الكونية والمرأة والفساد

عدت إلى الوطن بعد غيبة أربع سنوات، كنت أستاذةً زائرة في جامعة ديوك بولاية نورث كارولينا في أمريكا الشمالية، قمتُ بتدريس مادة «الإبداع» للطلاب والطالبات من مختلف الجنسيات، منهم مصريون وعرب وُلدوا في أمريكا، أو نزحوا إليها، يدور الحوار في الفصل حول الإبداع الأدبي، إلا أن الأدب غير منفصل عن الثقافة أو التربية أو الأخلاق أو الدين أو الاقتصاد أو السياسة.

في الحياة الأكاديمية الأمريكية يمكن للأساتذة والأستاذات أن يتحدثوا في أي شيء، ويتشكَّكوا في جميع الحقائق الكبرى، أو الثوابت المقدسة، ما دام أن حديثهم هذا داخل الفصل، لا يهز شعرةً واحدة في القوة الكونية الدولية بالبيت الأبيض، أو دعائمها الاقتصادية والعسكرية. تنفصل الحياة الأكاديمية داخل الجامعة عن الحياة خارجها في الغرب والشرق والشمال والجنوب، بمثل ما ينفصل الاقتصاد عن الأخلاق أو التربية داخل الأسرة.

في الصحف الأمريكية انتشرت المقالات عن الكونية، هذا الموضوع الذي أصبح «موضة» العصر، وانتقل إلى بلادنا الأفريقية والعربية بمثل ما تنتقل موضات الأزياء وماكياج النساء، يلي ذلك في الانتشار المقالات عن الفساد والرشوة، حتى الرئيس الأمريكي «بيل كلينتون» وزوجته «هيلاري» لم تكفَّ صحافة الحزب الجمهوري عن كشف الفساد الاقتصادي (الرشوة) فيما سُمي فضيحة أو قضية «هوايت وورتر».

يلي ذلك في الانتشار المقالات عن المرأة أو الجنس أو الأمراض الجنسية مثل «الإيدز»، أو فضائح العلاقات السرية بين الحكام والعشيقات، إلى غير ذلك مما نشهده في جزءٍ كبيرٍ من صحافة الإثارة الجنسية والسياسية بهدف زيادة التوزيع.

لا يمكن للمفكرين أو الكُتاب الأمريكيين المنتشرين في الإعلام والصحف، أو الأساتذة في الجامعات أن يلعبوا دورًا كبيرًا في تنوير الشعب الأمريكي، بأهم قضايا العصر، وعلى رأسها القهر الاقتصادي والجسدي الواقع على الفقراء والنساء الأمريكيات، وقد تزايد الفقر في الولايات المتحدة، واشتدَّت الهوة بين الأثرياء والفقراء، وتراجعت الأصوات المطالبة بتحرير النساء من القهر المزدوج (الاقتصاد والجنس) بسبب الضغوط المتزايدة من قوى اليمين المتصاعدة تحت شعاراتٍ سياسيةٍ أو دينية، هناك أيضًا تلك التيارات التي يسمونها «الأصولية المسيحية» التي تدعم النظام الرأسمالي الطبقي الأبوي، وتدعو إلى عودة المرأة إلى حظيرة البيت والدين، وتتبنَّى الأفكار العنصرية المعادية للطبقات الفقيرة والبشرة السوداء.

هناك بالطبع معارضة لهذه الردة، إلا أنها ضعيفة لا تملك وسائل الإعلام رغم أنها تعبر عن الأغلبية المقهورة من النساء والرجال في أمريكا الشمالية. في الانتخابات الأخيرة امتنعت هذه الأغلبية عن التصويت لصالح الحزب الديمقراطي أو الحزب الجمهوري، كلاهما سيئ كما قالت لي زميلتي الأستاذة في جامعة ديوك «نحن نعيش ديمقراطيةً مزيفة؛ لأن أصحاب الأموال هم فقط القادرون على خوض هذه المباراة الانتخابية، وقد نجح في ولاية نورث كارولينا رجل يملك الملايين، ودخل الكونجرس رغم أنه فاسد.»

والسؤال: لماذا يستمر الفساد — بل ربما يتزايد — رغم كل هذا الكلام عنه؟! سألت أحد كبار الأساتذة في مصر: ماذا يعني بالفساد؟ فقال لي: «السرقة والرشوة والاختلاس.» إذن الفساد يتعلق بنهب المال أو الرشوة التي أصبحت سائدة بين الحيتان الكبيرة والصغيرة. إلا أن القانون والعرف لا يعاقبان إلا الأضعف أو الأصغر، وينجو من العقاب الأقوى أو الأكبر.

وضع بعض الأساتذة إصبعهم على هذا الفساد الاقتصادي الشائع، والتناقض في القانون الذي يعاقب المرتشي ولا يعاقب الراشي، رغم أنه الفاعل الأصلي، وهو الذي يملك وسائل الرشوة أو الإفساد.

إلا أن هذا الأمر ظل محدودًا داخل المجال الاقتصادي فحسب، لم أقرأ شيئًا عن الترابط بين الفساد الاقتصادي والفساد الأخلاقي في الحياة الشخصية للأفراد، أو عن الترابط بين التناقض في قانون العقوبات (الخاص بالرشوة مثلًا)، والتناقض في قانون الأحوال الشخصية أو القوانين الأخلاقية التي تحكم العلاقة بين النساء والرجال.

إن الرجل مثلًا لا يعاقب في القانون أو العرف إذا أقام علاقة غير أخلاقية مع المرأة، إذا ضُبط رجل مع امرأة هي التي تعاقَب وحدها، ولا يكون الرجل إلا شاهدًا عليها، وبالمثل أيضًا فإن الراشي لا يعاقب (حسب قانون العقوبات المادة ١٠٧) إذا اعترف على المرتشي في التحقيق.

قليلون من المفكرين الرجال أو النساء الذين يربطون بين سلوك الإنسان العام وسلوكه الخاص، فالرجل بريء في نظر القانون والعرف رغم أنه الفاعل الأصلي في العلاقات غير الأخلاقية، والراشي بريء في نظر القانون والعرف رغم أنه الفاعل الأصلي في عملية الرشوة.

كيف درجنا على عقاب الضحية وتبرئة الجاني لمجرد أنه يملك المال أو السلطة أو الذكورة؟! هذه القيم القديمة منذ العبودية لا تزال تتحكم في القوانين العامة والخاصة حتى اليوم، وهي في رأيي أحد الأسباب الرئيسية في استمرار الفساد على المستوى العام والخاص معًا.

فالإنسان ينقسم قسمَين واحدٌ عام وواحدٌ خاص، والرجل الذي يُقَدِّم الرشوة هو نفسه الرجل الذي يخون زوجته، أو يسعى إلى امرأةٍ أخرى دون علمها.

ربما يكون هذا الفساد الأخير أكبر من الرشوة؛ لأنه يمس أعمق ما في الإنسان، حياته الخاصة، علاقته بجسده وأجساد الآخرين، وهي أخطر من العلاقة الاقتصادية أو تبادل الأوراق المالية، التي وإن عظمت فهي لا ترقى إلى العلاقات الجسدية وتبادل المشاعر، أو العلاقات الشخصية التي تلعب دورًا رئيسيًّا في تكوين العقول والقيم لدى الأجيال المتعاقبة داخل الأسرة وفي المجتمع الكبير، من هنا يصبح الفساد في العلاقات بين النساء والرجال أشد خطورة من الفساد في العلاقات الاقتصادية، كلاهما مترابط على أي حال، ولا يمكن الفصل بين الاقتصاد والأخلاق أو التربية أو التعليم أو الإعلام أو السياسة المحلية أو الدولية.

قرأتُ الكثير من المقالات خارج الوطن وداخله عن السياسة الدولية والكونية والعولمة إلا أنها في معظمها أفكارٌ محدودة داخل المجال الاقتصادي أو السياسي، لا تُربَط (إلا نادرًا) بالقضايا الأخرى، لهذا السبب أيضًا يستمر الفساد على المستوى الدولي كما يستمر على المستوى المحلي كما يستمر على المستوى الشخصي أو الفردي.

يحكم الكون أو العالم في السياسة الدولية الفكرة ذاتها التي تعاقب الضحية؛ الدولة الأضعف مثلًا، على حين تخرج الدولة القوية الكبرى بريئة طاهرة الذَّيل، بل هي التي توقع العقوبات على البلاد الفقيرة، رغم أنها هي السبب الأصلي لهذا الفقر.

في الكونجرس الأمريكي، التقيت ببعض الأعضاء منذ شهور، قالوا لي: «نحن ندفع لمصر مليار دولار سنويًّا، وكذا لمعظم البلاد في أفريقيا وآسيا وأمريكا الجنوبية — ما يسمونه العالم الثالث أو الجنوب — يتبدد معظمها دون ضوابط أو حسابات.» وكأن أجهزة الحكم في البلاد الفقيرة هي سبب الفساد في الكون، أما الدول الكبرى فهي بريئة براءة الرجل الذي يخرج من فراش المرأة ليشهد عليها في المحكمة، وتُساق وحدها للسجن.

حتى البنك الدولي، الذي هو أحد الأسباب الرئيسية للتدهور الاقتصادي في أفريقيا، أصبح يتحدث عن فساد أنظمة الحكم في البلاد الأفريقية، كما يتحدث الرجال عن فساد النساء رغم أنهم شركاء في الجريمة، بل الفاعلون الأصليون.

إننا ندور في حلقةٍ مغلقة من الفساد العالمي إلى الفساد المحلي إلى الفساد الشخصي أو الفردي، ونادرًا ما يحدث الترابط بين هذه المستويات الثلاثة.

بدون هذا الربط لا يمكن أن نفهم الأسباب الحقيقية للفساد، وبالتالي لا يمكن الوصول إلى العلاج الحقيقي، بل المسكِّنات والمنومات والمخدرات.

لماذا لا يحدث هذا الربط؟ لأن التعليم في بلادنا (وفي بلادٍ أخرى كثيرة) يقوم على تجزئة المعرفة، وفصل الأدب عن السياسة، عن الثقافة، عن الاقتصاد، عن الأخلاق، عن الجنس، عن النفس، عن التاريخ والدين والمجتمع.

سألت أحد العلماء الأمريكيين المتخصصين فيما يسمى اليوم «علم الكونية»: هل قرأتَ شيئًا عن قضية المرأة؟ اتسعت عيناه بدهشة: ما العلاقة بين الكونية وقضية المرأة؟

حين عدت إلى الوطن سألت أحد العلماء المصريين (في علم الكونية) السؤال نفسه، وتلقيت الإجابة ذاتها: لا توجد علاقة بين الكونية وقضية المرأة.

بسبب هذه التجزئة في المعرفة تتعاقب الأجيال من الشباب والشابات العاجزين عن إدراك ما يدور في حياتهم العامة والخاصة، يعانون الانفصام ذاته الذي يعاني منه الأساتذة.

أما هؤلاء القلة الذين يعالجون هذا الانفصام في كتاباتهم، فهي تظل دائمًا بعيدة عن متناول الأغلبية الساحقة من القراء والقارئات، ذلك أنهم مطاردون خارج أجهزة الإعلام والصحف ذات التوزيع الكبير الواصل إلى الجماهير، وأغلبهم يعيش المنفى داخل الوطن أو خارجه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤