيرةً عليك.»

غاض الدم من وجهي، وتعلَّقت عيناي بعينيَه القبيحتَين، بينما استطرد وهو يتخلَّى عن البطاقات، ويتراجع بكرسيه إلى الوراء: «يمكنك أن تقرِّر لنفسك الآن ما إذا كنت ستستمر في هذا الموضوع أو تنتقل إلى غيره؛ فنحن لا نقسر أحدًا على شيء.»

قلت بانفعال: «بعد كل هذا الوقت؟! لقد أوشك العام على الانصرام!»

قال بحزم: «هذه نقطة غير مهمَّة؛ فبوسع اللجنة أن تعطيك من الوقت ما تحتاج إليه.»

ضممت يدَي وضغطتهما في عنف وأنا أقول في صوت متوسِّل، متغلِّبًا على كراهيتي له التي كان هو مبعثها: «لكني قطعت شوطًا طويلًا وقاربت على الانتهاء.»

قال أحد العسكريين الذي دخل الحجرة أثناء الحوار واستمع إلى شطر منه: «ولمَ تفكِّر في مغزى ما تقوم به ونتائجه؟»

قلت مدافعًا عن نفسي: «لقد قمت ببحث رائده الموضوعية الشديدة. ولم أُعنَ بغير الحقائق المؤكَّدة والتعليلات العلمية. وقد انتهيت تقريبًا من جمع المعلومات الضرورية وترتيبها، ولم يعُد أمامي سوى استخلاص مدلولاتها، والربط بينها في تحليل كامل متسق.»

قال القصير في حِدة: «وهذا بالضبط ما حفَّزنا إلى الحضور لتوجيه النصح إليك.»

كان بقية أعضاء اللجنة قد أخذوا يتوافدون، فجلست السيدتان على حافة الفراش، وبجانبهما أحد العسكريين، واستقرَّ عسكري آخر على مقعد بمسندَين إلى جواره، وانضمَّ الثالث وبعض الأعضاء إلى العضو الأشقر عند المائدة، واستند آخرون إلى مسندَي المقعد وخزانة الملابس وباب الغرفة. وقدَّم إليهم القصير بعض البطاقات، لاحظت بينها تلك المستقاة من المجلة الأمريكية، فتناقلوها بينهم في صمت، ثم جعلوا يتطلَّعون إليَّ وقد أحاطوا بي في شبه حلقة.

توجَّهت إليه بالحديث مستعطفًا: «لقد اخترتَ شخصية «الدكتور» بعد تفكير وتمحيص طويلَين؛ فانتقاء ألمع الشخصيات في العالم العربي أمر بالغ الصعوبة بحكم تعدُّد البلاد وانتشار التعليم وتنوُّع وسائل الدعاية وكثرتها وبالتالي …»

قاطعني القصير في غضب: «وبالتالي وجود كثير من الشخصيات اللامعة، ها أنت تعترف بالأمر.»

أجبته في حماس: «لكننا لن نجد من هو ألمع وأكثر حضورًا في كل مكان بالعالم العربي. ويكفي أن فكرة الوحدة العربية ترتبط باسمه هو بالذات ارتباطًا وثيقًا؛ فهو من دُعاتها الأولين، كما هو معروف، لكن ما يجهله كثيرون، وما أثبتُّه بالوثائق، أنه أيضًا من أبرز دعاتها والمؤمنين بها في هذا العقد الذي انحسرت فيه الدعوة. والمثير في الأمر أن الوحدة التي لم تتحقَّق في فترة صعود الدعوة إليها، قد تحقَّقت الآن في فترة انحسارها، وهو ما لا يتبدَّى للرائي من الوهلة الأولى عندما يجابه بالاختلافات والمنازعات السائدة بين الأنظمة المختلفة. لكنه إذا ما تمعَّن الأمر، وجد تحت السطح الخدَّاع وحدةً متينةً لم نعهد مثلها قبل الآن، يرجع إليه الفضل في تحقيقها، وهي وحدة السلع الأجنبية المستخدمة من الكافة.

وأؤكِّد مرةً أخرى أن الوثائق التي جمعتُها قد أثبتت علاقته الوثيقة بكافة الأحداث المصيرية التي تعرَّضت لها أمتنا طوال الأعوام الثلاثين الماضية. واليوم تتجمَّع في يده — أكثر من أي يوم سابق، أو أي شخص آخر — الخيوط الأساسية لمستقبلها.

ويكفي للتدليل على ذلك أنه هو الذي توسَّط لدى الشركات العالمية العملاقة من أجل إمداد أُمتنا بأحدث الأجهزة والابتكارات التي وصَّلتنا بحضارة العصر، بدءًا من حقائب «السامسونايت» والترانزستورات إلى الإلكترونات وطائرات الجامبو، ومن معاجين الأسنان والحلاقة إلى معطِّرات الفروج وعقاقير الفحولة. وفي هذا الإطار أوْجَد مجالًا واسعًا للكفاءات من العلماء وأساتذة الجامعات وخبراء التخطيط الذين عنت الأنظمة العربية بإعداد مئات منهم، ثم حالت بينهم وبين استثمار مواهبهم بصورة تعود عليهم وعلى أمتهم بالنفع.

على أن هناك جوانب أخرى للموضوع، أرجو أن يتسع صدركم لسماعها؛ فقد استهوتني شخصية «الدكتور» لأني وجدت في تناولها مجالات متعددةً للبحث تكشف لكم عن مواهبي المتنوِّعة من ناحية، وتُعطي للدراسة نفسها أبعادًا مختلفةً تغنيها وتضفي المزيد على أهميتها، من ناحية أخرى.

ولقد كنت أفكِّر في هذه النقطة بالذات عند تشريفكم لي، وقدَّرت أن المنهاج التقليدي في التناول، الذي يقوم على تتبُّع تطوُّر السيرة الشخصية، يجب أن يُستبدل بمنهاج آخر يتألَّف من عدة مباحث في فروع مختلفة من العلوم.

فهناك مبحث هام في علم الجمال عن العلاقة بين الوطنية المتطرِّفة وخلع الأشجار، يتصل به بحث آخر في الاقتصاد عن دور البيع والشراء في حياة الأمم والأفراد، وثالث في علم الأخلاق حول اندثار الأمانة والصدق والشرف، ورابع في السيكولوجيا عن عوامل القلق التي تدفع العباقرة والرواد إلى التنقُّل بين ميادين النشاط، وهي دراسة قد تؤدِّي إلى اكتشافات هامة بالنسبة لطفولة «الدكتور» وظروف رضاعته.

وثمة مبحث خامس في علوم السياسة والإدارة حول فن صياغة وعي الجماهير، وتوحيد معتقداتها وأذواقها، ثم استبدال هذه المعتقدات والأذواق بغيرها، بين الحين والآخر، في سهولة ويسر.

وإنه ليسعدني أن أُعلن بكل فخر أني قد عثرت على قصائد رقيقة مجهولة من نظمه، وإشارات متناثرة إلى آرائه في المسرح والسينما والغناء، تصلح أساسًا لدراسة مبدعة في آداب العصر وفنونه.

ويتصل بذلك مبحث مستقل عن التطوُّر الذي لحق باللغة العربية ويتمثَّل في اختفاء كلمات معيَّنة، وظهور كلمات جديدة، بعضها منحوتات فذة ليست لها سابقة؛ مثل «التهليب» و«التطنيش»، والبعض الآخر اشتقاقات مبتكرة من كلمات مألوفة مثل «التنويع» و«التطبيع» و«التحريك».

وقد أوحى لي ما يتميَّز به «الدكتور» من مرونة في التفكير، وقدرة على تعديل المواقف والآراء التي يثبت خطؤها، أو يتعذَّر تحقيقها، ببحث فريد في علوم التربية وبناء الشخصية. وبسبب ما أُعلِّقه من أهمية خاصة على هذا البحث أرجو أن تسمحوا لي بشيء من الاستطراد في هذه النقطة بالذات لأقدِّم إلى حضراتكم مثالًا لِمَا أعنيه، مستمدًّا من وقائع المقابلة الأولى التي تشرَّفت بها في مقركم، وأقصد بذلك حديثي المستفيض بشأن الكوكا-كولا.

فهذه الزجاجة، كما تعلمون حضراتكم، دخلت بلادنا في أواخر الأربعينيات وأوائل الخمسينيات، في ظل حملة إعلانية هائلة سهَّلت من انتشارها حتى بلغت أقاصي القرى والنجوع، وصار اسمها على كل لسان، لكنها لم تلبَث أن بدأت في التراجع بعد الثورة. وقد تبَّينت أن «الدكتور» كان — مع عوامل أخرى — مسئولًا عن هذا التراجع؛ ذلك أنه شارك في محاولة لمنافستها بشراب محلي كُتب لها النجاح إلى حين.

أمَّا الضربة القاصمة فجاءت في بداية الستينيات عندما اكتشفت أجهزة المقاطعة العربية أن الشركة الأمريكية أعطت حق التعبئة للإسرائيليين. وترتَّب على هذا أن وُضعت الكوكا-كولا في القائمة السوداء ومُنعت من دخول البلاد العربية، فأصبح السوق خاليًا أمام «الدكتور».

إلا أن الأحوال لا تثبت على حال كما تعلمون؛ فمن ناحية فشل مشروع «الدكتور» لأسباب عديدة لا محل لسردها الآن، ومن ناحية أخرى لم تعُد للمقاطعة المذكورة — بين ليلة وضحاها — من ضرورة. وكان «الدكتور» مبادرًا، في الوقت المناسب، على الربط بين الأمرَين. وسبق بجهوده من أجل إزالة العقبات والحواجز التي فصلت طويلًا بين الشراب المنعش وعشاقه من المصريين. وكافأته الشركة على جهوده بأن منحته امتياز التعبئة في زجاجة وطنية.

ولعلكم توافقونني، أيها السادة والسيدات، على أن هذا الإجراء من جانب الكوكا-كولا هو — من أحد نواحيه — بمثابة شهادة بارزة في حق «الدكتور»، بالنظر إلى أن الشركة الأم لا تعطي هذا الامتياز إلا لألمع الناس في كل بلد.

وأرجو المعذرة إذا كانت هذه النقطة ذكَّرتني بمجال آخر واسع، تفتحه سيرة «الدكتور» أمام الباحث الطَّموح، وأقصد بذلك حياته الجنسية التي اتسمَّت بنشاط غير عادي؛ فمثل هذا النشاط قد تكون له أوجه متباينة للغاية. فمن خصوبة زائدة يمكن دراسة أسبابها للاستفادة منها وتعميمها، إلى محاولة دائمة لنفي ميول لوطية كامنة، أو بحث عن الأم تمخَّض عمَّا يتجلَّى في سلوكه الاقتصادي بوضوح من قلق دائم، ورغبة جارفة في الانتماء.»

شعرت أن حلقي جفَّ فتوقَّفت عن الكلام، وتأمَّلت وجوههم لأتبيَّن أثر حديثي، لكن ستارًا كثيفًا من الجمود كان يغطِّيها.

بللت شفتَي بلساني، ثم استجمَّعت قوتي في محاولة أخيرة، فانطلقت أقول: «وأحب أن أصارحكم، أيها السيدات والسادة، بشيء آخر له أهمية خاصة؛ فقد كشفت لي الدراسة التي قمت بها عن عديد من العلاقات والارتباطات الخفية بين مجموعة من الظواهر المتنوِّعة والغريبة. وأعتقد أني قادر، في وقت قريب للغاية، على أن أُميط اللثام عن بعض الألغاز والفوازير التي حيَّرت الكثيرين حتى الآن.»

بدا عليهم الاهتمام فجأة، فأضفت في صوت حاولت أن أُضمِّنه كل ما أملك من رقة ولطف: «إني واثق أنكم من السماحة وسعة الصدر بحيث تُتيحون لي مواصلة العمل الذي بدأته.»

تكلَّم الرجل الأشقر في لهجة صارمة: «نحن لا نُرغمك على شيء، فأنت حر في الأمر.»

وتطلَّع إلى ساعة يده وهو يفكِّر بعمق، ثم أضاف: «سننصرف الآن؛ فلا يمكننا البقاء أكثر من ذلك، وسيبقى رفيقنا (وأشار إلى زميله القصير) معك إلى أن تنتهي إلى قرار.»

مدَّ يده فتناول لوحة الرئيس كارتر، وجمع الرجل القصير البطاقات التي تضم مقال المجلة الأمريكية، والكُرَّاس الأصلي الذي نقلت عنه، وقدَّمها إلى زميله الأشقر فأخذها في صمت، ولم أجرؤ على الاعتراض.

اتجه الأشقر إلى باب الغرفة، وتَبِعه بقية الأعضاء، بينما ظلَّ القصير جالسًا إلى مكتبي. وعندما أردت مرافقتهم أشار لي أن أبقى في مكاني.

قلت محتجًّا: «أخشى أن يتعثَّروا في الظلام؛ فالدرَج بلا نور، كما لعلك لاحظت، وبوسعي أن أعاونهم بمشعلي الكهربائي.»

أجابني في قحة: «معهم مشاعلهم وليسوا في حاجة إلى معاونتك.»

أنصتُّ لوقع أقدامهم فوق الدرج، ولصوت الباب الخارجي عندما أغلقه آخر من خرج منهم، بينما كنت أتأمَّل الوجه القبيح الذي بقي معي، وقد هبط عليَّ إدراك مفاجئ بأني وقعت أخيرًا في يده.

لكني شعرت في نفس الوقت أن المحنة المقبلة — التي سيتوقَّف عليها مصيري — ستكون فاصلةً في شأنه هو الآخر.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤