الفصل الثاني

سهول هانام

طوال هذا الخريف وبداية الشتاء، ظل شعورٌ مؤرِّق يلازمني. لقد أسعدني وجود ذلك الرجل الثري الذي يسكن الريف في حياتي، إلا أنه فقد بعضًا من حيويته. وبدلًا من أن أشعر، كما أفعل دائمًا، بأن هذه هي الحياة الوحيدة التي تناسب الرجل الأبيض، انتابني شكٌّ بغيض بأن الرضا بهذه الحياة يعني أني أصبحت هرِمًا. وفي الوقت نفسه، لازمني توقُّع غريب بأن أمرًا على وشك الحدوث من شأنه أن يقضَّ راحتي، وأنه من الأفضل أن أستدفئ بالشمس أثناء سطوعها؛ فهي لن تظل ساطعةً لوقت طويل. الغريب في الأمر أن هذا التوقُّع أراحني. لم أكن أسعى للمزيد من المتاعب في هذا العالم، إلا أن مجرد وجود احتمالية بأن أحدها على وشك الحدوث جعلني أستمتع بأيام الرخاء بضمير أكثر ارتياحًا.

خلال الأسبوع السابق لعيد الميلاد المجيد، وقع ثاني حدث في سلسلة الأحداث التي أدت إلى هذه القصة. فقد ظهر ابني في الصورة، وهنا يجب أن أتوقف قليلًا لأقدِّم لكم بيتر جون الذي بلغ الرابعة عشرة من عمره.

كنت أتمنى عندما وُلِد أن يكون صبيًّا إنجليزيًّا نموذجيًّا، جيدًا في الرياضة، ذكيًّا بدرجة مقبولة، وأمينًا ونقيًّا بدرجة معقولة، من نوعية طلاب المدارس الحكومية الذين تقرأ عنهم في الكتب. قلت إني «كنت أتمنى» لأنها كانت الصورة التقليدية التي يسعد أغلب الآباء برؤية أبنائهم عليها، رغم أني أشك أني كنت سأسعد إذا كان ابني على هذه الصورة في الواقع. على أي حال، لم يكن بيتر جون يشبه هذه الصورة من قريب أو بعيد. فلم يكن مهتمًّا بأن يتوافق مع روح المدارس الحكومية. كان غلامًا ضعيفًا، ولكن بعدما تخطى عامه السابع، تحسنت صحته، وعندما التحق بالمرحلة الابتدائية أصبح صبيًّا صغيرًا قويًّا لم يُعانِ من أي أمراض عدا التهاب الغدة النكفية والحصبة، اللذين يصيبان الجميع. كان أطول من الطول المعتاد لمن هم في مثل عمره، وكان وسيمًا على طريقته الخاصة. ورث عن والدته ماري شعرَها الرائع ذا اللون الرملي المائل إلى الاحمرار، كما ورث عنها عينَيها الزرقاوين ويدَيها وقدمَيها الطويلة النحيلة. وورث عني فمي وشكل رأسي، ولكنه اتسم بطابع متجهم لا يمكن أن يكون ورثه من أيٍّ منَّا. فقد رأيت شكله حين تغمره السعادة يبدو كئيبًا ومتجهمًا رغم سعادته. وكان هادئ الطباع جدًّا، ذا صوتٍ خفيض محبَّب، وكان قليل الكلام يميل إلى استخدام الكلمات الجزلة المعقدة. وقد نتج ذلك من قراءاته المفضلة التي تمثلت في سِفر النبي إشعيا، وإيزاك والتون، وكتاب من القرن الثامن عشر عن تربية الصقور مترجم عن الفرنسية. ذُكِر في أحد تقاريره المدرسية أنه يتحدث إلى أستاذته كما لو كان الشاعر الدكتور صامويل جونسون يتحدث إلى رجل من العامة.

لم يُخلق بيتر جون ليكون طالبًا في مدرسة، فكان الحديث عن «المشاركة في المباراة»، و«روح الفريق»، و«شرف المجموعة» يصيبه بالغثيان. كما أنه لم يكن متفوقًا في دراسته، ولكنه تعلَّم أن يجتازها بنجاح ولكن بصعوبة، أما في الألعاب، فكان حالةً ميئوس منها؛ إذ كان يرفض تعلُّمها رفضًا قاطعًا. كرِه مدرسته الابتدائية وهرب منها مرتين. وكان يُظهر أسوأ ما فيه في مدرسته الحكومية، ومع ذلك فقد كان أكثر سعادة فيها؛ لأن أحدًا لم يكن يتعرض له. وكان من نوعية الصبية الذين يصيبون الأساتذة بالإحباط، فلم يكن يسمح لهم بالتقرُّب منه، ورغم تعامله معهم بتهذيب وأدب بالغين، فإنه لم يتمكن من إخفاء عدم تقديره لهم. كما أنه لم يكن يُقدِّر الطلبة الآخرين أيضًا، ولكنهم كانوا على قدرٍ من الحكمة فلم يشعروا بالاستياء من ذلك، فقد كان يستخدم قبضتيه بمهارة لم أرَ لها مثيلًا في حياتي بالنسبة إلى وزنه.

كان فشل بيتر جون في الدراسة يقلق ماري في بعض الأحيان، ولكني كنت أرى أنه يشق طريقه الخاص ويحصل على تعليم جيد. فقد كان نزيهًا وشجاعًا وعطوفًا، وكانت هذه الصفات هي الأهم بالنسبة إليَّ. كما أن عقله لم يتوقف أبدًا عن التفكير في الموضوعات التي تهمه. لم يكن يستطيع التفرقة بين المضرب والكرة، ولكنه كان قادرًا على رمي صنارة الصيد بالذباب الجاف ببراعة. كانت احتمالية أن تراه يلعب بدمية أو بمضرب تنس متساوية، ولكنه قبل أن يبلغ الثانية عشرة من عمره كان بارعًا في استخدام بندقية الصيد عيار ١٦ لدرجة أنه أصبح قادرًا على استخدام بندقيته الخاصة للصيد في الغابة. كان ينفر من الخيول بشكل غريب، وكان يرفض امتطاءَها، ولكنه كان بارعًا في التعامل مع الحيوانات الأخرى. وأصبح قادرًا على قضاء يومٍ كامل في غابة أيائل بمجرد وصوله إلى مرحلة المراهقة. كما علَّم نفسه بنفسه ليصبح عالم طبيعة ميدانيًّا جيدًا لدرجة أن آرتشي رويلانس قد أُعجِب بإلمامه بأنواع الطيور. وبدأ ممارسة الملاكمة في سن مبكرة جدًّا وبمطلق اختياره، لأنه لم يكن يحب فكرة أن يُلكم في وجهه، وفكَّر في أنه من الأفضل أن يقهر هذا الخوف. وثبَتت موهبته الفطرية في هذه الرياضة، فقد كانت ذراعه طويلة وكانت حركة قدمَيه خفيفة بصورة مذهلة. وأود أن أضيف أنه رغم تجهُّمه، كان أكثر الناس ودًّا. فكان جميع سكان القرى في محيط عشرين ميلًا من فوسي يُثنُون عليه. كان معتادًا على أن يُلقِّب الجميع بلقب «سيد»، وكان من الغريب سماعه يطلق هذا اللقب على صعلوكٍ ساعدتُ هيئةَ المحكمة في الزج به في السجن منذ بضعة أشهر. كان بيتر جون يتلقى تعليمه من الطبيعة البرية ومن القرويين، باختلاف عاداتهم، ورأيت أن نوعية التعليم هذه لا تقل جودةً عن أي نوعٍ آخر.

لكن هذا تسبب في عدم قدرته على الانسجام مع الطلبة الآخرين، فلم يكن يشاركهم أيًّا من طموحاتهم العادية. لم يكن ليشكرك مثلًا إذا ضممته إلى فريق الكريكيت أو التجديف، ولم تكن الغطرسة البريئة للصبية تؤثر فيه على الإطلاق. الأمر ببساطة أنه لم يكن ينافسهم فيما يطمحون إليه. وأعتقد أن الطلبة الآخرين كانوا يحترمونه، وكان أساتذته يحبونه بوجه عام، فقد كانوا يسامحونه دائمًا على خرقه للنظام. ولا شك في أنه كان بارعًا في النجاة بفعلاته. فكان أن قضى ليلته في الخارج مرتين، ولم يُطرَد من المدرسة في كل منهما؛ إذ لم يفكر أحد في تكذيب سببه للحالة الأولى وهو أنه كان يحدِّد توقيتًا لحيوان الغُرَير، أو سببه للحالة الثانية وهو أنه كان ينتظر وصول سرب من الإوز الرمادي. ولا شك في أنه مارس الصيد المحظور، ولكنه لم يُضبَط أبدًا، فقد أرسل إلى والدته ذات مرة زوجًا من دجاج الأرض بعدما اشتكت من صعوبة الحصول على هذا الطائر في خطاب أرسلته إليه. كما أنه احتفظ بصقور منذ الأسبوع الثاني من سنته الدراسية الأولى، ولم يبدُ أن أحدًا يمانع ذلك. في تاريخ كتابة هذه السطور، كان قد مضى عليه في الدراسة أربعة فصول دراسية امتلك في فترات عدة خلالها العديد من طيور الباز، والباشق، وعدد لا يُحصى من طيور العوسق. كان من المعتاد أن تصحبه حديقة الطيور تلك في صندوق القبعات جيئة وذهابًا في السيارة. كما كان يخبئ صقرًا من نوعٍ ما في معطفه المضاد للمطر، وذات مرة أصيب مجموعة من السياح الأمريكيين بذهول شديدٍ عندما أوقفوا صبيًّا يبدو مهذبًا ليسألوه عن الكنيسة، فانشقت السماء فجأة عن طائر وغاص تحت سترة الصبي.

•••

أعلنت ماري على طاولة الإفطار أن بيتر جون بصدد تقليل نفقاته والتخلي عن هوايته. فرفع آرتشي رويلانس، الذي كان يقيم معنا، عينيه اللتين يملؤهما التعاطف عن سلطانية العصيدة التي أمامه.

وقال: «ماذا؟ هل سيبيع خيوله في مزاد تاترسالز العلني ويُغلق المنزل القديم؟ يا للفتى المسكين!»

قالت ماري: «لقد فقد أنثى طائر الباز، التي كان يطلق عليها جيزبل، ولا يملك ما يكفي من المال لشراء غيرها. كما أن قيود طيور الباز المصنوعة من جلد الخيول الأبيض تكلف الكثير من المال. لم يعد يملك أي طيور حاليًّا عدا بعض طيور العوسق. إذا كنت ترغب في العيش وسط الموت يا آرتشي، فعليك بتربية الصقور. فهي تموت لأتفه الأسباب. فهي إما أن تشنق نفسها، وإما أن تُصاب بالسكتات الدماغية أو الجلطات أو أمور من هذا القبيل، وإما أن تضل الطريق أو تَعلَق قيودُها في شجرة فتموت من الجوع.» كان قلبي ينفطر دائمًا عندما يدخل بيتر جون عليَّ في الصباح بوجه عابس ليخبرني أن طائرًا آخرَ قد مات. الصيف الماضي، كان يملك أربعة طيور عوسق أطلق عليها أسماء فيوليت، وسلينجسبي، وجاي، وليونيل. وكانت تلك الطيور الصغيرة هي أكثر طيور أحبها. كانت تجلس طوال اليوم على مجثمها في المرج المحيط بالمنزل، وتصرخ مثل امرأة سيئة الخلق إذا ما اقترب منها أيٌّ من كلاب ديك من فصيلة كوكر، فلم تكن تطيق الكلاب السوداء. ولكن، لم يتبقَّ أيٌّ منها. فقد قتلت جيزبل إحداها، ومات اثنان بمرض القلب، وكسر الأخير عنقه في فناء الإسطبل. أحضر بيتر جون هيثمين ليحلَّا محل الطيور الميتة من متجر ونستانليز، ولكن لم يختلف مصيرهما عمن سبقهما. والآن، ماتت جيزبل أيضًا. لم أحبها على الإطلاق، فقد كانت ضخمة مثل نسر وذات عينَين خبيثتَين، ولكنها كانت قرة عينه، وكان من الرائع رؤيتها تخرج من بين السحب لتحطَّ على المجثم. يقول بيتر جون حاليًّا إنه لا يملك مالًا كافيًا لشراء المزيد من الصقور وإنه سيتخلى عن هوايته. كان ينفق أغلب مصروفه على الصقور، وكان يراسل دائمًا نبلاء نمساويين يمرون بضوائق بشأن صقورهم.

في تلك اللحظة، دخل بيتر جون. كان ميَّالًا إلى التأخر على وجبة الإفطار، فعلى الرغم من أنه كان يستيقظ مبكرًا كان لديه الكثير ليفعله في الصباح. كان يرتدي سراويل قديمةً من تلك السراويل المخصصة لصيد الأرانب بالكلاب، وسترة ذات رقع جلدية قد يرفض المشردون ارتداءَها.

قال له آرتشي: «يؤسفني حظك العاثر. ولكن لا يجدر بك أن تترك تدريب الصقور. هل امتلكت صقر الشاهين من قبل؟»

قالت ماري: «لا يجب أن تتحدث هكذا. فلتقل الشاهين المدرَّب (ذكر الصقر) أو الشاهينة المدرَّبة (أنثى الصقر)، حسب النوع. إن بيتر جون يحب المسميات القديمة التي يستخرجها من كتب جيرفاس ماركام.»

واصل آرتشي حديثه قائلًا: «لأنك إذا أردت واحدًا، يمكنني أن أحضره لك.»

لمعت عينَا بيتر جون.

وسأله: «هيثمٌ أم صقرٌ مهاجر؟»

قال آرتشي الذي يفهم هذه المصطلحات: «هيثمٌ. أخذه واتي لايدلو من عشه الربيع الماضي. إنها أنثى، أعتقد أنك تطلق عليها شاهينة، طائر استثنائي جميل. كما أنها مدرَّبة جيدًا، فقد استخدمها واتي في اصطياد عدة أزواج من طائر الطيهوج. ولكن، لن يمكنه الاحتفاظ بها، فلديه الكثير من المشاغل، وأرسل إليَّ رسالة الأسبوع الماضي مفادها أنه يَعرضها للتبني. فكَّرت في عرض الأمر على ديفيد ووركليف الصغير، ولكنه سافر إلى فرنسا ليستعد لامتحان السلك الدبلوماسي. ما رأيك إذن يا فتى؟ ستكون مِلكك حالَ موافقتك.»

كانت النتيجة أن قضى بيتر جون أيامًا سعيدة في صناعة قلنسوات وأربطة وقيود جديدة، وبعد أسبوع، وصلت الشاهينة من بلدة كراسك في صندوق. كانت في حالة هياج لدرجة أنها كسرت ريشتين من ذيلها، فاضطُر بيتر إلى قضاء يوم كامل في ترميم ريشها باستخدام إبرة التَّوْسِير. إذا كنت تهوى تربية الصقور، فعليك أن تكون مربيًا ماهرًا تعرف كيف تُطعِمها وتُحمِّمها وتعالجها. ولم تكن أنثى الصقر تحمل اسمًا، فسماها بيتر جون موراج، تنويهًا عن أصولها التي تعود إلى مرتفعات اسكتلندا. وقضى أغلب وقته في التواصل الفردي معها حتى أصبحت تعرفه، وبحلول الأيام الأولى من السنة الجديدة، كان قد درَّبها جيدًا.

كنت معتادًا أن أذهب في شهر يناير، إذا كان الطقس جيدًا، إلى ساحل نورفوك لقضاء بضعة أيام في صيد البط. وكنت أنوي أن أصطحب بيتر جون معي هذه السنة، فقد اعتقدت أنها ستكون رياضة موافقةً لهواه. ولكن بدَا جليًّا أنه لم يكن قادرًا على ترك موراج، ولأني كنت أريد أنيسًا في رحلتي وافقت على ذهابها معنا. وعليه، في ليلة السابع من يناير، وجدنا، أنا وبيتر جون وطائره، أنفسَنا في نُزُل «روز آند كراون» في هانام نشاهد غروب الشمس فوق السهول الطينية التي تجلدها الرياح الجنوبية الغربية العاصفة.

عثر بيتر جون على مسكن من أجل موراج في مبنًى ملحقٍ بالنُّزُل، ثم ذهب لينام بعد العشاء، فكان عليه أن يستيقظ في الرابعة من صباح اليوم التالي. بحثت بعيني في الحانة بحثًا عن أيٍّ من صيادِي الطيور الذين أعرفهم لأتحدث إليه، خاصةً صديقي سامسون جروس الذي حددت معه موعدًا للقائي هناك. كان في الحانة اثنان من صيادي الطيور بالإضافة إلى سامسون، جو ويبل وجرين المسن، وكلاهما من الأسماء الشهيرة في سهول هانام، بينما كان بقية الصيادين في جولة الصيد المسائية وسيحضرون إلى الحانة فيما بعد أثناء عودتهم لديارهم ليحتسوا المشروب الخاص بصيادي الطيور المكون من شراب الرَّم الساخن والحليب. كان ثلاثتهم مسنين، شارك اثنان منهم في حرب البوير، وكانوا يملكون مقلتَي العينين الصفراوين وتلك البشرة الشاحبة التي تُميز أولئك الذين قضوا حياتهم بين الرمال الساحلية والبحر. لم ألتقِ رجالًا أشد من رجال هانام، ولم أرَ مظهرًا ينمُّ عن ضعف الصحة مثل مظهرهم. إنهم فصيلة مختلفة عن بقية البشر، فهم لا يعيشون على الأرض بالكامل ولا يعيشون في البحر بالكامل.

كان لدى سامسون أخبار جيدة. كانت منطقة البلطيق تتجمد، ومن ثَم، أتت الطيور البرية ناحيتهم بوفرة، ولكنها نحيلة جدًّا ولا تستحق صيدها. تتكون أسراب هذه الطيور في الأغلب من البط الصافر والبط الشرشير، ولكنه رأى عددًا قليلًا من البلبول الشمالي. سألتُه عن الإوز. فأجابني أنَّ ثمة الكثير من الإوز الأسود، وهو أمر سيئ، فلا يمكن أكل هذا النوع من الإوز، والقليل من الإوز الأبيض الرأس والإوز الرمادي. كما توجد أعداد من الإوز الأبيض الجبهة والإوز الوردي القدمين، إلا أنه من شبه المستحيل أن تطير على مقربة منَّا، ولكن تسببت هذه الريح العاصفة في أن تطير على ارتفاعات منخفضة. واعتقد سامسون أن رحلة الصيد المسائية هي الأفضل في الوقت الحالي، فقد كان القمر مُحاقًا، وإبصار الإوز ليس أفضل من البشر العاديين، والإوز يغادر الحقول الشاطئية قبل الغروب ليعود إلى البحر، ولم يكن على المرء أن ينتظر لوقت طويل. حدَّد سامسون الرابعة والربع موعدًا للقائنا عند باب النُّزُل في صباح اليوم التالي، فلم يكن الفجر يبزغ إلا قرب الثامنة صباحًا، ما منحنا الوقت الكافي لنتعمق في سهول الطين ونحفر «قبورنا».

غادر صيادو الطيور الثلاثة الحانة إلى ديارهم، ودخلت أنا إلى صالون الحانة لأتحدث إلى صاحبة النُّزُل، السيدة بوتينجر. عندما زرت هانام للمرة الأولى، كانت وزوجها جوب زوجَين وسيمَين في منتصف العمر، ولكنَّ جوب أصيب بكسر في الظهر في غابة هانام العظيمة بينما كان يزيل الدعائم من أحد المناجم الناضبة ومن ثَم تُوفِّي، وتحولت أرملته فجأةً إلى امرأة عجوز. كان العمل في نُزُل «روز آند كراون» يورث الوحدة، فقد كان على حافة المستنقعات المالحة ويبعد بضعة أميال عن أية قرية، ولكنها لم تكن تمانع ذلك. لقد تَسبَّب الحزنُ على جوب، وكذلك إصابتُها بنوع من الحمَّى المتكررة الشائعة في هذه الأنحاء في فصل الخريف — أحد أنواع الملاريا البسيطة — في استنزاف الحيوية من جسدها، ووُضِع في عينَيها السوداوين الجميلتين ذلك الشجن الذي تراه في أعين الكلاب. كانت تدير النُّزُل الصغير من أجل صيادِي الطيور الذين كانوا أصدقاء جوب، وأنشأت شركة نقل صغيرة تمتلك عبَّارتَين تعملان في الخليج وعربة نقل قديمة تعمل على طول الساحل. تقبلتني السيدة بوتينجر نزيلًا لأن جوب كان يحبني، ولكنها لم تكن تفتح النُّزُل لاستقبال النزلاء رغم أن النُّزُل يحتوي على ثلاث أو أربع غرف صغيرة مريحة وقد كانت تغلق الباب في وجه الأغراب الفضوليين.

عثرتُ عليها تحتسي فنجانًا من الشاي في وقت متأخر عن الموعد المعتاد وتبدو في حالٍ أفضل مما كانت عليه المرة السابقة. كانت النار تبعث دفئًا محبَّبًا، والنوافذ وألواح السقف تهتز بفعل العاصفة. كان لديها الكثير من التساؤلات عن بيتر جون الذي أَوْلاها احترامَه على الفور بأسلوبه المحافظ وطلب منها أن تسامحه على ما ستسببه موراج من متاعب. وهزت رأسها في عدم رضًا عندما علمت أنه سيخرج للصيد صباح اليوم التالي. وقالت: «يا للصبي المسكين! يحتاج الصغار لقضاء أوقات طويلة في الفراش.» ثم أفضت لي بما لم أكن أظن حدوثه أبدًا، أن ثمة نزيلًا آخر في نزل «روز آند كراون».

قالت: «إنه شاب نبيل ووسيم وهادئ، ولكنه ليس صغيرًا جدًّا، فيبدو أنه تخطى الخامسة والثلاثين. اسمه سميث … السيد جيمس سميث. إنه مريض وأراد مكانًا بحيث لا يمكن لأقربائه أن يزعجوه، وسمع عن هذا المنزل من قريبتي نانسي المتزوجة من رجل يعمل في إسطبلات خيول سباق اللورد هانام. أرسل إليَّ خطابًا يتذرَّع فيه بأني لا أملك قلبًا قاسيًا قادرًا على رد طلبه، وها هو الآن يقيم في الغرفة الحمراء منذ أسبوعين، وأصبح جزءًا من العائلة، كما قد تقول. إنه لا يتدخل فيما لا يعنيه، ولكن من الرائع جدًّا التحدث إليه.»

سألتها عما إذا كان السيد سميث يهوى الصيد.

«لا. إنه ليس صيادًا. إنه ينام لوقت متأخر ويذهب إلى فراشه مبكرًا، ويقضي ما بين صحوه ونومه في السير على الشاطئ من تريم هيد إلى وافل كريك. ولكنه خرج مع الصيادين الليلة للمرة الأولى. فقد تمكَّن من إقناع جيب سمارت بأن يصحبه؛ فهو يهوى الطيور البرية مثل ابنك الصغير المهذب.»

نهضت السيدة بوتينجر من مقعدها بصعوبة، فعلى الرغم من حزنها، زاد وزنها منذ وفاة زوجها.

وقالت: «أعتقد أني أسمعهم قادمين. لطالما كان جوب يقول إني مرهفة السمع مثل إوزة برية. وعليَّ أن أرى إن كانت سو قد حافظت على نار المدفأة مشتعلة في الحانة، وأحضرت قدر الحليب. لا بد من أن هؤلاء المساكين يموتون عطشًا؛ فهذه الريح قادرة على اقتلاع الأشجار من جذورها، كما يُقال.»

لا شك في أن هذه الأصوات كانت تخص صيادي الطيور العائدين. كان اثنان منهم يرتديان معطفَين صوفيَّين قصيرَين جعلا عرضهما يساوي طولهما، وكانا يخطوان بأقدام ثقيلة على الأرضية المصنوعة من القرميد. وكان الرجل الثالث يخلع معطف طيار جلديًّا ذا بطانة صوفية، وكشف عن ساقين طويلتين موضوعتين في حذاء مستنقعات طويل الرقبة، وجسد طويل يرتدي ملابس مصنوعة منزليًّا. فكَّرتُ أنه أحد أضخم الرجال الذين رأيتُهم في حياتي.

كنت أعرف الصيادَين الماهرَين، جيب وزيب — ولطالما كان اسماهما الأولان مصدرًا للارتباك بالنسبة إليَّ — وعرَّفاني بالرجل الثالث، فقد انسحبت السيدة بوتينجر إلى صالونها بعدما اطمأنت على أن كل شيء على خير ما يرام. رشف صيادو الطيور الرَّم والحليب، وقصوا عليَّ أخبارهم ما بين الرشفات. لم يصطادوا الكثير، فقط «تشارلي»، الإوزة التي اخترقتها طلقة أثناء طيرانها فسقطت من بين السرب. ولكنهما قالا إن الوضع سيكون أفضل في الصباح، فلسوف تستمر العاصفة طوال أربعٍ وعشرين ساعة، فقد خرج حاليًّا الكثير من الإوز الأبيض الجبهة والإوز الوردي القدمين إلى البحر، وسوف تطير الأسراب على ارتفاع منخفض بسبب هذا الإعصار. لم يكن جيب وزيب ممن يهوون الثرثرة، وفي خلال ثلاث دقائق، كانا يتمنيان لي ليلة سعيدة ويغادران.

وأصبحت بمفردي مع ثالث المجموعة. كما قلت سابقًا، كان رجلًا ضخمًا جدًّا، حليق الوجه فيما عدا شارب صغير أنيق، يميل لون شعره إلى لون الرمال ومن المؤكد أنه لم يُصفَّف بواسطة حلاق جيد. كان يرتدي حُلةً قديمة مصنوعة من نسيج صوفي خشن مغزول منزليًّا، وكنزة صوفية عليها نقوش رديئة باللونين الأبيض والأسود، من نوعية الملابس التي يرتديها صيادو سفن الصيد في جريمسبي. كنت سأقول عنه إنه مزارع أو شيء من هذا القبيل، إلا أن حقيقة شحوب بشرته الغريب، ويديه اللتين تشبهان يدَي رجل لم يؤدِّ أي عمل يدوي شاق في حياته. انحنى الرجل لي بطريقة لم تبدُ إنجليزية تمامًا. فقلت شيئًا عن الطقس، وردَّ عليَّ بإنجليزية سليمة تشوبها لمحة من لكنة أجنبية.

كان واضحًا أنه لم يتوقع وجود نزيل آخر في نزل «روز آند كراون»، فكانت النظرة الأولى التي وجهها إليَّ مِلؤُها الدهشة. بل تتخطى الدهشة. كنت سأقسم أنها الخوف، بل تقريبًا الذعر، حتى طمأنه أمرٌ ما خلال تعاملي معه. ولكن، ظلت عيناه تجوبان وجهي كما لو كانتا تبحثان عن شيء يتوق للعثور عليه فيه. بعد ذلك، بدا أكثر ارتياحًا عندما تحدثت. فقد أخبرته بأني معتادٌ على القدوم إلى هانام منذ بضع سنوات الآن، وأني أحضرت ابني معي، وأتمنى أن أريه كيف يكون الصيد.

سألني: «ابنك؟ هل هو صغير السن؟»

عندما أخبرته بأنه على مشارف الرابعة عشرة، بدت عليه الراحة.

«وهل يهوى الصبي الصيد بالبندقية؟»

قلت إن بيتر جون لم يخرج لصيد الإوز من قبل، ولكنه مهووس بالطيور.

قال: «وأنا أيضًا. لا أصطاد الطيور، ولكني أحب مشاهدتها. توجد هنا أنواعٌ كثيرة من الطيور لم أرها من قبل، وأنواعٌ أخرى نادرًا ما أراها ولكنها توجد هنا بوفرة.»

عندما ذهبت إلى فراشي، رقدت أفكر في السيد سميث. استنتجت من لكنته الطفيفة ومن لغته الإنجليزية المنمقة أنه أجنبي. فكرت في أنه ربما يكون ألمانيًّا أو هولنديًّا أو سويديًّا، ربما كان عالم طبيعة في زيارة إلى هانام مثلما كان آرتشي رويلانس معتادًا على زيارة تيكسل. أعجبتني ملامحه الطيبة الخجلة، ولأنه يبدو وحيدًا هنا قررت أن أعرض عليه وبيتر جون أن نصحبه إلى رحلة الصيد معنا. ولكن، كان ثمة أمران بشأنه حيَّراني. أولهما أنه انتابني شعور غامض بأني رأيته من قبل، أو على الأقل شخص يشبهه. فقد كان شكل فكِّه والطريقة الحادة التي يبرز بها أنفه من تحت جبهته مألوفين. والأمر الثاني هو ذلك الاختلاج في عينيه الذي نمَّ عن الخوف عندما رآني للمرة الأولى. لا يمكن أن يكون مجرمًا متخفيًا؛ فقد بدا صادقًا ومأمون الجانب بشكل كبير، ولكنه كان خائفًا؛ خائفًا من شخص أو شيء قد ينقضُّ عليه فجأة حتى في تلك البقعة النائية من إنجلترا. غفوت وأنا أتساءل عما يخفيه ماضي ذلك الكائن الضخم البسيط.

أُوقظنا في تمام الرابعة صباحًا، وبعد تناول كوب من الشاي لحقنا بسامسون عند المرفأ، وعلى ضوء مصباح كهربي خافت، بدأنا نتملس طريقنا عبر الرمال الجافة حتى وصلنا إلى المستنقعات المالحة. كانت العاصفة قد خفَّت قليلًا، ولكن ظلت الرياح تضرب وجوهنا بقوة من ناحية اليمين، وشعرنا كما لو كان العالم المظلم من حولنا بالكامل صندوق ثلج. كنت وبيتر جون نرتدي أحذية مطاطية طويلة الرقبة حتى الركبتين، وكان من الصعب جدًّا السير بها، ولأننا لم نكن نملك خبرة سامسون، غصنا عدة مرات حتى الخصر في الجداول الصغيرة. كان كلٌ منا يحمل بندقية من عيار ٨ تُطلق خراطيش ويبلغ طول كلٍّ منها ثلاث بوصات ونصفًا، بينما كان سامسون يحمل بندقية من عيار ١٢ ذات ماسورة في نفس طول البندقية بور رور. وبالتدريج خرجنا من الأرض العشبية ووصلنا إلى السهول الطينية الموحلة. وهناك، أوقفنا سامسون، وأخرجنا مجارف الفحم من الحقائب التي تحتوي على أدوات صيد الإوز، وبدأنا نحفر «قبورنا» مكدسين متراسًا من الطين على جانب البحر الذي تأتي منه الطيور. ثم صمتنا كالموتى، وجثم كلٌّ منا في حفرته على بُعد حوالي مائة ياردة من الآخر وأبصارنا شاخصة لأعلى تحدق في الظلام الدامس، وأسناننا تصطك معًا، منتظرين ذلك البرق البطيء الذي يعني بزوغ الفجر.

بعد السادسة بقليل تصاعد من فوقنا صوتٌ يشبه صرير عاصفةٍ ثانية؛ فقد هدأت العاصفة الأولى ولم تعد إلا ريح جنوبية غربية خفيفة هادئة. أدركت بخبرتي كُنْهَ هذا الصوت، ونبهت بيتر جون له. كان صوت عدة آلاف من الطيور الخواضة، طيور الدريجة والطيطوي الأحمر والطيطوي الأحمر الساق وما شابهها، تطير في مجموعات، تُصدر كل مجموعة منها صوتًا يشبه هدير موجة هائلة تصطدم بالشاطئ. ثم خيَّم الصمت مرة أخرى لفترة قصيرة، وانقشع الظلام قليلًا، واعتقدت أنه لا بد أن أتمكن من الرؤية لمسافة خمسين ياردة على الأقل. ولكني لم أتمكن من الرؤية لهذه المسافة، وعندما بدأ البط في الطيران، لم أتمكن إلا من سماع رفرفة أجنحته رغم علمي بأنه يطير على ارتفاع منخفض.

ثم حلَّ صمتٌ غريبٌ من جديد، ثم بدَا وكأنَّ العالم يتغير. كانت السحب تنقشع، ورأيت فجأةً بقعة من السماء مرصعة بالنجوم. ثُم تحوَّل لون الأفق بالكامل من الأسود الداكن إلى الرمادي، وكان اللون الرَّمادي محاطًا من جهة الشرق بهالة من الضوء الأصفر الساطع. نظرت خلفي وتمكنت من رؤية معالم الساحل المنخفض، وكانت ثمة منطقة غير واضحة كنت أعلم أنها الغابة، وكان ثمة برج كنيسة واحد يبرز بوضوح من وسط الضباب الباهت.

كان وقت انطلاق الإوز قد حان، وخلال لحظة كانوا يمرون فوقنا. كانت أسراب الإوز تصل الواحد تلو الآخر، كأشباح غير واضحة المعالم في مقابل السحب المُضاءة بالضوء الخافت، ولكنها كانت واضحةَ المعالم تمامًا في مقابل السماء الصافية الشاسعة البنفسجية اللون. لم يكن البط يبقبق مثلما يفعل عادةً خلال رحلات الطيران المسائية من الحقول إلى البحر، بل كان يزقزق ويتحدث بصوتٍ منخفض إلى نفسه. أدركت من الصوت أنها من نوع الإوز الوردي القدمين؛ فالإوز الأبيض الجبهة يصدر صوتًا أكثر حدة. لطالما حبس هذا المشهد أنفاسي، مشهد هذا العدد الكبير من الكائنات الحية البرية تنطلق من وسط الظلام والمجهول، بنظامها الذي لا يختلُّ مثل كتيبة من الحرس الملكي. لم تراودني أبدًا الرغبة في إطلاق النار، ولم أكن أبدًا أول من يطلق النار، ولم يوقظني من سِحر هذا المشهد إلا صوت بندقية سامسون من عيار ١٢.

وفجأة أطلق أحد ذكور الإوز الكبار — وكان يقود أحد الأسراب — صيحةً. كان سامسون قد أصابه فسقط على بُعد خمس ياردات من رأسي، وتردد صدى الطلقة لأميال عبر المستنقعات. وبدأت متعتنا في تلك اللحظة. بدأت الطيور تطير على ارتفاع عالٍ نسبيًّا، وواتت بيتر جون فرصة ذهبية لصيد بعضها، ولكن لم يبدُ أن ثمةَ روحًا حيًّا في حفرته. بمجرد أن مر الإوز، وتبعه زوج من أسراب البط الصافر يطير على ارتفاعٍ عالٍ جدًّا، سرت نحو حفرته لأستطلع أحواله. فوجدت ابني يجلس على متراسه الطيني والذهول يعلو وجهه. وتلعثم قائلًا: «لم أتمكن من إطلاق النار عليها، فقد كانت رائعة الجمال. سأحضر موراج غدًا. لا أمانع صيد الإوز باستخدام صقر، فأنا أرى أنها معركة عادلة من أجل البقاء، ولكني لن أقتلها ببندقية.» احترمت ما يشعر به، ولكني اعتقدت أنه شديد التفاؤل، فهو لن يتمكن من الاقتراب منها أبدًا حتى يتعلم كيفية تقدير سرعتها.

تناولنا وجبة إفطار ضخمة، ثم أوينا إلى الفراش ونمنا أربع ساعات. بعد الغداء، خرجنا إلى الكثبان الرملية ومعنا الصقر، وهناك رأى بيتر جون طائر حجوالة. ولكنه لم يُطلِق موراج، وقال إنه من المشين أن يُطلَق طائر جارح حسن التغذية في مواجهة طيور خوَّاضة عجفاء ومرهقة طارت كامل المسافة من منطقة البلطيق. التقينا سميث في طريق عودتنا إلى النزل، وكان خرج من أجل نزهة طويلة سيرًا على الأقدام، وعرفته إلى بيتر جون. نما الإعجاب بين الاثنين على الفور، بالطريقة المعتادة التي يتبعها رجل خجول عندما يعقد صداقة مع صبي. كان سميث يعلم الكثير عن الطيور، ولكني تساءلت عن الخلفية التي استقى منها معلوماته، فقد كان مهتمًّا بالبط الشرشير والبط الصافر، وهي تُعَد من الطيور الشائعة في المناطق الساحلية، وكان في الوقت نفسه يتحدث عن طيور نادرة على غرار الدريجة الأرجوانية كما لو أنه رآها مرات كثيرة. رغم ذلك، لم يتحدث إلينا كثيرًا، ورأيت في عينيه نفس تلك النظرة الحزينة الحذرة التي رأيتها الليلة السابقة. ولكن انفرجت أساريره فرحًا عندما اقترحت أن يأتي معنا إلى رحلة الصيد صباح اليوم التالي.

كانت جولة الصيد المسائية لهذه الليلة إخفاقًا تامًّا. فقد هدأت الرياح دون مقدمات، وزحف من أعماق المستنقعات ضبابٌ يطلق عليه الصيادون «الكثيف». جربنا جزءًا آخر من السهول الطينية على أمل أن يصفو الجو. وظل الجو صافيًا بالفعل لنصف ساعة حتى بدأت الشمس تغرب وسط هالة رائعة قرمزية مُتلألِئَة. ولكن زحف الضبابُ حولنا مجددًا بعد غروب الشمس، ولم نتمكن من رؤية أي شيء سوى ومضات بيضاء لأجنحة البط من وقت لآخر. أتى الإوز من جهة البحر في الخامسة والنصف تقريبًا، ولكن لم يكن يزقزق مثلما كان يفعل في الصباح، بل كان يصدر ضجيجًا عاليًا، ولم يكن يطير في أسراب، بل في قطيع واحد مستمر. كنا نسمع أصواته جيدًا، ولكننا لم نتمكن من رؤية أي شيء يمر من فوقنا سوى أشياء تشبه الأغطية الصوفية الرمادية. في تمام السادسة، استسلمنا وعدنا أدراجنا لتناول العشاء، بعد ذلك قرأت رواية «كنوز الملك سليمان» بصوتٍ عالٍ لبيتر جون أمام نار المدفأة، وأضفت تعليقات عليها استقيتها من مغامراتي الخاصة.

فكرت في أن الطقس يقترب من درجة التجمد وأنه لا يوجد أمل كبير في نجاح جولة صباح الغد. ولكن، لم تكن العاصفة قد مرَّت بعد، فقد استيقظت على صوت تصادم النوافذ وتساقط البرد على السقف. وجدنا سميث في انتظارنا مع سامسون، وبدَا عليه أنه مستيقظ منذ ساعات أو أنه لم ينم في الأساس، فلم تكن عيناه منتفختَين مثل عينَي بيتر جون وعينَيَّ. سرنا بصعوبة على العشب، وانحنينا لتفادي العاصفة الثلجية، وعندما وصلنا إلى الطين، كانت أيدينا قد تجمدت لدرجة أننا تمكنا بمشقة من الإمساك بجواريف الفحم. ساعد سميث، الذي لم يكن يحمل بندقية، بيتر جون في حفر «خندقه»، فقد كان الأخير يحمل موراج التي كانت تحتاج إلى بعض الانتباه. لم أرَ طائرًا من قبل أشد منها غضبًا وذلك بسبب صيحاتها الحاقدة واللمحات التي أراها في عينيها الغاضبتين اللامعتين الثاقبتين اللتين لا تثبتان.

قضينا سهرة تعسة توقَّفت خلالها الأمطار الثلجية وهدأت الريح قليلًا. كانت حفرتي بالقرب من أحد الجداول، وأتذكر جيدًا أنه عندما كان الفجر على وشك البزوغ، ظهر رأس فقمة بحرية لامع مقاوم للبلل بجواري. بعد ذلك، حدث الطقس المعتاد: أسراب الطيور الخوَّاضة التي تُصدر ضجيجًا عاليًا، وقطعان البط، ثم مع ضوء النهار الأول، أتت أسراب الإوز، وكانت هذه المرة مكونة في أغلبها من الإوز الأبيض الجبهة. جاءت الأسراب متأخرة قليلًا عن موعدها المعتاد، فلا بد أنها وصلت بعد السابعة والنصف، وتخطت الثامنة قبل أن تمر جميعها.

ولم تصب بنادقُنا أيًّا منها. لم يُطلق سامسون أي طلقات، وعلى الرغم من أني أطلقت طلقتين على الطيور في مؤخرة السرب، فإني لم أصِب أيًّا منها. كانت الطيور على مسافة بعيدة، وكان ثمة أمر خاطئ جدًّا يتعلق بالرؤية … كنت نهضت للتو لأنفض الطين عن حذائي الطويل الرقبة فجثمت في حفرتي مرة أخرى على الفور، فقد ظهر أمامي فجأة مشهد مذهل. وركع سميث، الذي كان يشاركني الحفرة، على ركبتَيه أيضًا.

كان بيتر جون قد أطلق موراج، وانتقت أنثى الصقر ذكرًا من بين سرب الإوز وأخَّرته عن السرب. لمع برقٌ في السماء، ورأيت الحدث بأكمله بوضوح شديد. كانت موراج تطير على ارتفاع أعلى من طريدتها لتستعد للانقضاض عليها وتقتلها، إلا أن ذكر الإوز كان قد مر بمثل هذا الموقف من قبل ويعلم جيدًا ما عليه أن يفعل. فترك نفسه يسقط كالحجر نحو الأرض حتى أصبح على ارتفاع بضع ياردات من الطين، ثم حلَّق بأقصى سرعته على هذا الارتفاع نحو الشاطئ. وعلى ارتفاع ٥٠ قدمًا أو نحوها، حافظت أنثى الصقر على مسارٍ موازٍ. وصلت موراج إلى نفس سرعة ذكر الإوز بسهولة، ولكنها لم تجرؤ على الانقضاض عليه، فإن فعلت، فقد تقتل فريستها، ولكنها في الوقت نفسه، قد تكسر رقبتها هي في اندفاعها السريع أثناء الانقضاض.

شاهدت من قبل سباقات خيول ونزالات حتى الموت مثيرة، ولكني لم أشاهد في حياتي شيئًا أكثر إثارة من رؤية نهاية هذه المنافسة. انطلق الطائران على مسافةٍ لا تتعدى عشر ياردات من يميني، وكنت قادرًا على إطلاق النار بسهولة على ذكر الإوز الأبيض الجبهة، ولكني حينئذٍ كنت سأفقد فرصة نادرة لمشاهدة حدث استثنائي. كان مشهدًا لا ناقةَ لي فيه ولا جمل، صراع بين طائرين ظل دائرًا منذ بدء الخليقة. هللت في فورة حماسي لذكر الإوز العجوز. وكذلك فعل سميث الذي كان يقف على قدميه على قمة المتراس الطيني يصرخ مثل المجاذيب، وكان بيتر جون يخوض في الوحل خلف الطائرَين المتنافسَين …

لم يتخطَّ الحدث بأكمله دقيقةً واحدة، فقد كانت سرعة الطائرَين مذهلة، ولكن بدَا الأمر بالنسبة إليَّ وكأنه قد مرَّت عدة ساعات. استدار ذكر الإوز الأبيض الجبهة ناحية اليسار قليلًا، ثم ارتفع قليلًا إلى أعلى ليجتاز تلة صغيرة وسط العشب الكثيف، ثم ابتعد الطائران حتى أصبحَا مجرد نقطتَين صغيرتَين في الأفق. ولكن كان الضوء جيدًا بما يكفي لنرى النهاية. وصلت النقطة السفلية إلى غابة صنوبر واختفت، ولم تتمكن النقطة العلوية من رؤية شيء وسط عتمة الأشجار. لقد تمكَّن ذكر الإوز من الوصول إلى بر الأمان. وجدت نفسي أغمغم: «أحسنت … أوه، أحسنت!»، وكنت أعلم أن بيتر جون تنتابه المشاعر نفسها وهو يلوح للصقر.

وفجأة، تحول انتباهي إلى سميث. كان يجلس على الطين يبكي … نعم، يبكي. اعتقدت في البداية أنه يبكي بسبب الانفعال، ولم أستغرب ذلك، ثم أدركت أن ثمة أمرًا آخر. مددت له يدي لأساعده على النهوض، فتشبث بذراعي.

وتلعثم قائلًا: «إنه في مأمن. أخبرني، هل أصبح آمنًا؟»

فقلت: «آمِن تمامًا. لا يمكن لصقر أن يفعل شيئًا لطائر داخل غابة.»

فتمسك بذراعي بقوة أكبر.

وقال باكيًا: «إنه في أمان لأنه كان متواضعًا. لقد حلَّق قريبًا من الأرض. كان متواضعًا مهيض الجناح، مثلي تمامًا. إنها رسالة من السماء.»

ثم بدا خَجِلًا من نفسه، فقد اعتذر على تصرفه بمثل هذه الحماقة. ولكنه لم يتحدث تقريبًا خلال عودتنا، وعندما نهضت من نومي لأتناول الغداء، أخبرتني السيدة بوتينجر بخبر مغادرته نُزل «روز آند كراون» … منحني ما حدث في السهول الطينية لمحةً عن سميث. كان رجلًا مطاردًا يعيش مرتعبًا ممن يطارده ويتنقل متخفيًا. ومنحته نجاة ذكر الإوز الأبيض الجبهة أملًا، فقد كان أسلوبهما متماثلًا. وتساءلت عما إذا كنا سنلتقي مرة أخرى.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤