المرأة والإحساس بالغربة

الإحساس بالغربة عن هذا العالم الذي نعيش فيه لا يخص المرأة في بلادنا العربية فقط، إنه إحساس لا يمكن أن تنجو منه امرأة تولد في أي مكان فوق هذه الكرة الأرضية (والرجل أيضًا).

وقد سافرتُ كثيرًا وصادقتُ نساءً ورجالًا من جميع البلاد في القارات الخمس، وأدركت أن الغربة إحساس عام في عالمنا هذا.

حين وُلدتُ في قريةٍ مصرية عام ١٩٣١ فتحت عيني على عالمٍ غريب، وجه أمي يلوح أمامي ووجه جدتي (أم أمي) وجدتي (أم أبي)، وبعض وجوه العمات والخالات، لكنها وجوه فقط، والأصوات التي أسمعها أصوات الرجال، الرجال يتكلمون دائمًا وبصوتٍ عالٍ، والنساء غالبًا صامتات يستمعن إلى الرجال وفي عيونهن بريقٌ منطفئ، يشبه الألم أو الحزن العميق الممتد عبر السنين.

لم أكن أعرف الكلام بعدُ، ولا أعرف كلمة ذكر، أو أنثى.

لكن من عيون أمي وجدتي عرفت أنني مثلهن، وأنني أنتمي إلى جنسٍ هامشي، ليس له قيمة الجنس الآخر، الذي يسمونه «الذكور».

حتى في البيت، ويسميه جدي (والد أمي) مملكة المرأة، أرى أن جدي هو رئيس هذا البيت، وصوته أعلى الأصوات، وزوجته، أي جدتي، صامتة، ترتدي السواد، حزينة طول الوقت.

قبل أن أعرف الفرق بين الأنثى والذكر شعرتُ بالغربة، وأنني أعيش في عالمٍ تنكمش فيه الإناث داخل ملابسهن، وداخل المطبخ، أو داخل غرفة النوم.

ويخرج جدي إلى العالم الخارجي، ويخرج أبي، يخرج الرجال من البيت إلى عالمٍ آخرَ واسع لا تعرفه أمي، ولا تعرفه جدتي (أم أمي) ولا خالاتي شقيقات أمي، إلا شقيقةٌ واحدة اسمها «فهيمة» كانت تخرج من البيت إلى المدرسة.

خالتي فهيمة كانت تشتغل معلمة، في مدرسةٍ ابتدائية للبنات. أخذتني مرة معها إلى المدرسة وأنا طفلة في الخامسة، رأيتها تمشي في الشارع بسرعة وهي مطرقة إلى الأرض، تقبض على يدي بيدها وتكاد تجري، كأنما يطاردها أحد، الشارع مزدحم بالناس، كلهم رجال، إلا امرأة تشبه خالتي تسرع هي الأخرى وعيناها إلى أسفل، وامرأةٌ فلاحة ترتدي جلبابًا أسود وطرحة حول رأسها تتلفَّت حولها في ذهول كأنما هي في عالمٍ غريب، تشبه جدتي الفلاحة (أم أبي).

عيون الرجال كانت تنظر إلى خالتي، وهي تخفي صدرها بحقيبة يدها، كأنما العيون قادرة على اختراق ملابسها، وكمساري الترام رمق المرأة الفلاحة بازدراء، حين فكَّت بأصابعها عقدة المنديل، وأخرجت الملاليم، وبدأت تعد له ثمن التذكرة بأصابعَ سمراءَ مشققة أظافرها سوداء.

لم تكن خالتي فهيمة فقيرة مثل هذه المرأة، كانت متعلمة تعرف القراءة والكتابة، وتمسك حقيبةً جلديةً صغيرة، تخرج منها ثمن التذكرة بأصبعٍ ناعمةٍ بيضاء البشرة أظافرها مقصوصة بعناية، وهي تجلس في الترام داخل غرفة الحريم، ترفع عينَيها، وتنظر إلى وجوه النساء من حولها. تلتقي عيناها بعينَي المرأة الفلاحة، ترمقها بازدراء، تنكمش الفلاحة داخل جلبابها الأسود، تلف طرحتها السوداء حول رأسها، وتنظر إلى السلة الكبيرة بين ساقَيها، تغطيها فوطة سمراء تعلوها بقع الطين، والزيت أو السمن البلدي.

حين أتحدث عن إحساس المرأة بالغربة في عالمنا هذا لا يمكن أن أنسى تلك المشاهد في طفولتي، كلما أتقدم في العمر تزداد غربتي، اكتشفت أنني أزداد وحدة وغربة عن النساء والرجال معًا.

إنه عالمٌ عبوديٌّ عنصريٌّ شديد التفرقة بين الأغنياء والفقراء، وبين الرجال والنساء، وبين أصحاب الوجوه البيضاء وأصحاب البشرة السمراء أو السوداء.

ويتضاعف إحساسي بالغربة حين أجد نفسي في حفلٍ كبير، ترتدي فيه النساء الملابس الغالية والفورير والجواهر، وأنا أرتدي ملابسي البسيطة العادية، بلا خواتم في يدي، ولا أساور، ولا مكياج على وجهي، وشعري مرسل بطريقةٍ عادية، لا أذهب أبدًا إلى ذلك «الكوافير»، وحذائي عليه غبار الطريق.

وأشعر بغربةٍ مضاعفة حين أجد نفسي في اجتماعٍ رسمي من مستوًى عالٍ، يجلس إلى جواري رجال من الطبقة الحاكمة، ربما وزراء، رؤساء شركاتٍ عربية أو أجنبية، أصحاب مناصبَ هامة في جهةٍ ما، ربما الأمم المتحدة، أو ما شابه، أدباء، صحفيون، أشعر بالغربة حين أسمعهم يتكلمون، يستخدمون لغةً عربية، يتكلمون لغةً واحدة، اصطلاحات، إكليشهات، يرتدون ربطة عنق شكلها واحد، حركة أعناقهم واحدة، والكتفان داخل البدلة المحشوَّة بالقطن ربما أو قطعة من الكوتش فوق كل كتف ليصبح الكتف عريضًا، أعرض مما هو، أتلفَّت حولي في دهشة، في غربة.

كنت أبحث في الكتب عن معنى الغربة. معظم الكتب بأقلام الرجال، انشغلوا بغربة الرجل من المحكومين، من الفقراء، أو العمال الأجراء، داخل نظام يسرق عرقهم وجهدهم، يحولهم إلى آلة عمل في الحقل أو المصنع أو المكتب. تحدث الغربة بين الرجل وما تصنعه يديه، ينظر إلى ما ينتجه دون أن يعرف إلى أين يذهب، كأنما هو ترس في آلةٍ ضخمة، لا يعرف كيف تسير الآلة، ولا كيف يسير الترس، كل شيء من حوله تحركه قوًى خفية، تشبه القوى الغيبية، الإلهية، لا يراها، ولا يمكن له تصورها إلا في الحلم على شكل كابوس، حتى في الحلم يشعر بالغربة عن أحلامه، ويصحو من النوم يمشي إلى عمله كأنما يمشي في النوم، يعرف الطريق من البيت إلى العمل بحكم العادة، كالحيوان المستأنس، كلب أو قط أو حمار يعرف الطريق من الدار إلى الحقل، ثم يعود في الطريق نفسه يجر جسده كأنما بحبل.

قرأتُ الكثير عن غربة الرجل المأجور في عالمٍ طبقي لا يعرف قيمة الرجل إلا بالمال أو سلطة الحكم.

لكني لم أقرأ إلا نادرًا عن غربة المرأة، بعد أن تعلمتُ القراءة، وعرفت الطريق إلى المكتبات العامة، كنت قبل ذلك حين أشعر بالغربة أبحث في عيون البنات من حولي عن واحدةٍ مثلي تشعر بالغربة.

في عيونهن كنت أرى الغربة كالسحابة الرمادية تروح وتجيء فوق «النني»، مثل علامة الاستفهام الأبدية بلا جواب: لماذا خلقني الله أنثى في عالم الذكور؟

حين أعود بذاكرتي إلى الوراء، أرى نفسي طفلةً واسعة العينَين، في اتساعهما مساحةٌ كبيرة تتسع للغربة عن العالم الذي ولدت فيه، وكلمة «أنثى» حين كنت أسمعها تلامس أذني بكثافةٍ مادية كأنما هي بصقة في وجهي، والعيون من حولي يغيب منها الفرح في حضوري، والعكس صحيح في حالة أخي، ذلك الطفل الذكر، يكبرني بعامٍ واحد، وفي حضوره تمتلئ العيون بالفرح.

من بين قضبان نافذة المطبخ أسمع أصوات الأطفال يلعبون، يضحكون، ويصرخون من الفرح، يعلو صوت أخي بين أصواتهم، وضحكته تملأ الكون، وأنا واقفة أمام النار أطبخ له الطعام؛ يتضاعف الإحساس بالظلم ومعه يتضاعف الإحساس بالغربة.

أدركت منذ الطفولة العلاقة بين الظلم والإحساس بالغربة، وبدأ الصراع، والطريق الطويل الشاق اللانهائي لإزالة الظلم من أجل أن تزول الغربة.

كأنما كنت أصارع الكون لأصبح جزءًا منه، لكن الكون لم يكن يرحب بي. وحين أمشي في الشارع يقذفني الصبيان بالطوب، أو عيون الرجال ترسل نحوي نظرات مثل أسياخ الحديد، وفي الترام أو الأوتوبيس أجدني مثل قطعة لحم بين أجساد الذكور. وفي نهاية العام الدراسي لا يفرح أحد بنجاحي، وإذا فشلتُ في طبخ الملوخية أو البامية أنَّبني الجميع.

داخل البيت أشعر بالغربة، وبين أفراد أسرتي، وفي الشارع، وفي المدرسة، وفي الجامعة، وفي أي مكانٍ في هذا العالم أذهب إليه، تصاحبني الغربة كأنما هي عضو في جسمي.

أدركت حين كبرت ووعيت أن الغربة إحساسٌ شائع بين الرجال أيضًا، لكنه عند النساء أشد. تزداد الغربة بازدياد الفقر أو الانتماء إلى الطبقة الأدنى.

وحين سافرتُ خارج مصر إلى أوروبا، ازدادت غربتي؛ ما إن أتكلم اللغة العربية حتى ترمقني العيون بنظرةٍ غريبة، وبشرتي السمراء تزداد سمرةً وغربة بين الوجوه البيضاء، كأنما أنتمي إلى عالمٍ آخر، يسمونه العالم الثالث. كلمة «الثالث» تخرج من بين شفاههم لها كثافةٌ مادية، تنقلب الشفة السفلى إلى أسفل، كأنما جئت من عالمٍ سفلي.

بمرور السنين أصبح لي أصدقاء وصديقات من مختلف البلاد، سود وبيض، نساء ورجال، من مختلف المهن والثقافات، ورغم الاختلاف لا أشعر بالغربة بينهم أو بينهن؛ لأن كلًّا منا يحترم اختلاف الآخر، يتعامل كلٌّ منا مع الآخر على قدم المساواة.

نعم، إنها المساواة أو العدل، الذي تزول معه الغربة، وأحس أنني إنسانة مثل الآخرين، لا أحد يسود على الآخر، ليس هناك أعلى وأدنى.

لكن هذا العدل في عالمنا المعاصر قليل ونادر ندرة الصداقة الحقيقية، أو الحب الحقيقي.

في علاقة الحب الحقيقي تتلاشى الغربة، يزول الإحساس بالظلم حتى آخر قطرة، يفتح الواحد منا أو الواحدة منا عينَيها، فترى الله على شكل العدل، يحدث التلاحم بينها وبين الله، ويذوب الإحساس بالغربة حتى آخر قطرة.

جدتي الفلاحة (أم أبي) كانت أمية لا تعرف القراءة، لم تقرأ القرآن، لكنها كانت تقول: ربنا هو العدل عرفوه بالعقل.

واليوم بعد أن بلغتُ الستين من العمر تعود إليَّ أحاسيس الطفولة، ويزداد وعيي بغياب العدل.

وتزداد غربتي عن العالم، أرى وجه جورج بوش على شاشة التليفزيون في غرفة نومي يتحدث عن نظامٍ عالميٍّ جديد، أصابعه ملوَّثة بدماء نصف مليون في حرب الخليج، يستولي على بترول العرب، يتحدث عن حقوق الإنسان.

يرنُّ صوته غريبًا، وفوق الشاشة يصبح له وجهان؛ أربعة عيون، وأنفٌ مزدوج، وفمٌ مزدوج، وكلامٌ مزدوج.

تزداد غربتي في ذلك العالم ذي النظام الجديد. المسافة بين البيت الأبيض في واشنطن تتلاشى فوق شاشة التليفزيون، يصبح جورج بوش في غرفة نومي بالقاهرة كل يوم.

وأدوس بإصبعي على الزر لأطفئ الشاشة، ليزول الوجه، ويزول الصوت، وتزول غربتي بلا جدوى، إذا انطفأت الشاشة في بيتي، فهي مضاءة في بيت الجيران، والصوت يأتيني عبر الجدران، الصوت يأتيني من الشارع، من كل مكان ومهما سددت أذني يأتيني الصوت عبر الأثير، والعيون الإلكترونية تنقل الصوت والصورة عبر آلاف الأميال من الشمال إلى الجنوب.

إنه التليفزيون والأقمار الصناعية، وتكنولوجيا الاتصال والبث الإعلامي، يبثون في آذاننا الكذبة وراء الكذبة؛ من كثرة التكرار تصبح حقيقة.

إنهم يزيفون الوعي، واللاوعي. أقاوم الزيف، أواصل الصراع، والطريق الشاق اللانهائي للبحث عن الحقيقة. تضيع الحقيقة مثل نقطة ضوء في ظلامٍ دامس، مثل لحظة حب في عالمٍ مليء بالكراهية، مثل قطرة عدل في بحر من الظلم.

وفي مثل هذا العالم من ذا الذي لا يشعر بالغربة؟ امرأة كانت أو رجلًا؟ عربية كانت أو غير عربية؟

لم يعد العالم كما كان كبيرًا؛ أصبح بحكم سرعة الاتصال صغيرًا مثل القرية الواحدة، يحكمها شيخ القبيلة، بالسلاح النووي والقتل الجماعي، يجلس على العرش مثل الإله، يطلب الخضوع من الجميع. ومَن يرفع رأسه يقطع على الفور.

نظامٌ عالميٌّ جديد، أبويٌّ طبقي، تحكمه قوًى عظمى واحدة، عسكريةٌ نووية، ذكورية، ترفع فوق الرأس النووي كتاب الله، تقتل باسم الرب، وتستولي على أموال الغير باسم الحق، وتقهر النساء باسم الحب، وتكسب الملايين من تجارة السلاح على حين يموت الأطفال جوعًا.

في عالمٍ كهذا لا يمكن أن أكتب عن الغربة التي أحسها كامرأةٍ عربية دون أن أكشف عن الروابط الخفية والمعلنة التي تربط الحكام في جميع أنحاء العالم شرقًا وغربًا، وشمالًا وجنوبًا. فلم يعد العالم مقسَّمًا إلى شمال وجنوب أو شرق وغرب.

أصبح العالم مقسمًا إلى حكام ومحكومين، الحكام أغلبهم ذكور وقلة من الإناث، والمحكومون أغلبهم نساء وشعوبٌ مقهورة من النساء والرجال.

يخربون العقل الظاهر والباطن. يمتلئ الكون بإحساس ثقيل كالهواء الراكد. تغوص الروح في قاع الجسد، حتى بطن القدمَين.

في مثل هذا المناخ نزحف الغربة مثل الماء البارد يسكب فوق الرأس، حتى أخمص القدم في الشتاء الصاقع.

وتظل غربة المرأة أشد؛ لأنها فوق كل ذلك «أنثى». وليس الأنثى كالذكر. وللرجال السيادة وللمرأة الخضوع. فما بال الأمر إذا كانت فقيرة، بلا حب ولا جاه ولا مال، سمراء الوجه، مشقَّقة اليدين، لا تعرف القراءة ولا الكتابة مثل ابنة عمتي؟

منذ أيامٍ قليلة ذهبت إلى قريتي كفر طحلة في وسط دلتا النيل، وجلست إلى جوار ابنة عمتي، في صحن الدار كان هناك جهاز التليفزيون يتربع على منضدةٍ خشبيةٍ كالحة. وعلى الشاشة رأيت وجه جورج بوش.

رفعت زينب وجهها إلى الشاشة، شوحت بيدها المعروقة السمراء في الهواء وتمتمت بكلماتٍ مبتورة، ومن باب الزربية المفتوحة كانت البقرة تطل برأسها، وتتابع الصورة فوق الشاشة، تصدر عنها أصواتٌ مبهمة غير مفهومة.

ثم اختفت صورة جورج بوش، ورأينا امرأة نصف عارية، تتراقص في إعلانٍ تجاري عن «شامبو» أمريكي، وهزت البقرة رأسها علامة النفي، أو عدم الفهم. وفي عينَيها المتسعتَين رأيت الغربة كالسحابة الرمادية.

واكتشفت الترابط بين الإحساس بالغربة وعدم الفهم.

لا بد أن الإحساس بالغربة يشمل الجميع؛ المرأة والرجل، الإنسان والحيوان. فالحيوان أيضًا يشعر بالغربة حين يشعر بالظلم.

وفي عيون البقرة المتسعة رأيت الغربة مرسومة داخل «النِّني»، لكن غربة المرأة أشد؛ لأن الإنسان يدرك الغربة أكثر من الحيوان، ولأن المرأة تباع في سوق الزواج كما تباع البقرة. وداخل الزواج تفقد المرأة، ذاتها تصبح زوجة فلان، أو أم فلان، وأولادها وبناتها يحملون اسم رجلٍ آخر هو زوجها، له الحق في أن يطلقها بكلمةٍ تخرج من بين شفتَيه، أو يتزوج عليها امرأةً أخرى أصغر سنًّا، أو أكثر مالًا، حق مطلق يضمنه له القانون والشرع.

في ظل هذا القانون تعيش المرأة إحساس الغربة المزدوج، داخل البيت وخارجه في العالم الذكوري الممدود شرقًا وغربًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤