عن كرامة المرأة والختان

كنت خارج الوطن أشارك في مظاهرةٍ عالمية ضد الحرب الاقتصادية الدائرة ضد الشعوب الضعيفة غير المسلحة تحت اسم «الحصار» (الإمبارجو)، حين قضت المحكمة الإدارية لمجلس الدولة في مصر بإلغاء قرار وزير الصحة بمنع ختان الإناث بالمستشفيات والعيادات، قالت المحكمة: إن فقهاء الشريعة الإسلامية اختلفوا حول شرعية ختان الإناث، وإن الأطباء اختلفوا حول أضرار هذه العملية؛ ومن ثم فإن تقييد حق الأطباء لا يجوز بقرارٍ وزاري، وإنما يجب أن يصدر ذلك بقانون.

بعد انتهاء المظاهرة ضد الحصار في شوارع نيويورك أمام مبنى الأمم المتحدة، التقى وفد منا بالأمين العام (المساعد) للأمم المتحدة، وعدد من المسئولين في مكتب الأمين العام، وكان ضمن الوفد بعض الصحفيين الأمريكيين والعرب، الذين ما إن انتهى الاجتماع، حتى سألوني عن قرار المحكمة المصرية بشأن الختان. كان ذلك يوم أول يوليو ١٩٩٧، ولم أكن قرأت الصحف ذلك اليوم بسبب انشغالي بالمظاهرة التي نظمها أطفال العالم مع منظماتٍ أخرى عربية وأمريكية ضد قتل الأطفال والشعوب البريئة تحت اسم العقوبات الاقتصادية لحكوماتٍ معينة تغضب عليها الولايات المتحدة الأمريكية ومنها حكومة كوبا وليبيا والعراق وغيرها.

اندهشتُ ولم أندهش؛ لأن موضوع ختان الإناث أصبح موضوعًا عالميًّا مثل الحصار الاقتصادي، الذي يروح ضحيته آلاف الأطفال الإناث والذكور على حدٍّ سواء، ولا يختلف القتل الاقتصادي (التجويع) عن القتل الجسدي والجنسي لملايين الأطفال البنات في كثيرٍ من بلاد العالم تحت مسمياتٍ أخلاقية أو دينيةٍ مختلفة.

في الولايات المتحدة الأمريكية شهدتُ منذ عامَين مظاهرات الجمعيات الطبية ضد ختان الذكور والإناث في أمريكا الشمالية؛ إذ إن حوالي ١٠٫٠٠٠ طفلة في أمريكا تتعرض لعملية الختان كل عام، أغلبهن من أسر المهاجرين إلى الولايات المتحدة. دار الحوار في الكونجرس الأمريكي حول مضار الختان، بعد أن أثبتت الدراسات الطبية خطورة هذه العمليات على صحة الأطفال الإناث والذكور، إلا أن الخطورة على صحة الإناث أشد من الناحية البيولوجية والنفسية والاجتماعية.

قادت الحوار في الكونجرس نائبةٌ أمريكية دأبت على دراسة مضار الختان للإناث خاصة، اسمها باتريشيا شرودر Patricia Schroeder، وهي نائبة في الكونجرس للحزب الديمقراطي عن ولاية «كلورادو»، التي قدمت دراستها للكونجرس الأمريكي، تقول فيها: إن عشرة آلاف طفلةٍ أمريكية تتعرض لمخاطر الختان في الولايات المتحدة الأمريكية، وإنها عكفت على دراسة هذا الموضوع الخطير لتنقذ هؤلاء البنات البريئات، وإنها قرأت كتاب «الوجه الخفي لحواء» المترجَم إلى الإنجليزية عن كتاب د. نوال السعداوي الكاتبة والطبيبة المصرية، ولأنها تأثرت بهذا الكتاب؛ لهذا بدأت مشوارها الطويل ضد هذه العملية داخل البرلمان الأمريكي، وقدمت مشروع قانون لإلغاء هذه العملية في أكتوبر ١٩٩٣، كنت حينئذٍ أستاذةً زائرة في جامعة ديوك بولاية نورث كارولينا حين جاءني الخبر بالفاكس، وأرسلتُ إلى النائبة «باتريشيا شرودور» أطلب منها تفاصيل المشروع، وفعلًا أرسلت إليَّ نسخةً منه، ويتلخص في الآتي:
  • (١)

    منع الختان في الولايات المتحدة كلها، وعمل برامجَ تعليمية للقضاء على هذه العادة الخطيرة، خاصةً في الأحياء التي يعيش فيها المهاجرون من بلادٍ أخرى.

  • (٢)

    كل من يقوم بإجراء عملية ختان للإناث تحت سن ١٨ سنة يعاقب بالسجن لمدة خمس سنوات أو الغرامة المالية.

  • (٣)

    على وزارة الصحة وهيئات الخدمات الصحية عمل برامج تعليمية للأطباء والعاملين في مجال الصحة للتوعية بمضار هذه العملية، وضرورة المساعدة في القضاء عليها.

وقد نجحت النائبة النشيطة باتريشيا شرودر وزميلتها في الكونجرس باربرا روز كولينز Barbara Rose Collin في انتزاع قرار من الكونجرس بمنع ختان الإناث في الولايات المتحدة، أما ختان الذكور فلا تزال الجمعيات الطبية الأمريكية تسعى لمنعه رسميًّا أيضًا؛ إذ يتعرض آلاف الأطفال الذكور لمشاكلَ صحية ونفسية من جراء تلك العملية التي تتمسك بها الجاليات اليهودية في أمريكا، باعتبارها وردت في كتاب الله التوراة، إلا أن كثيرًا من اليهود الأمريكيين لم يعودوا يؤمنون بالتوراة، ويرفضون ختان أبنائهم.

حين عدت إلى مصر من نيويورك بعد المظاهرة العالمية ضد القتل الاقتصادي للشعوب البريئة قرأتُ مجلة المصور الصادرة في ٤ يوليو ١٩٩٧، وراعني ما قرأت، حاصةً ما جاء على لسان أحد كبار الدعاة، الذي قال إن الختان للإناث (أو الخفاض) كرامة للمرأة؛ لأنها بالختان تفقد شهوتها، فلا تكون طالبة للرجل (بل مطلوبة منه)، فالرجل لا يحب المرأة التي تطلبه، أو الغوراء (بعيدة الشهوة أو الشبقية دائمًا)، بحيث مثلًا إذا ركبت دابة واهتزَّت فارت شهوتها، فالختان إذن كرامة للمرأة.

دهشتُ لأن مثل هذا الكلام يُنشر على لسان واحد من أشهر الدعاة الإسلاميين، وله أتباعٌ كثيرون وكثيرات في بلادنا، ولم أقرأ ردًّا على هذا الكلام الخطير، الذي لا علاقة له بالعلم، أو الطب، أو صحة المرأة، أو حتى كرامتها وأخلاقها.

ومَنْ هي المرأة التي تركب الدابة اليوم؟ وإذا كان ركوب الدابة يُثير شهوة المرأة (بسبب احتكاك البظر بظهر الدابة) ألا يحدث ذلك أيضًا للرجل؟!

ماذا عند احتكاك العضو الذكري بظهر الدابة؟ لماذا لا نقطع إذن الأعضاء الذكرية للرجال بمثل ما نقطع بظور النساء؟!

من المعروف في علم الطب أن «مخ» الإنسان (الرجل أو المرأة) هو العضو الجنسي الأساسي، وهو مصدر الإثارة الجنسية، أي أن «عقل» الإنسان هو الذي يتحكم في شهوته سواء كان رجلًا أو امرأة، وإلا عشنا مجتمعًا همجيًّا يثور فيه الرجال والنساء بمجرد ركوب دابة أو دراجة أو شيءٍ من هذا القبيل!

إن الملايين من النساء في العالم غير مختتنات وهن يركبن الخيول والدراجات والنفاثات والدبابات، ولا تحدث لهن أي إثارةٍ جنسية لمجرد احتكاك شيء بأجسادهن!

إن هناك من يتصور المرأة «حيوانًا» يثور جنسيًّا لأي لمسة، وهذا تصورٌ خاطئ يدل على عدم دراية بالمرأة، أو ربما هو خيال بعض الرجال أو أحلامهم الكامنة في اللاوعي، يتصور الرجل منهم أن المرأة ستصاب بالإغماء من شدة الشهوة إذا ما لمسها بيده، إنها إحدى الخرافات المتوارثة في التاريخ منذ نشوء العبودية أو النظام الطبقي الأبوي، الذي أدان شهوة المرأة الطبيعية، وحرَّم عليها اللذة، واعتبرها مجرد أداة للولادة والخدمة في بيت الزوجية.

انعكست هذه القيم العبودية في بعض الأديان منها الدين اليهودي، وفي التوراة فقرةٌ واضحة تعاقب حواء؛ لأنها أكلت من شجرة المعرفة «تلدين في الأسى والألم، ويكون اشتياقك لزوجك وهو يسود عليك.» هذه الفقرة تشرح التحول من مبدأ المعرفة واللذة في حياة النساء إلى مبدأ الألم والأسى والخضوع للزوج، هذا المبدأ كان ضروريًّا لنشوء النظام الطبقي الأبوي، القائم على اسم الأب بعد أن كانت المجتمعات القديمة أمومية تقوم على «اسم الأم».

لقد حلت كثير من بلاد العالم الآن هذه المشكلة، وأصبح الأطفال يحملون اسم الأب واسم الأم معًا، وهذا تطورٌ إنسانيٌّ كبير، عدل ميزان العدالة الاجتماعية، الذي اختل منذ سيادة النظام العبودي.

لم يكن للنظام العبودي (الطبقي الأبوي) أن يسود ويستمر إلا بغرض القيود الجسدية والفكرية والقانونية على العبيد والنساء، أصبح الرجل العبد مجرد الجسد أو الآلة العضلية التي تعمل في الأرض بلا أجر إلا طعامه. كذلك المرأة، أصبحت هي العبدة، «الجسد» أو أداة للولادة والعمل في البيت وفي الأرض بلا أجر إلا طعامها.

كان لا بد من إصدار قوانينَ أخلاقية خاصة بالعبيد والنساء، تقوم على الزهد والعفة وإنكار اللذة في الحياة، حتى لذة المعرفة أصبحت محرَّمة في حياة العبيد والنساء مثل اللذة الجنسية.

في عصرٍ من العصور كان السيد مالك الأرض والسلطة يربط عبده بالسلاسل، حتى لا يهرب، ويربط الرجل زوجته أيضًا بسلاسلَ أخرى، منها حزام العفة، أو يغلق أعضاءها الجنسية بالدبابيس والمسامير، حتى لا يقربها رجلٌ آخر في غيابه.

كان «الختان» مثل حزام العفة أحد الوسائل لمنع النساء من ممارسة الجنس أو الإحساس بلذة هذه العلاقة، حتى مع الزوج، وكان دور الزوجة هو الولادة وخدمة الزوج والأطفال، لم يكن دور الزوجة إشباع زوجها جنسيًّا، فهو يذهب إلى نساءٍ أخرياتٍ من أجل الحصول على اللذة، أما بيت الزوجية فهو لإنجاب الأطفال فقط وليس للذة؛ من هنا جاءت فكرة «الأمهات العذراوات».

ومن هنا نشأت «الازدواجية الأخلاقية» الخطيرة المصاحبة للنظام الطبقي الأبوي؛ إذ يُباح للرجل تعدد العلاقات الجنسية خارج الزوجة، على حين تُقتل المرأة إذا ما شكَّ زوجها في سلوكها.

ونشأت أيضًا عادة الختان في بلادٍ متعددةٍ من العالم، وليس في أفريقيا فقط. إنَّ بتر أعضاء المرأة خاصةً «البظر» يُفقدها جزءًا كبيرًا من قُدْرَتِها الجنسية، إلا أنه لا يُفقدها الرغبة أو الإثارة؛ لأن الإثارة الجنسية تنبع من المخ أو العقل، لكن القدرة على بلوغ اللذة الجنسية تعتمد على الأعضاء الجنسية خاصةً «البظر».

لهذا تعيش النساء المختتنات هذه المأساة التي تفتك بصحتهن النفسية؛ فالمرأة المختتنة تعيش في إثارةٍ جنسيةٍ دائمة دون قدرة على تصريفها عن طريق العلاقة الجنسية، هذا التصريف للطاقة لا يتم إلا عن طريق بلوغ قمة اللذة (الأورجازم)، ومن بعده تنتهي الإثارة، وتعود المرأة إلى طبيعتها العادية.

إلا أن حرمان المرأة من البظر «بسبب» الختان يحرمها من «الأورجازم» أو «بلوغ اللذة»؛ وبالتالي تظل الإثارة متأججة في عقلها وخيالها دون إشباع، مثل نار لا تنطفئ، تظل كالجمرة تحت الرماد، تفتك بصحة المرأة الجسدية والنفسية، وتسبب لها عديدًا من الأمراض أولها «الاكتئاب».

لقد ثبت أن الاكتئاب المسمى في الطب النفسي باسم «اكتئاب الزوجات» يرجع إلى عدم قدرة أغلب الزوجات على بلوغ اللذة في أي علاقةٍ جنسيةٍ مع الزوج، وإن كان يتمتع بكفاءةٍ ذكريةٍ عالية، فالمسألة هنا ليس «قدرة الرجل»، بل «عجز المرأة» عن إنهاء حالة الإثارة (التي أشعلها خيالها وعقلها).

في بلادنا تزداد المسألة بالتناقضات الخطيرة في التربية والتعليم والإعلام، وفي الوقت الذي ترتكز فيه الفنون في بلادنا على الإثارة الجنسية (للنساء والرجال)، فإن القيم الدينية والأخلاقية ترتكز على الحرمان، وتجاهل هذه الإثارة كأنها لم تكن.

يكفي أن تسمع الفتاة الأغاني العاطفية الشبقية في الراديو ليثور خيالها، إلا أنها تكبت نفسها، وتعاني التمزق بين القيم المتضاربة.

يكفي أن ترى على الشاشة امرأةً راقصة شبة عارية، يتلوها مباشرةً شيخ فاضل يرتدي العمامة يتحدث عن تحجب النساء وإيداعهن البيوت.

والقول بأن النساء ناقصات عقل ودين، لكنهن كاملات العاطفة … لا دور لهن في مساعدة الرجال في المعيشة، وإذا جاء الحيض لا تصلي، ولا تصوم، ولكنهن كاملات في العاطفة والحنو.

كلامٌ يحتاج إلى ردٍّ علمي؛ لأن العاطفة والحنان جزء من العقل، العاطفة ليست شيئًا خارج العقل، وليس هناك فاصل بين التفكير والشعور، فإن عجزت المرأة عن التفكير عجزت أيضًا عن الشعور، وبلادنا في حاجةٍ إلى رجالٍ ونساءٍ يتمتعون بالعقل السليم والعاطفة السليمة والجسم السليم. كيف نتصور مجتمعًا يعيش نصفه من النساء ناقصات العقل؟! ثم مَنْ قال إن الدين مجرد الصلاة والصوم، فإذا جاء الحيض للمرأة ولم تصلِّ ولم تصُم تصبح ناقصة الدين؟! ولماذا يقتصر الحنان على المرأة فقط دون الرجل؟!

إن الدين أكبر من مجرد طقوسٍ موروثة كالصلاة والصيام، الدين هو السعي الدائم نحو العدل والحرية والحب والإخلاص في العمل، وتحمل المسئولية ومطالب المعيشة الاقتصادية وغير الاقتصادية، داخل البيت وخارجه لكلٍّ من الرجل والمرأة.

إن المرأة المخلصة في عملها داخل البيت وخارجه كالرجل المخلص لعمله داخل البيت وخارجه، كلاهما يعرف الدين حق المعرفة، وهما شريكان في بناء أسرة ومجتمعٍ سليم.

إن الرجل الذي يخون زوجته ويشرد أطفاله بالطلاق أو تعدد الزوجات هو رجل «ناقص الدين» و«ناقص العقل» أيضًا؛ لأن الدين الصحيح يقود إلى العقل الصحيح، وهذا يقود إلى الإخلاص والوفاء وتحمل المسئولية في الحب والعمل على حدٍّ سواء.

إن الكرامة الصحيحة للمرأة مثل الكرامة الصحيحة للرجل تنبع من تحمل المسئولية في الحياة والإخلاص في العمل وحماية البنات والأولاد من العمليات الجراحية التي تُبْتَر فيها أعضاؤهم تحت اسم الأخلاق الصحيحة.

الأخلاق الصحيحة تنبع من التربية الصحيحة للأطفال في البيوت والمدارس، بحيث يتعلم الطفل كيف يربط بين الحرية والمسئولية، وهو مكتمل الجسد والعقل.

المفهوم الصحيح للأخلاق والكرامة

إن أول مبادئ الأخلاق والكرامة الإنسانية هو العدل والحرية والمسئولية، تسري هذه المبادئ على جميع البشر بصرف النظر عن الجنس أو اللون أو العقيدة أو الطبقية.

إلا أن المجتمعات التي نعيش فيها اليوم لا تزال تخضع لمبادئَ أخلاقية تختلف حسب كون الإنسان ذكرًا أو أنثى، وحسب كونه حاكمًا أو محكومًا، أو ينتمي إلى الطبقة الحاكمة الثرية أو الطبقات الفقيرة الكادحة.

لقد شاركت معنا في المظاهرة العالمية ضد قتل الأطفال بالحصار الاقتصادي نساءٌ أمريكيات وأوروبيات وآسيويات وأفريقيات غير مختتنات، وكانت الواحدة منهن تمشي في شوارع نيويورك مرفوعة الرأس موفورة الكرامة، تنادي بإنهاء الظلم الواقع على الشعوب البريئة خاصة الأطفال، وفي لقائنا مع المسئولين بالأمم المتحدة تكلَّمتْ جميع النساء في الوفد العالمي بصوتٍ قويٍ مملوء بالكرامة والشجاعة، وتساوت في ذلك النساء المختتنات وغير المختتنات!

واحدة من هؤلاء امرأةٌ أمريكية قبض عليها البوليس أثناء المظاهرة، وهي تنادي بإنقاذ أطفال العراق وليبيا وكوبا من الحصار، رأيتها وهي واقفة بين العساكر مرفوعة الرأس، موفورة الكرامة، وضعوا الحديد في يديها، وأخذوها داخل العربة البوليسية، إنها امرأة غير مختتنة، ومع ذلك فهي تشعر بمسئولية وتسعى لإنهاء الظلم في النظام العالمي الجديد، لم تقلَّ هذه المرأة الأمريكية كرامةً وأخلاقًا عن زميلاتها المصريات المختتنات، فقد قبض البوليس الأمريكي أيضًا على امرأةٍ مصريةٍ شاركت في تنظيم المظاهرة، وكانت تتقدم الوفود التي تمشي في شوارع نيويورك تنادي باعتبار الحصار جريمةً إنسانية قبل أن تكون جريمةً سياسية واقتصادية، كنت واقفة إلى جوارها حين وضع العساكر الأمريكيون الحديد في يديها، وأدخلوها السيارة البوكس البوليسية. كانت مرفوعة الرأس والكرامة مثل زميلتها الأمريكية.

«يجب أن يتحمل الأمين العام للأمم المتحدة مسئوليته لحماية الأطفال من الموت تحت الحصار، إن موافقة الأمم المتحدة على هذا الحصار هو خرق لميثاق الأمم المتحدة، إن لم يستطع الأمين العام تحمل هذه المسئولية فيجب عليه الاستقالة فورًا.»

نطقت هذه العبارة بكل كرامة وشجاعة جميع النساء في الوفد بصرف النظر عن كونهن مختتنات أو غير مختتنات، فما علاقة الختان بكرامة المرأة كما يدَّعي بعض الدعاة الدينيين في بلادنا؟!

لا بد من فضِّ هذا الاشتباك بين «بظر» المرأة ومفهوم الأخلاق أو الكرامة.

وكيف يُصبح للمرأة كرامة؟

الكرامة صفة يكتسبها الإنسان (الذكر والأنثى) منذ الطفولة، حين تتعلم البنت — والولد — كيف تثق في نفسها، وكيف تحترم عقلها وجسمها، كيف تنمي إرادتها، كيف تكون حرة ومسئولة في آنٍ واحد.

كيف لا تكون عالة على أحد، كيف تكون مستقلة اقتصاديًّا ونفسيًّا واجتماعيًّا عن الآخرين.

هذه التربية منذ الطفولة هي السلاح الذي يحمي الفتاة من العبث واللامسئولية والسطحية والحياة عالة على الرجل.

أما الختان أو قطع بظر المرأة فهو لا يفعل شيئًا على الإطلاق إلا المضاعفات الصحية الخطيرة التي سبق لي الحديث عنها والكتابة فيها منذ ثلاثين عامًا (راجعوا كتاب المرأة والجنس).

في مجتمعنا المصري نساءٌ مختتنات يشتغلن بالبغاء الواضح أو المقنع، ويتاجرن بالفنون الرخيصة التي تسلب المرأة كرامتها وتحوِّلها من إنسانٍ كاملٍ إلى جسدٍ يُعرَّى في الإعلانات وفوق الشاشات.

إن الختان يسبب للمرأة عاهة مستديمة قد تتحول أحيانًا إلى رغبة في الانتقام من المجتمع كله.

لو نظر رجل في عين إحدى المومسات حين يمارس معها الجنس، لأدرك أنها تكنَّ له المقت والكراهية والرغبة في الانتقام.

بل لو نظر مثل هذا الرجل نفسه في عين زوجته المختتنة حين يمارس معها الجنس، فلربما رأى النظرة نفسها!

ذلك أن المرأة المختتنة تكره الجنس؛ لأنه يسبب لها الألم وليس اللذة، فقد حُرمت من هذه اللذة منذ حرمانها من البظر، ومنذ تأثرت بالقيم السائدة النابعة من مقولة «تلدين في الأسى والألم، ويكون اشتياقك لزوجك وهو يسود عليك.»

أصبحت المرأة تعيش الألم تحت سيادة الرجل؛ لهذا فقدت الكثيرات كرامتهن ويعشن عالة على أزواجهن، وإن تكسَّبت المرأة من عملها، فهي تخفي أموالها تحت البلاطة، أو تودعها في البنك، حتى لا يعثر عليها زوجها.

وانقلبت المقاييس الأخلاقية، وانقلب مفهوم كرامة المرأة وكرامة الرجل أيضًا.

ارتبطت كرامة الرجل أو «الرجولة» بقدرته على الإنفاق على زوجته. وارتبطت كرامة المرأة بعجزها عن الإنفاق على نفسها، ومن هنا الازدواجية الأخلاقية التي أدت إلى تدهور الأخلاق.

حركةٌ إيجابية وصحية

أصبحت كلمة «الختان» اليوم من الكلمات الجارية على كل لسان، حتى ألسنة الفقهاء ومشايخ الأزهر ومفتي الديار وغيرهم، وهذا شيءٌ صحي وإيجابي.

أذكر منذ ثلاثين عامًا حين صدر كتابي «المرأة والجنس» وفيه فصلٌ كامل عن الختان أن اهتز المجتمع المصري كأنما خدشتُ حياءه، واضطر وزير الصحة إلى إبعادي عن منصبي في الوزارة، وإغلاق مجلة الصحة التي كنت رئيسة لتحريرها، وإغلاق جمعية الثقافة الصحية التي أنشأتُها، وكانت كلمة «ختان الأنثى» محظورة، وكلمة «البظر» من الكلمات النابية.

أما اليوم فقد تغير الوضع، وبدأت هذه الكلمات تجري على كل لسان. حين عدت إلى مصر بعد المظاهرة العالمية ضد الحصار، سألني سائق التاكسي: أنا مش عارف يا ترى أطاهر بنتي ولا لأ، ناس يقولوا الطهارة كويسة، وناس يقولوا لأ! مش عارف أنا محتار؟

هذه الحيرة إيجابية وصحية؛ لأن هذا السائق منذ ثلاثين عامًا كان يطاهر ابنته دون حيرة، ودون سؤال (الطهارة تعني الختان باللغة العامية).

أصبح الجميع يتساءلون اليوم عن عملية الختان للإناث: هل وزير الصحة الذي منع العملية على صواب، أم ذلك الشيخ الذي يقول: إنها كرامة للمرأة ولا بد من إجرائها؟

لا شك أن وزارة الصحة هي المسئولة عن صحة النساء في بلادنا؛ ولذلك علينا أن نؤيدها ونساندها في قرارها، وأن تنهض عضوة من مجلس الشعب، فتقدم مشروع قانون بإنهاء عمليات الختان في مصر، إن عندنا عضوات برلمان قادرات على عمل ذلك، فلماذا لا تبادر واحدة منهن كما بادرت النائبة الأمريكية «باتريشيا شرودور»، وقدمت مشروعها إلى الكونجرس الأمريكي، ونجحت في استصدار قانون يمنع ختان الإناث في الولايات المتحدة الأمريكية؟

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤