ثقافة الصابون

القيم الإيجابية منذ الطفولة

في طفولتي وأنا في السادسة من عمري رأيت أبي يمزِّق ورقة كتبها أحد جيراننا يتعهد بردِّ مبلغ من المال (أظنه كان عشرة جنيهات) أخذه من أبي على سبيل السلفة. وسمعت أبي يقول لهذا الجار الفقير العجوز: عيب يا عمي، كلمتك عندي أكبر من أي كمبيالة، وأنت جارنا، وقد أوصانا النبي بسابع جار. وردَّ الجار قائلًا لأبي: ولكني رجلٌ فقير عجوز، وقد لا أستطيع أن أردَّ لك المبلغ أول الشهر، ولهذا كتبت لك الكمبيالة لأفرض على نفسي السداد في الوقت المحدد. وقال له أبي وهو يربت على كتفه: لا تقلق يا عمي، إني واثق من أنك سوف ترد المبلغ حين تستطيع، وإن لم تستطع فما بين الخيِّرين حساب، وأنت عندي أهم من أي مال!

وفي طفولتي كنت أسمع أمي تقول لي: اسمعي يا ابنتي الغنى غنى النفس، فكوني غنية بنفسك وليس بجيبك.

انحفرت هذه القيم في أعماق الوعي واللاوعي منذ طفولتي، وأصبحت أومن أن قيمة الإنسان تعلو على قيمة المال، وأن العلاقات الإنسانية تعلو على العقود والأوراق والكمبيالات.

ولم يكن في طفولتي «تليفزيون» ينقل إليَّ ثقافة الصابون الشائعة اليوم التي تقلب هذه القيم رأسًا على عقب، وتضع الدولار أو الدينار فوق الإنسان، وقطعة من الورق المختومة فوق الصداقة والحب.

حين دخل التليفزيون إلى مصر عام ١٩٦٠، كنت قد أصبحت شابةً ناضجةً محصنة ضد ثقافة الصابون الواردة إلينا من الخارج. وعلى مدى ثلاثين عامًا، ورغم الإعلانات المتكررة في التليفزيون عن البضائع المستوردة من الغرب، وغسول الشعر الأمريكي، لم أستخدم إلا الصابون المصري الذي أحببته منذ طفولتي، والذي أشم في رائحته نكهة أمي حين كانت تضحك، وصوت أبي حين كان يناديني، ورائحة النيل حين كنا نتمشَّى على شاطئه في قريتي كفر طحلة. وأنا لست ممن يقدسون ما يسمى بالثقافة التقليدية، ولست ممن يتغاضون عن السلبيات في القيم التي توارثناها من الماضي، بل إنني استطعت أن أنقد تراثنا دون خوف، وأن أسقط منه في حياتي ما هو متخلف أو عنصري أو غير إنساني، أو تلك القيم التي جاءتنا منذ نشوء العبودية والغزو الاستعماري، وسيطرة الملكية والطبقة المالكة على الأغلبية الساحقة من الشعب، وسيطرة الذكور على النساء.

لكن في تراثنا أيضًا إيجابيات توارثناها منذ عصور ما قبل العبودية وما قبل الاستعمار، حين كانت المرأة في بلادنا إنسانةً كاملة الأهلية، حين ارتفعت قيمة الإنسان على قيمة المال والأشياء، وكانت علاقات الصداقة والحب والتعاون تعلو على علاقات الحرب والقتال والجشع والطمع من أجل الاستعمار وتراكم رءوس الأموال.

لكن ثقافة الصابون خلال النصف الأخير من هذا القرن، وعبر هذا الجهاز الإعلامي الثقافي الخطير استطاعت أن تشوِّه الثقافات والقيم الإيجابية، وتبرز على سطح الموروثات السلبية، وتضيف إليها القيم الجديدة غير الإنسانية القائمة على عبادة المال والسلاح وتشجيع الاستهلاك لدى الطبقات الأدنى المسحوقة.

استهلاك العقل

جهازٌ خطير في العالم أصبح يهدد عقل الإنسان وقدراته الإبداعية الخلاقة، جهاز يستهلك عقول البشر ويصيبها بالشلل والتوقف عن النمو، جهاز يطلق عليه اسم «التليفزيون»، جذَّابٌ شديد الجاذبية للأغلبية الساحقة من النساء والرجال والشباب والأطفال، وخاصة هؤلاء الذين لا يقرءون؛ لأنهم لا يعرفون القراءة، أو لا يقدرون على شراء الكتب، أو لا يجدون الوقت أو الجهد للقراءة، مجهدون طوال النهار في العمل المضني من أجل لقمة العيش، وتوفير ضرورات الحياة، وليس أمامهم وسيلة للترفيه أو التسلية آخر النهار، أو أول الليل إلا هذا الجهاز الذي ينقل إليهم، وهم راقدون في غرف النوم مسلسلاتٍ وأفلامًا وحلقاتٍ تمثيلية من وراء البحار والمحيطات من الولايات المتحدة الأمريكية، أو تلك البلاد البعيدة، التي تسمى بالعالم الجديد، والتي سيطرت على العالم بالدولار وتكنولوجيا السلاح والإعلام.

استطعت من خلال رحلاتي المتعددة إلى بلادٍ كثيرة في الغرب والشرق أو الشمال والجنوب أن أدرك خطورة جهاز التليفزيون وغيره من أجهزة الإعلام على عقول الناس.

سيطرت الثقافة الأمريكية السطحية السريعة من خلال الشاشة الصغيرة والأجهزة الإلكترونية الأخرى على الثقافات المحلية في أوروبا وآسيا وأفريقيا وأمريكا الجنوبية وأستراليا.

ويزداد هذا الأثر في بلادنا العربية، وخاصة البلاد التي ترتبط سياسيًّا واقتصاديًّا بالولايات المتحدة الأمريكية.

وقد أصبح معروفًا أن السيطرة السياسية من أجل الاستغلال الاقتصادي لا تكون بغير سيطرة على العقول من خلال الإعلام، لقد حلَّ الإعلام محل السلاح.

لكن أزمة الخليج العربي التي بدأت أوائل أغسطس ١٩٩٠ وتبعها نقل القوات الأمريكية المسلحة إلى الخليج العربي والقوات المتعددة الجنسيات فرنسية وبريطانية، وغيرها أثبتت أن الاستعمار الغربي الاقتصادي لثروات العالم الثالث (ومنها البترول العربي) لا يزال يحتاج إلى السلاح العسكري، ولا يكفيه سلاح الإعلام، وإن كان سلاح الإعلام يخدم على الدوام مصالح الغرب مدعمًا النظام الاقتصادي العالمي بنظامٍ إعلاميٍّ عالميٍّ قائم على الاستغلال والتجهيل لأغلب سكان الكرة الأرضية، الذين لا يملكون إلا القليل من تكنولوجيا الإعلام أو السلاح العسكري.

يلعب الإعلام والثقافة العالمية السطحية المسماة Soap Culture دورًا حاسمًا في تجهيل الشعوب بحقوقها، أو غسيل مخها بالصابون، ليصبح مخًّا أملسَ مثل مخ الأرنب يفقد قدراته على التفكير أو التحليل أو الإبداع والخلق، يستهلك ما يعطى له غير قادر على إنتاج الفكر، يردد ما يقدَّم له مثل الببغاء، يستسلم بلا مقاومة لهذه المعلومات والثقافة التي تسقى له بالملعقة، ثقافة مُرَّة كالعلقم، معادية للإنسان في جوهرها، لكنها تزين نفسها بالقشور البراقة، والألوان الزاهية، وبعض المشهيات الجنسية التي تحول فيها جسد المرأة إلى أداة للإعلان والإغراء الجنسي.

الجنس

يلعب «الجنس» الرخيص غير الإنساني القائم على التجارة والربح دورًا كبيرًا في ثقافة الصابون. يدرك خبراء هذه الثقافة في الغرب أن الملايين من الشباب في ذلك العالم المسمى بالعالم الثالث أو فقراء العالم، محرومون من ضرورات الحياة المادية والمعنوية، ومنها «الجنس» والحرية أو الديمقراطية. يقدمون لهم هذا «الجنس» على شكل أحلامٍ مستحيلة أو مخدرات تجعل العقل يعيش في الوهم وليس الحقيقة، أو حريةٍ فرديةٍ زائفة تشجع فيهم الأثرة والأنانية على العلاقات الإنسانية والتعاون فيما بينهم والحب الصحيح القائم على التبادل المتساوي أخذًا وعطاءً.

الجريمة والعنف

وتلعب «الجريمة» دورًا كبيرًا في ثقافة الصابون. يدرك خبراء هذه الثقافة في الغرب أن «العنف» أو «الاغتصاب» أو «القتل» الذي يراه الشباب فوق الشاشة يُنفِّس عن الغضب الكامن في أعماقهم بسبب الظلم الواقع عليهم، ويعطيهم إحساسًا مزيفًا بالمشاركة في هذا العنف عن طريق الانفعال.

يصبح الانفعال بديلًا عن الفعل، ويعيش الشباب حالة من اللافعل والسلبية رغم إحساسهم الموهوم بالفعل.

الإعلانات والاستهلاك، وطمس الإيجابيات

من أهم مقومات ثقافة الصابون تلك الإعلانات المتكررة الجذابة عن البضائع الكمالية المستوردة من الغرب التي تؤجج خيال رجالٍ ونساءٍ محرومين من ضروريات الحياة، وتدفعهم إلى شراء ما لا يحتاجون إليه، تخلق عندهم حاجاتٍ وهمية لأشياءَ غير ضرورية، مثلًا في قريتي كفر طحلة على شاطئ النيل في الدلتا، رأيت امرأةً فلاحة تحمل فوق رأسها غسالةً كهربيةً أمريكية، وتسير بها لتغسل ملابسها، ورأيت شابه ترتدي رموشًا صناعية، وتصبغ شفتيها ﺑ «روج» أحمر، في الوقت الذي ترتدي فيه حجاجًا يخفي شعرها عن أعين الرجال منعًا للفتنة! لقد شاهدتْ هذه المرأة في التليفزيون إعلانًا أمريكيًّا عن رموشٍ صناعية وروجٍ أحمر للشفتَين، وشاهدت أيضًا أحد المشايخ الإسلاميين ينصح النساء المسلمات بارتداء الحجاب، واستطاعت أن تطيع الاثنين دون أن تشعر بالتناقض.

رأيتها تمشي بخطوة تقلد بها إحدى بطلات مسلسل دالاس، وتحلم بالزواج من رجلٍ ثري يملك بئر بترول في الخليج العربي.

إن ثقافة الصابون السائدة تخلق هذا النمط من التفكير السطحي القائم على الرغبة في الاقتناء والامتلاك والخضوع لسطوة المال، وعدم الوعي بالتناقضات الصارخة، والفصل بين الظواهر وأسبابها.

يصبح العقل مثل العين العمياء لا يرى التناقض الواضح وضوح الشمس. وهذه هي عملية التجهيل العالمية التي تبثها وسائل الإعلام وثقافة الصابون الدولية، ثقافةٌ مزدوجةٌ تناقضية تخدم النظام الطبقي الأبوي المزدوج المتناقض، يعري جسد المرأة باسم القيم التجارية وترويج البضائع، ويغطي رأسها باسم القيم الأخلاقية والدينية.

يلهب خيال الشباب بمشاهد الجنس والجريمة والاغتصاب، فيصرفه عن التفكير في مشاكل البطالة والفقر، ويشجعه على الحياة الوهمية في ضباب المخدرات، يشتت ذهنه بثقافةٍ استهلاكيةٍ رخيصة، يعطيه إحساسًا وهميًّا بأن الحياة تخلو من المشاكل، يضيع وقته بالساعات مُبحلِقًا في الشاشة المضيئة.

تلعب ثقافة الصابون دورًا في طمس الإيجابيات، والحكم الموروثة من التراث الشعبي، وتفرض على الناس قيمًا مصطنعةً مشوهة لبيئتهم وحضارتهم الأصلية.

كان الرقص في قريتي كفر طحلة على إيقاع الطبلة والرق وغناء النساء بتلك الألحان الشعبية نوعًا من الجمال والفن العريق الممتد في التاريخ المصري القديم، لكن ثقافة الصابون الأمريكية عبر التليفزيون شوهت هذا الفن الفولكوري الشعبي الجميل ومسخته، فلم نعد نرى رقصًا وغناءً شعبيًّا حقيقيًّا، وإنما مزيجٌ مختلط غير أصيل وغير أخاذ، رقصٌ ركيك وغناء أشد ركاكة، مثل فلاح مصري ينسى لغته العربية الأصيلة، ويتكلم بلغةٍ إنجليزيةٍ ركيكة.

كانت العروس في القرى في بلادنا ترتدي جلبابًا من القطن المصري الناعم الجميل المزيَّن بالألوان البديعة الزاهية وتركب جوادًا، فإذا بها اليوم تركب عربة نقل، وترتدي ثوبًا من النايلون المستورد الذي يجعلها تنصبُّ عرقًا، وترتدي حذاءً له كعبٌ عالٍ رفيع يدخل في حفرات الشوارع والحواري، ويجعل خطواتها بطيئةً متعرجة.

امتلأت القرى المصرية بضجيج الميكروفونات وأجهزة التليفزيون التي تذيع الأغاني التافهة والألحان السطحية والأفلام والمسلسلات الأمريكية من نوع دالاس وفالكون كريست ونشرات الأخبار التي تنقل عن وكالات الأنباء العالمية وتشوِّه الحقائق السياسية، وتبترها بما يدعم مصالح الغرب الاقتصادية، وتفصل بين الفقر وأسبابه الكامنة في سوء توزيع الثروة محليًّا وعالميًّا.

كنت ألجأ إلى قريتي الهادئة لأكتب وأفكر بعيدًا عن ثقافة الصابون التي تنتشر في العاصمة، فإذا بالقرية أيضًا تصبح ضحية هذه الثقافة الصاخبة الضحلة بعد دخول أجهزة التليفزيون والفيديو إلى القرى.

تتجسد خطورة ثقافة الصابون في أنها تحاول طمس الإيجابيات العريقة في الثقافات المحلية الأصلية، في الوقت الذي تشجع فيه التقاليد البالية التي تؤخر الشعوب، إنها تقضي على الأصالة المناسبة لكل شعب في الوقت الذي تحافظ فيه على التقاليد المزدوجة والقيم المتناقضة النابعة من العبودية القديمة، وخضوع المرأة للرجل وارتفاع قيمة المال على قيمة الإنسان، وتبرير الاعتداء والحرب، وإخفاء الظلم الكامن في النظام المحلي والعالمي. إنها ثقافة مزدوجة وسطحية في آنٍ واحد، تسمي نفسها ثقافة مع أنها محاولة للتجهيل وإبطال عمل العقل.

تصبح ثقافة الصابون عبر أجهزة الإعلام المركزية هي الوسيلة الوحيدة للثقافة في البلاد، يتحول أغلب الناس إلى مستهلكين لهذه الثقافة لا يشاركون في إنتاجها، يجلسون أمام جهاز التليفزيون وهم بلا حول ولا قوة، يشعرون أنهم مجرد أجهزة استقبال، ولا حيلة لهم إزاء هذا الأخطبوط العالمي الذي يدخل إلى غرف نومهم، ويستولي على عقولهم، دون أن يكون لديهم أي وسيلة للمقاومة أو المشاركة.

خلقت ثقافة الصابون جماهير من النساء والرجال سلبيةً عاجزة عن تذوق الفن الرفيع والأدب العميق، ولهذا انعزل المفكرون والأدباء والأديبات ممن ينشدون العمق والجودة، وساد الكتاب والكاتبات الذين ينشدون السرعة والسطحية والكسب السريع.

تلعب ثقافة الصابون في بلادنا دورًا في أن تقلب الحقائق رأسًا على عقب فلا تعرف الشعوب ماذا تفعل إزاء ما يواجهها من أزماتٍ حادة؛ تستسلم بلا مقاومة، تحملق بالساعات في الشاشة المضيئة بأفواهٍ مفتوحة وعيونٍ ناعسة، وعقولٍ متوقفة عن العمل، ثم ينامون برءوسٍ مهدودة تعاني الصداع والإحباط واليأس.

ويصبح العدو داخل الإنسان ذاته، داخل عقل الإنسان ذاته؛ يصبح الإنسان عدو نفسه فلا يعرف حقوقه، ولا يعرف كيف يتمرد وضد مَن؟

ولهذا ليس غريبًا أن تنتشر التيارات السياسية الدينية المتطرفة سواء كانت إسلامية أو مسيحية أو يهودية أو بوذية أو هندوكية … إلخ.

وبمثل ما تلعب ثقافة الصابون بورقة السياسة تلعب أيضًا بورقة الدين، ولا تعدم أي وسيلة لغسل مخ البشر من أي فكرٍ منطقي يبحث عن الأسباب الحقيقية لأي أزمة، دون أن يلقي بالمسئولية على الله أو الشيطان.

في هذه الأيام الأخيرة، ومنذ احتشاد القوات العسكرية الأمريكية (والمتعددة الجنسية) على أرض السعودية تقوم ثقافة الصابون والإعلام التابع لها بإيهام الشعوب العربية أن هذه القوات الأجنبية، جاءت من أجل حمايتها، ومن أجل تأكيد الديمقراطية وحقوق الإنسان. وهكذا تعيش الشعوب العربية الوهم بأن أعداءها هم حماتها. وحين يصبح العدو هو الحامي يتأكد معنى الاستعمار، ألم تحتل بريطانيا مصر عام ١٨٨٢ تحت اسم الحماية البريطانية؟!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤