دراسة الصيدلة

(١) علم الكيمياء

لا شك أن الكيمياء والصيدلة توأمان متلازمان، وقد عرف الأقدمون كثيرًا من علوم الكيمياء، فاستخرجوا المعادن وأكاسيدها من مصادرها الطبيعية، واستعملوا الكثير منها في علاج أمراضهم، وعرفوا طرق الصباغة وتركيب الألوان المدهشة الثابتة، وتفننوا في دباغة الجلود وصناعة الزجاج، ونبغ قدماء المصريين فوق ذلك في التحنيط الذي كان وسيظل سرًّا من أسرارهم الكيماوية.

وأول ما شغل الأقدمين من علوم الكيمياء هو بحثهم المتواصل دون تعب أو ملل عن «أكسير الحياة» الذي لا يجعل لها نهاية، وعن «حجر الفلاسفة» الذي يحول جميع المعادن إلى الذهب البراق، وقد ضحى كثير من هؤلاء الباحثين ثروته ووقته دون نتيجة، وظلت أبحاثهم هذه متواصلة زمنًا طويلًا.

ودرس علماء الإغريق القدماء خواص المواد الطبية، وقسموها أقسامًا مختلفة كما ذكرنا، وعرفوا منها الأحماض والقلويات والأملاح، وعرفوا من الأحماض الخل والنبيذ المختمر، ودرس دايسقوريدس بتوسع خواص القلويات، وقسمها إلى قوية وضعيفة.

ويبدأ تاريخ الكيمياء الحديثة في القرن الحادي عشر حيث يقول Suideus في قاموسه إنها علم يبحث عن تحضير الفضة والذهب.
وبقيت علوم الكيمياء كذلك حتى أواخر القرن الخامس عشر حين قال Paracelsus عام ١٤٩٣–١٥٤١: إنها ليست تحضير الذهب والفضة بل هي «فن تحضير الأودية».

وجاء بعده في القرن السادس عشر فان هلموت ١٥٧٧–١٦٤٤ فثنى على كلام سابقه، وأجرى أبحاثًا كثيرةً في الكيمياء الدوائية الصيدلية.

وجاء في القرن السابع عشر الصيدلي جلوبير ١٦٠٤–١٦٦٨، فاشتغل كثيرًا في الكيمياء الصيدلية، واكتشف سلفات الصودا وكثيرًا من مركبات حمض الكبريتيك الأخرى.

ومنذ ذلك الوقت أخذت الكيمياء الدوائية في الارتقاء حتى وصلت أوج عظمتها في القرن التاسع عشر، واكتُشفت كثير من المواد الهامة مما يأتي ذكره.

وفي هذا العصر الباهر أصبح الصيادلة يتعلمون في حياتهم المدرسية الأفرع الآتية من الكيمياء:
  • أولًا: Pharmaceutical Chem، وهي الكيمياء الخاصة بالمواد الطبية الدستورية ومعرفة درجة نقاوتها وطرق تقديرها، وكشف غشها وكل ما يتعلق بها.
  • ثانيًا: Analytical Chem، وهي الكيمياء الخاصة بالتحاليل كتحليل البول واللبن والدم والمواد الصناعية مثل الصابون وغير ذلك.
  • ثالثًا: Forensic Chemistry (الكيميا الشرعية)، وهي الخاصة بالحوادث الجنائية.

(٢) الحيوانات في الصيدلة

إن الرغبة في الانتفاع بكثير من أعضاء الحيوانات المختلفة في الصيدلة ليست وليدة العصر الحديث، بل كانت منتشرة بين البشر منذ الخليقة ولكن بصورة بشعة أدعى إلى الوحشية.

وقد استعمل قدماء المصريين الكبد في علاج حالات الأنيميا الحادة كما تستعمل الآن هذه الطريقة في عصرنا الحديث.

واستعمل قدماء المصريين البراز لكثير من الحالات المرضية، واستعمل قبائل الهمج قلوب الأُسد والنمور للتقوية والجرأة والإقدام.

وجاء القرن السابع عشر فاهتمت دوائر الصيدلة البريطانية بهذه الأدوية الحيوانية، وأفردت لها جدولًا خاصةً في دساتير لندن، ومن أهم ما ذكرته هذه الدساتير:

القط، الأرنب، عنبر خام، النمل، الزراريح، الإنسان، الإوز، الماعز، الضفدع، الكلب، البول، العاج، الجبن … إلخ.

وأهم ما يلفت نظر الباحث في تاريح الصيدلة هو استعمال أجزاء الإنسان المختلفة في المداواة، ويغلب أن يرجع تاريخ ذلك إلى عصور أكلة البشر، وقد ذكر عام سنة ١٧٥٩ في كتاب Lemery’s dictionnaire univerable des drogues Simple كثير من أعضاء اﻟ Homo أي: الإنسان، مثل الجمجمة والمخ وكعاب الطفل للدغ الثعبان والكلب المسعور، وإفرازات الأذن للدحس، ونبيذ الأظافر للقيء، ولبن الأم للأمراض الصدرية، وكوبتين أو ثلاث من البول الطازج على الريق ضد النقرس والهستيريا، وبراز الإنسان الجاف المسحوق للصداع والحمى المتقطعة.
وفي عام ١٦٦٣ ذكر بخلر في كتابه: Paranassus Midicinalis أن نبيذ عظم الإنسان مفيد للدوسنطاريا، وزيت العظم للروماتزم، ودهن الإنسان كدهان منشط لضعف الأعضاء.
وفي عام ١٦٩٤ كتب Moses Charas ما يأتي: يبيع الصيادلة في لندن جماجم الموتى التي ينمو عليها الطحلب الأخضر، ويأتون بها من أيرلندا حيث يشنق المجرمون، ويتفاوت ثمن الجمجمة بين ٨–١١ شلنًا، وكانت تستعمل في تحضير المرهم السمبتاوي.

وفي تذكرة مشهورة كتبها أربعة من مشاهير الأطباء (قومسيون) لشارل الثاني يصفون مقدار ٢٥ نقطة من روح جمجمة الإنسان.

ويرجع استعمال البراز في الصيدلة إلى أيام دايسقوريدس ثم ذكر في دستور لندن، وقد ذكر جلوبير أنهم كانوا يستعملون براز الفيران والإوز منقوعًا في النبيذ كشربة.

وكانوا يقطرون براز الأطفال مرتين، ويأخذون الزيت الحاصل لاستعماله في حالات السرطان، وكانوا يجمعون براز الكلاب البيضاء ويجففونه ويسحقونه لاستعماله في المغص والدوسنطاريا والبثور والقرحات.

وكانوا يستعملون أجزاء الأفعى المختلفة مثل الرأس والسم في كثير من مستحضراتهم، وكانت أبحاث Moses Charas قيمة جدًّا في هذا الباب، وكانوا يشربون نبيذ الأفاعي للتقوية، ولا زال علماء العصر الحديث يجرون أبحاثًا كثيرة على سم الأفعى. ومن أهم مستحضرات القرن العشرين هو المستحضر المسمى Cobranyl (ويقوم بعض أطباؤنا الأفاضل بأبحاث خاصة في ذلك).

وارتقت هذه الصيدلة الحيوانية، وحضر الصيادلة الكثير من المواد الفعالة، وأهمها الإنزيمات؛ مثل البنكرياتين والأنسولين، وكثيرًا من خلاصات الغدد؛ مثل خلاصة الغدة الدرقية وخلاصة المبيض، ويوجد منها الكثير من المستحضرات في الأسواق، وخلاصة الخصيتين وخلاصة مجموع الغدد، والأدرينالين وخلاصة الكبد والأمصال واللقاحات، وأصبح لهذه الصيدلية الحيوانية كيمياء خاصة ودراسة خاصة.

(٣) السموم في الصيدلة

علم السموم وهو معرفة خواص المواد السامة وقوة تأثيرها ومعرفة علاجها وطرق كشفها، وهو أول ما عرفه الإنسان في فطرته عن النباتات وخواصها؛ ولذلك درس الأولون هذه المواد السامة دراسة تعد بالنسبة لعصورهم قيمة، وحضروا لها الترياقات المضادة Theriaca التي اشتق منها الاسم العربي، وقد كانت هذه الترياقات من أشيق الموضوعات وأهمها التي بحث فيها العلماء والملوك والأمراء في تلك الأزمان، واخترعوا منها الكثير، وظنوا أنها تنفع لعلاج الأمراض، وتقي من فعل السموم.
وإن الاسمين الإغريقين للصيدلة والسم مترادفان؛ ولذلك استعمل الإنجليز في البدء كلمة Potion & Poison دون تمييز بينهما حتى عصور قليلة فائتة.

وقد تعلم الإنسان بفطرته وملاحظة معيشته الحيوانية خواص كثير من النباتات السامة، فعرف زنوج أمريكا الكوكا، وزنوج إفريقيا الاستروفانتوس، والعرب النباتات التي تعقر الإبل فتميتها، ومنها جاءت كلمة عقار.

وينسب الإغريق اكتشاف السم إلى Hecta وبناتها ويقولون: إنها كانت تسكن جزيرة Colchis التي اشتق منها اسم اللحلاح، وهي أول من اكتشف خانق الذئب أيضًا.
واهتم الملوك أنفسهم بدراسة العقاقير المختلفة وخواصها السامة، وعملوا أصنافًا من الأدوية مضادة لها، وأصبح كل ملك أو أمير في نفسه (صيدليًّا)، وقد كان أحد هؤلاء الملوك Mithridates مكتشف أول ترياكا.
ومن أهم ما استعمله القدماء هو Mandragora اليبروح الصنمي وBelladonna ست الحسن وHenbane السكران، ويروون أن القائد العظيم القرطاجني هانيبال لما غزا شواطئ إفريقيا ولم يوفق إلى الانتصار عليها عمد إلى الحيلة، فتراجع أمام الأعداء، وترك وراءه أدنانًا من النبيذ المنقوع فيه بذور السكران، فاغتنمها الأعداء وشربوا ما فيها، فرجع إليهم هانيبال ونكل بهم شر تنكيل.
واخترع علماء الإغريق اﻟ Theriaca وقسموها إلى أربعة أقسام:
  • (1)
    Antidotus Mithridates Damocrates.
  • (2)
    Electauruim Theriacle Magnum.
  • (3)
    Theriaca Mithridatum.
  • (4)
    Theriaca andromachus.

وهذه الأخيرة تحوي لحم الثعبان، وظلت هذه الأصناف الأربعة تصنع حسب الأصول التي وضعها مخترعوها، وتباع بأبهظ الأثمان في أمهات المدن حتى القرن السابع عشر.

ثم انتشر في القرن السابع عشر أكل مركبات الزرنيخ بكميات قليلة كترياق ضد السموم المختلفة.

ولم يمض القرن الثامن عشر حتى أصبح علم السموم Toxicology فرعًا من فروع الصيدلة الهامة يدرسونه بشغف عظيم.

وفي عام ١٨٣٦ اكتشف «مارش» طريقته المعروفة لكشف الزرنيخ، وكانت فاتحة طيبة لتقدم هذا العلم.

ثم بدأ العلماء يفكرون في طرق اكتشاف أسرار الجرائم ومعرفة أسبابها والسموم المستعملة في ذلك، وأنشئت مصالح الطب الشرعي التي قوامها الكيمياء وعلم السموم.

(٤) علم العقاقير

وهو كما ذكرنا أقدم فروع الصيدلة؛ لأنه يبحث في النباتات الطبية ونسبها وتشريحها وأصولها الفعالة، وقد تقدم هذا العلم في القرن العشرين تقدمًا عظيمًا.

(٥) المادة الطبية

ولما درس الإنسان المواد الكيماوية الطبية وعرف مفعولها وتحقق من أصول النباتات الفعالة وخصائصها، حدد جرعاتها وبحث في طرق تحضيرها وتقديرها، وذكر المستحضرات المختلفة التي تدخل في تركيبها وفوائدها الطبية.

(٦) علم الصيدلة العملية

ثم لما رأى الصيدلي أن مستحضرًا واحدًا قد تختلف هيئته ولونه تبعًا لاختلاف طرق تحضيره، ذكر لذلك أصول التحضير، ورسم خططًا ثابتة في دستور ثابت يسير عليه كل صيدلي، وبذلك ظهر علم الصيدلة العملية Practical Pharmacy، وارتقى ارتقاءً عمليًّا يناسب روح العصر الحاضر في تحضير الخلاصات والصبغات والحبوب وغيرها، وهو يهدي الطالب إلى فن تركيب الدواء بما يتفق والأصول العلمية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤