الفصل الثالث

لوح اليشم

بدأ الفصل التالي من هذه القصة في نهاية شهر مارس عندما أتت عائلة كلانرويدن لتقضي معنا عطلة نهاية أسبوع طويلة في فوسي. استقر ساندي، بعد عودته من أمريكا الجنوبية وتزوج في ليفرلو وأصبح صاحب أطيان اسكتلنديًّا، وخلال القسم الأكبر من العام، لم تكن لتتمكن من إخراجه وباربارا من معتزلهما الرائع هذا. ثم وقعت أزمة في منطقة الشرق الأدنى شعر على إثرها بأن من واجبه أن يلقي خطابًا في مجلس اللوردات، وزاد انخراطه في الشئون العامة تدريجيًّا. واستغرقت باربارا وقتًا طويلًا لتتعافي بعد ولادة ابنتها، وكان عليها أن تقضي أغلب وقتها في لندن بالقرب من الأطباء. ونتج عن ذلك أن أصبحت أنا وماري نقضي مع آل كلانرويدن وقتًا أطول. كانت ماري واحدة من الأمهات الروحيات لابنتهم، وأقامت الليدي كلانرويدن معنا في فوسي خلال أغلب الفترة التي كان ساندي يذهب فيها إلى الصين ليرأس بعثة دولية. لم يعُد ساندي من الشرق الأقصى إلا في نهاية شهر فبراير.

كانت حالة الطقس تشير إلى أن فصل الربيع سيحل مبكرًا. هطل الثلج لأسبوعين خلال شهر فبراير، فأصبحت الأرض رطبة وأينعت الأشجار، وخلال الأسبوع الأول من شهر مارس، تعرَّضنا للفحات رياح جافة آتية من الشمال الشرقي. ثم هبت علينا رياح جنوبية غربية لطيفة، ودبت الحياة في الأنحاء فجأةً. فأزهرت أشجار الخوخ الشوكي، وغزت الغربان أشجار الزان، واحمرَّت أشجار الدردار، وأصبحت مروج فوسي محاطة بأكوام ذهبية من أزهار النرجس. بعد موعد احتساء الشاي يوم الجمعة، خرجت وساندي في نزهة سيرًا على الأقدام في تلال شارواي، التي تحدها وديان أوكسفوردشير من جهة الشرق، ومن الشمال تلال خضراء مكدسة قممها الدائرية الواحدة فوق الأخرى. ومع اقتراب الغسق، اصطبغ المشهد بلون وردي ناعم مثل أزهار الخوخ، وسُمع طائر شحرور يغرد بملء رئتَيه من داخل إحدى الشجيرات، وربط الخليط بين الصيحات الجامحة لطيور الزقزاق وثغاء الحملان الصغيرة بين ما لا يُمكِن ترويضه وما نعتمد عليه بوصفنا بشرًا من أجل راحتنا.

بدا جليًّا أن ساندي شعر بسحر المكان بينما يشم الروائح المنبعثة من الغابات والأراضي الزراعية.

فقال: «رائع. إن إنجلترا هي المكان الوحيد المريح حقًّا على سطح الأرض؛ المكان الوحيد الذي يشعر فيه المرء أنه في وطنه بكل ما تحمله الكلمة من معنًى.»

قلت: «مريحة جدًّا حقًّا. أشعر بأني أتقدم في السن ويصيبني الضعف والتراخي. أنا لا أستحق هذا المكان، ولم أنله بمجهودي.»

فضحك. وقال: «هل هذا ما تشعر به؟ هذا ما أشعر به، أيضًا، كثيرًا. ثمة أحيان تمر عليَّ في ليفرلو عندما يبدو لي أن هذا الوادي الصغير المُبارَك مثاليٌّ بدرجة لا تناسب البشر المنحطين، وأني لا أستحق العيش فيه. من حسن الحظ أنْ طُرِد آدم من الجنة، فلم يكن ليستمتعَ بها لو بقي فيها. لقد شهدت الصباح في أيام صيفية جميلًا للدرجة التي أصابتني بالاكتئاب الشديد. أعتقد ألَّا بأس بشعور مثل هذا؛ فهو يساعدك على الحفاظ على تواضعك، ويجعلك تعدد النعم التي حباك الله بها.»

قلت: «لا أعتقد ذلك. لا يفيدك أن تعدد نعمك إذا كنت تشعر بأنك لا تستحقها.»

«أوه، نحن نستحقها. فقد مر كلانا بالكثير. ولكن لا يوجد ما يُسمَّى بالحق المطلق. فلا بد أن نسعى لنناله.»

«ولكننا لا نفعل. أنا على الأقل لا أفعل. أنا غارق في الدَّعَة … منعَّم في الترف، مثل رجل مسترخٍ في حمامٍ دافئ.»

«لا بأس في ذلك شريطة أن تكون مستعدًّا لتحمل السطل البارد عندما يُلقَى عليك. هكذا أرى الأمور من وجهة نظري على الأقل. استمتع بأوقاتك المترفة، ولكن لا تتعلق بها. وستستمتع بهذه الأوقات أكثر بكثير إذا ما نظرت إليها من نفس وجهة النظر تلك، فإنك لن تستخف بها أبدًا.»

لم نتحدث كثيرًا في طريق عودتنا إلى المنزل، فقد كنت أمعن التفكير فيما قاله ساندي وأتساءل عما إذا كنت سأكتسب تلك الحكمة التي أسعى لاكتسابها عندما يتقدم بي العمر. ولكن تكمن المشكلة في أني لا أعرف إذا ما كنت على استعداد للتخلي عن حياتي المترفة. سيفعل ساندي ذلك، فلطالما كان يسمع النصائح، أما أنا فلا أفعل.

كان ساندي في أفضل حالاته المزاجية تلك الليلة على العشاء. حتى العام الماضي فقط، لم يكن قد سافر شرقًا لأبعد من الهند، ولكنه كان يحفظ الشرق الأدنى والشرق الأوسط عن ظهر قلب، وكان لديه الكثير من التجارب الجديدة. كان من النادر أن يتحدث عن السياسة، فلم يذكر شيئًا عن عمل البعثة التي يرأسها، ولكنه استرسل في الحديث عن كل نزوات وغرائب رحلاته. لا تصلح المغامرات إلا للمغامرين، وكان لديه معارف كُثُر لدرجة أنه أينما ذهب، فمن المؤكد أن يعيد التواصل مع أحد معارفه القدامى. وكان لديه أمر ليخبرني به عن أصدقائنا المشتركين الذين لم أرهم منذ فترة طويلة، والذين جرفتهم لنا أمواج الماضي مثل خشب طافٍ انتهى به المطاف على شواطئ غريبة.

سألني ساندي: «هل تذكر رجلًا يُدعى هارالدسن؟»

قلت: «نعم. كنت أعرف رجلًا يُدعى هارالدسن، دنماركي. ماريوس إلياسر هارالدسن.»

فأومأ برأسه أن نعم. وقال: «هو بعينه.»

كان من الغريب أن أسمع هذا الاسم يُنطق، فرغم أنه لم يمر بخاطري منذ سنوات، تذكرته مؤخرًا، فقد كان على صلةٍ ما بلومبارد.

«لم أره منذ ربع قرن، وكان مسنًّا حينئذٍ. كيف حاله؟ هل التقيته مصادفةً؟»

«لا. لقد مات. ولكني تعرفت إليه في نهاية الحرب، واستمرت علاقتنا لما بعدها. لدي أمر أريد إخبارك به بشأن هارالدسن، وأمر أريد أن أريك إياه.»

بعد العشاء، جلسنا حول المدفأة في غرفة المكتبة، وصعد ساندي إلى غرفته وعاد حاملًا شيئًا صغيرًا مسطَّحًا ملفوفًا في جلد الشمواه. وقال: «بادئ ذي بدء يا ديك، ماذا تتذكر عن هارالدسن؟»

كنت أتذكر جيدًا أمورًا كثيرة، خاصةً القصة التي شارك فيها لومبارد. ولكن، نظرًا إلى أني كنت أتوق لسماع ما يريد ساندي قوله، فلم أقل إلا أني تعرفت عليه في روديسيا وكان مجرد مضارب محظوظ في عروض التنقيب عن الذهب. لقد قضى وقتًا طويلًا في جنوب أفريقيا، ويُشاع أنه جنى مالًا وفيرًا خلال الأيام الأولى للعمل في راند. ولكنه كان دائم البحث عن مجالات جديدة، وربما تخلى عن بعضها خلال مغامراته في روديسيا. كان آخر لقاء بيننا عندما كان يستكشف شمال نهر الزامبيزي، وكان يعمل تحت إمرته دزينة من المنقبين في ثنية نهر كافو.

قال ساندي: «نعم. هذا هو هارالدسن. دعني أخبرك بالمزيد عنه. كان مُنقِّبًا محترفًا عن الذهب من طراز رفيع، فكان كما لو أنه يشم رائحة الذهب، وكان يملك صبرًا كصبر بوذا. ولكنه لم يكن صياد كنوز عادي، فقد كان يضع نصب عينيه هدفًا لا يحيد عنه أبدًا. كان دنماركيًّا، كما قلت، من يوتلاند، وتربي ليصبح مهندس تعدين. كما أنه كان خبيرًا رائعًا بالمعادن. ولكنه كان أيضًا، وفي المقام الأول، شاعرًا. كانت فترة شبابه قبل تلك الفترة التي انتشر فيها ذلك الهراء عن سيادة شعوب الشمال، ولكنه كان مقتنعًا بفكرة أن ثقافة شعوب الشمال قدمت للحضارة مساهمات لا تقل عظمةً عن مساهمات الإغريق والرومان، وأن الشعب الإسكندنافي مُقدَّرٌ له أن يكون القائد الحقيقي للقارة الأوروبية. كان يحفظ تاريخ شعوب الشمال عن ظهر قلب، ولم أرَ أحدًا يعرف ملاحمهم البطولية أكثر منه، وأنا مؤهل للحكم على ذلك، فأنا أعرفها حق المعرفة أيضًا. وكانت لديه رؤيةً تتعلق بإعادة إحياء الشمال العظيم، عندما تعود روح هارالد فيرهير إلى الحياة في النرويج، ويولد كلٌّ من جوستافوس أدولفوس وتشارلز الثاني عشر من جديد في السويد، وكذلك فالديمار المنتصر في الدنمارك. لا يعني ذلك أنه أراد أي فتوحات أو اتحادات — فلم يكن مهتمًّا بالسياسة، كان تصوره للأمر هو إعادة إحياء فكر شعوب الشمال، أو إقامة نهضة الشمال تحت قيادته. ربما تذكر كم كان عنيفًا عندما يتعلق الأمر بأي مسألة تمس صالح الناس، وكم يكون هادئًا ووديعًا في بعض الأحيان إذا ما تعاملت معه بالطريقة المناسبة.»

لا شك في أني تذكرت تلك المرة عندما تحدث إليَّ هارالدسن عن منزل يبنيه على جزيرةٍ صغيرة في مكان ما في الشمال، وكان متحمسًا للأمر مثل صبي صغير. فقد كان يُنظَر إليه على أنه من أبناء الجزيرة المخلصين.

«حسنًا، من أجل تحقيق غايته، كان يحتاج إلى المال، وكان من الصعب الحصول على المال إذا ما بقي في الوطن. فبدأ السعي، مثل راعية الإوز في رواية هانس أندرسن، بحثًا عن جمع ثروة؛ ثروة كبيرة جدًّا، فكان ثمة الكثير الذي يريد فعله بها. وانحرف مساره بشكلٍ ما، فتوجه إلى مصر، وكان من بين المنقبين الذين أرسلهم الخديوي إسماعيل إلى السودان بحثًا عن الذهب. لا بد أنه كان في بداية العشرينيات من عمره حينئذٍ. ثم اتجه جنوبًا عبر الحبشة ومدغشقر حتى وصل إلى موزمبيق حيث بدأ البحث عن مناجم ذهب ملكة سبأ.

لقد أضاع زمنًا طويلًا في هذا المجال العقيم، وكاد أن يتعرض لنحر عنقه أكثر من مرة، ثم حالفه الحظ بالعمل في مقاطعة راند مع بداية أعمال التنقيب. وأبلى بلاءً حسنًا لأبعد حدٍّ ممكن، ولكنه لم يرضَ بذلك. فكان لا يزال يبحث عن منجمه الغني الخاص. فاتجه شمالًا إلى داخل روديسيا، حيث التقيتَه أنت، واستمر شمالًا حتى وصل إلى شرق الكونغو. ثم قرر أنه حصل على كفايته من أفريقيا، وأنه سيجرب حظه في آسيا.»

قلت: «ذهب إلى آسيا إذن. البطل العجوز! عندما تعرفت إليه، كان قد أوشك على الستين من عمره.»

«أعلم هذا. كان صُلبًا مثل شخصيات حكاياته. لقد مر بمغامرات كثيرة رائعة في آسيا؛ خاصةً في سيبيريا وفي الدولة التي تطل على بحر قزوين من الجنوب. عندما التقيته مصادفةً في بلاد فارس في بداية ١٩١٨، كانت حالُه سيئة جدًّا. هل تذكر كم كان ضخمًا، بذراعيه الطويلتين الهائلتين وكتفيه العريضتين؟ عندما التقيته، لم يكن سوى لحم على عظم، وكانت ملابسه معلقة على جسمه كما لو كانت أسمالًا باليةً معلقة على دعامة فزاعة. ولكنه لم يكن مريضًا، بل كان نحيلًا بدرجة مخيفة، ولم يكن استسلم بعد. كان لا يزال يبحث عن مدينة أوفير الخاصة به (مدينة ذُكِرت في الكتاب المقدس كان الملك سليمان يتسلم منها شحنة كل ثلاث سنوات تتكون من الذهب والفضة، إلخ …)»

قاطعته قائلًا: «لا بد أنك التقيته أثناء الحرب. كيف سُمِح له أن يتجول بحرية في هذه الأنحاء؟»

«لم يُسمَح له بذلك. لقد ذهب إلى هناك فحسب، كان ثمة عددٌ من المتحررين المجهولين المتسربين إلى مناطق الحرب أكبر بكثير مما تخيل الناس حينئذٍ. كما تعلم، كان رجلًا مسنًّا نبيلًا مثيرًا للإعجاب، وكان يملك المال، ويعلم أساليب الحياة … جميعها، على كثرتها. كما أنه كان يرتحل بأناقة مصطحبًا خدمًا وطاهيًا جيدًا وحارسًا مسلحًا يخشاه أكثر مما يخشى أي أعداء محتملين. لم يكن رجلَ أعمال من فراغ. قضيت حوالي أسبوع في معيته، وذات صباحٍ رطب، بينما كنا نأكل التوت الأبيض معًا في الحديقة، أخبرني بكل شيء عن نفسه. كان يتحدث إليَّ دون قيود، فقد كنا رجلَين متحضرَين يجلسان وحيدَين وسط البراري، وكان معجبًا بي، فقد كنت أعرف جميع ملاحمه المقدسة. كيف أبهرك يا ديك، عندما كنت تعرفه؟»

«كنت معجبًا به، جميعنا فعل، ولكننا كنا متحيرين مما يسعى إليه. كنا نعتقد أنه من الأفضل لأحد زعماء راند تخطى خمسين عامًا بعدة سنوات أن يذهب للاستمتاع بالحياة في أوروبا بدلًا من التنقيب عن المعادن وسط الأحراش. كان متمكنًا جدًّا وكان يدير فريقه ببراعة. كان يجدر بك أن تستيقظ مبكرًا جدًّا لتسبق هارالدسن العجوز.»

قال ساندي: «لا بد أن كل هذا تغير قبل أن ألتقيه. في أفريقيا، عليك أن تبذل قصارى جهدك لتمنع المادة من السيطرة على عقلك، ولكن، في آسيا، تكمن المشكلة في أن تُبقي عقلك على صلة معقولة مع المادة. وكان هارالدسن، عندما كنت أعرفه، صوفيًّا وساعيًا للثراء في الوقت نفسه. أخبرني عن حياته الماضية كما لو كانت شيئًا بعيدًا لا يمت له بصلة. وأتذكر أني ذكرت اسمك، وتذكرك بالفعل، ولكن لم يبدُ عليه أنه مهتم كثيرًا بأي شيء حدث في أفريقيا. كان لديه ابن في مكان ما في أوروبا، ولكنه لم يذكر الكثير عنه، كما أن لديه بيتًا، ولكنه لم يخبرني أبدًا أين يوجد. كان كل ما يشغل تفكيره هو ذلك الكنز الذي سيعثر عليه ذات يوم، والذي ظلَّ ينتظره منذ بدء الخليقة. استنبطت أنه رجل ثري، وأنه لم يكن يسعى لتحقيق الثراء. أخبرني عن أحلامه لمستقبل شعوب الشمال، ولكنها بدت وكأنها تكرار لدرسٍ سمعته سابقًا. وفي واقع الأمر، أصبح عثوره على مدينة أوفير الخاصة به غايةً في حد ذاته، بغض النظر عن الفائدة التي ستعود عليه منها. قد تجد هذا الهوس أحيانًا لدى رجالٍ مُسنِّين عاشوا حياةً شاقة. يصبحون أحاديِّي الهوس.»

سألته: «هل عثر عليها؟»

«ليس في بلاد فارس. ولم تكن منطقة الشرق الأوسط مناسبة في ذلك الوقت للتنقيب عن الكنوز. يجب أن تدرك أن هارالدسن لم يكن ينقب عن الذهب اعتباطًا. فقد كان يتبع خطة، وكان يراعي أن تُنظم بياناته بدقة لا تقل عن دقة أي جهاز مخابرات. كان يتتبع ما وصل إليه من آثار مجموعة كبيرة ممن سبقوه، الذين جُمِعت أدلتُهم وحُلِّلت … كان يقتفي، بصورة رئيسية، آثار طرق القوافل القديمة التي كان يعلم أن الذهب نُقِل عبرها. ولكنه فشل في بلاد فارس، بعد ذلك سمعت أنه كان في شينجيانج … المنطقة التي كان يُطلق عليها اسم تركستان الصينية. كنت في الهند حينئذٍ، أراقب الوضع في وسط آسيا عن كثب، وسبب لي صديقي القديم هذا كمًّا كبيرًا من المشكلات. كان قد دخل مدينة كاشجر، وذقنا الأمَرَّين حتى تمكنَّا من إخراجه منها. كانت شينجيانج في ذلك الوقت ساحة حرب دائرة بين الحكام الوطنيين المسلمين والمبعوثين السوفييت، ولم يكن ثمة أحد يسعى لإحلال السلام بينهم سوى بعض المسئولين الصينيين الضعفاء والجيش الصيني المهلهل. رغم ذلك، أجريت ترتيبات في النهاية ليأتي إلى الهند، وكنت أتطلع إلى استقباله في مدينة شيملا عندما أتت لنا أخبار مفادها أن الدونجان قد انتصروا، وأن الحامية العسكرية والأجانب قد طُرِدوا وأنهم يفرون شرقًا نحو الصين. تأكدت حينئذٍ أن أمر هارالدسن قد انتهى. فمن المستحيل أن يتمكن من قطع مسافة ألفَي ميل في الصحراء التي تفصل بين شينجيانج والصين. وكتبت في مفكرتي عن حماقة صيد الكنوز.»

غمغمت قائلًا: «يا للمسكين! إنها النهاية الحتمية المقدرة له.»

فقال ساندي: «هذه لم تكن نهايته. حدث ذلك منذ اثني عشر عامًا. مات هارالدسن بالفعل، ولكنه عاش عشر سنوات كاملة بعدما خرج من شينجيانج. لا بد أنه كان في الثمانين من عمره عندما مات، ما يعني أنه تمكَّن من إدارة أمواله بطريقة لا بأس بها. علاوة على ذلك، لقد عثر على مدينة أوفير الخاصة به.»

سألته منفعلًا: «كيف عرفت ذلك؟»

«إنها قصة غريبة»، قالها ساندي ثم أخرج الشيء الذي في يده من لِفافة جلد الشمواه. كان الشيء عبارة عن لوح تبلغ مساحته حوالي ثماني بوصات في ست بوصات، وكان أروع حجر يشم زمردي رأته عيناي. أعطى ساندي اللوح إلى ماري التي أعطتني إياه. رأيت أن جانبَيه مغطيان بنقوش متشابكة، وإن كانت هذه النقوش لغةً معروفة، فلا شك في أنها لغة أجهلها تمامًا. وأبدت ماري، التي تحب جميع أنواع الجواهر، إعجابها الشديد بجمال اللوح.

فقال ساندي: «حصلت على هذا اللوح في بِكين. كانت ثمة أوقات لم نكن خلالها منشغلين جدًّا، وكانت هوايتي خلال تلك الأوقات أن أنقِّب في أنحاء المدينة خلال فترة العصر في أيام الخريف القارسة المشمسة. كان ثمة متجر للسلع المستعملة بالقرب من إحدى بوابات تينج كنت قد عقدت صداقة مع مالكه. كان رجلًا مسلمًا مسنًّا من قانسو تمكنت من تعلم التحدث بلغته، وكان متجره يحتوي أشياء تُعرِّفك بكل أنحاء آسيا وكل عصورها. ففي مدخل المتجر، الذي كان مفتوحًا على الشارع، كانت ثمة كومة هائلة من السروج والسجاجيد والمحفات والأقواس والسهام وأنواع مختلفة من فراء الحيوانات، وكذلك كائنات حية صغيرة على غرار صقور الصحراء الحمراء موضوعة في أقفاص من الخيزران. وكلما تعمقت أكثر داخل المتجر، قلَّت أحجام المعروضات وزادت قيمتها، أشياء على غرار العكاكيز المنحوتة برسومات رائعة، والسيوف المصنوعة من الصُّلب الدمشقي، وقبعات الماندرين، وأثاث المعابد، وجميع أنواع الطلاءات. كما كانت ثمة بعض المعروضات الأجنبية، مثل ساعة جد إنجليزية تقليدية تحمل وسم «لندن، ١٧٨٢.» وفي مؤخرة المتجر، يوجد المزار الداخلي الذي لن يسمح لك الرجل المسن بدخوله إلا بعدما يعرف كل شيء عنك. حمل هذا المزار رائحة الأخشاب العطرية والتوابل وتراب العصور، وكان من الصعب التحرك في داخله من دون ضوء عدا الضوء المنبعث من المصباح الأخضر الصغير الذي يحمله المالك. وُضعت في هذا المكان جميع الأشياء الثمينة الصغيرة الحجم، بعضها وضع على أرفف، وبعضها وضع في خزانات مقفلة، وبعضها في صناديق خشبية رخيصة مصقولة. وكان ثمة كل شيء، من أحجار الفيروز البوتاني إلى أزرار الماندرين ذات الياقوت المعيب، ومن أكواب الخزف الأخضر إلى أوعية مينج، ومن أمشاط شعب المانشو العاجية إلى صناديق النشوق المصنوعة من العقيق. كنت أبحث عن هدية من أجل باربارا عندما عثرت على هذا اللوح.

لطالما أعجبني حجر اليشم الجيد، وحتى في تلك العتمة، رأيت أنه قطعة فنية جميلة. وسمح لي صديقي المسن بأن آخذه إلى مقدمة المتجر لأتفحصه في الضوء، وتبددت أي شكوك راودتني عنه. كان قطعة رائعة من حجر إمبراطوري حقيقي، فكان يحمل اللون المميز لظهر طائر الرفراف. وكما ترى، أحدُ جانبيه مغطًّى بكتابات هيروغليفية لا يمكنني قراءتها. ويحمل الجانب الآخر أيضًا نقوشًا اعتقدت للوهلة الأولى أنها من اللغة الغريبة نفسها. سألت صاحب المتجر عما تعنيه هذه الكتابات، ولكنه هز رأسه. وقال إنه يعتقد أنها لغة كهنوتية ما كان يستخدمها الرهبان عند حدود التبت.

أعجبتني هذه القطعة الفنية جدًّا، وقضينا قسمًا كبيرًا من عصر ذلك اليوم في المساومة حول سعرها. وفي نهاية المطاف، حصلت عليها بسعر معقول؛ أي سعر معقول بالنسبة إلى حجر اليشم الذي يحافظ على قيمته في الصين وإن فقدها كل شيء آخر. أعتقد أن السبب الوحيد لعدم بيعه هو حجمه الذي جعله غير مناسب للتزين به، وربما أيضًا بسبب النقوش المنحوتة عليه التي جعلت من صياغته في هيئة حلية عادية أمرًا صعبًا. لم يكن الرجل المسن واثقًا من منشأه. طبقًا لنوعية الحجر، اعتقد الرجل أن منشأه لا بد أن يكون في سيبيريا، من منطقة بحيرة بيقال، ولكنه كان واثقًا في الوقت نفسه من أن النقوش المحفورة عليه تعود إلى الركن الجنوبي الغربي من الصين. ورغم أنه لم يتمكن من قراءتها، فقد قال إن الحروف مألوفة بالنسبة إليه.

في تلك الليلة بينما كنت في غرفتي في الفندق، فحصت الحجر تحت ضوء مصباح قوي، وتلقيت المفاجأة الكبرى في حياتي. كانت الحروف على أحد الجانبين مجهولة تمامًا بالنسبة إليَّ، ولم أتمكن من فهم شيء منها. ولكن على الجانب الآخر، كانت الأسطر القليلة المحفورة مفهومة تمامًا. فقد كانت عبارة عن جملة مكتوبة باللغة اللاتينية، اسم مكان وتاريخ. كانت الجملة اللاتينية تعني: «ماريوس هارالدسن الذي كان على حافة الهلاك، والذي طار من الفرح عندما عثر على كنزه، هو من كتب هذه الكلمات.» كان اسم المكان هو جوتوك. والتاريخ هو الخامس عشر من أكتوبر السنة قبل الماضية. ما رأيك فيما قصصته عليك؟»

نظرت إلى اللوح الأخضر نصف الشفاف الذي أيقظت فيه نار المدفأة بريقًا ذهبيًّا رائعًا مائلًا إلى الأحمر الداكن. ورأيت على أحد جانبَيه الكتابات المتشابكة، وعلى جانبه الآخر الكلمات اللاتينية، والتي لم تكن محفورة بدقة كبيرة، ربما بسكين جيب. بدا لي أنه من الرائع أن تصلني على حين غرة أخبار عن صديق قديم في مكان يبعد أربعة آلاف ميل عن مكان تعارُفنا. أمسكت باللوح في إجلال ثم أعدته إلى ساندي. وسألته: «ماذا تستنتج من هذه الكلمات؟»

قال: «أعتقد أن الأمر بسيط. كان أول ما فعلته في صباح اليوم التالي هو أن عدت إلى الرجل المسن لأكتشف كيفية حصوله على اللوح. ولكنه لم يتمكن مِن تذكُّر أي شيء. وصل إليه اللوح ضمن أشياء أخرى؛ فهو دائمًا ما تصل إليه شحنات، عثرت عليها إحدى القوافل؛ أو ربما يكون قد اشتراه من بائع متجول أو لص. بعد ذلك، توجهت إلى السفارة، وساعدني أحد موظفي السكرتارية في البحث عن جوتوك. وعثرنا على موقعه بعد برهة في فهرس جغرافي روسي نُشر قبل الحرب. كان جوتوك عبارة عن مكان صغير في مقاطعة شو-سان حيث ينقسم فيه أحد الطرق التجارية المتجهة إلى بورما. وفي الماضي، كانت المسافة بينه وبين شنغهاي تستغرق من الرجل النشيط الذي يملك العتاد المناسب حوالي شهر.»

سألته: «هل ستذهب إلى هناك؟»

«لا لست أنا. فأنا لا أهتم بالكنز مطلقًا. ولكني أعتقد أنه يمكننا أن نعرف يقينًا ما حدث له. لقد عثر هارالدسن على مدينة أوفير الخاصة به — والله وحده يعلم كُنْهَها — ربما كانت منجمًا قديمًا، أو شيئًا من هذا القبيل، على أي حال، لا بد أن ما وجده كنزٌ حقيقي؛ فهو واسع المعرفة والخبرة ولا يمكن أن يخطِئه. ولكنه اكتشف أيضًا أنه يُحتضَر. ولم تكن جوتوك في ذلك الوقت مركزًا للنقل. وربما أرسل خطابات ولكنه لم تكن لديه وسيلة ليتأكد من وصولها إلى وجهتها. فقد كان هذا الركن من قارة آسيا منذ عامَين مرتعًا لقطاع الطرق والعصابات. فلجأ إلى تلك الخطة الصائبة: أن يكتب باللاتينية الركيكة على قطعة جميلة من حجر اليشم على أمل أنها قد تصل، إن عاجلًا أو آجلًا، إلى يد شخص يمكنه تفسيرها ويوصل إلى أصدقائه خبرًا عن مصيره. وربما أوكل مهمة حماية اللوح إلى أحد خدمه، الذي سُرِق أو قُتِل، ولكنه كان يدرك أن حجر اليشم ثمين ولن يختفي، وكان على يقين تام من أنه قد يسافر شرقًا ويظهر في أحد متاجر التحف المستعملة في بكين أو شنغهاي. كانت تلك طريقته في التعامل مع الأمور، فقد كان مؤمنًا بالقدر، وكان يترك الكثير من الأمور لتصاريفه.»

قلت: «نعم، هكذا كان ذلك العجوز. لقد انتصر إذن. كنا أنا وأنت صديقَيه، وأصبحنا نعلم متى وأين وافته المنية، وأنه عثر على ما كان يبحث عنه. كان سيَوَدُّ أن نعرف ما حدث في القسم الأخير من حياته، فلم يكن ممن يقبلون الهزيمة. ولكن، لم يفده كنزه أو شعوب الشمال كثيرًا. لقد عاد ليُطمَر مجددًا إلى الأبد هذه المرة.»

قال ساندي: «لا أعتقد ذلك. أنا واثق من أن تلك الكتابات المتشابكة على الجانب الآخر من اللوح ما هي إلا وصف لكيفية الوصول إليه. لقد كُتِبت في نفس وقت كتابة الكلمات اللاتينية، إما بيد هارالدسن نفسه أو الأرجح أنها كتبت بيد أحد مساعديه الصينيين. لا يمكنني قراءتها، ولكني أتوقع أني قادر على العثور على من يمكنه قراءتها، وأنا على استعداد لأن أراهن على أننا إذا ما تمكنَّا من ترجمتها، فسنعلم ما اكتشفه هارالدسن. أنت عاطل عن العمل يا ديك. لمَ لا تشغل نفسك قليلًا وتحاول حل هذا اللغز؟»

قلت: «أنا عجوز جدًّا، وكسول جدًّا.»

ثم أمسكت اللوح بين يدي مرة أخرى وتفحصته. انتابني شعور غريب عندما نظرت إلى هذا الدليل الأخير من صديقي القديم، وعندما تخيلت الظروف التي دفعت صاحبه إلى حفر تلك النقوش عليه في وادٍ جبلي ناءٍ ملعون، والتفكير في تقلُّبات الدهر التي مر بها حتى وصل إلى متجر السلع المستعملة في بكين. فالله وحده يعلم الدماء التي سُفِكت والدموع التي سُكِبت على طول الطريق الذي قطعه هذا اللوح. وشعرت أنا أيضًا — لا أعلم السبب — بأن ثمة أمرًا يتعلق بي؛ أمرًا يتعلق بي أكثر من ساندي بكثير. نظرت إلى مكتبتي التي تسر الناظرين مع انعكاس ضوء النار على الجدران المزدانة بصفوف من الكتب، وبدت وكأن تفاصيلها تتلاشى وتتحول تدريجيًّا إلى الأحراش التي التقيت فيها هارالدسن للمرة الأولى، ورأيته مجددًا بلحيته الرمادية المصفرة وحديثه البطيء القاطع. ورأيته في مخيلتي كما أتذكره تمامًا، يقف تحت ضوء القمر الأفريقي يلزمني بعهد لم أتذكره طوال عشرين عامًا.

قلت لساندي: «إن لم تكن تشعر بالنعاس، فسأحكي لك قصة عن هارالدسن.»

فقال ساندي بينما يشعل غليونه: «احكِ.» كان ساندي وماري أفضل مستمعين عرفتهما في حياتي، فقد جلسا حتى ساعات الصباح الأولى موليان انتباههما الكامل للحكاية التي سأقصها في الفصل الآتي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤