الفصل الرابع عشر

الإوز ذو القدم الوردية

انطلقا لمسافة ربع ميل قبل أن يتحدث بيتر جون. فسأل منفعلًا: «كيف فعلت ذلك؟»

بطَّأت أنَّا من سرعتها وتركت قاربها ينزلق إلى الخلف إلى جوار قاربه.

«لم أفعل شيئًا. بل فعل الرجل؛ ذلك الرجل ذو الحاجبين الغريبين، الرجل الذي دعاه القبطان باسم مارتن أو شيء من هذا القبيل.»

أطلق بيتر جون همهمة تدل على الدهشة.

وقال: «إنه مارتل، الأسوأ بينهم، لقد أخبرني أبي بذلك. ثمة خدعة في الأمر يا أنَّا. لا يمكن أن يُضمِر لنا خيرًا.»

«لقد سمح لنا بالهرب على أية حال، وهذا هو الخير الذي أريد. كنت قد غفوت على تلك الأريكة البشعة عندما أيقظني وقال إنه من الأفضل أن أهرب، فهذا المكان غير مناسب للصغار. وطلب مني أن أتبعه إلى سطح السفينة، وظللنا نسير في الظل حتى لا يرانا أحد. ولم يكن ثمة أحد على أية حال، ولم يكن ثمة ضوء سوى الأنوار المعلقة على حبال الأشرعة. كان قد أنزل قاربَي الكاياك في البحر بالفعل، وقال إنك ستراهما، فقد أنزلهما بجوار كوة غرفتك، وإذا لم ترهما فسنهبط إلى غرفتك ونوقظك. وعندما رآك جالسًا في أحد القاربين، قال إن هذا ما توقعه لأنك صبي ذكي.»

صاح بيتر جون قائلًا: «إنها خدعة. مارتل هو المجرم الأسوأ في العصابة. إنه يريد منا أن نهرب حتى يقبضوا علينا مجددًا ويصبح لديهم مبرر للتنمر علينا.»

قالت أنَّا: «فكرة سخيفة. إذا كانوا يريدون أن يعاملونا بقسوة، فلم يكن ثمة ما يمنعهم. أعتقد أن الرجل حليف لنا حقيقةً. إنه نوردي.»

«إنه ليس كذلك. إنه بلجيكي.»

«لقد تحدث باللغة النوردية بطلاقة مثل أبي تمامًا. كما أنه يعرف الجزر. كان في جولة بالقارب عصر اليوم وقال إن الحيتان قادمة. وقال إنهم سيتجمعون عند ستور روك، وصيادو الحيتان دائمًا ما يتجمعون. لا أعلم لمَ أخبرني بذلك، ولكن بدا لي أنها معلومة مهمة، فقد كررها عدة مرات. النورديون فقط هم من قد يعرفون مثل هذه الأمور.»

«ربما كان يعرف نورلاندز، ولكنه بلجيكي وهو المجرم الأسوأ في العصابة. أخبرني أبي بذلك. ماذا قال أيضًا؟»

«قال إنه يجدر بنا أن نجدف بأقصى سرعة ممكنة، وألا نعود إلى المنزل مباشرة. وإذا كنا سنتبع مسارًا، فمن الأفضل أن نتجه نحو الجزء الجنوبي من الجزيرة، إلى بيردمارش. يبدو وكأنه يعتقد أن القبطان سينطلق في إثرنا. أعتقد أنه كان يضمر لنا خيرًا يا بيتر جون، وعلى أية حال، لقد أصبحنا أحرارًا مجددًا.»

قال الصبي: «لن نظل أحرارًا لفترة طويلة.» ثم أخرج بوصلته وتوقف عن التجديف للحظات لتثبيتها. ثم قال: «أنا لا أثق به على الإطلاق يا أنَّا. إن مسارًا نحو الغرب سيقودنا إلى المنزل، وهذا هو المسار الذي سنتبعه. وإذا لم نتمكن من الوصول، فسنفعل عكس ما أملاه علينا مارتل وسنذهب شمالًا.»

قالت الفتاة: «لا يهمني أين سنرسو، طالما كان ذلك على الجزيرة.»

رفع الصبي يده وأشار إليها أن اصمتي وبدأ يتنصت.

«إذا ما اكتشفوا فرارنا، أو أخبرهم مارتل بأمر فرارنا، فسوف يلحقون بنا في ظرف عشر دقائق في قاربهم السريع. فهل تسمعين شيئًا يا أنَّا؟»

تقطَّع الضباب صانعًا ممرات وقطاعات في الماء الذي ينعكس على سطحه ضوء القمر من حولهما على شكل نجمة. لم يكن ثمة صوت، ولا حتى صوت الأمواج أو صياح النوارس.

حثَّت أنَّا بيتر جون قائلة: «هيا أسرع. كان يجب أن نكون قد قطعنا ربع المسافة عبر القناة الآن، إن كل لحظة مهمة. جدف في المياه بطول أكبر يا بيتر جون، مثلما أفعل، ولا تجدف وكأنك تصنع قوالب الزبد.»

لم ينبس أيٌّ منهما بكلمة طوال نصف ساعة. لم يكن الصبي يملك مهارة الفتاة التي وفرت عليها بذل جهد كبير، فأضاع الكثير من قوته دون داعٍ على الكثير من الضربات بالمجداف، وسرعان ما آلمته كتفاه، وانقطعت أنفاسه. كان الضباب مكدسًا في أماكن متفرقة بغرابة. فللحظات يصلان إلى بقعة من البحر خالية من الضباب، وللحظات بعدها يصلان إلى منطقة كثيفة الضباب لدرجة أن بيتر جون كان مضطرًّا إلى وضع بوصلته على ركبته، واقتربت أنَّا بقاربها منه لتسترشد به. تذكرت أنَّا في وقتٍ ما أنهما تركا موراج خلفهما، وأنها تشفق على أول يدٍ تمسها.

أجابها بيتر جون: «لا، لم نتركها. لقد أطلقت سراحها عبر الكوة، وربطت رسالة في حلقة ساقها. إذا لم تصطد أي حيوان لتأكل، فسوف يجدونها في المنزل.»

سألت أنَّا: «أي رسالة؟»

«رسالة فحواها أننا بخير، ولكن يجدر بهم أن ينتبهوا لهجوم وشيك.»

عندما وصلا إلى أحد البقاع حيث الهواء الصافي، وصل إلى أذنيهما صوت واضح لقارب سريع آتٍ من خلفهما.

قالت أنَّا: «لقد بدأت المطاردة. أدعو الله أن يزداد الضباب كثافة. لقد كنتُ محقةً بشأن مارتل. لقد أخبرني بألا أذهب إلى المنزل مباشرةً، وهذا ما فعلناه، ومن الطبيعي أن يلحقوا بنا … إلى أين تتجه الآن؟»

سقطت البوصلة على أرضية القارب وغيَّر بيتر جون اتجاهه نحو الشمال الغربي.

قالت أنَّا: «نصحنا مارتل بأن نذهب جنوبًا.»

رد عليها بيتر جون قائلًا: «لهذا السبب سنذهب شمالًا.»

لا سبيل للجدال عندما تكون في منتصف قناة بين جزيرتين في ساعات الصباح الأولى والعدو وراءك يقترب منك. فتبعته أنَّا في إذعان، ورأت أنهما كلما تقدَّما في مسارهما الجديد أكثر، اقتربا أكثر من منطقة تزداد فيها كثافة الضباب. سمعا صوت محرك آتٍ من يسارهما، ولكنهما لم يتمكنا من رؤية شيء عندما تلفتا حولهما. كانا قد دخلا مرة أخرى إلى منطقة كثيفة الضباب، وعاد بيتر جون لاستخدام البوصلة مرة أخرى. منح الخوفُ كلًّا من أنًّا وبيتر جون، وشعورُهما بأنهما ملاحقين، شعورًا جديدًا بالحماسة، انزلق القارب بإصرار عبر المياه. كان القمر يأفل، ولم يعد ضوءُه الذهبي يغير من لون ضباب البحر الذي أصبح باردًا ورماديًّا. سيبزغ الفجر قريبًا.

أصابهما فجأةً فزع شديد. توقف صوت المحرك أمامهما مباشرةً. فتوقفا وكتما أنفاسهما، وظلا يتنصتان، فلم يكن لأعينهما فائدة في مثل هذه العتمة … اقترب الصوت منهما، وسرعان ما أصبح على مسافة تقل عن عشرين ياردة منهما، ولكنهما لم يريا شيئًا. ثم بدأ الصوت يتحرك ببطء نحو الغرب.

قال بيتر جون: «كان هذا قاربهم الثاني. فصوت محركه مختلف عن القارب الآخر.»

قالت أنَّا بنبرة نصر في صوتها: «من كان محقًّا إذن؟ أخبرتك بأنه يجدر بنا أن نثق بذلك الرجل مارتل، ولكنك قلت إنه لا يجدر بنا أن نفعل. لقد أخبرنا بأمرين وخالفناهما، وكانت النتيجة أننا كنا على وشك أن يُقبَض علينا.»

لم يمرَّا بأي عقبات أخرى. كان الضباب يزداد كثافةً كلما اقتربا من الجزيرة أكثر، ولكنه أصبح أخف قليلًا عندما أخبرهما تداخل الأمواج بأنهما قريبان من الشاطئ. عند هذا الجزء من الجزيرة، كانت الجروف تصعد عموديًّا من شاطئ صخري ضيق، ولكن الصغيرين كانا قد زارا هذا المكان سابقًا، وكانا يعلمان أنهما سيتمكنان من إرساء القاربين في أحد الخلجان الصغيرة التي نحتتها مياه الجداول الساقطة من أعلى الجروف. عثرا على أحد هذه الخلجان، حيث كان الشاطئ الرملي على شكل هلال عند قاعدة أخدود عميق بين الصخور. سحبا قاربَي الكاياك إلى الشاطئ وأخفياهما خلف بعض الصخور الضخمة. ثم أمسكا أحدهما بيدَي الآخر وبدآ يتسلقان الوادي الشديد الانحدار الذي كان صخريًّا ومن الصعب تسلقه، ولكن ليس مستحيلًا. بالقرب من القمة، عثرا على بقعة مكسوَّة بالعشب والسرخس قررت أنَّا أن تجلس فيها قليلًا.

وقالت: «حمدًا لله على نعمه. إذا ما حصلت على بعض الطعام، فسأكون سعيدة. سأنام قليلًا، ويجدر بك أن تفعل المثل يا بيتر جون، فالله وحده يعلم ما سنلاقيه غدًا.»

•••

لم يكونا يملكان ساعة، ولم يتمكن بيتر جون، الذي كان قادرًا على معرفة الوقت عبر تحديد أماكن النجوم، من فعل ذلك في تلك البقاع الشمالية. غرقا في النوم في ظل صخرة، ولم يستيقظا إلا عندما سقطت أشعة الشمس على وجه أنَّا. وكان الوقت قد قارب الظهيرة.

كان الضباب قد اختفى، وكان النهار مشرقًا وحارًّا، ولكن الرؤية كانت ضعيفة. كانت جزيرة هالدر، التي كانا يريانها بكامل تفاصيلها، عبارة عن مخروط أزرق اللون لا تظهر أيٌّ من تفاصيله، وكانت القناة الفاصلة بين الجزيرتين تبدو وكأنها هوة بلا قرار، فلم تكن تعكس أي لمعان على سطح المياه.

قالت أنَّا التي تعرف طقس نورلاندز جيدًا: «سيظل الجو معتدلًا حتى الثالثة. ثم أعتقد أن الرياح ستهب مرة أخرى من الشرق، وستكون قوية.»

ثم وقفت لتتمطى، إلا أن بيتر جون أمسك بتنورتها وجذبها لتجلس مجددًا. وقال آمرًا: «لا يجب أن نُظهر أنفسنا. تذكري أنهم في إثرنا. انتظري هنا حتى أستطلع محيطنا.» زحف بيتر جون إلى خارج البقعة الخفية التي كانا يجلسان فيها، ورقد على بطنه عند حافة صخرة حيث كانت الرؤية مفتوحة نحو الشرق. ثم عاد بعد بضع ثوانٍ. وقال هامسًا: «لقد اختفت السفينة تشالدار. اختفت بلا أثر رغم أني قادر على رؤية مساحة مفتوحة من البحر تبلغ عشرين ميلًا. لا بد أننا في ساعة متأخرة من النهار، فأنا أتضوَّر جوعًا. هل أنتِ جائعة؟»

«أكاد أموت جوعًا، ولكن من الأفضل ألا نتحدث عن ذلك. لن نحصل على أي طعام حتى نعود إلى المنزل. فكيف سنصل إلى هناك؟ حددت اتجاهنا بالنسبة إلى جزيرة هالدر، ومن المفترض أن نكون على بعد ميلين شمال المنزل. ثمة طريق يؤدي إلى المنزل على قمة الجروف، وهو يكشف القناة في معظمه، ولكن بما أن السفينة تشالدار ليست في القناة، فهذا لا يهم. أعتقد أنها انتقلت إلى مكان ما عند الجانب الغربي من الجزيرة.»

سألها بيتر جون: «ماذا يوجد بين المنزل والجانب الغربي؟» كان هذا هو الجزء الوحيد من الجزيرة الذي لم يستكشفاه.

«يوجد تل سنوفيل. وهو تلٌّ صغير مقارنة بتلال ليفرلو. ويوجد أيضًا مستنقع نطلق عليه اسم سهل الإوز؛ لأن الإوز ذا القدم الوردية يتكاثر هناك. ثم هناك البحر؛ منطقة ساحلية خطرة لا يوجد بها إلى مكان واحد يصلح للرسو … فلنسرع بالعودة إلى المنزل. إذا كان المجرمون ينوون الهجوم اليوم، فلا أرى مانعًا من أن يبدءوا مبكرًا، فلم يعد ثمة ظلام ينتظرون أن يخيم.»

تسلق الصغيران نحو قمة الأخدود التي تمتد إلى قمة الجرف المكسوة بأعشاب أكثر كثافة. ولكن هبط بيتر جون من على القمة، فقد كان متوجسًا من أن ينكشف مكانهما، وأصر على أن يتحركا خلف سواتر وألا يظهر ولو جزء يسير منهما في العراء. وصلا إلى بحيرة جبلية صغيرة غطت الطحالب القسم الأكبر من سطحها، وتذكرا أنها كانت البركة الوحيدة التي لا توجد بها قوارب. كان الطريق المؤدي إلى المنزل يمر بحافتها الغربية.

وكان الطريق مكشوفًا جدًّا؛ ولذا نظر إليه بيتر جون في عدم رضا.

ثم قال مقترحًا: «أليس من الأفضل بالنسبة إلينا أن نمر عبر حافة الجرف حيث توجد أماكن أكثر للاختباء؟»

«يمكنك أن تفعل ذلك إذا أردت، ولكني لن أفعل ذلك. لا يمكن أن يكون القبطان وجماعته قد اقتربا من هنا بعد، كما أني أريد العودة إلى المنزل في أسرع وقت. سيقتل القلق ذوينا. ويجب أن أفك عضلاتي، فقد أصبحت متصلبة مثل مدك البندقية. سأسابقك يا بيتر جون.»

هزَّت أنَّا خصلات شعرها الأصفر، وقبل أن يتمكن الصبي من منعها كانت قد انطلقت مسرعة على الطريق. ولم يكن بيده شيء سوى أن يتبعها. واجه الصبي صعوبة في اللحاق بها، وأنساه الجهد المبذول أفكارًا أخرى كانت تتصارع في رأسه. وعندما وصلا إلى قمة التل المطل على المكان الذي يوجد به المنزل على مسافة ميل واحد، انطلقا جنبًا إلى جنب بأقصى سرعة.

ثم رأى الصبي شيئًا جعله يتسمر في مكانه ويقبض على ذراع أنَّا ويجذبها لترقد على الأرض … فخلف ربوة صغيرة على بعد ثلاثمائة ياردة، كان ثمة رجل رابض.

لم يسمعهما الرجل، فقد واصل التدخين ومراقبة المنزل بنظارةٍ مُقرِّبة. لم يرياه إلا من ظهره، ولكن كان من الجلي أنه أحد بحارة السفينة تشالدار، واستنبطا ذلك من صديريته الزرقاء وسراويله الصوفية الزرقاء الواسعة. كان على دراية بتضاريس المكان، فقد كان موضعه يمكِّنه من رؤية أي محاولة للوصول إلى المنزل من جهة الشمال.

رقد بيتر جون واضعًا يده على رأس أنَّا المطأطأ لبعض الوقت وأنفه ملاصق لرقعة من الأرض مكسوة بعشبة القمل. كان يفكر بعمق ويدرس محيط المنزل. كانت فرصتهما الحالية الوحيدة للوصول إلى المنزل إما عبر الطريق الغربي أو الجنوبي. ولكن تل سنوفيل يقع غرب المنزل حيث لا توجد إلا سواتر تكفي بمشقة لإخفاء طيور القرقف الأزرق. كان الاقتراب من المنزل من الطريق الجنوبي أفضل، ولكن من أجل الوصول إلى جنوب المنزل، كان من الضروري الدوران من خلف تل سنوفيل في دائرة واسعة. ثم طرأت عليه فكرة مقلقة. إذا ما ذهبت السفينة تشالدار إلى جنوب الجزيرة، ألن يكون هذا الجانب برمته تحت المراقبة؟ هذا المراقب أحد بحارة تشالدار. إذا وزع العدو طلائعه حول محيط المنزل، ألا يكون هو من يسيطر على الأرض الوسيطة؟

ولكن لا توجد فرصة أخرى لهما سواها. زحف الاثنان بحذر شديد عائدين أدراجهما إلى قمة التل الذي عبراه للتو، وخرجا عن الطريق، وتحركا بسرعة معقولة عبر المستنقعات التي تُعَد منبع جدول المياه الذي يغذي البحيرة. لم يقابلهما أي أحياء فيما عدا مجموعة من الأحصنة النوردية القزمة الوديعة مثل الجراء، والتي اقتربت منهما ليربتا على أنوفها، ثم عادت إلى الرعي بمجرد انصرافهما. ولكنهما صعدا أخيرًا إلى امتداد تل سنوفيل بحرص شديد، بعد أن أدركا الآن أن الأعداء يراقبون المنطقة والمنزل، مختفِيَين طوال الوقت بين رقعتين من نبات السرخس ليتمكنا من رؤية الجانب البعيد.

لم يكن ثمة أثر للسفينة تشالدار. كان التل ينحدر انحدارًا حادًّا وصولًا إلى الصخور عند حافة البحر. وكان يبدو أن هناك خليجًا تختفي معالمه خلف تحدب الجروف، وكان شريطًا من الدخان يتصاعد منه. وجنوبًا، كانت الأرض منبسطة، حيث تلمع فيها برك من المياه بين الأعشاب والطحالب. وخلفها كان ثمة تل يحجب رؤية ما خلفه. لم تكن ثمة دلائل على وجود أحياء سوى العصافير البيضاء، وهي طيور تعيش في سهل الإوز، وسرب من النوارس الصارخة المتجمعة حول جثة خنزير بحر جُرفت إلى أحد الشعاب المرجانية، وعمود من الدخان.

قالت أنَّا في ارتياح: «جيد. كانوا هنا صباح اليوم، فهذا الدخان هو ما تبقى من نار إعداد الإفطار. لقد أنزلوا هذا الرجل إلى الجزيرة ليراقب المنزل، ثم انطلقوا على متن السفينة تشالدار ليؤدوا مهمة أخرى. ربما عادوا إلى جزيرة هالدر لكي يضللونا. وسيعودون مرة أخرى في المساء. لا يمكننا العبور من فوق تل سنوفيل، فسيرانا المراقب، ولكن يمكننا الدوران من حول سهل الإوز والوصول إلى المنزل عبر طريق خزان المياه. لنسرع، فقد أصابني الجوع بالضعف.»

كادت أنَّا تسير بجرأة هابطةً التل، إلا أن بيتر جون كان يملك ما يكفي من التعقل أن جعلها تحافظ على تخفيها. لم يكن من الصعب فعل ذلك طالما ظلا يهبطان على المنحدرات الوعرة، فكان أي طريق ينتقيانه يمر عبر ما يمكنهم الاختباء خلفه من نباتات وصخور. ولكن قبل أن يصلا إلى سهل الإوز، وجدا نفسَيهما في مساحة ذات عشب وصخور قليلة الارتفاع، حيث سيكونان ظاهرين مثل غرابين في سهل جليدي. حتى أنَّا انتبهت لذلك.

فهمست قائلة: «دعنا نعبر هذه المساحة عدْوًا لكي نتخطاها.»

لا شك في أن هذه الخطة كانت الأفضل، ولكنها فشلت. كانا قد قطعا عشر ياردات بمشقة عندما شقت الصمت صافرةٌ. ظهر شخص على حافة الجرف في اتجاه البحر، ثم ظهر آخر. وما أفزع بيتر جون أنه عندما أشاح ببصره في الاتجاه المعاكس، كان ثمة رجل ثالث على قمة تل سنوفيل.

فقال مزمجرًا: «إنهم ثلاثة.»

صححت أنَّا العدد قائلة: «بل أربعة. ثمة رجل آخر خلفنا، لا بد أننا مررنا بالقرب منه.»

رأى بيتر جون حافة صخرية تهبط من تل سنوفيل، وأدرك أنه إذا تمكنا من الوصول إليها والاختباء خلفها، فلن يتمكن المراقبون من رؤيتهما، حتى ذلك الرجل عند قمة التل. كانت الحافة الصخرية تقطع سهل الإوز صانعةً ما يشبه ممرًّا مرتفعًا عبره. لم يكن ثمة ما يحتمون به في السهل، ولم يكن أي شخص يحاول الاختباء بين النباتات القصيرة والبرك الضحلة لينجح في ذلك. ولكن السبق بدقيقة أو اثنتين سيشكل فارقًا كبيرًا. لم يحاول الصغيران التخفي وهما يعدوان بأقصى سرعة إلى ما خلف الحافة الصخرية، وخاضا في سهل الإوز، واختفيا خلف بعض الصخور الخضراء.

قالت أنَّا وهي تلهث: «لقد اختفينا عن ناظرهم، ولكنهم لن يستغرقوا وقتًا طويلًا في هبوط التل والإمساك بنا. فلنواصل العدْو. ربما استطعنا أن نسبقهم ونصل إلى مستنقع الطيور قبلهم. ويمكننا أن نختبئ هناك.»

قال الصبي: «هذه ليست خطة جيدة. أذا ما اتجهنا جنوبًا، فلسوف نعود إلى مجال رؤيتهم بعد عشرين ياردة، والرجل فوق التل لن يحتاج سوى لأن يهبط من مكانه ليمسك بنا. وكذلك الرجل الذي كان خلفنا. لقد انتهى أمرنا يا أنَّا، إلا إذا اعتقدوا أننا عدنا أدراجنا.»

«لا يمكن أن يعتقدوا ذلك. فقد رأونا نأتي إلى هنا.»

«لا سبيل أمامنا إذن. ربما كان يجدر بنا أن نبقى على متن السفينة تشالدار.»

ناحت الفتاة قائلة: «أوه، بيتر جون، لقد أفسدنا كل شيء.»

فجأةً، اتسعت عينا الفتى على اتساعهما عندما رأى مشهدًا غريبًا. فأمامهما مباشرةً كان ثمة فرجة في الممر المرتفع الذي صنعته الحافة الصخرية الآتية من التل، وتمكن من رؤية جزء من المستنقع الممتد نحو الشمال. ظهرت عبر هذه الفرجة الرءوس الحمقاء والأعناق المنتصبة لسرب صغير من الإوز ذي الأقدام الوردية. كانت فيما مضى طيورًا صغيرة خرجت من بيضها في سهل الإوز، وقضت فترة من حياتها على الجزر الصخرية الصغيرة، وعادت الآن، كما فعل أسلافها، إلى مسقط رأسها لفترة قصيرة. كانت طيور الإوز تثرثر فيما بينها، وبدا أنها متحمسة لوجود شيء جديد أمامها، وكانت تأمل في معرفة ماهيته.

لحسن الحظ، تذكر بيتر جون معلومة تعلَّمها من صيادي الطيور البرية عندما كان في هانام في شهر يناير. طيور الإوز ذات الأقدام الوردية ليست طيورًا من السهل تخويفي. وهي ترى أن واجبها ليس أن تحافظ على حياتها، بل أن تعرف، وربما كانت أكثر المخلوقات فضولية وحُبًّا للمعرفة على وجه الأرض. قال سامسون جروس إنك إذا كنت تريد الاقتراب من طيور الإوز ذات الأقدام الوردية، فأظهر لها نفسك، ومن المرجح أنها ستقترب منك لتكتشف ماذا تكون. وهذا ينطبق على طيور الإوز ذات الأقدام الوردية صغيرة السن، فالطيور الأكبر سنًّا أكثر حكمة من ذلك.

لدهشة أنَّا، نهض الفتى واقفًا بينما وضع يده اليمنى عليها ليمنعها من النهوض … ورأت طيور الإوز تتوقف وتتحدث فيما بينها. كانت أعينها كلها مثبتة على بيتر جون، وبعد لحظات من التردد، بدءوا يتقدمون نحوه. بدا عليها أنها واعية بصورة غير معتادة، فلم تواصل النظر في اتجاهه. كان بعضها يتوقف لثوانٍ ليأكل شيئًا، بينما كانت كلها تدير رءوسها في جميع الاتجاهات. ولكنها كلها كانت تتقدم بثبات نحو الجنوب، كما لو أن ثمة قوة دافعة تدفعها في هذا الاتجاه. وفي غضون خمس دقائق، كانت قد تحركت لمسافة عشر ياردات على الأقل.

كانت طيور الإوز ذات الأقدام الوردية في نطاق رؤية المراقبين، ولكن لم يكن بيتر جون كذلك. هل سيستنتج المراقبون ما يريده بيتر جون؟ لا بد أن يفعلوا الآن، لأن الطيور إذا ما اقتربت أكثر من اللازم، فقد تثور وتتراجع إلى الخلف وينتهي كل شيء. بالنسبة إلى من لا يعرف عاداتها، لا بد أن يكون الاستنتاج واضحًا. لا بد أن الصغيرين خلف الإوز، ووجودهما هناك هو ما جعل الطيور تتحرك نحو الجنوب. ومن ثَم سيكون عليهم أن يبحثوا عن الصغيرين في الجزء الشمالي من سهل الإوز. لقد رأوهما يختفيان خلف الحافة الصخرية، ولكن لا بد أنهما زحفا عائدين وأصبحا خلف الإوز.

كان قلب بيتر جون يقفز في صدره انفعالًا بينما يقف محدِّقًا في الرءوس المتمايلة والأعناق الطويلة لطيور الإوز الحمقاء ذات الأقدام الوردية، التي يعتمد عليها كل شيء بالنسبة إليه وإلى أنَّا. وربما أصبح هو نفسه في نطاق رؤية أحد المراقبين الذي غيَّر موقع مراقبته. مجموعتان من البشر لا يمكن لإحداهما رؤية الأخرى، تراقبان بعض المخلوقات المجنحة السخيفة بانتباه شديد. إنها طريقة جديدة لمعرفة المستقبل.

بعد ذلك، تلقت أُذنا الفتى ما بدا وكأنه استجابة لدعواته. انطلقت صافرة من على سفح التل، وأُجيبت بصافرة أخرى آتية من جهة البحر. لقد استنتجوا ما يريد من حركة الإوز ذي الأقدام الوردية … بعد لحظات، جاءه التأكيد على ذلك، فقد مر شيء ما من شمال الإوز جعله يجفل. فقد توقفوا عن تقدمهم البطيء، وبدءوا ينتشرون يمنة ويسرة. يبدو أن المراقبين ذهبوا للإمساك بالهاربين ناحية الطرف الشمالي من المستنقع.

لم يكن ثمة وقت لإضاعته، فعندما يكتشفون أن بحثهم بلا طائل، سيتجهون حتمًا نحو الجنوب. جرَّ بيتر جون أنَّا من الوحل الذي كانت تجلس فيه وكأنها بطة برية، وخرجا من المستنقع بصعوبة، وجرَيَا وكأن حياتهما تعتمد على ذلك على طول الجوانب الأشد وعورة من التل. ولم يتوقفا عن العدْوِ حتى دارَا حول هضبة الجزيرة الصخرية، وأصبحا يطلان على مستنقع الطيور والأراضي القاحلة الممتدة من خلفه. لم ينظر بيتر جون خلفه إلا مرة واحدة ورأى طيور الإوز ذات الأقدام الوردية وقد فقدت هدوءها وأُجبِرَت على الطيران في اتجاه البحر. بمجرد وصولهما إلى منتصف المستنقع، كانت أنَّا تعرف مساراته، فشعرا ببعض الاطمئنان، وتوقفا ليستردا أنفاسهما. ألقت أنَّا نفسها على رقعة مُعشوشِبة ولم تتمكن من منع نفسها من تأنيب بيتر جون. فقالت: «لقد كنت محقة بشأن ذلك الرجل مارتل. إذا ما اتجهنا جنوبًا كما أخبرنا، لم نكن لنتعرَّض لهذا الموقف المرعب. بل ربما كنا وصلنا إلى المنزل وجلسنا نتناول الإفطار.»

وبعدما التقطت أنفاسها، تحدثت مجددًا.

وقالت: «لقد كنت بارعًا جدًّا يا بيتر جون. لن أسخر منك مجددًا أبدًا فيما يتعلق بمعرفتك بالطيور. كنت أعتقد أنك جُننت حتى أدركت ما تخطط له. كان الأمر أشبه بالمعجزة، وأنا سعيدة الآن. سنفوز عليهم، لا تقلق.»

قال الفتى في كآبة: «كم أتمنى لو أعرف كيف سنفعل ذلك. لقد انسللنا من بين أيديهم، لكن لا يزال علينا الوصول إلى المنزل … إني لأتساءل عما إذا كان ذوونا يعلمون ما يحدث … وماذا سيحدث بعد ذلك؟ إن المجرمين يفوقوننا عددًا بنسبة أربعة إلى واحد، كما أنهم ليس لديهم ما يخسرونه.»

قالت أنَّا: «لا يهم، سنفوز. ستحدث معجزة أخرى، وسترى.» نهضت أنَّا وتشممت الهواء. لم يكن باستطاعتهما رؤية القناة من حيث يجلسان، ولكن كان بإمكانهما رؤية الجزء الجنوبي من جزيرة هالدر. قالت أنَّا: «لا يمكننا أن نرى مرسى السفينة تشالدار. ولا أعلم إن كانت قد عادت. انظر إلى السماء هناك يا بيتر جون. أخبرتك بأن الطقس قد ينقلب بعد الظهر، وسيفعل ذلك بكل تأكيد. ستهب عاصفة رعدية عاتية على هالدر، ثم ستهب الرياح شديدة القوة من جهة الشرق … يا إلهي، الجو حار، وثمة الكثير من العناكب الطويلة القوائم. هذا يعني أن الحيتان قادمة. هذا ما قاله ذلك الرجل مارتل. ربما كان محتالًا، ولكننا كنا سنصبح في حالٍ أفضل إذا ما استمعنا لنصائحه صباح اليوم.»

كاد بيتر جون يشعر بالغضب. لم يكن ثمة داعٍ للإسهاب في وصف نوايا مارتل الحسنة التي كان يعلم يقينًا أنها على النقيض من ذلك تمامًا، ولم يكن يرغب في سماع المزيد من الثرثرة عن الحيتان الطيارة بينما العالم ينهار من حولهما. قال بيتر جون: «فلننطلق. مهمة الوصول إلى المنزل شاقة من هذا الجانب أيضًا.»

تركت أنَّا رأسها يسقط مرةً أخرى على العشب.

وقالت: «أشعر بنعاس شديد. ربما بسبب العاصفة القادمة. لقد فقدت كامل طاقتي … قال مارتل إن الحيتان ستتجمع عند ستور روك. وهذا المكان يبعد عن الطرف الجنوبي لهذه الجزيرة بحوالي سبعة أميال فقط؛ أي عند منتصف المسافة بينه وبين كالسو.»

نهض بيتر جون ساخطًا ونظر إلى الفتاة التي ظلت راقدة وعيناها نصف مغمضتين. لم يكن ثمة شك في أنها كانت تبدو مرهقة جدًّا، ومختلفة أيضًا بشكلٍ ما. كانت تبدو شبيهة بوالدها؛ فقد شحب وجهها مثل وجهه، والتمعت عيناها، عندما فتحتهما، بنفس بريق عينيه الضاري. وكان عقلها لا يزال يفكر في حِيتانها السخيفة.

فقال: «انتظري هنا وارتاحي، سأذهب أنا وأستطلع. ربما كانت هناك بعض الأراضي الوعرة التي علينا قطعها، حيث سيكون عبور شخص واحد لها آمَن من عبور شخصين.»

قالت ناعسة: «حسنًا. عُد قبل أن تصل العاصفة، فأنا أكره التواجد وحدي عندما يطلق الرعد هَزِيمَه … لم أكن أعلم أن ثمة هذا العدد الكبير من العناكب طويلة القوائم في العالم.»

كان مزاج بيتر جون بين الغضب والاكتئاب، فبدأ يقفز فوق الصخور المتناثرة في مستنقع الطيور حتى وصل إلى الشاطئ، وسار نحو الشمال على حافة الساحل المكسو بالحصى. كانت جزيرة هالدر تبدأ في حجب نفسها خلف ستار قرمزي بلون العنب اليانع، ولكن كانت القناة واضحة المعالم، ولم يكن ثمة أثر للسفينة تشالدار على الساحل المقابل. كان الجو خانقًا وساكنًا، ولكنه كان يشعر وكأن الطبيعة تكدس غضبها وسرعان ما ستطلقه علينا.

كان الطريق يبدو له بالأمس قصيرًا، ولكنه اليوم يبدو له وكأنه لا نهاية له. تمكَّن خلال سيره من رؤية المرفأ ومجموعة الأكواخ التي تقع جنوبه، وكان كل شيء هادئًا. سار بيتر جون على طول القناة على طريق مجاور للجدول تسلق إليه من الشاطئ، ووجد نفسه فجأة يطل على الجرف حيث يوجد المنزل.

كان الوضع هادئًا هناك أيضًا، ولكنه رأى العديد من الأشياء التي تنذر بالشر. كان ثمة مراقبون منتشرون حول المنزل؛ واحد عند الطرف القريب من المرج الرئيسي، وواحد على التل خلف المنزل، وواحد فوق الخليج على الطريق الصاعد من المرفأ. وكان المراقبون مسلَّحين. كانت مهمتهم هي منع دخول أي أحد إلى المنزل أو الخروج منه. بينما كان يحدق فيما يحدث، رأى المراقب الأقرب منه حركةً في خلفية المنزل وأطلق طلقةً تحذيرية، وسمع بيتر جون الرصاصة تصطدم بالسقف الحجري لأحد المباني الملحقة بالمنزل. لم يكن هؤلاء المراقبون سوى كلاب تحرس المكان حتى يصل الصيادون.

أول ما فكر فيه بيتر جون هو مغافلة الحصار والدخول إلى المنزل. كان يؤمن بأنه قادر على فعل ذلك، فقد كان يعرف الأراضي المحيطة بالمنزل أكثر مما يفعلون. ولكنه إذا تمكَّن من الدخول، فلن يتمكن من الخروج مجددًا، وبذلك ستُترك أنَّا وحدها. إذا كان سيدخل المنزل، فلا بد أن تكون أنَّا معه.

لم يكن ثمة وقت لتضييعه، فاستدار على عقبيه وعاد أدراجه نحو مستنقع الطيور مجددًا، ولكنه لم يسلك طريق الشاطئ، بل سلك الطريق المختصر عبر التل. رأى خلال نظرته الأخيرة خلفه السفينة تشالدار وهي تلتف حول الجروف الموجودة شمال المرفأ. كان يشعر بالكثير من الاكتئاب والعجز. لا بد أن المتواجدين في المنزل أصبحوا يعرفون الخطر المحدق بهم الآن، ولكن ما الفائدة التي منحتهم إياها هذه المعرفة؟ كانوا ثلاثة رجال في مواجهة دزينة أو أكثر، بدا له عدد أفراد طاقم السفينة تشالدار كبيرًا جدًّا، ولم تبدُ على أفراده سيماء البراءة. إذا ما انضم وأنَّا إلى الدفاع عن المنزل، فلن يمثلا إلا عبئًا إضافيًّا … أين اللورد كلانرويدن؟ كان بيتر جون يرى أن ساندي هو حجر الأساس الذي يقوم عليه هذا الأمر برمته، الرجل الذي وضع الخطة كاملة، الجندي الخبير الوحيد بين مبتدئين. وأورثه غياب ساندي شعورًا مقيتًا بالارتباك والعجز.

قبل أن يصل بيتر جون إلى مستنقع الطيور، انقلب الطقس بعنف. عبرت السحابة القرمزية القناة آتية من جزيرة هالدر، وأصبحت فترة العصر مظلمة مثل غسق الشتاء. لم يكن ثمة برق، ولكن هطل فجأة من الظلمة وابلٌ من البَرَد. كان هطول البَرَد قويًّا لدرجة أنه طرح الفتى أرضًا، ورقد على الأرض متكورًا على نفسه ليحمي الأجزاء المكشوفة من بشرته من هذه الحبيبات المنهالة عليه.

استمر الحال على هذا المنوال لحوالي خمس دقائق. ولكن، رغم توقف هطول البَرَد، لم تصفُ السماء. وأصبحت الأرض بيضاء وكأن الشتاء قد حل فجأة، وهبت رياح في مثل برودة البَرَد من جهة الشرق. خاض بيتر جون مستنقع الطيور إلى حيث توجد أنَّا التي لم تستطع مواصلة السير في عصر ذلك اليوم الصيفي الحار … لقد اختفت الفتاة. رفع بيتر جون صوته مناديًا عليها، ولكن دون رد.

لم تتبعه أنَّا، ففي هذه الحالة كان سيلتقيها. ولم يكن من المرجح أن الأعداء وصلوا من سهل الإوز وأمسكوا بها. فمن جهتَي الشرق والغرب، كانت ثمة بحيرات لا يمكن عبورها. ليس أمامها سبيل إلا التحرك جنوبًا وصولًا إلى الكثبان الرملية التي تمتد حتى طرف الجزيرة. تسبب البَرَد في طمس آثار أقدامها في العشب، ولكن بعد بضع ياردات، كان ثمة أثر عميق متروكًا في الطين كما لو أن شخصًا قد انزلق. وبعد مسافة قصيرة، كان ثمة أثر آخر لقدم في الطين. تتبع بيتر جون الآثار حتى خرج من المستنقعات ووصل إلى المنحدرات المكسوة بنبات الزعتر.

انتبه فجأة إلى أنه يسمع صوتًا آخر إلى جانب صفير الرياح. كان الصوت آتيًا من أمامه، وكان خليطًا غريبًا من صياح فرح وصوت تكسر الأمواج على الصخور. ظن في البداية أنه صوت شجار طيور النورس على جثة خنزير بحر. ثم سمع نبرةً فيه تدل على أنه صوت إنسان، لا بد من أنه صوت إنسان؛ كان صوتًا عميقًا يعطي أوامر لآخرين، نبرة صوت لا يمكن أن تصدرها أي حيوانات. تحرك متعثرًا فوق التل الأخير، وأطل على الخليج الكبير حيث تصب واحدة من بحيرات مستنقع الطيور مياهها، وعلى شبكة الخلجان الأصغر مساحةً التي تشكل الطرف الجنوبي للجزيرة.

كانت شواطئ الخليج مكتظة بأناس، وكانت مياه الخليج نفسه، وكذلك الخلجان الصغيرة مختفية تحت الكثير من القوارب. وعند مدخل كل خليج، كان ثمة تجمع من رجال خشنين يستخدمون رماحًا تقطر دمًا. كان مشهدًا بشعًا لا يمكن تصوره في أسوأ الكوابيس، ولكنه كان منظمًا. كان ثمة رجال يقفون على الشاطئ يحملون أوراقًا ويدونون أرقامًا … تساءل عما يحدث مرتبكًا للحظات، ولكن سرعان ما بزغت الإجابة في رأسه. لقد تحققت حكايات أنَّا. لقد وصلت حملة صيد الحيتان.

لم يدرك في البداية أن هذا يعني الخلاص. فقد سلبته غرابة المشهد لبه ولم يستطع التفكير بالشكل الطبيعي. كل ما كان يفكر به هو أن أنَّا هناك في الأسفل، وعليه أن يعثر عليها. ولكن بينما كان يسرع هابطًا المنحدر، بدأ المشهد يتغير أمام عينيه. ترك الرجال ما يفعلون وتحركوا إلى موقع يوجد في منتصف الطريق المؤدي إلى الخليج الكبير. وبدأت القوارب تأتي من الخلجان الصغيرة إلى المكان نفسه. وفعل الأناس الذين يحملون أوراقًا في أيديهم المثل — وصاح أحدهم قائلًا شيئًا بدا وكأنه أمر. وقبل أن يصل بيتر جون إلى تلك النقطة، كان ثلاثة أرباع الناس على الأقل قد تحركوا إلى هناك … وعندما اقترب أكثر، رأى مجموعة من الناس يصنعون منصة بأذرعهم، ورُفِع شخص ما إليها.

كانت أنَّا، ولكنها لم تكن أنَّا التي يعرفها. كان العشب والحصى من حولها مخضبًا بالدماء؛ رجال ذوو لحى كثة مثل الغيلان وأعين ضارية، يعتمرون قبعات مخروطية، ويحملون في أيديهم رماح صيد حيتان مخضبة بالدم، وبضع نساء يشبهن الهاذيات، وفي الخلفية توجد القناة المكدسة بأجسام الحيتان الميتة أو المحتضرة. وقفت أنَّا على المنصة المصنوعة من البشر وكأنها فتاة من الفايكينج تقف وسط حلقة من حراسها، وداعبت الرياح شعرها وتنورتها، وقد التصقا بجسدها، وكان صوتها حادًّا وآمرًا. بدت كأن شيئًا ورثته عن أسلافها قد استيقظ في داخلها، قدرة قديمة على السيطرة، واستيقظ شيء ما أيضًا داخل مستمعيها، استجابةً لندائها الموروث عن الأسلاف.

كانت تتحدث باللغة النوردية التي لم يفهم منها كلمةً واحدة. عرف فيما بعد أن ما كانت تقوله هو أن القراصنة يهاجمون منزلها ووالدها، وأنها تستدعي رجال الجزر للدفاع عنهما. لقد لعبت على الوتر الحساس وذكرتهم بشيء تردد كثيرًا في تراثهم، ذكرتهم بالخطر الذي يتعرضون له من قبل الأغراب؛ الرحالة الشماليون والاسكتلنديون، والقراصنة الجزائريون، الذين طردوا أهل المنطقة من أراضيهم إلى الكهوف في التلال. النورديون ليسوا أهل حرب، ولكنهم يملكون نزعة القتال في داخلهم إذا ما مُسَّ الوتر الصحيح. علاوة على ذلك، كانت الدماء في عروق هؤلاء الرجال لا تزال فائرة بفضل صيد الحيتان …

وقع بصرها على بيتر جون، وبدا أنها تستخدمه في التأكيد على استغاثتها. تحدث رجل مُسِن وجاء الرد على كلماته في صورة صيحات حماسية. كُلِّفت مجموعة محددة من الرجال بالاستمرار في مراقبة الحيتان؛ فانسحبوا بعيدًا عن الحشد عندما دُعيت أسماؤهم … وفجأة قفزت أنَّا من على المنصة. وأمسكت بيد بيتر جون وانطلقت نحو الشمال، وانطلق خلفهما حوالي مائة من سكان الجزر يزأرون كالأسود، وفي يمين كل منهم رمح صيد حيتان مخضَّب بالدماء.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤