الفصل الخامس

ابن هارالدسن

غادرت عائلة كلانرويدن لقضاء أسبوعين في ليفرلو، وذهب ساندي لصيد الأسماك من الجداول الحدودية بين إنجلترا واسكتلندا، وذهبت باربارا للاهتمام بحديقتها، أما أنا فعدت للاهتمام بزراعتي عندما وصلني خطاب من لومبارد. لم تصلني أيٌّ من أخباره منذ لقائنا في القطار الخريف الماضي. فهو لم يدعُني لقضاء عطلة نهاية الأسبوع في منزله مثلما اقترح، الأمر الذي أراحني، فكنت سأُضطَر لاختراع بعض المبررات لأرفض دعوته، كما أنه لم يكرر عرضه بتناول الغداء معًا في لندن.

بدأ لومبارد خطابه بالاعتذار على تقصيره تجاهي، فقد كان منشغلًا جدًّا طوال فصل الشتاء، واضطُر إلى السفر إلى خارج البلاد مرتين. ولكنه يريد لقائي على الفور؛ بل كان في أمس الحاجة إلى لقائي. هل ثمة أي فرصة لأن أذهب إلى المدينة الأسبوع القادم، وإذا ما تحقق ذلك، هل يمكننا أن نلتقي؟ يمكنه أن يلتزم بأي موعد يناسبني، ولكنه اقترح أن نتناول الغداء معًا ثم نذهب إلى مكتبه لنتحدث. لم أتمكن من تخمين ما قد يقوله لي، وراودني شك غير مريح بأنه يريد لقائي من أجل إحدى مغامراته المالية، ولكني لم أتمكن من الرفض؛ إذ كنت سأذهب إلى لندن على أية حال من أجل أمر آخر. فأرسلت إليه برقية أطلب منه أن نتناول الغداء معًا في ناديَّ، وهو مكان هادئ يحتوي على غرفة للتدخين في الطابق الأعلى يمكننا أن نتحدث فيها دون أن يقاطعنا أحد.

بدا لومبارد قلقًا، كما كان مصابًا ببرد شديد. كان وجهُه المتورد شاحبًا، وعيناه دامعتَين، وصوته مشروخًا. قال لي إن ملابسه ابتلَّت أثناء لعب الجولف، وتولت الرياح الشرقية الباقي. إلا أن مرض جسده لم يكن أكثر ما يؤرقه، وراودني إحساس بأن جسده البدين المربع كان يرتجف بشدة. أثناء الغداء، دعوته لشرب الويسكي مع الماء الساخن، ولكنه لم يمس سوى الطعام، ولم يقل الكثير أيضًا. كان ثمة ما يشغل باله، وكنت سعيدًا عندما تمكنت من الصعود به إلى غرفة التدخين في الطابق الأعلى، وأجلسته في مقعد وثير، وطلبت منه أن يخبرني بما عنده.

جاء سؤاله الأول مباغتًا.

سألني قائلًا: «هل تذكر رجلًا يُدعى هارالدسن؟ منذ ثلاثين عامًا مضت في روديسيا، هل تذكر؟ عندما ذهبت في رحلة معك بينما كنت في طريق عودتي إلى الوطن؟»

قلت: «نعم، أذكر ذلك. الغريب في الأمر أني كنت أتحدث عنه في الأسبوع الماضي.»

«لقد قابلته.»

فرددت عليه قائلًا: «لا بد أنك قد قابلت شبحًا إذن، فقد مات هارالدسن.»

ففتح لومبارد عينَيه الدامعتَين.

وقال: «لا أعني أني التقيت الرجل العجوز؛ أعني أني التقيت ابنه. ولكن، كيف عرفت أن هارالدسن قد مات؟ إن ابنه لا يعرف ذلك.»

قلت: «لا عليك. إنها قصة طويلة جدًّا لن يتسع الوقت لأن أقصها عليك الآن، ولكنها الحقيقة. ماذا عن هارالدسن الابن؟ أعلم أن ثمة ابنًا لهارالدسن، ولكني لم أسمع أي شيء عنه. كم عمره؟»

«تخطَّى ثلاثين عامًا. ربما كان أقرب إلى الأربعين من عمره. لقد أرسل إليَّ خطابًا يطلب مني أن ألتقيه — وعثر على اسمي في دليل الهاتف — ولكنه لم يذكر ما يريد. اعتقدت أنه ربما كان مهتمًّا بعرض لب الورق السويدي، وكنت قد بدأت العمل في هذا المجال مؤخرًا، فوافقت على لقائه رغم مشاغلي. كنت قد نسيت اسمه تمامًا، كما أنه لم يكن يمتُّ بصلة إلى روديسيا.»

صمت لومبارد قليلًا، ثم انفجر بغتة صارخًا في غضب. «ولمَ أتذكره بحق السماء؟ لقد مر ما يزيد على ثلاثين عامًا، ودفنت ذلك الصبي الغر الذي جاب أنحاء أفريقيا في مقبرة ذكرياتي. اللعنة، لقد صنعت مكانة لنفسي. وهدفي أن أصبح مدير بنك إنجلترا العام القادم. لقد اكتسبت سمعةً جيدةً عليَّ أن أراعيها. أنت تفهم ما أقول، أليس كذلك؟»

لم أكن أعلم ما يرمي إليه، ولكن بدا جليًّا أن لومبارد لم يعُد يتحدث بلسان ساكن الضواحي المهذب. لا بد أن أمرًا ما جعله يخرج عن شعوره.

قلت له: «ولكن، لا شيء فيما فعلناه مع هارالدسن في الماضي قد يضر بسمعتك. فعلى ما أذكر، لقد تصرفت جيدًا. ولا يوجد ما تخجل منه لتخفيه.»

فرد عليَّ في كآبة قائلًا: «انتظر حتى تسمع ما أريد إخبارك به. لقد أتى هذا الرجل إلى مكتبي وقص عليَّ قصة سخيفة وغير مترابطة. أوه، كانت قصة الصراع من أجل البقاء المعتادة عن الفوضى العامة التي عاشها، وعن المحتالين الكثر الذين يلاحقونه. لم أتابع ما قاله الرجل بوضوح تام، فقد كان متوترًا لدرجة يُرثَى لها، ومن وقت لآخر كان ينسى كيفية التحدث باللغة الإنجليزية بشكل تام. ولكن ما استخلصته من حديثه هو أنه كان عرضة للخطر، وأن أعداءَه سينالون منه إذا لم يتمكن من العثور على النوع المناسب من الأصدقاء. لا أعلم مدى صدق روايته، ولكني رأيت أنه مقتنع بها تمام الاقتناع. لا بد أن ثمة بعض الحقيقة فيها، فهو لم يبدُ أحمق، وأكاد أقسم أنه صادق.»

صمت لومبارد، وانتظرت أن يواصل حديثه، فقد خمنت ما سيقوله لاحقًا.

واصل لومبارد حديثه قائلًا: «طلب مني أن أساعده، والله وحده يعلم ما يعتقدُ أني قادر على مساعدته به. فلستُ وزيرًا أو رئيس الشرطة. هل سمعت من قبل أمرًا منافيًا للعقل أكثر من ذلك؟»

قلت بصدق: «أبدًا»، ثم انتظرته ليواصل حديثه.

«ثمة مَن غرس في عقله فكرة أن له حقًّا عندي. وقال إني ساعدت والده ذات مرة في موقف عصيب، وأن والده ألزمني بأن أهب لمساعدته إذا ما طلب مني ذلك، وكذلك ابنه. ويبدو أن العجوز كتب كل هذا، وأن هارالدسن الابن لديه هذه الوثيقة.»

قلت في ارتياح: «هذا ليس من نوعية الأمور التي يمكنك أن تقاضي أحدًا بسببها.»

«أعلم ذلك … ولكن، هل تتذكر هذه الحادثة يا هاناي؟»

«أتذكرها جيدًا. لقد وقفنا على قمة أحد التلال تحت ضوء القمر، وجعلنا الرجل العجوز نتعهد أمامه ونتلو قسمًا من أقسام الفايكينج. نعم، إني أتذكر ذلك جيدًا.»

قال لومبارد في تعاسة: «وأنا كذلك. ماذا سنفعل حيال ذلك إذن؟»

قلت بنبرة حاسمة: «لا شيء.» كنت قد تفحصت لومبارد جيدًا، وأدركت أن توقُّع مشاركة هذا الكهل المعتاد على الراحة في عملٍ متهور يُعد ضربًا من الجنون. كان إعجابي السابق به قد عاد، ولم أرغب في أن أورِّق ضميره. ولكن ما حيرني هو سبب ذهاب هارالدسن الابن إليه. قلت: «كنا ثلاثة. أنا وأنت وبيتر بينار. لقد انتقل بيتر إلى الرفيق الأعلى، ولكني لا أزال على قيد الحياة. فلماذا لم يأتِ إليَّ أنا؟ لقد كانت علاقتي بوالده أوثق بكثير من علاقتك به.»

«ربما لم يرَ أنك رجل مهم. وربما سمع اسمي يتردد في عالم المال والأعمال. على أي حال، هذه هي الحكاية، وهي حكاية لعينة مقلقة جدًّا.»

قلت: «صديقي العزيز، لا حاجة بك لأن تقلق. كنا جميعًا حمقى أثناء شبابنا، وليس من المتوقع أن نظل في حماقتنا بقية حياتنا. إذا كنت قد عاهدتُ شخصًا عندما كنتُ في الحادية والعشرين من عمري أن أتسلق قمة جبل إفرست، وجاء اليوم ليلزمني بهذا العهد، كنت سأخبره بأن يذهب إلى الجحيم. ولكني أود أن أسمع المزيد من قصة هارالدسن الابن.»

فرد لومبارد: «لم أفهمها جيدًا، فقد كان الرجل مضطربًا جدًّا. كما أني لم أحاول أن أفهم، فلم يشغل فكري حينئذٍ سوى ذلك الموقف السخيف في روديسيا. ولكني دونت بعض الأسماء التي ذكرها، أسماء الأشخاص الذين يخشاهم.» قالها وأخرج من جيبه ورقة ملاحظات. وقرأ ما فيها قائلًا: «تروث، لانسلوت تروث. واسم ربما كان ألبيوس أو ألبيون، لم أسأله عن تهجئته. أوه، وبارالتي، هل تعرف مؤسس الشركات الذي ظهر في مجال الذهب في لبشا.»

اتسعت عيناي عندما سمعت هذه الأسماء. وقلت: «فليرحمنا الرب، ولكن تروث مات. أنت تعلم ذلك أيضًا، فقد رأيت بنفسك بيتر بينار الراحل وهو يقتله. وربما كان الاسم الثاني على لائحتك هو ألبينوس — ولا بد أنك تتذكره هو أيضًا. وإذا كان لا يزال على قيد الحياة، فلا يمكنني أن أتخيل ما يضمره لنا هذا الشيطان. أما بارالتي، فلا أعرف عنه شيئًا. أتعلم يا لومبارد، يبدو كل ذلك محض هلوسات. لقد قرأ هارالدسن الابن هذه الأسماء في أوراق والده القديمة وترك أشباح الماضي تغزو فكره. والأرجح أن الرجل مجنون.»

هز لومبارد رأسه نفيًا. وقال: «لم آخذ عنه هذا الانطباع. ربما كان خائفًا بالفعل، ولكنه عاقل تمامًا. على أية حال، بمَ تنصحني أن أفعل في هذا الأمر؟ لقد رجاني أن أساعده — وكان على وشك البكاء — وكنت مضطرًّا إلى أن أعده بالرد عليه. ومن المفترض أن أرد عليه غدًا.»

قلت: «أعتقد أنه من الأفضل أن تترك الأمر برمته لي. لقد وصلتني مؤخرًا بعض الأخبار عن هارالدسن الأب، وأود أن ألتقي ابنه. هل لديك عنوانه؟»

«أعرف كيفية الوصول إليه. إنه يتحرك بحذر شديد، ولكنه أعطاني رقم هاتف يمكنني الاتصال به وترك رسالة إلى رجل يُدعى السيد بوزورث.»

«حسنًا إذن، أرسل الرسالة. لا بد أن أعود لبيتي غدًا، ولكني متفرغ الليلة. وأَخبره بأن يتناول العشاء معي هنا الليلة في تمام الثامنة. أَعطِه اسمي، وأَخبره بأني كنت متورطًا فيما حدث في الماضي أكثر منك. وإذا كان ما يتعرض له حقيقيًّا، فلا بد من أنه يعرفني. أما إذا كان محض أوهام، فلن يأتي.»

سألني قائلًا: «ماذا ستفعل معه؟»

«سأستجوبه وأكشف غموض الأمر. إني أعرف عن هارالدسن الأب ما يكفي لأن أخرج بنتيجة من استجوابه. أعتقد أن الأمر برمته مجرد أوهام عقل مجنون؛ فالجنون منتشر بين شعوب الشمال. وإذا كان هذا هو الحال، سيمكننا أنا وأنت أن ننام ملء جفوننا.»

سألني وقد بدا على وجهه عدم الاقتناع بما قلت: «ولكن، ماذا لو كان الأمر جديًّا؟»

«أوه، إذا كان التهديد حقيقيًّا، أعتقد أني ملزم بالمساعدة. ففي نهاية المطاف، كنت صديقًا مقربًا لوالده، أما أنت فلم تكن كذلك. لا تقلق بشأن تلك الكلمات التي رددناها تحت ضوء القمر، فأنا لا أقيم لها اعتبارًا. فهي لم تنبع إلا من حب هارالدسن الأب للدراما. اعتبر نفسك مُعفًى من الأمر برمته مثل بيتر بينار تمامًا. لقد ظللت مواطنًا مسئولًا طوال ثلاثين عامًا، ولديك شركة كبيرة لتديرها وحياة مستقرة وأمور من هذا القبيل. ولا يمكن لرجل عاقل أن يتوقع منك أن تتورط في أمر كهذا. علاوة على ذلك، لن تكون بارعًا بأي حال من الأحوال في مثل هذه الأمور. أنا أعيش حياة مستقرة أيضًا، ولكن حياتي الماضية مختلفة عنك، وأعرف عن حياة الجريمة أكثر منك. لقد خضت العديد من المغامرات في عالم الجريمة، وأنا مُلمٌّ به.»

رأيت تغيُّرًا في تعبيرات وجهه التي لم تكن تعبر إلا عن القلق حتى هذه اللحظة. وأكاد أقسم أنه بدأ يغضب.

وقال بنبرة صوت خالية من أية مشاعر: «هل كنت ستأخذ بهذه النصيحة لو كنت في مكاني؟»

فرددت عليه قائلًا: «بالطبع كنت سأفعل.»

فقال: «أنت رجل صالح يا هاناي، ولا تُضمِر إلا خيرًا. ولكنك كاذب لعين. إذا كنتَ في مكاني، لم تكن لتفعل أيًّا مما قلت، وكنت ستسفك دم مَن ينصحك بفعل ذلك. إني أدرك الانطباع الذي كوَّنته عني، لقد رأيته باديًا في عينيك عندما التقينا في القطار. إنك تعتقد أني عجل سمين حقق النجاح في عالم المال والأعمال، ولا يفكر إلا في حسابه المصرفي، ومنزله الدافئ، وممارسة الجولف كل سبت. وتعتقد أني جبان رعديد يخشى الرد على أي إهانة توجه إليه، أو يهرع إلى محاميه ليأخذ له حقه في أفضل الأحوال. أنت مخطئ تمامًا. ربما عشتُ حياةً أقل قسوةً من حياتك، ولكنها لم تكن منعَّمَة بالكامل. فقد كان عليَّ أن أُقدم على الكثير من المخاطر، وبعضها كانت مخاطر جسيمة جدًّا. لم أكن أرغب في رؤيتك مرةً أخرى بعدما ألتقينا في القطار الخريف الماضي، فقد رأيتُ في عينيك مدى احتقارك لي، ولم أكن أعرف كيف يمكنني أن أغير رأيك بي. إنك محق إلى حدٍّ ما. أنا مترهلٌ قليلًا، ولستُ لائقًا جسدًا وذهنًا. ولكنك مخطئ في أهم نقطة. أنا لم أحنث يومًا بقَسَم أو أتخاذل عن واجب. ولا أنوي أن أبدأ بفعل ذلك الآن. إذا كانت قصة هارالدسن حقيقية، فأنا ملتزم بتعهدي، ومتورط في الأمر حتى أذنيَّ، مثلك تمامًا. وإذا لم تتفق معي على ذلك، فتنحَّ جانبًا وسأضطلع بالأمر وحدي.»

شعرت بالدم يندفع إلى وجنتيَّ. نهض لومبارد من مقعده، وفعلت المثل، ووقفنا نحدق أحدنا في الآخر عبر سجادة المدفأة. ورأيت في ملامحه ما لم أره على الإطلاق خلال لقائنا السابق، الإصرار العنيد والصدق البرَّاق. وبغض النظر عن صلعِه، وبدانته، وعينيه الدامعتين، وصوت أنفاسه الثقيلة، بدا أصغر مما هو عليه بعشرين عامًا. ورأيت فيه ذلك الشاب الذي عرفته في المنطقة الاستوائية، وشعرت كما لو أني قد استعدت صديقًا قديمًا فجأة.

قلت: «فلتنسَ ما كنت أعتقد. إذا ما كنت أعتقد فيك مثلما تقول، فقد ارتكبت خطأً شنيعًا، ولن أتمكن أبدًا من أن أوفيك حقك من الاعتذار. سنستأنف صداقتنا من حيث توقفت في قرية مافودي، وسنخوض هذا الأمر معًا حتى نهايته.»

اختفى كل الغضب من ملامح لومبارد.

وردد: «مافودي. نعم، هذا هو الاسم. لم أستطع النوم ليلة أمس محاولًا تذكره.»

•••

كان ثمة أمران عليَّ التفكير بهما ذلك المساء. أولهما اكتشاف أن لومبارد الذي أعرفه لا يزال موجودًا. منحني هذا الاكتشاف سعادة غامرة، فقد بدد الشك الذي ظل يراودني طوال الشتاء بأني قد أصبحت مُسنًّا وأن شبابي بأكمله قد ذهب دون رجعة. إذا كان ذلك الرجل البدين الثري لا يزال مُفعمًا بالحيوية، فلا يمكن أن تكون قد خمدت بالكامل في داخلي. كان هارالدسن ثاني الأمرين، ولا أنكر أني شعرت بالكآبة عندما تذكرت أن ساندي كلانرويدن قد أحضر لي الأسبوع الماضي أخبارًا عنه من أقصى الشرق، أخبارًا لم تصلني إلا مصادفة. وراودني شعور غريب بأن كل ما حدث كان من تصاريف القدر.

اتصل بي لومبارد ليخبرني بأن ذلك «السيد بوزورث» سيحضر إلى ناديَّ في تمام الثامنة. جلست في غرفة التدخين بمفردي أنتظر وصول ضيفي، وتذكرت محاولتي تخيُّل الرجل الذي سألتقيه، ومحاولتي إعادة تجسيد نسخة أصغر من هارالدسن العجوز.

تلقيت واحدةً من أقوى الصدمات في حياتي عندما ظهر. فقد كان هو نفسه سميث الذي التقيته وبيتر جون في نزل «روز آند كراون» في هانام.

لم يكن وقع المفاجأة عليه أقل من وقعها عليَّ.

فصاح قائلًا: «أنت! حمدًا لله، لقد عثرت عليك. لم أتخيل أبدًا أنك أنت من أبحث عنه …»

قلت: «لقد سمعت اسمي في هانام.»

«نعم، ولكني كنت أبحث عن مهندس جنوب أفريقي يُدعَى ديك هاناي. ولكني لم أرَ فيك سوى نبيل أو جنرال إنجليزي. لقد أُعجبت بك كثيرًا حينئذٍ، لا أذكر متى أُعجبت برجل لهذه الدرجة من قبل، فقد رأيت أنك تملك الكثير من الحكمة والعطف. ولكني لم أتخيل أنك ديك هاناي الذي أبحث عنه.»

قلت: «إنه أنا. لقد التقيت لومبارد، وعليه، فإن اثنين من أصدقاء والدك أصبحا معك. أما الثالث، الأفضل بيننا، فقد مات.»

تلعثم الرجل قائلًا: «هل ستكونان في ظهري؟»

قلت: «بالتأكيد. يمكنك أن تعتمد علينا. أخبرني لومبارد بذلك عصر اليوم.»

كان من الرائع رؤية تأثير هذه الكلمات عليه. كما قلت سابقًا، كان رجلًا ضخم الجثة، ولكن كانت كتفاه منحنيتين كما لو أنه يخشى حجمه، وكان أسلوبه خجولًا ومرتبكًا، وكأنه شيء ضخم يحاول الاختباء خلف شيء صغير جدًّا. كان لافتًا للنظر في هانام، أما في لندن فكان عنصرًا شاذًّا لا يتفق مع الصورة العامة. كان انطباعِي الأول عنه عندما دخل إلى الغرفة أنه كائن غير مناسب لبيئته المحيطة، أو بمعنًى أصح، غير واضح المعالم، صمم بمقياس خاطئ. ولكن، مع استعادته لثقته، أصبح طبيعيًّا في نظري، ورأيت أن انطباعي السابق عنه بأنه ريفي كان خطأً. فقد بدا في بدلة السهرة عتيقة الطراز التي يرتديها أكثر شبهًا بدارس وليس بمزارع كما ظننته من قبل. كان حاجباه عريضين ومرتفعين، وعيناه تبدوان كما لو كانتا قد قضتا وقتًا طويلًا في القراءة.

أخبرني هارالدسن الابن قصته أثناء العشاء. لم يرَ الرجل والده منذ ثماني سنوات، وانقطعت عنه أخباره منذ ثلاث سنوات، ولكن بدا جليًّا أن والده هو صاحب التأثير الأكبر في حياته. كان قد نشأ منذ نعومة أظفاره وفقًا لخطة. فبينما كان هارالدسن الأب يجوب العالم شرقه وغربه، بقي الابن في أوروبا يعد نفسه للمهمة التي كان الأول يجمع ثروته من أجلها. كان يُجهز ليقود شعوب الشمال إلى مستقبل جديد، وخضع منذ سن صغيرة لتدريبات قاسية. كان عليه أولًا أن يحفظ جميع تعاليم شعوب الشمال عن ظهر قلب، وأن يتشرب روحانياتهم. ثم كان عليه أن يحفظ كل ركن في الشمال وأن يتعرف على جميع شعوبه. بعد ذلك، كان عليه أن يتلقى تدريبًا رفيع المستوى على إدارة الأعمال وأن يتعلم كيفية التعامل مع الشئون الضخمة. وبدا أن الرجل العجوز كان يطمح في أن يكون ابنه مزيجًا من سير والتر سكوت وبسمارك وسيسيل رودز.

لا شك في أن خطته لم تنجح؛ فهذا النوع من الخطط لا ينجح أبدًا. فقد تعثَّر الصبي فالديمار (اسمه الأول كان فالديمار) في ذلك المنهج الهائل، فقد كان مثل عجينة سهلة التشكيل بين يدي والده، ولم تكن نتيجة هذه التنشئة أن يصبح مثل أدميرابل كريشتون مثلما تمنَّى والده. كان أن تلقَّى دراسته الجامعية في جامعات الدنمارك وألمانيا، وعمل لعامين في أحد مصارف كوبنهاجن، وجاب أراضي الشمال من جرينلاند غربًا إلى البحر الأبيض شرقًا، حتى إنه سافر إلى سبيتسبرجن بعدها، ولم تتبقَّ الكثير من الأماكن في إسكندنافيا وجزرها لم تقع عليها عيناه الضعيفتا الملاحظة. ولكنه فعل كل ذلك من منطلق الواجب، فلم يكن يملك حماسة والده. لا شك في أنه أصبح مثقفًا، ومحبًّا للطبيعة، ولكن لا شيء غير ذلك. كان يريد أن يعيش حياة هادئة، ولم يكن مستقبل شعوب الشمال يمثل له أكثر من مجرد قصة خيالية على وشك السقوط في غياهب النسيان.

كان فالديمار هارالدسن في السادسة والعشرين من عمره، شاب قوي البنيان، يملك قدرًا كبيرًا من المعارف النادرة، ولكن دون طموح يفوق طموح حيوان الخلد. استنبطت أن الأب قد أصابه الإحباط، ولكنه استغل الوضع أفضل استغلال. كان ابنه لا يزال حديث السن؛ لذا ما زال يحدوه الأمل، فلا بد أن تطرح هذه النبتة العجفاء أيَّ ثمار. أدركت أن والدته تعود أصولها إلى جزر نورلاند، ابنة سلالة قديمة يطلقون عليها هناك اسم حاشية الملك. ورثت الوالدة جزيرة عن عائلتها بنى عليها هارالدسن الأب بيتًا خلال إحدى فترات إقامته الطويلة في أوروبا. بدا وكأن هذا المنزل قد أصبح إحدى هواياته الفرعية، فقد أنفق الكثير من المال عليه وملأه بأثاث وتحف على الطراز الشمالي. ووافق على أن يقيم فيه فالديمار، بعدما تزوج الصبي بموافقته، فلا شك في أنه كان يعتقد بأن الروح المسيطر على المكان سوف يخبره بشيء ما. ولكن آلت الزيجة إلى نهاية مأساوية، فقد ماتت الزوجة الشابة وهي تلد طفلتهما الأولى.

سألتُه عن الطفلة.

فقال: «إنها على قيد الحياة وبخير. لقد بلغت الثالثة عشرة من عمرها. وهي تدرس في إحدى المدارس في إنجلترا.»

ظل فالديمار مقيمًا في جزيرته المنعزلة، واستنبطت من حديثه أنه أصبح منغلقًا على نفسه، ونادرًا ما اتجه جنوبًا، وشغل وقته بهواياته التي كانت في الأساس التاريخ الطبيعي والبحث في التأثير المتبادل بين الشمال القديم والشعوب السلتية.

قال بصوته الرخيم: «ولكني كنت سعيدًا. لا شك في أني كنت قلقًا على والدي، فلم يكن يأتي لزيارتي، ولم يكن ليسمح لي بزيارته. ولكن، كانت ابنتي آنا رفيقتي حتى وصلَت إلى سن المدرسة، ثم أصبح منزلي وكتبي ومملكتي الصغيرة رفاقي. وكنت أتمتع بصحة جيدة وبال مرتاح.»

سألته: «هل أنت ميسور الحال؟»

ظهرت نظرة معذَّبة في عينيه، كما لو أن ذهنه كان يفكر في أمور مبهجة ثم استحضر الآن أمرًا مريعًا.

ثم قال بهدوء: «أعتقد أني ثري جدًّا. لا أعلم مدى ثرائي، فلم يكن المال ضمن اهتماماتي أبدًا. ثمة مصرفيون في كوبنهاجن يهتمون بهذه الأمور من أجلي، ويقولون لي إني لست بحاجة إلى أن أقتر على نفسي.»

فكرت في حظ هارالدسن الأب العَسِر الذي ظل يجمع ثروة من أجل ابن لم يرغب أبدًا في أن يعرف حجمها.

قلت: «حسنًا، أعتقد أن الصورة وصلتني. لقد كنت راقدًا في جزيرتك بهدوء بينما كان والدك يبحث عن الثروة في أقاصي الأرض. ماذا حدث الآن؟ ما المشكلة؟»

قال ببطءٍ والألم يملأ عينيه مجددًا: «المشكلة هي أني فقدت راحة بالي.»

ثم قص عليَّ القصة الآتية التي تخللتها فترات صمت طويلة بدا خلالها وكأنه يبحث عن الكلمات المناسبة ليقولها.

قبل عامَين، وصل إليه خطاب من شركة محاماة في لندن مفاده أنهم يراسلونه نيابةً عن أحد عملائهم رفع دعوى على والده، وسألوه عن عنوان والده. فرد عليهم قائلًا إنه لا يعرف مكان والده، ولم يعِر الأمر المزيد من الاهتمام. ثم وصل إليه خطاب آخر يسأله عما إذا كان والده حيًّا أم لا، ورد عليهم هارالدسن دون تأخير قائلًا إنه لا يعرف إذا كان والده حيًّا أم ميتًا، ولكنه يأمل في أن يكون حيًّا. بعد ذلك، أُبلغت بأن ثمة دعوى قضائية ستُرفع، وإذا لم يظهر والده، فستكون ثمة محاولة لاعتباره ميتًا، ومن ثم تتحول المطالبة إلى تركته. لم أفهم تفاصيل الدعوى القضائية، ولم يكن فالديمار يفهمها بوضوح أيضًا. كان الأسلوب في جميع المراسلات بين الطرفين متحضرًا تمامًا، إلا أن الخطاب الأخير سبَّب له صدمة قوية، فقد أفصح فيه المحامون عن أن عميلهم هو السيد لانسلوت تروث.

كان لدى فالديمار الكثير من أوراق كتبها والده، والتي كان يلاقي الأمَرَّين في قراءتها وتنظيمها، وضمن هذه الأوراق، كان ثمة توثيق للأيام التي قضاها في أفريقيا، وخاصةً أيام عمله الأولى في مقاطعة راند. وظهر اسم تروث في بعضها. كان تروث شريكًا لهارالدسن الأب في فترة من الفترات وحاول الاحتيال عليه. وكانت ثمة مواجهة قوية بينهما انهزم تروث خلالها، ولكن كان هارالدسن واثقًا من أنه سيعود ويسبب الكثير من الضرر. فاهتم بتدوين كامل تفاصيل الحادثة، وقال فالديمار إن ما كتبه والده خلَّف لديه انطباعًا بأنه على الرغم من خسة تروث، فربما كان لديه بعض الحق، ولهذا السبب كان ضمير والده يؤنبه إلى حدٍّ ما.

وكان ضمن هذه الأوراق أيضًا رواية كاملة عما حدث عند تل الفهد الأزرق، وكيف أنه جعل ثلاثة رجال، لومبارد، وبيتر بينار، وأنا، نتعهد بالوقوف إلى جانبه هو وابنه إذا ما وقعت أي متاعب أخرى لنفس السبب. الغريب في الأمر هو أنه لم يذكر أن تروث قُتِل خلال المعركة. وبدا أنه يعتنق الفكرة الملحمية عن أن الانتقام يورث من جيل إلى الذي يليه، وأن ابن تروث، إذا كان لديه ابن، قد يعود ليقتصَّ من ابنه. كما ذكر ألبينوس أيضًا، الذي كان شخصية ثانوية خلال المواجهة الأولى في مقاطعة راند، ولكنه أصبح شخصية محورية خلال المواجهة في مافودي.

لذا، عندما رأى فالديمار اسم تروث في خطاب شركة المحاماة، بدأ يشعر بالقلق. أدركتُ أن والده كان يشعر بقلق شديد من هذه الحادثة، وفعل كل ما بوسعه ليحذر ابنه. وبذل فالديمار قصارى جهده ليبعد الأمر عن تفكيره، ولكنه لم ينجح في ذلك. ثم وصل إليه خطاب مُوقَّع من لانسلوت تروث أرعبه كثيرًا. لم تكن الخطابات التي أرسلها المحامون سوى طلقات اختبارية، والآن، بدأت الأسلحة تطلق نيرانها لتصيب.

قال لانسلوت تروث في خطابه إن والده تعرض لإجحاف شديد من هارالدسن الأب، وأنه يطالب بالتعويض. فإذا ما مات الأب، أو فُقِد في مكان ما من العالم، فعلى الابن التعويض، فقد تأكد من أنه فاحش الثراء. وإذا ما عومل لانسلوت بإنصاف، فلن يلاقي هارالدسن الابن ما يكره؛ إذ إنه كان مقتنعًا بأن أي رجل عاقل سيرى أن طلبه مشروع. واقترح أنه يجدر بهما أن يلتقيا في كوبنهاجن أو لندن، وأن يحضر فالديمار مستشارًا من طرفه، بينما سيحضر تروث شريكه، السيد إيريك ألبينوس، الذي كان شريكًا في مطلبه. ولم يتطرق في خطابه إلى أي إجراءات قانونية. بل كان طلبًا شخصيًّا مباشرًا عليه أن ينقاد له وينفذه.

شعر فالديمار بكآبة شديدة، ولأنه لم يكن يملك خبرةً كبيرة في الحياة، كان من المرجح أن يرتكب حماقة؛ أن يلتقي تروث، ويوافق على شروطه؛ ومن ثَم يضع نفسه تحت رحمته لما تبقَّى من حياته. ولكن، من حسن حظه أن التقى رجلًا إنجليزيًّا ذهب إلى نورلاندز هذا الصيف من أجل الصيد، وتطرق الحوار بينهما إلى بعض الأسئلة الغامضة ذكر خلالها اسم تروث. وكان الرجل الإنجليزي محاميًا معروفًا وكان أغلب مرافعاته أمام محكمة أولد بايلي، وأخبره بالكثير عن تروث، ولكنه لم يسمع أبدًا عن ألبينوس. خلَف تروث والده محاميًا، واكتسب سمعةً مريبةً جدًّا. وصفه الصياد بأنه رجل لا يتورع عن فعل أي شيء، ولكنه كان ماهرًا بما يكفي لتبدو جميع أعماله قانونية. وكان الرجل يعتقد أنه أصبح على مشارف الإفلاس، فقد شارك بارالتي في تأسيس شركة حيد لبشا، ولكن بدأت الأمور تنحو منحًى سيئًا. قال الرجل الإنجليزي: «أنا أكره هذا الرجل، ولكني لا أجرؤ على العبث معه. فهو يملك عينَي قناص، وفك ملاكم.»

فتح هذا الحديث عينَي فالديمار على الخطر المحدق به. وكان حصيفًا بما يكفي ليدرك أن ما يحدث معه عملية ابتزاز كبيرة، وستؤدي أي أموال يدفعها إلى المزيد من عمليات الابتزاز حتى يفلس تمامًا. لم يعد يستطيع النوم، وأصبح قلقًا لدرجة المرض، فلم يكن قادرًا على تقرير الخطوة التالية التي يجب أن يُقدم عليها.

وبينما كان لا يزال يفكر في الأمر، وصل إليه خطاب آخر من تروث. قال في الخطاب إن السيد هارالدسن لم يعد بحاجة إلى التوجه جنوبًا، فمُرسل الخطاب بصدد التوجه إلى نورلاندز في يخت صديقه السيد بارالتي. وعرض أن يلتقيا في يالمارزهافن بعد ثلاثة أسابيع.

دفع هذا فالديمار لأن يتصرف بسرعة. فلأنه يعيش بمفرده على جزيرته، أصبح تحت رحمة أي عصابة من المجرمين تقرر أن تُغير عليه. وجعله جهلُه بكيفية سير العالم من حوله يتخيل أمورًا مريعة. كان يتوقُ إلى مجتمع إنساني، جماعة من الناس يمكنه أن يختفي وسطها. فخبأ أوراقه وبعضًا من ممتلكاته الثمينة، وأغلق منزله، وترك الجزيرة في عُهدَة مدير منزله، وفرَّ من نورلاندز ومعه ابنته. وترك عنوانًا في كوبنهاجن ليتم توجيه الخطابات إليه، ولكنه لم يكن ينوي التوجه إلى هذا العنوان، فهو معروف في الدنمارك ومن السهل تحديد هويته. وشد الرحال إلى لندن حيث سيكون مجهولًا تمامًا.

وصل تروث وصديقه إلى نورلاندز في الوقت الذي حدداه. وزارا جزيرة الخراف — هذا هو اسم جزيرة فالديمار — وعندما وجداها خالية، فتشا محتويات المنزل، مثلما قد يفعل أي قرصان قادم من البحر. ولكنهما لم يسببا أي أذى، فقد كانا يمارسان لعبة أهم. وصلت أخبار ما حدث إلى فالديمار من خادمه الذي أرسل الخطاب أولًا إلى مصرفه في كوبنهاجن، ومنه إلى صديق في السويد، ثم أُرسل في نهاية المطاف إلى عنوانه في إنجلترا. أدخل فالديمار ابنته مدرسة إنجليزية، وظل يجوب أنحاء البلاد مُطلِقًا على نفسه اسم سميث من بين أسماء أخرى، ولم يبقَ في مكان واحد لفترة طويلة. سمع عن انهيار شركة حيد لبشا والصعوبات المالية التي يمر بها بارالتي، وأدرك أن هذه الظروف الجديدة ستجعل العصابة أكثر جدًّا في اقتفاء أثره. وصلته خطابات من تروث — ثلاثة على ما أعتقد — وكان الخطاب الأخير هو ما أفزعه. قال تروث في الخطاب: «من الواضح أنك ترفض لقائي، كما أنك لذت بالفرار، ولكن لا تتخيل أنك تستطيع الهروب مني. سألاحقك حتى أمسك بك، وإن كان ذلك يتطلب مني التخلي عن حياتي، وسيتضاعف الثمن الذي عليك دفعه في كل شهر أنتظره.» أصبح الأمر سرقة الآن، سرقة علنية.

لم أصدق هذه القصة برمتها، ولكن كان ثمة أمر واحد لم أتمكن من التشكيك فيه؛ أن فالديمار كان يصدقها، وكان يتصبب عرقًا من الرعب. ذلك الرجل الضخم الجثة، الذي يجدر به أن يسير في الحياة مختالًا، تبدو عيناه كعينَي غزال مُطارَد.

قلت: «إنك تعيش في جحيم يا رجل! لا يمكنك العودة إلى منزلك بسبب تهديد أولئك المجرمين! حسنًا، أنت آمن تمامًا هنا، ويمكنك أن تريح بالك حتى نفكر في خطة ما.»

قال مكتئبًا: «لست آمنًا هنا. كنت أعتقد في البداية ألا أحد يعرفني في إنجلترا. ولكني كنت مخطئًا. إن لديهم أوصافي — صور — من نورلاندز ومن كوبنهاجن. وعثروا على أشخاص يمكنهم التعرف عليَّ … رأيت في الشارع ذات يوم حلاقًا من الدنمارك اعتاد أن يحلق لي لحيتي، وتعرف عليَّ وحاول أن يتبعني. إنه رجل فقير، ولم يكن ليحضر إلى هنا من تلقاء نفسه. ثمة مَن أحضره إلى لندن. إن الخناق يضيق عليَّ، وأعلمُ — من الكثير من التفاصيل الصغيرة — أنهم أصبحوا قريبين مني جدًّا. إني أغير مسكني طوال الوقت، ولكني أشعر بأني لن أتمكن من الهرب منهم أكثر من ذلك. أنا يائس جدًّا؛ لذا بدأت البحث عن أصدقاء والدي.»

كان يجلس مكوَّمًا على نفسه في مقعده، مسندًا ذقنه إلى صدره، كان تجسيدًا حيًّا للعجز واليأس. وأدركت أني ولومبارد سنلاقي الأمَرَّين معه. وبينما كنت أنظر إليه، راودني شك مقلق بأن قصته ربما كانت محض هراء، هلوسات شخص وحيد مضطرب، وتمنيت لو أني لم أسمع به. إن الوفاء بوعدٍ شيءٌ، ولكن رعاية مجنون شيء مختلف تمامًا.

قال بصوتٍ كئيب: «أنا لا أخاف على نفسي فقط. بل أخاف على ابنتي الصغيرة. إني لا أجرؤ على زيارتها خشية أن يتبعوني إليها. قد يختطفونها، وحينئذٍ لا شك في أني سأُصاب بالجنون.»

لم أجد ردًّا على ما قال، فذكر الاختطاف عادةً ما يجعلني أجفل. فقد رأيت الكثير منه خلال مواجهتي مع مدينا، التي كتبت عنها بالفعل.١

واصل فالديمار حديثه قائلًا: «وكذلك أبي. قد يذهب في أي لحظة إلى نورلاندز أو يأتي إلى إنجلترا، ولن يمكنني تحذيره.»

قلت بلطف: «لستَ بحاجة إلى أن تقلق حيال ذلك. فقد تُوُفِّي والدك منذ عامين في مكان يُدعى جوتوك يقع في التبت الصينية.» وقصصت عليه باختصار ما أخبرني به ساندي كلانرويدن.

من المستحيل أن ترى تغيُّرًا يطرأ على رجل يشبه التغير الذي طرأ على فالديمار. فقد بدا وكأن الخبر جعله يتمالك نفسه وأشرقت عيناه. فبالنسبة إليه لم يكن هذا الخبر حزينًا، بل مريحًا.

ثم ردد قائلًا باللاتينية: «لقد عثرت على الكنز.» ثم استدرك: «لقد نجح إذن، ومات سعيدًا. لا يمكنني أن أحزن عليه، فقد أنهى حياته العظيمة بطريقة عظيمة.»

أسند فالديمار ذقنه على يده مفكِّرًا، وفي تلك اللحظة، تملكتني واحدة من تلك القناعات الغريبة المنافية للعقل التي اعتدت على تقبلها، فلم أكن أراها خطأً أبدًا. إن فالديمار هارالدسن عاقل مثلي تمامًا، ولكنه في خطر محدق. صدقتُ ضمنيًّا كل كلمة من قصته، وكان التزامي بمساعدته واضحًا كالشمس. كان همي الأول هو أن أخفيه في مكان ما دون أن يراه أحد.

فسألته أين يسكن، وما إذا كان واثقًا من أن أحدًا لم يتبعه إلى هنا. فقال إنه لم ينتقل إلى مسكنه الجديد إلا منذ يومين فقط، وإنه واثق من أنه آمن في الوقت الحالي. ثم أضاف في حزن: «ولكن، ليس لوقت طويل.»

فقلت: «عليك أن تتركه إذن. ستجمع أغراضك غدًا. وستأتي لتقيم معي لبعض الوقت. سأستقل قطارًا مبكرًا حتى لا يرانا أحد معًا. ارتدِ أقدم ملابس لديك، واستقل عربة الدرجة الثالثة، سأرسل إليك حاجبي ليستقبلك، وسيحضرك إليَّ في السيارة الفورد القديمة. وسيظل اسمك بوزورث.»

حددت موعد القطار الذي سنركبه، وقدمت له مشروب الويسكي والصودا، ولكنه رفضه، وراقبته وهو يمشي متثاقلًا في اتجاه مسكنه الذي يقع في حي بيزووتر. كان أشبه بمُزارع استعار من والده بزته القديمة، وكان هذا تحديدًا هو الدور الذي أردت منه أن يؤديه. اتصلت بعد ذلك بماكجيلفري في منزله في شارع ماونت ستريت، ووجدته هناك بالفعل، فذهبت للقائه.

١  في رواية «الرهائن الثلاث».

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤