الفصل الثالث عشر

علماء الأحياء البحرية

انطلقَتْ أنَّا وبيتر جون في ذلك الصباح والشطائر في جيوبهما لقضاء اليوم خارج المنزل لاستكشاف الخلجان عند الطرف الجنوبي من الجزيرة في قاربيهما. تناولا غداءهما على جزيرة صغيرة برزت من تحت سطح البحر للتو بعد انحسار المد عنها، والتي رأيا بحماقة أنهما سيرتاحان فيها. كان البحر هادئًا، والضباب يهبط تدريجيًّا، ولكن تشمَّمَت أنَّا الهواء وقالت إن هذا إلا تعتيم صيفي سينزاح قبل حلول المساء. ثم اقترحت مغامرة. كانت السفينة تشالدار قد عادت إلى مكان رسوِّها عند جزيرة هالدر، وسمعا عبر القناة صوت إنزال مرساتها.

قالت أنَّا: «ما رأيك في أن نزورها. ربما يدعوننا لتناول الشاي. إن علماء الأحياء البحرية لطفاء. تناولت معهم الشاي ذات مرة عندما كانت السفينة مو القديمة هنا.»

اعترض بيتر جون على اقتراحها. لم يكن ثمة حظر مفروض على عبورهما القناة، ولكن راوده شعور غامض بأن الرحلة ستُعَد تخطِّيًا للحدود.

ردت أنَّا سريعًا: «لا يهم. ليس ممنوعًا علينا أن نذهب. هذا بالإضافة إلى أنهم لن يرونا من مكانهم على الشاطئ في هذا الجو الضبابي. وسنعود قبل موعد العشاء بفترة طويلة. الرياح ليست قوية، وستكون الرحلة آمنة كما لو أننا نعبر خليجًا. ليس من المرجح أن تتوفر لنا مثل هذه الفرصة مجددًا.»

قال بيتر جون شيئًا عن التيارات البحرية، ولكن أنَّا ضحكت ساخرة منه. وقالت: «ثمة أمواج متلاطمة على بعد ميلين شمالًا، ولكن لا يوجد هنا ما يدعو للقلق. لقد استخدمت قاربي في عبور القناة أكثر من مرة. أنت عديم الخبرة بالبحر، أما أنا فمتمرسة فيه، وعليك أن تصدق ما أقول. أنا أصدق ما تقول عندما يتعلق الأمر بالطيور.»

رأى بيتر جون أنها محقة. إن الصغار يحترمون بعضهم خبرات بعض كثيرًا، وأبدت أنَّا معرفة مذهلة بالقوارب والمد والجزر وعالم الملاحة برمته. ثم أغارت على تردده بحجة أخرى. «قد يرسلنا أبي لعبور القناة في أي وقت أراد، ولكننا سنعبرها مع جريجارسن على متن القارب السريع، ولن يكون الأمر ممتعًا، أو على متن القارب الطويل البطيء كبقرة. أما على متن قوارب الكاياك الصغيرة السهلة القيادة هذه، فسننساب على سطح الماء بسرعة كبيرة. وإذا أردت، فسأمنحك أفضلية لتسبقني بخمس دقائق قبل أن أسابقك.»

لا يمكن لصبي أن يقاوم «تحدِّيًا»، فقبل بيتر جون التحدي، وركبا قاربيهما واتجها نحو جزيرة هالدر، وكانت موراج تجلس مكتئبة على ركبة صاحبها.

زاد الضباب كثافةً، ولكنه كان أشبه بستار من الحرير، بدت جزيرة هالدر من خلفه كطيف. لم يتسابقا، ولكنهما انخرطا في حديث شيق، فكان القاربان يسيران شبه متلاصقين. كانت أنَّا تتحدث عن حملات صيد الحيتان التي وصفتها لبيتر جون بأنها أكثر ما يعتز به النورديون. لم تتذكر أنَّا وصول الحيتان الطيارة إلى جزيرة الخراف إلا مرةً واحدةً، فالحيتان عادةً ما تسلك القنوات الأوسع خلف جزيرة هالدر. ولكن ظلت هذه المرة الوحيدة مطبوعة في ذاكرتها رغم أنها كانت طفلة صغيرة حينئذٍ. روت كيفية إرسال الإشارات النارية عبر الجزر، باستخدام فنارات مبنية على جميع الرءوس البحرية، وكيف هرع كل الرجال الذين رأوا هذه الإشارات إلى قواربهم وأبحروا إلى مكان التجمع المحدد، وكيف أنه لا يمكن لأحد منهم ألا يهتدي لمكان التجمع، فقد كانت جميع المسارات البحرية مكتظة بالناس، كما أن الحيتان لا تأتي إلا في الأجواء الصحوة. ووصفت كيف وجهت القوارب قطيع الحيتان، كما توجِّه الكلاب قطعان الأغنام، قاطعة الطريق على أي حوت يحاول الفرار، وموجهةً قائد القطيع ببطء نحو أحد الخلجان. وبمجرد دخول قائد القطيع، تبعه الباقون، وتحوَّل الخليج إلى اللون الأبيض بسبب تكدُّس تلك الوحوش العمياء الهائجة. ثم بدأ القتل، الذي لم تشهده أنَّا، فقد أسرعت بها مربيتها بعيدًا عن المشهد، ولكنها تمكنت من وصفه كما سمعته من الآخرين، محولةً إياه إلى قصة وحشية. استمع إليها بيتر جون باهتمام، ثم تحول اهتمامه إلى امتعاض في النهاية.

قال: «هذه وحشية.»

قالت الفتاة: «ربما كان الأمر كذلك بالفعل، إلا أن الكثير من الأمور الجيدة وحشية في الأساس، مثل قتل الخنازير والصيد بالطعوم الحية. على أية حال، تضع هذه الوحشية المال في جيوب شعبنا الفقير، وتوفر لهم الطعام والإضاءة في الشتاء الطويل.»

«رغم كل ذلك، أشعر بالأسف تجاه الحيتان.»

ردت أنَّا قائلة: «لا تكن سخيفًا. إنك لا تشعر بالأسف على أسماك الحدوق والهلبوت والسلمون البحري. إن الأسماك من ذوات الدم البارد ولا تشعر.»

قال بيتر جون طالب التاريخ الطبيعي وقد فاض به الكيل: «الحيتان ليست أسماكًا.»

لم ينتبها أثناء حديثهما أنهما عبرا مياه القناة الهادئة واقتربا كثيرًا من جزيرة هالدر، فرفعا ناظريهما ورأيا السفينة تشالدار فوقهما. إن قوارب الكاياك لا تصدر صوتًا، وساعدهما الضباب على الاقتراب من السفينة دون أن يكتشفهما أحد. كانت السفينة راسية بكل أناقة وهدوء، وكان الدخان يتصاعد من مدخنة مطبخها على هيئة تيار حلزوني رفيع مصحوب برائحة طعام يسيل لها اللعاب. كان ثمة شخص يفرغ الرماد من غرفة الموقد.

قالت أنَّا: «يا للروعة! أشم رائحة شاي. فلنهلل لها. مرحى لكِ يا تشالدار!»

جذب صوتها وجه رجل أطل من فوق سور السفينة. كان رجلًا مُسِنًّا، أسمر البشرة، معقوف الأنف، بدينًا إلى حدٍّ ما. كان الرجل يرتدي قبعة بحارة وحلَّة صوفية، ولكنه لم يبدُ بحَّارًا. وبدت على وجهه أمارات الحيرة والمفاجأة.

همست أنَّا: «أعتقد أنه أحد العلماء الدنماركيين.» ثم رفعت صوتها.

وقالت: «أنتم علماء الأحياء البحرية، أليس كذلك؟ لقد أتينا لزيارتكم من جزيرة الخراف على الجانب الآخر من القناة.»

قالت أنَّا هذه الكلمات باللغة الدنماركية، ولكن بدا على وجه الرجل أنه لم يفهمها. ثم كررت ما قالته باللغة الإنجليزية، فبدا على الرجل الفهم.

وقال: «انتظرا. سأسأل أحدًا»، ثم اختفى.

عاد الرجل بعد دقيقة ومعه رجل آخر، رجل طويل القامة لوحت الشمس وجهه يرتدي معطف هاريس من الصوف الخشن ويضع غليونًا بين أسنانه.

سألهما الرجل الآخر: «من أين أتيتما أيها الصغيران؟»

«أنا الآنسة هارالدسن من جزيرة الخراف، وهذا صديقي بيتر جون. جئنا لزيارتكم. هل يمكننا الصعود إلى سطح السفينة؟»

قال الرجل ذو الغليون وهو يغمز لرفيقه: «بالطبع يمكنكما ذلك.» أُنزِل سلم الصعود لهما وربط الصغيران قاربيهما في سلمته الأخيرة، وبدآ يحاولان الخروج من القاربين بحرص. يتطلب الأمر بعض المهارة للخروج من قارب الكاياك.

عندما وصلا إلى سطح السفينة المزدحم، وجدا ثلاثة بحارة آخرين انضموا إلى المجموعة.

«انتظرا هنا للحظة يا عزيزيَّ»، قالها الرجل ذو الغليون وهو يتقدم نحو مقدمة السفينة ومعه بقية المجموعة تاركًا أنَّا وبيتر جون مع البحارة الثلاثة. لم يرَ الصبي سوى سطح سفينة قذر، على النقيض تمامًا من المراكب الأنيقة التي تخيلها. كانت ثمة مساحة خالية صغيرة على غير العادة، وما بدا وكأنه شبكة عملاقة، كانت ملقاة في إهمال على سارية قصيرة عند مؤخرة السفينة. كان المعاونون البحريون منشغلين عند جانب السفينة. ولكن أجالت الفتاة عينيها المتمرستين ورأت ما هو أكثر من ذلك.

ثم همست لبيتر جون قائلة: «هذا المكان غريب. لا أرتاح لما يحدث هنا يا بيتر جون. هؤلاء الرجال ليسوا طاقم بحارة في مركب صيد — أيديهم ليست متقرحة. إن بحارة مراكب الصيد دائمًا ما يتعرضون للسع والتسمم. كما أنهم ليسوا دنماركيين؛ على الأقل لا يبدون كدنماركيين. ماذا يفعلون بقاربينا؟»

«إنهم يرفعونهما على متن السفينة.»

ظهرت في صوت الفتاة فجأةً نبرة قلقة وهي تقول: «لماذا؟» «حسنًا، لا يعجبني ما يحدث … انظر إلى شبكة الصيد. هذا سخيف. إنها لا تحتوي على ألواح لفرد الشبكة … ثمة خطب ما في هذه السفينة. فلنطلب منهم أن يطلقوا القاربين مجددًا ونعود من حيث أتينا.»

قال بيتر جون: «لن يمكننا أن نفعل ذلك بطريقة مباشرة. أعتقد أنه يجدر بنا أن نفكر في الأمر مليًّا الآن … انتظري، حتى يعود هؤلاء الرجال على أية حال.» ولكن انتقلت عدوى تشكك أنَّا إليه، وظل يرمق القاربين الصغيرين بقلق وهما يتأرجحان حتى وصلا إلى سطح السفينة.

التفت بيتر جون نحو أنَّا عندما سمعها تطلق صرخة مكتومة. كانت ثمة امرأة تقترب منهما؛ امرأة ترتدي فستانًا من الصوف وتضع كابًا من الفرو على كتفيها. لم تكن ترتدي شيئًا على رأسها وكان شعرها الأحمر مذهلًا. حان الآن دون بيتر جون ليقلق بشأن القاربَين؛ فقد تعرَّف على شخص رآه من قبل، الآنسة لادلو الجميلة التي زارت فوسي منذ شهرين لتحضر حفل شاي.

ارتسمت ابتسامة على شفتَي المرأة الجميلة. وأبدت أنثى الصقر موراج تعبيرًا قويًّا عن عدم الرضا عندما رأت الآنسة لادلو. ولو لم يكن بيتر جون قد ربط رسنها بإحكام، لاتخذت من شعر هذه المرأة الأحمر ذي التسريحة الأنيقة مجثمًا لتحط عليه وتعبث به كما يحلو لها.

قالت المرأة: «يا له من طائر شرير! أرجو أن تكون قادرًا على السيطرة عليه … لطفٌ منكما أن تأتيا لزيارتنا! لا بد أنكما تتوقان لتناول بعض الشاي. تعاليا يا عزيزَيَّ، ولكني أعتقد أنه من الأفضل أن تتركا هذا الطائر هنا.»

رُبط رسن موراج إلى أحد الأعمدة، وتُركت فوق سطح السفينة وهي ترفرف بجناحيها في نوبة هياج قوية. تبع الصغيران السيدة إلى داخل غرفة على سطح السفينة يُستخدَم جزء منها باعتباره غرفة خرائط والجزء الآخر باعتباره غرفة ركاب. كانت الغرفة صغيرة ومريحة، وكان الشاي موضوعًا على طاولة مكسوة بالمشمع، إلى جانب وليمة عامرة اشتهتها نفساهما. كان يجلس في الغرفة ثلاثة رجال، الرجل الأسمر الشاحب الذي كان أول من تحدَّثا إليه، والرجل ذو الغليون الذي لوحت وجهه الشمس، ورجل طويل القامة نحيل ذو وجه رفيع ووجنتين بارزتين وشارب بدأ الشيب يغزو طرفيه. نهض الرجال الثلاثة في أدب عندما دخلوا الغرفة وانحنوا أمام أنَّا.

قالت المرأة: «ها هما زائرانا، أنا على يقين من أنهما جائعان. لقد حضرا من الجزيرة. إن الضباب يزداد كثافةً، ولا أعتقد أنه يجدر بنا تركهما يرحلان حتى ينقشع. ما رأيك يا جو؟»

قال الرجل الطويل القامة: «قد يتعرضان للخطر. علينا أن ننتظر عودة القبطان على أية حال. سيعود على متن القارب في غضون ساعةٍ أو نحوها.»

دخل خادم يحمل الماء الساخن وطبقًا كبيرًا مليئًا بالكعك المحمص. أعدت السيدة الشاي دون أن تتوقف عن الثرثرة. كانت تدعو الرجل الشاحب باسم إيريك والرجل الذي لوحته الشمس باسم لانسي، إلا أن أغلب حديثها كان موجهًا للرجل الطويل القامة المدعو جو. تحدثت عن الطقس ونورلاندز ولندن والماشية والسفن والبحر. كان واضحًا تمامًا أن هؤلاء الأشخاص إنجليزيون، ولا شأن لهم بالأحياء البحرية، وأطلت الحيرة بوضوح من عينَي أنَّا.

جاء حديث الرجل الطويل القامة في صورة سؤال عن جزيرة الخراف. كان مهذبًا، ولم يبدُ عليه الفضول المبالغ فيه، ولكن بدا جليًّا على وجوه الآخرين أن هذا الموضوع مهم بالنسبة إليهم. كانوا يثرثرون كثيرًا مثلما قد يفعل طاقم يختٍ جنح إلى أراضٍ غريبة ووصلتهم فجأة أخبار عن أشخاص آخرين من بلدهم نفسه.

سأل الرجل الذي يُدعَى لانسي: «هل والدك في المنزل؟ إنه يملك منزلًا رائعًا على الجزيرة، أليس كذلك؟ لقد سمعنا عنه في جزيرة يالمارزهافن. هل أنتما شقيقان؟»

«لا، لسنا كذلك. هذا صديقي بيتر جون هاناي. إنه إنجليزي. وهو يقيم معنا.»

اتسعت أربعة أزواج من الأعين.

وسأل الرجل المدعو جو بحماسة مفاجئة في صوته: «هل يُصادف أنك ابن السير ريتشارد هاناي؟»

أومأ بيتر جون برأسه أن نعم. وأضافت أنَّا: «نعم، والسير ريتشارد مقيم معنا أيضًا.»

قالت المرأة: «لا بد أن نرد لكما الزيارة. لطالما رغبت في لقاء السير ريتشارد، ووالدك أيضًا يا عزيزتي.»

كانت الأفكار تدور في ذهن بيتر جون بسرعة منذ أن فتحت رؤية الآنسة لادلو أمامه بابًا يؤدي إلى عالمٍ مظلم. كانت الحيرة تبدو على وجه أنَّا، ولكن فقط بسبب أن السفينة تشالدار كانت مختلفة عن السفينة مو القديمة، وكان عليها أن تراجع معلوماتها عن علم الأحياء البحرية، ولكن على الجانب الآخر، أدرك الفتى أنهما عثرا على معسكر الأعداء مصادفةً. كان قد سمع ما قاله ساندي، وأخبرته أنا أيضًا بالقصة كاملة، ومنذ وصوله إلى جزيرة الخراف ومهمته الرئيسية هي المراقبة. فخلف كل مغامراته مع أنَّا، كانت هذه المهمة هي شغله الشاغل. أعادته رؤية ليديا لادلو إلى رشده، وأصبح في مواجهة أعداء هارالدسن في تلك الغرفة الصغيرة، ألبينوس الشاحب، وتروث قوي البنية، وبارالتي النحيل المتوتر. كانت المجموعة تنقص واحدًا فقط، وكان أشدهم قوةً. كان عليه أن يفر وأنَّا، مهما كلَّفهما الأمر، ليوصلا لذويهما هذه الأخبار الكارثية.

قال بيتر جون وهو ينهض واقفًا: «يجدر بنا أن ننصرف وإلا سيقلق ذوونا علينا.»

قال بارالتي: «لا يمكنكما أن تنصرفا في مثل هذا الطقس السيئ.» نهض بارالتي أيضًا وفتح باب الغرفة، كان ثمة جدار سميك من الضباب يقف منتصبًا وراء جانب السفينة.

قال بيتر جون: «معي بوصلة، ولا يمكننا أن نضل طريقنا.»

قال الرجل: «لا يجدر بنا أن نخاطر. لن نجرؤ على مواجهة والدك إذا ما ألمَّ بك خطب ما.»

قال تروث: «علينا أن ننتظر حتى يعود القبطان»، ووافق الباقون على كلامه.

بدأ بيتر جون يشعر باليأس. فقال: «نحن متسخان. هل يمكننا أن نغسل أيدينا؟».

قالت المرأة: «بالطبع. تعاليا إلى غرفتي في الأسفل، كلاكما.» بدا لبيتر جون أنها تنظر إلى الآخرين نظرةً ذات مغزى وأنها تومئ برأسها إيماءة خفيفة. ثم أمسكت بيد أنَّا وقادتها إلى خارج الغرفة، وتبعهما الصبي. تلكأ بيتر جون قليلًا، وسمع، أو خُيِّل إليه أنه سمع، أحد الرجال الثلاثة يقول متعجبًا: «يا إلهي، لقد حصلنا على الورقة الرابحة الآن. إن هذا يصب في صالح خطة القبطان.»

صحبتهما الآنسة لادلو عبر سلم شديد الانحدار يؤدي إلى ممر ضيق تصطف الغرف على جانبيه. كانت الغرفة الكبيرة في نهايته هي غرفتها، وأشارت للصغيرين بدخولها بطريقة ملؤها الود. قالت: «ستجدان كل ما تحتاجان إليه يا عزيزيَّ. المناشف والمياه الساخنة. الحمام بجوار الغرفة. سأعود لكما بعد قليل لأصطحبكما لأعلى ثانية.»

ولكن بعدما تركتهما، سحبت خلفها بابًا جرارًا في نهاية الممر. انطلق بيتر جون خلفها وحاول فتح الباب. كان الباب محكم الإغلاق من الخارج.

ذهبت أنَّا لغسل يديها واستخدمت مشط جيب لتصفيف شعرها. ثم قالت: «هذه السفينة غريبة، وهؤلاء الأشخاص غريبو الأطوار. ولكني أراهم عطوفين. إنهم طاقم يخت عادي، ولكن السفينة تشالدار لا تشبه اليخوت. إن ملابسهم الأنيقة لا تناسب مركب صيد متسخة.»

كان بيتر جون ينظر عبر كوة الغرفة إلى جدار الضباب. وقال: «إنهم ليسوا عطوفين. إنهم أعداؤنا … أعداء والدك ووالدي. إنهم نفس الأشخاص الذين حاولوا الإمساك بك في المدرسة. وهم أنفسهم مَن ظللنا نتخذ الحيطة والحذر منهم في ليفرلو. يجب أن أخبرك بكل ما أعرف، فقد وقعنا في فخ لا فرار منه.»

وفي تلك الغرفة المعتمة، أخبرها بيتر جون بالقصة كما حُكِيَت له، وأخبرها بأمور كثيرة أخفاها عنها هارالدسن خوفًا عليها، وأعطى معنًى وهيئةً للشكوك التي ظلت كامنة في رأسها لفترة طويلة. ربما قصَّ الصبي القصة دون تجميلها، وربما تخللتها نزعة الصبيان إلى إضفاء نزعة درامية على الأمور، ولكن بيتر جون كان واقعيًّا ولم يكن ليخطئ في سرد النقاط الرئيسية. جلست أنَّا صامتةً تستمع إلى القصة مثل فأر، ولكنها أطلقت صيحة خافتة في نهايتها.

وقالت: «هل سيهاجمون جزيرتنا؟ وهل سرنا نحو أسْرنا بقدمَينا؟ يا إلهي، بيتر جون، أنا المذنبة! أنا من جررتك إلى هذه المغامرة السخيفة.»

قال بيتر جون: «بل أنا المذنب، فقد كان يجدر بي أن أتذكر. كنت أعلم ما يحدث، أما أنتِ فلا تعلمين شيئًا.»

تعلق الصغيران البائسان أحدهما بالآخر بينما يزداد الضباب كثافةً خارج الغرفة وتزداد العتمة داخلها.

•••

في الوقت نفسه، في الغرفة التي غادراها على سطح السفينة، انعقد نِقاش محموم. بفضل ما عرفته فيما بعد، يمكنني أن أقص ما حدث كما لو كنت واقفًا خارج باب الغرفة أتنصت. كان من المفترض أن يعود الرجل المدعو القبطان بعد ساعة، وكان يجب على الرجال الثلاثة والمرأة أن يتحدثوا في الكثير من الأمور قبل عودته. يمكنني تخيل حديثهم السريع المرتبك، وتبدل حالهم بين الإقدام والتراجع، وانهيار ثقتهم المفاجئ بسبب مخاوفهم المفاجئة. لا بد أن شبح الخوف هذا كان يخيم عليهم طوال الوقت. فذلك القبطان الغائب لم يعد يمثل رفيقًا بالنسبة إليهم، بل أصبح سيدًا. كانوا أشخاصًا يمتلكون خططًا لا تخرج عن نطاق الحضارة. وكانوا يتمتعون بسمعة يخشون ضياعها، وطموحات تتطلب بعض الاحترام للأعراف، وحيوات مريحة ليسوا على استعداد للتضحية بها. ولكنهم أصبحوا تابعين لرجل لا يهتم لأيٍّ من هذه الأمور، رجل من أرض أجنبية تخلى عن عالمهم منذ أمد بعيد. كانوا أشبه بصبية مدارس يلعبون لعبة القراصنة ويجدون أنفسهم فجأة ضمن رجال قرصان «اللحية السوداء» الحقيقي. أعتقد أن بارالتي كان أشدهم خوفًا. أما ألبينوس، فكان معتادًا على الإجرام ويعرف الجانب المظلم من القانون بالفعل. كان تروث رجلًا صلبًا، رياضيًّا معتادًا على المخاطرة ولم يكن من السهل إرهابه حتى يرى أبعاد المشكلة كاملة. ولكن، كان بارالتي المفكر الهش الذي وجد نفسه في عالم حيث لا فائدة تُرجى من مهارته القديمة، وكانت شريكته برفقته، المرأة التي أصبحت ترى الآن جميع خططهما الحريصة على وشك الانهيار، وليس هذا فحسب بل ستنهار على نحو كارثي.

لا بد أن تروث هو من تحدث أولًا، فقد كان أكثرهم قدرةً على تمالك نفسه.

قال: «الأمور تصب في صالحنا. لقد ابتسم الحظ لنا وحصلنا على رهائننا. والآن، يمكننا أن نتفاوض.»

قال بارالتي بصوتٍ حاول أن يحافظ على هدوء نبرته: «هل تعتقد ذلك؟»

«نعم، لقد أمسكنا بالفتاة، وهي أكثر ما يهم هارالدسن في هذا العالم. كما أمسكنا بالصبي، وهو قرة عين هاناي. لم يتبقَّ إلا لومبارد، وهو ليس ذا قيمة كبيرة. ولا توجد أخبار عن كلانرويدن.»

«ماذا حدث لكلانرويدن؟»

«الله وحده يعلم! ربما هرب … لا، إنه ليس من ذلك النوع من الرجال. ربما وضع القبطان عقبة في طريقه، فهو داهية ويمكنه فعل أي شيء.»

«هل عرفت شيئًا عن خطة القبطان؟»

«إنها واضحة كالشمس. قرصنة عتيقة الطراز. سيهبط على الجزيرة مثل أحد غزاة الفايكنج لينهبهم. وإذا ما أبدوا أي مقاومة، ومن المرجح أن يفعلوا، فسيقتلهم. سيصل القبطان إلى ما يصبو إليه ولن يتورع عن إسالة بحر من الدماء ليفعل. وبعد أن يحصل على ما يريد، سيختفي وعصابته تمامًا، كما فعل من قبل. أعتقد أنه سيتعامل معنا بعدل — ربما — ولكن سيكون علينا أن نختفي معه. هل يتخيل أيٌّ منكم قضاء ما تبقَّى من حياته مطاردًا في أنحاء الكرة الأرضية، حتى وإن كانت جيوبه عامرةً بالمال؟ دينجرافيل لن يمانع ذلك، فهذه مهنته، ولكن ماذا عنك يا بارالتي؟ ماذا عنك وعن أفكارك الطموحة في العمل العام؟ وماذا عنك يا ليديا؟ إنك تحبين وسائل الراحة الخاصة بك. وماذا عنك يا إيريك؟ هل ستحتمل الحياة دون سباقات الخيول يا صديقي، ودون المزيد من المراهنات في مونت كارلو؟»

تأوَّه بارالتي وهو يقول: «يا إلهي! ألا يمكننا أن نقنع الرجل بأن يتعقل؟»

«لن يمكننا ذلك؛ فهو يرى ما يفعله عين العقل بالفعل. إنه يعي ما يريد بوضوح أكبر مما قد يفعل أيٌّ منا، كما أنه يملك القوة الكافية لتحقيق غايته. ما نحن إلا مجرد ركاب، أما هو فالقوة الدافعة. ماذا بيدنا أن نفعل لكي نوقفه؟ إنه محاط بهذين الشريرَين من أمريكا الجنوبية اللذين يثق بهما ثقة عمياء، كاريراس ومارتل، إن مجرد رؤيتهما تبث الخوف في نفسي. كما أن لديه طاقمًا من المسلحين. سيورطنا جميعًا في حرب العصابات تلك حتى يوحد مصيرنا مع مصيره.»

قال ألبينوس مزمجرًا: «ولكنه لن يستطيع إجبارنا إذا ما رفضنا المشاركة.»

«ألا يستطيع إجبارنا؟ أنا لم آخذ قياساته بالطبع، ولكنه أضخم الأشرار الذين رأيتهم في حياتي. أعلم ما يدور بخلدك يا إيريك. إنك تفكر في التوصل إلى اتفاق خاص بنا مع الأناس الذين على الجزيرة. لقد راودتني الفكرة نفسها، ولكني أؤكد لك أنها لن تنجح. إن القبطان بارع في هذه اللعبة جدًّا. وإذا ما حاولنا خيانته، فسيقتلنا رميًا بالرصاص.»

يمكنني تخيل هؤلاء المتآمرين الخائفين الأربعة جالسين في أماكنهم واجمين لبرهة من الوقت حتى يفيقوا على حماسة تروث المفاجئة.

حيث قال: «ولكن الأحوال تحسنت الآن. لقد حصلنا على العناصر اللازمة لعقد صفقة متحضرة. حمدًا لله على هذين الصغيرين المباركين! لا أحبِّذُ استخدام الصغار في مثل هذه الأمور، قد تتذكر أني لطالما عارضت هذه الفكرة من قبل، ولكن الضرورات تبيح المحظورات. وسيكون القبطان غبيًّا جدًّا إذا لم يستغل هذه الفرصة. هذه هي الدجاجة التي ستبيض لنا ذهبًا، في حين أن الطريقة الأخرى لن تكون سوى مقامرة في غير صالحنا.»

سأل بارالتي: «ولكن، هل نريد كلنا الشيء نفسه؟ نحن نريد الكثير، ولكن القبطان يريد كل شيء. وتذكر أن هارالدسن ليس وحيدًا. فمعه هاناي، وهاناي رجل صلب جدًّا.»

قال تروث متجهمًا: «سيكون هذا هو الوقت المناسب لخيانة القبطان إذا ما تمادي في غبائه. بمجرد أن تتم الصفقة، نضع حدًّا لقرصنته الدموية، وهذا هو أكثر ما نرغب فيه.»

ثم وصل القبطان.

يمكنني تخيُّله عندما دخل إلى الغرفة الخانقة، وجهه لامع، وعيناه الشاحبتان نصف مفتوحتين بسبب الضوء المفاجئ الساقط عليهما.

قال القبطان وهو يُلقِي نظرة على جهاز الكرونومتر: «باقي ساعة حتى موعد العشاء. ثمة وقت كافٍ لتناول الرَّم والحليب الساخن، فقد كان البرد قارسًا على متن القارب. ولكن مهمتي نجحت. لقد تمت عملية الاستطلاع أيها السادة. غدًا هو اليوم الموعود.»

أخبره تروث بأمر أنَّا وبيتر جون. جلس دينجرافيل يستمع برأس مرفوع، كان أشبه بأَيلٍ يحدق في الأفق، وجعدت ابتسامة وجنتيه النحيلتين.

ثم قال: «لقد ابتسم القدر لنا. يمكننا الآن أن نضيف نقطة أخرى إلى النقطة التي أحرزها فريقنا سابقًا. فما نملك الآن يساعدنا على طلب المزيد؛ وأكثر بكثير مما كنا نطلب.»

ولكن كانت ثمة نبرة في صوته جعلت بارالتي يرفع بصره نحوه في قلق.

وقال: «لا شك في أن هذه المستجدات ستغير خطتنا برمتها. يمكننا الآن أن نتفاوض، بينما كنا سابقًا غير قادرين إلا على الغصب.»

«لا أعتقد ذلك يا صديقي.» قالها دينجرافيل باستخفاف كما لو أن الأمر برمته ليس مهمًّا. ثم استطرد: «إنهم لن يتفاوضوا معنا؛ على الأقل ليس بشروطنا. لا شك في أنكم تريدون الكثير من الثروة، ولكني أريدها كلها، وسيقاتل هؤلاء الرجال دفاعًا عن ثروتهم الكاملة.»

تلعثم بارالتي قائلًا: «ولكن … ولكن … هارالدسن يحب ابنته أكثر من أي شيء في الوجود، ويحب هاناي ابنه مثل ذلك.»

كانت إجابة دينجرافيل: «ربما. ولكن هارالدسن وهاناي ليسا كل من نواجههم.»

«لا دور للومبارد في الأمر.»

«لا أعني لومبارد. بل أعني اللورد كلانرويدن.»

«ولكن كلانرويدن ليس هناك.»

«ليس بعد. ولكنه سيصل غدًا.»

«كيف عرفت ذلك؟ هل وصلتك أي أخبار عنه؟»

«لم تصلني أي أخبار. ولم أعرف شيئًا عن كلانرويدن منذ غادرنا لندن. ولكني أعرف أنه سيصل إلى الجزيرة، فثمة موعد اتفقنا عليه، ولن يخذلني. كما أن كلانرويدن لن يستسلم أبدًا.»

سأله تروث: «ولكن ماذا تنوي أن تفعل يا رجل؟»

«أنوي أن أتبع الأسلوب القديم، أسلوب أسلافي النورمانديين. لقد خدمنا القدر. لا يوجد رجال على الجزيرة سوى هؤلاء الرجال الثلاثة … وغدًا سيصبحون أربعة … والباقون شيوخ وعجائز. قُطع خط الهاتف ولا يملكون قاربًا. أعتقد أن الضباب سينقشع في الصباح، ولكن ستغرق الجزيرة في ضباب أشد كثافة سيعزلها عن العالم. وسنفعل ما يحلو لنا دون معوقات أو عقبات. وإذا ما أذعنوا لمطالبنا، فهذا أفضل للجميع. أما إذا لجئوا إلى القتال، فسنقاتل، ولا شك في أننا سننتصر.»

غمغم بارالتي: «ننتصر! ماذا يعني النصر بالنسبة إليك؟»

أجابه دينجرافيل قائلًا: «كل شيء. سأحصل على غايتي حتى وإن خلفت ورائي بيتًا حولته إلى رماد وجزيرة لا يقطنها إلا الموتى.»

«وماذا بعد؟» كان صوت ليديا المتوتر هو مَن تحدث.

«بعد ذلك سنختفي، وسنخلف وراءنا لغزًا في نورلاندز لن ينجح أحد في حله. ثقوا بي، لقد خططت للأمر … نيابةً عنكم يا أصدقائي، ونيابةً عنكِ يا سيدتي الجميلة. قد تحتاجون إلى إجراء بعض التعديلات على حيواتكم، ولكن ماذا في ذلك؟ الحركة هي الحياة.»

ثم رفع كأسه ونظر نحو ليديا، وشرب الرشفة الأخيرة منه كما لو كان يشرب نخبًا.

وقال: «والآن، اسمحوا لي بإلقاء نظرة على رهائننا.» ثم نادى شخصًا يقف خارج الباب صائحًا: «مارتل، أحضر الصغيرين.»

عاد بيتر جون يروي القصة مرة أخرى … جلس الصغيران وقد خيمت عليهما التعاسة والخوف، عاجزين عن التفكير، وقد صُمَّت أذناهما عن جميع الأصوات فيما عدا صوت دقات قلبيهما. كان الصبي يكرر على فترات قوله: «يجب أن نهرب»، وكانت الفتاة تجيبه قائلة: «نعم، يجب علينا ذلك»، ولكن الكلمات لم تكن سوى نوع من الأنين، فلم يكن لديهما أي أمل. لا أعلم فيمَ كانت أنَّا تفكر، ولكن كان عقل بيتر جون مليئًا بالخزي أكثر من الخوف. لقد فشل في المهمة التي أوكلت إليه، وأدى فشله هذا إلى منح العدو أفضلية هائلة.

لم يتمكنا من حساب الوقت، وربما مرت ساعة أو اثنتان قبل أن يُفتَح الباب الجرار في الممر ويظهر وجهٌ من خلف باب الغرفة. وأضاءت يدٌ المصباح. رأى الصغيران رجلًا يزيد طوله عن متوسط أطوال البشر بقليل يرتدي حذاء بحر طويل الرقبة وصديرية بحارة … رجل لا يبدو عليه أنه بحار، فقد كان ذا وجه نحيل حليق شاحب، وكانت ثمة ندبة على جبهته، وكان حاجباه يصنعان قوسين غريبين فوق عينيه الضعيفتين الدائمتَي الرمش. وعندما تحدث، سمعا لكنته الأجنبية تُنطَق بصوتٍ خافت مبحوح. قال الرجل: «تفضلا معي. السيد القبطان يريد التحدث إليكما.»

تسبب مرأى الرجل في إثارة نوبة من الخوف الشديد لدى بيتر جون الذي كان يعاني من تعاسة ثقيلة. فقد كان يعرفه … أو على الأقل سمع عنه. فقد أسهب ساندي، عندما كنا في ليفرلو، في وصف الرجلين اللذين أحضرهما دينجرافيل معه من الحرس الشخصي القديم لأوليفا. كان هذا هو البلجيكي مارتل؛ فقد كانت ندبته وحاجباه اللذين يشبهان حدوة الحصان سمات مميزة فيه. أمام باب غرفة السطح، كان يقف رجل آخر طويل القامة محني الظهر، وكان وجهه حاد القسمات وعيناه السوداوان الضيقتان واضحتين على الضوء الخافت المنبعث من الغرفة. لا شك في أن هذا هو الإسباني كاريراس. لقد اكتمل قطيع الذئاب.

قال الصبي لأنَّا هامسًا: «لا تجيبي على أيٍّ من أسئلتهم.» كان الصمت العنيد هو السبيل الوحيد الذي تبقى لهما.

ولكن لم يكن ثمة تحقيق. كان انطباع بيتر جون عن المجموعة أنهم قلقين. فقد اختفت المعاملة الدمثة التي تلقياها أثناء تناول الشاي، وبدا أن الأربعة الذين كانوا يرفهون عنهما حينئذٍ قد فقدوا اهتمامهم بالزائرين وأصبحوا أكثر انشغالًا بأفكارهم الخاصة. أصبحت المرأة الجميلة شاحبة وأكبر سنًّا مما كانت عليه سابقًا، وفقد تروث رباطة جأشه وظل يمتص الدخان من غليونه في عصبية. أصبح بارالتي أشبه بشبح، وأصبح ألبينوس طيفًا خفيًّا. الوافد الجديد وحده هو من كان مفعمًا بالثقة والحيوية. نسي بيتر جون خوفه للحظات، ونظر بفضول إلى الرجل الطويل القامة الذي ساعد على إلقائه في الماء في فوسي. كان قوامه مشدودًا وقامته منتصبة يعطيك إيحاءً بأنه سيفٌ قد استُلَّ من غمده. كانت عيناه الفاتحتان تلمعان مثل الجليد، وكانت ابتسامته تحمل دفئًا في داخلها يماثل دفء شمس قطبية. كان مذهلًا ورائعًا وفظيعًا ووحشيًّا، وكأنه إحدى قوى الطبيعة المدمرة. ولكن الغريب في الأمر أن الصبيَّ شعر بخوف عند رؤيته في الواقع أقل من خوفه من الصورة التي رسمها في ذهنه. كان الرجل كائنًا بريًّا، مثل موراج، والكائنات البرية يمكن ترويضها أو كبح جماحها أو كسر شوكتها.

انحنى القبطان أمام أنَّا وأومأ بودٍّ لبيتر جون.

وقال: «لا بد أنكما ضيفانا اللذان سيقضيان الليلة معنا، للأسف. لسنا سفينة مؤهلة لاستقبال ركاب، وآمل ألا تمانعا أسرتنا الخشنة. لن يمر وقت طويل قبل أن ترغبا في النوم. هل تريدان تناول العشاء؟»

وجاء الرد من أنَّا: «لا نريد عشاءً، شكرًا لك. إننا نريد أن ننام، فنحن نشعر بالنعاس.»

«حسنًا. فلتصحب السيدة الصغيرة والسيد النبيل إلى مكانَي نومهما يا مارتل. ولتعطِ السيد هاناي غرفة في مقدمة السفينة، ويمكن للآنسة هارالدسن أن تنام على الأريكة في غرفة الآنسة لادلو. ليلة هانئة وأحلامًا سعيدة.»

كان هذا كل شيء. تبع الصغيران مارتل في نفس الطريق الذي أتيا منه، وتُركت أنَّا في الغرفة الكبيرة، حيث تم تحويل الأريكة بها إلى فراش. وفعل مارتل أمرًا متوقعًا، فقد أخذ مفتاح الغرفة من الباب من الداخل ووضعه في جيبه، ثم سحب الباب الجرار الذي أحكم إغلاق نفسه تلقائيًّا. كان لرؤية وجه أنَّا البائس وقعٌ شديد الثقل على نفس بيتر جون. وتبع مارتل على سطح السفينة شاعرًا بأن كل شيء قد انتهى.

سمع بيتر جون فجأة صيحةً غضبى من طائر أعادت إليه صوابه. إنها موراج جالسة على مجثمها جائعة ومبتلة بفعل الضباب ما جعلها في حالة عصيبة جدًّا من العصبية.

فقال راجيًا: «هل يمكنني أخذ صقري معي؟»

ضحك مارتل. وقال: «أعتقد أنه يمكنك ذلك إذا كنت بحاجة إلى صحبة. من الأفضل أن يذهب طائرك القبيح معك إلى الغرفة أسفل السطح.»

•••

وجد بيتر جون نفسه في غرفة صغيرة تقع أسفل مقدمة سطح السفينة. كانت الغرفة خالية إلا من سرير معلق بحبال في السقف، وكومة من البطاطين ألقاها شخص ما على الأرضية. كانت ثمة كوة كبيرة فحص مارتل بعناية مساميرها ومفصلاتها. وقال له مودِّعًا: «لا تَسِر وأنت نائم وتُغرق نفسك في البحر يا بُني.» لم يُحكِم مارتل إغلاق الكوة، بل تركها مواربة.

كان أول ما فعله بيتر جون عندما وجد نفسه بمفرده، أن فتح الكوة على اتساعها. كانت الكوة تطل على المرفأ في اتجاه الغرب، وقريبة من الموضع الذي صعدا منه إلى متن السفينة تشالدار عصر اليوم. كان الضباب ينقشع، وظهر البدر بعدما ظل لفترة طويلة سديمًا ذهبيًّا نصف منير. راودت الصبي فكرة الخروج من الكوة ومحاولة السباحة إلى الجزيرة، ولكنه نفض الفكرة عن رأسه بعدما فكر فيها مليًّا. فهو لم يكن سبَّاحًا ماهرًا، ومن المستحيل أن يقطع مسافة ميلين سباحةً في مياه نورلاندز الباردة تلك.

ثم منحته صرخةً أخرى من موراج فكرةً أخرى. لم يكن ثمة ضوءٌ في الغرفة سوى ذلك الضوء الآتي من القمر، ولكنه قطع ورقة من مفكرةٍ صغيرةٍ يحتفظ بها لتدوين ملاحظاته عن الطيور، ودون عليها رسالة. كتب في الرسالة: «نحن على متن السفينة تشالدار، وهي سفينة الأعداء. توقعوا هجومًا وشيكًا. لا تقلقوا بشأننا فنحن بخير.» لفَّ الصبي الورقة في قطعة من الحرير قطعها من ربطة عنقه، وربطها حول ساق موراج. ثم فكَّ رسنها وأطلقها عبر الكوة. وانطلقت موراج مثل السهم مخترقة الضباب الذي ينيره ضوء القمر.

حادث بيتر جون نفسه قائلًا: «فرصة النجاح ضئيلة، ولكنها تستحق المحاولة. إنها تتضور جوعًا، وإذا لم تقتل حيوانًا في القريب، فستعود إلى المنزل. وإذا ما رآها أحد في المنزل، فالسيد هارالدسن يملك تلواحًا إضافيًّا ويعرف كيفية استخدامه. وإذا ما وصلته الرسالة، فسأكون على الأقل قد نبهته لما يدور.»

أطار التصرفُ الذي أقدم عليه النومَ من عينيه وأبهجه للحظات. لم يتمكن من النوم على السرير المعلق، فجلس على كومة البطاطين وحاول أن يفكر. ولكن، لم تكن أفكاره جيدة، فلم يتمكن من وضع أي خطط. كان باب غرفته موصدًا، ومفتاحها في جيب مارتل. وكانت أنَّا محبوسة أيضًا في الطرف الآخر من السفينة. كانا محتجزَين، مثل حقيبتَين عاجزتين يمكن للعدو جرُّهما في أي اتجاه يريد. الغريب في الأمر أن القبطان لم يبدُ له بالقوة الخارقة التي تخيلها. فقد تخيله إحدى قوى الطبيعة المهلِكة، مثل عاصفة ثلجية أو زلزال. ولكنه ظل يخشى كاريراس ومارتل، فهما شريران حقيقيان. وعندما تذكر حاجبَي مارتل الشبيهين بحدوة الحصان وصوته الساخر الخافت، اقشعر بدنه في خوف حقيقي. كان دينجرافيل أسدًا جائعًا، أما مارتل فثعبان حاقد وخبيث.

لم يتبين لِكم من الوقت ظل جالسًا على البطاطين، ولكنه اعتقد أنه لا بد أن ساعات قد مرت. وزحف النوم على عينيه ببطء، فقد أُنهك جسده وعقله وأعصابه … ثم حدث أمر جعله يستيقظ بشكل كامل. مر شيء أمام الكوة ببطء وهدوء شديدين حجب قرص الضوء الداخل منها. نظر خارج الكوة ورأى، لدهشته، أن أحد قاربَي الكاياك أصبح يطفو الآن على الماء من تحته ولا يزال مربوطًا بحبل من أعلى.

وبينما كان يحدق في القارب، هبط شيء آخر أمام عينيه. كان هذا الشيء هو قارب الكاياك الآخر، الذي هبط ببطء فوق القارب الآخر في البداية، ثم استقر بجواره.

مد يده ليمسك بأحد الحبال التي أنزلت القاربين، ووجده مشدودًا. قبض بيتر جون على الحبل وأخرج ساقيه عبر الكوة، ولف جسده حوله وانزلق عليه إلى أسفل. وأصبح فجأةً جالسًا في القارب ينظر إلى أعلى نحو السفينة الضخمة المعتمة.

ثم حدثت معجزة أخرى. كان ثمة جسم بشري ينزلق على حبل من سطح السفينة تشالدار، ورأى أن أنَّا تبدل يديها الواحدة تلو الأخرى هابطةً الحبل بخفة سنجاب. رأته أنَّا، وقفزت في القارب الثاني، وأمسكت بالمجداف. تم الأمر برمته في هدوء تام وكأنهما في حلم. كان ثمة شخص على سطح السفينة في الأعلى يساعدها، فقد أُلقي الحبل المشدود خلفها وأحدث حفيفًا خافتًا عند اصطدامه بالمياه.

أرسلت أنَّا قبلة في الهواء للشخص الذي في الأعلى، وأمسكت بمجدافها، وبضربة بطيئة خافتة من مجدافها، انطلق قاربها إلى داخل السديم الذهبي. وعندما حاول بيتر جون بشكل أخرق أن يفعل مثلما فعلت، التفتت نحوه غاضبة وهمست قائلة: «بهدوء أيها الغبي. لا تنثر المياه حولك وإلا فقدت حياتك. تمسَّك بقاربي وسأجرُّك.»

وبعد بضع ضربات بالمجداف، أصبح القاربان بعيدين عن مجال رؤية السفينة تشالدار.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤