الفصل السادس

أحداث عدة في فوسي

وجدت ماكجليفري يقرأ كتابًا يونانيًّا واضعًا قدمَيه على رف المدفأة التي انطفأت النيران في داخلها. كان رجلًا مثقفًا يواظب على قراءة الكلاسيكيات. ومن بين جميع أصدقائي، كان أقل من ظهرت عليه آثار الزمن. فكان رأسه الصغير ذو الشعر الأسود، ووجهه الطفولي الرقيق لا يزالان على حالهما كأنْ لم يمر عشرون عامًا. لم أكن قد رأيته منذ شهور، فرحب بي بحرارة، ورن الجرس لخدمه ليحضروا لي البيرة التي يعلم جيدًا أني أحبها كثيرًا، وأجلسني في أفضل مقعد وثير لديه.

سألني: «لمَ شرفتني بزيارتك؟ هل من أجل الصداقة أم العمل؟ هل تُقت فجأة لصحبتي، أم أنك في مأزق وتريد مني أن أساعدك؟»

قلت: «كلاهما. ولكني جئت من أجل العمل في المقام الأول.»

«هل هو عمل لصالح شرطة سكوتلاند يارد؟»

«لا، ليس بعد على أية حال. أنا بحاجة إلى بعض المعلومات. أنا على وشك التورط في أمر قبيح.»

فأطلق صافرة. وقال: «إنك لا تتورط إلا في أكثر الأمور قبحًا. ما الأمر؟»

قلت: «ابتزاز.»

«هل ثمة مَن يبتزك أنت؟ لا بد أنه مبتز جريء ليفكر في ابتزازك.»

«لا، بل يبتز صديقًا لي. صديق لا حول له ولا قوة سيُجن جنونه إذا لم يجد دعمًا.»

«حسنًا إذن، أخبرني بقصته.»

قلت: «ليس الآن. إنها مسألة خاصة أفضل أن احتفظ بها لنفسي لبعض الوقت حتى أرى كيف ستتكشف الأمور. كل ما أريده منك هو الإجابة عن بعض الأسئلة.»

فضحك. وقال: «لطالما كان هذا أسلوبك يا ديك. إنك دائمًا ما تتبع الحكمة القائلة «اكتم سرك تملك أمرك.» إنك لا تبلغ شرطة سكوتلاند يارد إلا بعدما تنتهي الأحداث الجنونية.»

قلت: «لقد ساعدتك كثيرًا فيما مضى.»

«هذا صحيح. ويمكنك أن تعتمد علينا دائمًا لنبذل أقصى ما في وسعنا.»

ثم علت الجدية وجهه فجأة.

وقال: «سأخاطبك كما لو كنت جِدًّا يا ديك. أنت لا تشيخ كما ينبغي.»

قلت: «أنا أشيخ بسرعة كبيرة جدًّا.»

«لا، هذا ليس صحيحًا. جميعنا نشيخ دون شك، ولكنك لا تكتسب مزايا التقدم في العمر. فلا تزال ثمة حماقة متأصلة فيك. لقد كنت مختفيًا مؤخرًا، وكنت آمل أنك قد استقررت إلى الأبد. فكر في الأمر. أنت متزوج ولديك ابن صغير. لقد صنعت لنفسك ما يمكنني أن أسميه حياةً سعيدة. ولا أريدك أن تدمرها لمجرد أنك لا تشعر بالراحة. وإذا كانت مشاركتك في هذا الأمر بسبب توقك للمغامرة، فنصيحتي لك كصديق هي ألا تفعل.»

التقط ماكجيلفري الكتاب الذي كان يقرؤه.

وقال: «اسمع هذه الكلمات. كتبها هيرودوت. وهي النصيحة التي جعل أحمس يسديها لصديقه بوليكراتس. سأترجمها لك. «اعلم أن الآلهة تغار، فأنا لم أسمع أبدًا عن رجل ناجح طوال الوقت، إلا وكان مصيره الهلاك في نهاية الأمر.» هذه نصيحة تستحق التفكير. لقد كنتَ محظوظًا جدًّا، ولكن لا تحاول اختبار حظك بهذه الطريقة المبالغ فيها. وتذكر أن الآلهة تغار.»

أجبته قائلًا: «أنا لن أشارك في هذا الأمر من أجل المتعة. فثمة التزام شرفٍ لا يمكنني التملُّص منه.»

«في هذه الحالة لا يمكنني جدالك. اطرح أسئلتك.»

«هل تعرف شيئًا عن شخص يُدعَى ألبينوس، إيريك ألبينوس؟ إنه رجل في مثل عمري تقريبًا، دنماركي المولد عاش في أمريكا، وأعتقد أنه عاش في أماكن أخرى من العالم؟ كما أنه يشارك في أعمال مشبوهة.» وأعطيته أفضل وصف ممكن للهيئة التي كان عليها ألبينوس منذ ثلاثين عامًا، وكيف من المفترض أن يبدو حاليًّا.

هز ماكجيلفري رأسه نفيًا. وقال: «لا أعرفه. سأكلف مَن يبحث عنه في سجلاتنا، ولكن على حد علمي، لا أعرف أحدًا بهذه الأوصاف. كما أني لا أتذكر هذا الاسم بكل تأكيد.»

«حسنًا إذن، ماذا عن رجل يُدعَى لانسلوت تروث؟»

فقال: «ها قد وصلنا إلى منطقة مألوفة بالنسبة إليَّ. أنا أعرف الكثير عن تروث. أعتقد أنك تعني المحامي، أليس كذلك؟ إنه ينتمي إلى شركة استمرت لأجيال عدة ولكنها لم تكتسب أبدًا سمعة محترمة. كان والده محتالًا مات منذ سنوات في مكان ما من أفريقيا. كان هذا قبل أن أتولى مهام منصبي، ولكن كان علينا خلال السنوات العشر الأخيرة أن نراقب أنشطة الابن. إنه يعمل على حدود صفقات تمويل مشبوهة، ولكنه لم يتخطَّ هذه الحدود حتى الآن، رغم أنه يحتاج في بعض الأحيان إلى من يُعيده إلى الطريق القويم. عمله الرئيس هو تأسيس الشركات، وهو ماهر جدًّا في استغلال جميع ثغرات قانون إنشاء الشركات الفوضوي. اعتقدت أننا قد نلنا منه ذات يوم بسبب شركة لبشا، ولكن قيل لنا إنه سيُبرَّأ من التهم. كما أنه يعمل في العديد من المجالات الجانبية؛ فهو يؤدي الكثير من الأعمال لصالح مهراجات هنود تحوم حولهم الشبهات من وقتٍ لآخر، وجمع ثروة كبيرة من سباقات الكلاب السلوقية في بداية حياته، كما أنه مقامر قدير وناجح إلى حدٍّ ما، كما يُقال. ثري! ليس فاحش الثراء. إنه يكون موسرًا أحيانًا ومعسرًا في أحيانٍ أخرى، إنه يعيش من أجل المتعة، وهذا أصبح مكلفًا في عصرنا الحالي.»

سألت ماكجيلفري عن شكلِه فوصفه لي. إنه رجل في بداية الأربعينيات من عمره، قوي البنية، ذو وجه مربع حليق كحالِ من يعملون في مهنته. كان شيئًا وسطًا بين محامٍ بالمحكمة العليا ومدرب خيول سباق.

أضاف ماكجيلفري قائلًا: «إنه لا يترك لديك انطباعًا سيئًا عندما تلتقيه للمرة الأولى. فهو ينظر إليك مباشرةً وترى أن عينيه جميلتان. خلال المرات التي التقيته فيها، أُعجبت به كثيرًا. إنه رجل صلب دون شك، ولكنه جيد التنشئة. يمكنني أن أتخيله يناصر أصدقاءه بكل ما أوتي من قوة، وسمعت بالفعل أنه يفعل أمورًا تنم عن كرم أخلاقه. كما أنه يمارس رياضة الصيد؛ فهو يملك زورقًا وزنه ٦ أطنان، وعادةً يُرَى في أمسيات الجمعة خارجًا من مكتبه في المدينة مرتديًا ملابس قديمة واضعًا عدة الصيد في حقيبة قماشية. إذا كانت مشكلتك تتعلق بالابتزاز يا ديك، وكان تروث متورطًا في الأمر، فلن تكون مشكلة عادية. ربما كان الرجل لصًّا، ولكنه ليس من نوعية اللصوص المتسللين.»

سألت ماكجيلفري بعد ذلك عن اسم بارالتي، وعندما سمع الاسم ظهر الاهتمام جليًّا على وجهه. ثم أطلق صافرةً، وبدا على وجهه ذلك التعبير الذاهل الذي يعني دائمًا أن عقله أو ذاكرته تعمل بأقصى طاقتها.

ثم ردد: «بارالتي. أتدري يا ديك، إنك بارع بطريقة غير عادية في اجتذاب الأشخاص المثيرين للاهتمام؟ فلطالما تعلقت استشاراتك لي بأناس يثيرون فضولي أنا أيضًا. بارالتي؛ جوزيف باناتين بارالتي! سيتطلب وصف هذا الرجل الغامض شخصًا أكثر فصاحةً مني. هل التقيته من قبل؟»

قلت إني لم أفعل؛ ولم أسمع اسمه قبل ذلك اليوم.

«كيف يمكنني أن أصفه؟ إنه يشبه، إلى حدٍّ ما، عقيدًا متقاعدًا في الجيش ويسكن في ضواحي شلتنهام. طويلُ القامة إلى حدٍّ ما، نحيل، ذو أنف كبير، وعظمتَي وجنتين بارزتين، يرتدي دائمًا ملابس فاخرة من القطن الناعم أو الصوف، ويبلغ من العمر حوالي خمسين عامًّا. كما أن له شاربًا شابت أطرافه يعطيه مظهرًا بريئًا. هذه هيئة واحدة من هيئاته؛ هيئة النبيل الإنجليزي الريفي. ثمة هيئة أخرى له، وهي هيئة دون كيشوت؛ نفس تلك الملامح غير الواضحة، ونفس هاتين العينين الحزينتين، ونفس مظهر الضياع العام الذي يقترن دائمًا بالدون. يبدو جذابًا، أليس كذلك؟ نصف مغامر ونصف محامٍ؟ ولكن، ثمة هيئة ثالثة؛ لقد رأيته في هيئة شديدة القبح. في هذه الهيئة، أصبحت عيناه الشاحبتان قاسيتَين وباردتين، ولم تعد ملامحه تشبه البشر، وبدا شاربه المرقط بأطرافه البيضاء أشبه بأنياب خنزير قذر … أعتقد أنك أدركت أني لا أطيق السيد بارالتي.

ثم واصل حديثه قائلًا: «ولكني لا أفهمه. بادئ ذي بدء، دعني أوضح لك أننا لا نملك دليلًا ضده. لقد شارك في شركة لبشا، ولكن لم يكن ثمة أي تلميح ينال من شخصيته. إنه يتصرف بطريقة سليمة، وربما سيرد لجميع دائنيه أموالهم كاملة، فلا بد أن يعود ليعتلي القمة مرة أخرى. لقد مر بأوقات نجاح وفشل، ومثلما هو حال جميع العاملين في عالم المال والأعمال، كان عليه التعامل مع شخصيات مثيرة للشبهات، ولكن سمعته هو لا تشوبها شائبة. لا يبدو عليه أنه يهتم بالمال مثلما يهتم بالعمل نفسه. ولكن، لا أحد يطيقه، وأشك في أن كثيرين يثقون به، ولكن لم يختلف أحد على قدراته. وإذا ما وجدت رجلًا لا يحبه الناس دون سبب وجيه، فيمكنك أن تفترض أن ثمة شيئًا فاسدًا يتعلق به دون أن يلومك أحد. لديَّ الفرضية نفسها في حالة بارالتي، ولكني لا أستطيع تحديد ذلك الشيء الفاسد فيه، أو أجد مبررًا لهذه الفرضية عدا أني أرى من وقت لآخر أنه يشبه الشيطان.»

سألته عن مهنته.

«إنه سمسار أسهم، وأسس شركته التي يعمل فيها بمفرده. واهتماماته؟ ليست مالية على الإطلاق؛ فقد صرَّح علانية أنه يحتقر أعمال تدوير الأموال. وقال إنه يعمل فقط من أجل الحصول على المال لإنفاقه على الأشياء التي تهمه. وما هي هذه الأمور؟ حسنًا، كان من بينها الإبحار باليخوت. عندما كان في أوج قوته، كان يمتلك يخت تيلما؛ يختٌ فريد من نوعه بوزن ستمائة طن، وربما كان هو السبب في التعارف الأول بينه وبين تروث. كما أنه رجل مثقف من طراز رفيع، لا يكل ولا يمل من معرفة المزيد. وهو شيوعي نبيل. مفكر لا ينسى حلاقة لحيته. كما أنه راعٍ لجميع الصيحات الجديدة في الرسم والنحت والكتابة. إنه يترفع عما يعجب الأشخاص العاديين مثلي ومثلك، ولكنه يتحمس كثيرًا لأشياء قبيحة، شريطة أن تكون غير مسبوقة أو مستقاة من ثقافة أخرى. وأعتقد أن هذا ذوقه الخاص، فهو يمتلك عقلية تناصر كل ما هو غريب وبلا جذور. كما أنه يدعم أفكاره. فقد ظل طوال سنوات محافظًا على استمرارية جريدة (ذكر ماكجيلفري واحدة من الصحف الأسبوعية شديدة العجرفة)، كما أنه يستضيف على نفقته الخاصة كل مَن ابتكر صيحة جديدة. كان دائمًا ما يقول إنه يحتقر الرأسمالية، كما يحتقر جميع النظم المعروفة، ولكن طالما ظل هذا النظام القبيح قائمًا، فسيحاول أن يستفيد منه؛ ومن ثَم ينفق أرباحه على التسريع بإنهائه. رؤية منطقية تمامًا. ولا ألومه على شيء إلا ذوقه.»

سألته. «أليس محبوبًا وسط أمثاله من التقدميين؟»

هز ماكجيلفري رأسه نفيًا. وقال: «إني أشك في ذلك. إنهم يتملقونه عند الحاجة، ويعيشون عالةً عليه، ولكني على يقين تام من أنهم لا يحبونه.»

سألته عما إذا كان كل هذا التظاهر بأن بارالتي من أهل الفكر ليس إلا حيلةً لخدمة مصالحه المالية. فقد جعله ممولًا من نوعٍ جديد، والبسطاء يميلون إلى وضع ثقتهم في رجلٍ يقول علانية إن هدفه الوحيد من جمع المال هو منع أي أحد، بما في ذلك نفسه، من تكديسه في المستقبل.

رأى ماكجيلفري أن ثمة منطقًا فيما قلت.

وقال: «إنه رجل حذر. ولطالما ذُكر اسمه في الصحف مرتبطًا بالاحتجاجات، ولكنه لا يتمادى في أي شيء كثيرًا. فالتطرف ليس هدفه، بل النقد الراقي لحماقات البشر. وهو لا يفعل شيئًا من شأنه أن يخيف المستثمرين … حسنًا سأراقبه وأرى إذا كان بمقدوري اكتشاف المزيد عن علاقته بتروث. وكذلك الرجل الآخر، ما اسمه، إيريك ألبينوس؟ لقد منحتني ثلاثيًّا غريبًا.»

وبينما كنت أهم بالمغادرة، قال ماكجيلفري أمرًا أخيرًا، لم أرَ أنه مهم حينئذٍ، ولكني تذكرته لاحقًا.

قال: «سأساندك في مواجهة هذه العصابة يا ديك. إنهم ليسوا مجرمين بطبيعتهم وقد يتزعزع عزمهم. يكمن الخطر فيما إذا وقعوا فريسة لشخص مختلف عنهم؛ رجل يائس تمامًا، مثلك أنت.»

•••

ذهبتُ إلى فوسي في صباح اليوم التالي مستقلًّا أول قطار صباحي، ولحقني هارالدسن في منتصف النهار كما اتفقنا. وأقام مع حاجبي جاك جدستو الذي يملك كوخًا رحبًا كنت أستأجر فيه بضع غرف من أجل ضيوفي من الصيادين العُزَّاب عندما تكون فوسي مزدحمة خلال موسم الصيد. ثم التقيته بعد تناول الشاي، وذهبنا في جولة وسط التلال.

وتأكد انطباعي من اليوم السابق. كان هارالدسن عاقلًا مثلي تمامًا. وأيًّا كانت مشكلاته، فهي مشكلات حقيقية تمامًا، وليست أوهامًا. ولكنه كان في حالة عصبية مريعة. فكان يتحدث إلى نفسه هامسًا … كنت ترى شفتيه تتحركان، كما أنه كان يزمجر بطريقة غريبة. وأثناء جلوسنا معًا، كان يواصل فرك يديه معًا وهز ساقيه، وكان يشرد فجأة. وأقر لي أنه لم يكن ينال ما يكفيه من النوم. كانت حالته تحزنني، فقد ساءت حالته أكثر بكثير مما كانت عليه عندما كنا في هانام في شهر يناير. واكتشفت أن ثمة أمرين يرعبانه؛ أولهما هو أنه ربما يحدث أمرٌ سيئ جدًّا له أو لابنته في أي لحظة؛ خاصة لابنته. وثانيهما هو أن هذا الوضع المزري قد يستمر دون حل، وأنه قد يظل منفيًّا إلى الأبد بعيدًا عن وطنه الحبيب في الشمال.

بذلت أقصى ما في وسعي لتهدئة أعصابه المضطربة. وأخبرته أنه آمن تمامًا معي، وأني لن أسمح بأن يستمر هذا الوضع دون حل — وأني ولومبارد سنقدم على خطوات من شأنها إنهاؤه. وشجعته على الحديث عن جزيرة الخراف، فسيفيده كثيرًا أن يفكر في شيء مبهج، ووصف لي ببهجة بالغة مدى روعة خضرتها وهدوئها، وأيام الصيف عندما لا تغيب الشمس أبدًا، والبحر المنعش المتقلب، والربيع المتأخر البهيج، والخريف الصاخب العاصف، والشتاء الطويل الهادئ الذي لا يبدد برده إلا نيران المدافئ.

أكدت على هارالدسن مدى أهمية أن يظل خفيًّا عن الأنظار في الوقت الحالي. سيكون مسموحًا له أن يتنقل بحرية بين المنزل والمكتبة، وسنلتقيه أنا وماري كثيرًا، ولكن أمام القرية لا بد أن يظل صديقًا مريضًا لأحد أصدقائي جاء إلى فوسي طلبًا للهدوء ولا يجب أن يزعجه أحد. وسيصحبه جاك جدستو لصيد السمك ويعرفه على تضاريس المنطقة. واستنتجت من حديثه أن ثمة بعضًا من مقتنياته متناثرة في أنحاء لندن وأنه يود لو أصبحت في متناول يده، فقلت له إني سأرتب مع لومبارد طريقة لجمعها في هدوء وإرسالها إليه. ولكني ظللت أؤكد له في الأساس على أن هذه الملاحقة ستنتهي، فقد رأيت أن هذا الأمل وحده هو ما سيطمئنه.

كنت أتحدث إليه بثقة، ولكني لم أكن أملك أدنى فكرة عن كيفية تحقيق ذلك. كانت سلامة هارالدسن تعتمد على مدى نجاحنا في إخفائه، كنت مقتنعًا بذلك؛ لذا لم نتمكن من استفزاز أعدائه لنحدد أماكنهم. ولم أكن أعرف أي شيء عن هؤلاء الأعداء. إن دنماركيًّا متأمركًا، ومحاميًا مشبوهًا يهوى سباقات الخيل، ومموِّلًا مثقفًا يشبه دون كيشوت هوى إلى الحضيض مؤخرًا، لا يشكلون مزيجًا لطيفًا. لم ألتقِ منهم إلا واحدًا، ألبينوس، ولا أعرف عنه إلا ما حدث في قرية مافودي، بينما ماكجيلفري معجبٌ بتروث، أما بارالتي فيبدو كريهًا ولكن دون تأثير. ولكنَّ ثلاثتهم متورطون في شيء جعل مواطنًا محترمًا جدًّا يخشى على حياته، وهو أمر يجب التحقيق فيه وإيقافه. ولم يكن ثمة ما يمكن فعله إلا انتظار ما ستئول إليه الأمور. كتبت في تلك الليلة خطابًا طويلًا إلى لومبارد أخبره فيه بنتيجة حديثي مع ماكجيلفري، وأطلب منه أن ينتبه جيدًا لأية أخبار قد ترتبط بهذه الأسماء الثلاثة، وأنبهه إلى أني قد أطلب حضوره في أية لحظة. عندما أوينا إلى فراشنا، أخبرت ماري بأني سأكون متفرغًا خلال الأسابيع القليلة الآتية، وأني سأكرس هذه الفترة لإعادة هارالدسن إلى حياته الطبيعية.

ولكن وصلتني صباح اليوم التالي أخبار أفسدت جميع خططي. أصيب بيتر جون وهو في المدرسة بالتهاب الزائدة الدودية ويجب أن يخضع لجراحة في اليوم نفسه. فهرعت وماري على الفور واستأجرنا شقة قريبة من المستشفى. سارت الجراحة على خير ما يرام، وبعد يومين كانا عذابًا بالنسبة إليَّ وجحيمًا بالنسبة إلى ماري، قيل لنا إنه تخطَّى مرحلة الخطر. تعافى بيتر جون بسرعة وبشكل رائع، وعادت صحته كما كانت، ولكن لم يُسمَح له بالنهوض من فراشه قبل أسبوعين، ولم يُسمَح له بمغادرة المستشفى قبل ثلاثة أسابيع. ولأن الطقس كان حارًّا، أخذناه إلى منطقة ساحلية تقع على الساحل الشرقي للبلاد وقضينا بها أسبوعين، ومن ثم، لم نعد إلى فوسي حتى بداية شهر يونيو.

لم أعرف أي شيء عن هارالدسن طوال تلك الفترة. فقد التزم كلٌّ من لومبارد وماكجيلفري الصمت، وكان يراسلني جاك جدستو مرةً كل أسبوع ويخبرني بأن الرجل على خير ما يُرام ويتطلع إلى موسم ذبابة مايو لصيد الأسماك. عندما عدت إلى فوسي، توقعت أن تظهر عليه أمارات الدعة والراحة وأن يزيد وزنه قليلًا، فطوال هذه الأسابيع كان مستمتعًا بهدوء الريف ولا بد أنه شعر بالأمان.

ولكني وجدته على النقيض من ذلك تمامًا. فقد بدا هارالدسن في حالٍ أسوأ من تلك التي كان عليها عندما تركته، فقد كان أشد نحافة وشحوبًا، وأطلت نظرة الخوف من عينيه بوضوح أكبر من ذي قبل. لم يكن لديه ما يقوله سوى تكرار شكره لي على عطفي. لا، لم يكن ثمة ما أزعجه، ولم يحدث شيء جعله يشعر بالخطر، بل كان بخير ما يُرام وبدأ يستعيد شيئًا من شهيته، طبقًا لاعتقاده، وكان ينام بشكل أفضل. ولكن كانت عيناه ترفان كما لو كان يتوقع أن يرى شيئًا كريهًا في أية لحظة، وكان يجفل من أقل صوت. كان مثالًا حيًّا على الانهيار العصبي.

تحدثت مع جاك جدستو عنه مطولًا. لن أحاول تقليد لهجة جاك، فلا توجد كلمات يمكنها أن تحاكي غرابة لكنة الكوتسوولديين البطيئة الممطوطة، والتعبيرات الاصطلاحية البذيئة في كل جملة. جاء ملخص تقريره أن السيد هارالدسن صعب المراس، فلم يكن هو نفسه يعرف ما يريد. فكان يخطط لأن يصطاد السمك مع المد المسائي، ثم يغير الخطة ويبدأ الصيد عند منتصف الليل عندما ينحسر المد. كما أنه يكره النهار كما لو كان بومة، ولا يحب الناس الأغراب، ويرتعب إذا رأى وجهًا لا يعرفه. قال جاك إنه كان دائم السؤال عمَّا إذا كان ثمة أشخاص جدد وصلوا إلى الحي، ولكن، باركك الرب، لا يأتي أحد جديد إلى هذا الحي ما عدا بعض المتنزهين العرضيين والأيدي العاملة الإضافية التي تعمل في جني القش، وسائقي العربات على طريق فوسي. لم يكن على الرجل أن يُقلق نفسه، وأخبره بذلك بالفعل، ولكن الكلام معه لا يجدي. وضحت لجاك أن صديقي مريض، وجزء من مرضه يتعلق بالخوف من الوجوه التي لا يعرفها. فهم جاك ما قلت وابتسم. وقال: «مثل ذلك «المرض العصيب الذي ألمَّ بالسيد بيتر جون».»

جعلني ذِكر بيتر جون أفكر. لن يعود الصبي إلى المدرسة هذا الفصل الدراسي، وكان ينوي قضاء صيف هادئ في فوسي قبل أن يذهب إلى ساندي كلانرويدن شمالًا في ليفرلو. ولديه ستة طيور عوسق صغيرة تجلس على المرج طوال اليوم، وموراج تجلس على ساريتها في غابة كرو وود، وحيوان غرير صغير يُدعى بروكلي يهوى التقليب في قش الإسطبل والذي كاد يتسبب في توقف قلبه هلعًا في الليل عندما يدخل إلى الصوبات الزجاجية ويعبث بها. كان لا يزال يخضع لروتين علاجي بسيط وصفه له الطبيب، ولكنه كان يستجمع قوته بسرعة كبيرة. كان إعجاب قد نما بينه وبين هارالدسن في هانام، واعتقدتُ أن صحبته ستكون أمرًا عظيمًا بالنسبة إلى هارالدسن. فطلبتُ منه أن يتولى مهمة الاهتمام بضيفي، فكل ما يتعلق ببيتر جون يوحي بهدوء الأعصاب والمنطق السليم. كانت ثمة فكرة أخرى تدور بخلدي.

قلت: «السيد هارالدسن مريض، ولا بد أن يحظى بالهدوء. وقد مر بتجربة سيئة جدًّا سأحكي لك عنها ذات يوم. ومن المحتمل أن تلك التجربة لم تنتهِ بعد، وقد يظهر شخص أو عدة أشخاص هنا لا يُضمرون له خيرًا. وأريد منك أن تظل يقظًا وأن تخبرني على الفور إذا ما رأيت أو سمعت أي أمر مثير للشك. وأعني بمثير للشك أي شيء خارج على المألوف مهما بدا لك تافهًا. لا يجب أن نتهاون على الإطلاق في سلامة السيد هارالدسن.»

أومأ بيتر جون برأسه في رضًا وأشرق وجهه. ولم يطرح أي أسئلة، ولكني أدركت أن ثمة أفكارًا تدور في خلده.

لم يحدث أي شيء طوال أسبوع كامل. وأفادت صحبة الفتى هارالدسن فائدة عظيمة، ولاحظتُ وماري ذلك، وأقر جاك جدستو بذلك. فكان يصحبه لصيد السمك في الصباح الباكر في جدول سمك السلمون الصغير القريب منا وفي برك ديكوي. وكان يصحبه في فترة العصر إلى التلال ليسمحا لموراج بالطيران. وكان يصحبه إلى الغابة بعد العشاء لمشاهدة صغار الثعالب على الطبيعة، ومحاولة اعتراض طريق ابن عمومة بروكلي أثناء عودته من جحره. بدأت الحُمرة تغزو وجه هارالدسن، وأقر بأنه أصبح ينام بشكل أفضل. لا أعلم ما كانا يتحدثان عنه، ولكن لا بد أنهما عثرا على موضوعات تهمهما كليهما، فقد كنت أسمعهما يتحدثان دون كلل؛ بيتر جون بكلماته البطيئة وصوته العميق، وهارالدسن بكلماته الأكثر سرعة وحديثه غير المترابط. وإن لم نكن نحرز أي تقدم فيما يتعلق بالخطر المحدق بهارالدسن، فكنَّا على الأقل نحسِّن صحته.

بعد ذلك جاءني بيتر جون ذات مساء حاملًا أخبارًا.

كانا في الخارج يدربان موراج على الصيد على تلال شارواي، وأثناء عودتهما، التقيا شابًّا يمتطي حصانًا. اعتقد بيتر جون في البداية أنه أحد مدربي الخيول في إسطبلات كليبرستون لخيول السباق يدرب أحد الخيول، ولكن عندما مرَّا به رأى أنه لا يرتدي ملابس مدربي الخيول. فقد كان يرتدي سراويل ركوب خيل كتانية بيضاء اللون، ومعطفًا صوفيًّا فاخرًا، وربطة عنق ملائمة. ألقى نظرة متفحصة على الصقَّارَين، ورأى بيتر جون أنه شاب أنيق ذو شارب أسود صغير وأسنان علوية بارزة قليلًا. ما أثار دهشتهما أنهما التقياه مرة أخرى، وكان يبدو متعجلًا هذه المرة، فقد كان يهرول مسرعًا، وتفحَّصهما بدقة أيضًا هذه المرة. قال ابني إن هذا يعني أنه دار دورة كاملة حول الطريق المؤدي إلى مزرعة شارواي لودج، وانحرف إلى الطريق الذي يخترق غابة شارواي الكبيرة؛ طريق ليس بالسهل، ولا يمكن لأحد أن يعرفه إلا إذا كان يعرف دروب المنطقة جيدًا. من هذا الشاب؟ هل أعرف شخصًا بأوصافه، فهو لم يره من قبل؟ لمَ كان مهتمًّا بهما لهذه الدرجة؟

قلت إنه ربما كان زائرًا أثارت رؤية الصقر فضوله، وأراد أن يلقي نظرة أخرى عليه.

فأجابني بيتر جون: «ولكنه لم ينظر نحو موراج. كان السيد هارالدسن هو مَن أثار فضوله في المرتين. كنت ستعتقد أنه يعرفه وأنه أراد أن يتوقف ويتحدث إليه.»

«هل تعرَّف عليه السيد هارالدسن؟» طرحت عليه هذا السؤال، وأجابني بلا. لم يبدُ عليه أنه يعرفه، ولم يرغب بيتر جون في إثارة قلقه، فتظاهر بأنه أحد العاملين في إسطبل خيول السباق.

بعد يومين، اضطررت إلى الذهاب إلى جلوستر لحضور المعرض الزراعي. وبينما كنت أرتدي ثيابي لتناول العشاء في المساء، كانت ماري منشغلة مع الضيوف الذين جاءوا لتناول الشاي عصر ذلك اليوم.

قالت: «عائلة مارثو، يا للمفاجأة! لا أعرف ماذا أحضرهم إلى هنا، إن كايثورب تبعد عنا ثلاثين ميلًا، ولا تربطني علاقة قوية بهم. كانت كلير مارثو الابنة الروحية لواحدة من عماتي القاطنات في ويموندام، التقيتها مرات عدة هنا في الماضي عندما كانت تُدعَى كلير سيروكولد، وكانت فتاة سخيفة ومتصنِّعة جدًّا. ولكنها لم تتحسن كثيرًا، فلا تزال تصبغ وجهها مثل الدمى، وعيناها تشبهان أعين الكلاب البكيني، وصوتها سخيف لدرجة أنه يجعل الدم يغلي في رأسك. لا يمكن وصفها بأنها ذكية على الإطلاق، ولكنها لا تتوقف عن الحديث عن العظماء من البشر. ولكنها كانت ودودة جدًّا معي، ولا يمكنني أن أفسر هذا التوق المفاجئ لصُحبتي. لقد أحضرت جماعتها بالكامل معها — في عدة سيارات — قافلة لم يرَ أحد مثلها من قبل. وأغلب جماعتها من النساء اللاتي يجب عليك أن تأخذهن في جولة في المنزل والحديقة، أتمنى لو أني أكثر براعة في العرض يا ديك، فقد كدت أصاب بالشلل مللًا عندما كان عليَّ أن أعرض لهن ممتلكاتنا. كان من بينهم فتاة بارعة الجمال، الآنسة لادلو — ممثلة أفلام، على ما أعتقد، لم تكن تفعل شيئًا سوى أن تبتسم وتبدو جميلة. وكان ثمة شابان أيضًا، ولكنهما لم يتحدثا كثيرًا. طلبت من بيتر جون أن يضيفهم، وأعتقد انه اصطحبهم لرؤية الطيور الصيادة في المرج، وموراج، وبروكلي. بالمناسبة، أنا لم أره منذ ذلك الحين. وإني لأتساءل عما يدبره؟»

تأخر بيتر جون كثيرًا عن موعد العشاء. كان من المفترض، من الناحية النظرية، أن يأوي إلى الفراش بحلول التاسعة مساءً، ولكن لم تكن ثمة فائدة من فرض قواعد على شخص أغلب عاداته ليلية، خلال الصيف على الأقل. ظهر بيتر جون بجواري في تمام العاشرة مساءً بينما كنت أكتب خطابات في غرفة المكتب.

وسألني: «هل أخبرتك أمي عن الأشخاص الذين حضروا لاحتساء الشاي؟ كان ثمة عدد كبير منهم، وأحدهم كان الرجل الذي التقيته والسيد هارالدسن يوم الثلاثاء؛ الشاب الذي كان يمتطي صهوة الحصان والذي أراد أن يلقي نظرة أخرى علينا.»

سألته: «هل عرفت اسمه؟»

«كانوا جميعهم يدعونه باسم فرانكي.» تعتقد أمي أن اسم عائلته يشبه وارندر، ولكنه ليس وارندر. اصطحبته لرؤية الخيل، وطرح عليَّ الكثير من الأسئلة.»

سألته. «هل كان ثمة رجلٌ آخر؟»

«نعم، ولكنه لا يهم. إنه فنان أو متخصص في التحف، ولم يستطع مفارقة حظيرة العُشور. ذلك الشاب فرانكي هو مَن يهم. لقد جعلني آخذه في جولة شملت المنزل بأكمله، وطرح أسئلة كثيرة عمَّن يعيش هنا، وماذا يعملون، ومَن يكونون أصدقاءنا، وما إذا كان ثمة الكثير من الناس يأتون ليقيموا معنا. كان أي شخص آخر ليطرح كل هذه الأسئلة بطريقة وقحة، ولكنه جعل الأمر يبدو لطيفًا، كما لو أن المنزل يعجبه جدًّا ويود أن يعرف كل شيء عنه. ولكنك أخبرتني بأن أنتبه لحدوث أي شيء مثير للشك، ورأيت أنه مثير للشك إلى حدٍّ ما.»

ثم واصل حديثه قائلًا: «ولم ينتهِ الأمر عند هذا الحد. لم يصحب فرانكي بقية المجموعة. لقد انطلق معهم بالفعل في سيارة رياضية صغيرة استقلها وحده، ولكنه سار في عكس اتجاههم بعد عبوره بوابة المنزل وأخفى سيارته على الطريق المؤدي إلى المحجر القديم. كنت أتبعه ورأيته يسير بمحاذاة المرج المائي، وألقى نظرة على ظهر كوخ تريمبل. ثم توجه نحو كوخ جاك، ثم قبع وسط أشجار البندق التي تقع خلفه، حيث يمكنه أن يحصل على رؤية جيدة للكوخ. تسللت إلى الكوخ عبر الباب الجانبي، ولحسن الحظ التقيت بالسيد هارالدسن الذي كان على وشك الخروج من الكوخ، وأخبرته بأن يظل في الداخل. ظل فرانكي قابعًا لوقت طويل وسط أشجار البندق لدرجة أن أصابني الملل، وقررت أن أجعله يرحل، فدُرتُ حول الأشجار ثم دخلت وسطها حتى فاجأته بالوقوف بجانبه متظاهرًا بأني أبحث عن بروكلي. ولكنه تعامل معي بهدوء شديد، وقال إنه عالم نبات، وإنه بقي ليبحث عن بعض النباتات التي سمع أنها تنمو هنا. ولكنه لم يرغب في البقاء أكثر من ذلك، فرافقته حتى سيارته، وأعطاني نصفَي كراون، ثم عدت إلى السيد هارالدسن لأخبره بأن «الخطر قد زال».»

قلت لبيتر جون إنه أبلى بلاءً حسنًا، وإنه من الأفضل أن يذهب لينام. أقلقتني قصة بيتر جون، فقد بدا جليًّا أن هذا الشاب فرانكي يقتفي أثر هارالدسن، وبدا أنه قد عثر على مخبئه. ولم يكن تحديد مخبئه بالأمر الصعب، فإن كان أحد في فوسي لا يقيم في المنزل، فلا يوجد سوى كوخ جاك الذي تسمح مساحته الكبيرة باستضافة ضيوف. سألت ماري عن فرانكي، ولكنها لم تكن تعرف الكثير عنه. فقد بدا لها شابًّا عاديًّا جدًّا، دمث الأخلاق وجهه خالٍ من التعبيرات؛ … وتذكرت أسنانه البارزة. ولكنها تذكرت اسم عائلته، لم يكن وارندر، بل فاريندر. وقالت: «ربما كان ابن المليونير الأيرلندي المتغطرس العجوز — كلونجيلت؟ أو ربما كلونجيلي؟ الذي اشتهر بكونه مرابيًا في شارع كورك ستريت.»

بعد ثلاثة أيام، أو هكذا اعتقدت، جاء ساندي كلانرويدن لزيارتنا. وأبرق لي قائلًا إنه يحتاج إلى التريض، واقترح أن ألتقيه عند محطة قطار بعيدة، وأرسل أمتعته إلى المنزل مع السيارة، وأسير معه مسافة خمسة عشر ميلًا حتى فوسي. كانت نزهة رائعة سيرًا على الأقدام في طقس يونيو الصحو، فقد شربنا الجعة الجيدة في الحانات الصغيرة، وهبطنا من على التل في مقابل بوابات المنزل تقريبًا، حيث شكل حقل بري من الأشجار الشوكية الصغيرة منحدر التل. انكشف أمامنا جزءٌ من الطريق السريع حيث رأينا رجلين يدلفان إلى سيارة رياضية صغيرة.

رقد ساندي على الأرض كما لو أنه أصيب بطلق ناري. «ارقد يا ديك»، قالها آمرًا، وبعد التحديق في السيارة لفترة طويلة، وضع على عينه تلك العدسة الصغيرة التي يستخدمها في مراقبة الطيور. لم أرَ إلا شابَّين بدا عليهما أنهما في عجلة من أمرهما. كان أحدهما عاري الرأس بينما كان الآخر واضعًا قبعته على رأسه بحيث تخفي قسمًا من وجهه. لم تساعدني تلك المسافة الكبيرة على التيقن، ولكن انتابني شعور بأنهما يتظاهران بعكس حقيقتَيهما، فلم تكن حلتاهما الصوفيتان مناسبتين لهما.

بعدما اختفيا عن ناظرَينا، وضع ساندي عدسته في جيبه وأطلق زمجرةً. ولم ينبس ببنت شفة حتى وصلنا إلى المنزل وحيَّتنا ماري. وبدلًا من أن يجيب عن أسئلتها عن باربارا، سألها، كما لو كان محقِّقًا، عمَّا إذا كانت قد استقبلت ضيوفًا في فوسي عصر اليوم.

فقالت: «نعم. لقد عاد ذلك الشاب فاريندر الذي جاء لزيارتنا مع عائلة مارثو. لقد أخبرتك عنه يا ديك. إنه أحد علماء النبات العظام، ويوجد نبات نادر ينمو هنا وكان يريد أن يري صديقه إياه. وقد قال بالفعل خلال زيارته الأخيرة إنه عثر على نبات أوركيد قزم.»

فأطلق ساندي صافرة. وقال: «إنه ليس بارعًا جدًّا. من المستحيل أن تنمو زهور الأوركيد في هذه التربة. من كان صديقه؟»

«رجل فرنسي، السيد بلان. وكان السيد فاريندر يدعوه باسم بيير.»

«صِفِيه لي.»

قطبت ماري ما بين حاجبيها. وقالت: «إنه رجل في حوالي الخامسة والثلاثين أو الأربعين من عمره، على ما أعتقد. نحيل جدًّا ولطيف وأنيق. له رأس غريب الشكل ينتهي بقمة، مثل الرجل الماعز، حليق الوجه، ولون بشرته يشبه لون بشرة مَن يعيشون في المناطق الحارة. ولون ذقنه أفتح من بقية وجهه؛ لذا أعتقد أنه كان يطلق لحيته فيما مضى. لم يوافقا على البقاء لاحتساء الشاي — كانا يريدان فقط أن أمنحهما الإذن باستكشاف الغابة المحيطة بالمنزل.»

سألتها. «هل رآهما بيتر جون؟»

قالت: «لا أعرف. لقد قضى اليوم بأكمله خارج المنزل، ولكنه عاد منذ قليل، فقد سمعت صوت مياه في حمام غرفته.»

بينما كنت أوصل ساندي إلى غرفته، قال بجدية: «يجب أن نتحدث مطولًا بعد العشاء يا ديك.»

قلت: «يجب أن نفعل. فلدي الكثير مما أريد إخبارك به.»

فرد عليَّ قائلًا: «وأنا لديَّ أمر مدهش أريد إخبارك به.»

•••

دعوت بيتر جون لحضور اجتماعنا تلك الليلة، فقد رأيت أنه من الأفضل أن يعرف كل شيء. بدأت حديثي بعرض موقف هارالدسن كاملًا، وهو الموقف الذي لا يعرف ساندي عنه شيئًا. أخبرته بحديثي مع لومبارد، وأحاديثي مع هارالدسن نفسه، وقناعتي بأن الرجل لا يتخيل الأمر، بل إنه عرضة للخطر حقيقةً. وأخبرته بما قاله لي ماكجيلفري عن تروث وبارالتي. ووضحت له اعتقادي بأنه كان من الأفضل إحضار هارالدسن إلى فوسي، فقد بدت لي مكانًا آمنًا للاختباء. ثم أعدت رواية ما حدث منذ حضوره إلى هنا، قلقه وبؤسه المتزايدان، اللذان تماثلا للشفاء بفضل بيتر جون، وأخيرًا ما حدث من الشاب فاريندر. قلت إني لم أرتح لأمر هذا الشاب، فقد بدا مهتمًّا بهارالدسن لدرجة الهوس، وأخبرته باختبائه خلف كوخ جاك، وأضفت إلى ما سبق عدم راحتي لحضوره إلى هنا اليوم وقصة زهور الأوركيد الوهمية. ثم سألت: «هل تعرف أي شيء عنه؟»

قال ساندي: «ليس الكثير. لقد سمعت عنه. إنه يشتهر بأنه شاب مسرف، ويقامر بمبالغ كبيرة في كازينو ديلون، وأمور من هذا القبيل. ولكن يمكنني أن أخبرك بالكثير عن صديقه السيد … بيير … بلان.» ردد ساندي الاسم ببطء كما لو أن كل مقطع من مقاطعه له نكهة خاصة.

ثم قال: «اسمع يا ديك، وأنت كذلك يا بيتر جون، رغم أنك ستحتاج إلى أن يفسِّر لك والدك الكثير مما سأقول لاحقًا. لقد أخبرتك بكل ما حدث تقريبًا في أوليفا منذ عامين.١ أعتقد أنك تتذكر أن جران سيكو كانت ملاذًا للضائعين والبائسين الذين دمروا حيواتهم فلجئوا إلى الانضمام لصفوف كاستور. كانوا يشبهون رجال شيخ الجبل، الحسن الصباح، خلال الحملات الصليبية، الذين كانوا يلجئون إلى المخدرات لتشعرهم بالشجاعة والسعادة. حسنًا، أنت تعرف ما حدث. لقد اجتثت هذه العصابة — الذين كانوا يطلقون على أنفسهم اسم الفاتحون — من جذورها. فبعضهم قُتِل خلال معركتنا الأخيرة، وحُكِم على الباقين بالموت البطيء بعدما حُرِموا من المخدرات. وكان أحدهم، وربما كان أكثرهم جرأة، يُدعى جاك دينجرافيل، وكان في ذلك الوقت مقاتلًا فرنسيًّا شهيرًا. لم يكن يقل شرًّا عن الآخرين، ولكنه كان أكثر صحةً؛ لأن عمله في الهواء الطلق حَمَى جسده من البلادة، رغم أنه كان يتعاطى المخدرات مثل زملائه. لم أعرف أبدًا ما حل به في نهاية المطاف. فلم تصلنا أخبار مؤكدة عن موته في معركة فيرو، ولكن ثمة احتمالية كبيرة أنه تلقَّى رصاصة هناك، وعلى أية حال، أدركت أنه أوشك أن يلقى حتفه منذ أن انقطع إمداد مخدر «الأستورا». تخيلته يزحف إلى جحر ما في أمريكا الجنوبية أو أوروبا ليموت فيه.

استطرد حديثه قائلًا: «ولكني كنت مخطئًا. فمن بين هؤلاء الأشرار لم ينجُ إلا دينجرافيل – هو وحده فقط تقريبًا. ويجدر بي القول إنه قد تعافى من إدمانه المخدرات. لقد بدا في كامل عافيته عندما رأيته هذا المساء.»

صمتنا لبرهة. فأمام عيني، بدأ الأمر برمته يصطبغ فجأة باللون الأسود. لم يفاجئني ظهور دينجرافيل كثيرًا، فلطالما شككت في أن تروث وبارالتي وألبينوس ليسوا كامل العصابة. ما فاجئني هو أنهم تمكنوا من تتبع هارالدسن حتى هنا رغم جميع الاحتياطات التي اتخذناها. واستنتجت أنهم أكثر براعة وقدرةً مما تخيلت، وأن مساندتي لهارالدسن ستكون شديدة الصعوبة. شعرت فجأة بأني ضعيف جدًّا، بل وخائف ومسن. إلا أن رؤية وجه ساندي أبهجتني، فبدلًا من أن تبدو عليه أمارات القلق، بدت عليه أمارات الحماسة والبهجة.

سألني قائلًا: «من يساندك في هذا الأمر يا ديك؟ لومبارد فقط؟ حسنًا، أعتقد أنه يجدر بي أن أكون ثالثكم. فمن جانب، تورطت مع هارالدسن بشكل عجيب، فقد جعلني القدر وريث والده. فقد وصل لوح اليشم إلى يدي لغرضٍ ما. ومن جانب آخر، بسبب السيد جاك دينجرافيل، المعروف باسم بيير بلان. إنه رجل شديد الخطورة ولا يجب تركه حرًّا. لن تنته مهمتي في أوليفا إلا بعد أن أسوي الأمور معه. وأعتقد أنه حان الوقت لأن أشارك.»

نهض ساندي وأحضر لنفسه شرابًا. رمقته أثناء وقوفه ونصفه مختفٍ في الظل، وضوء المصباح الوحيد في الغرفة ساقط على وجهه — لم يكن يصغرني كثيرًا، ولكن كان قوامه مشدودًا مثل وتر قوس، وكان مفعمًا بالنشاط مثل فهد صياد. وفكرت أن أعداء هارالدسن قد حرروا قوةً ذات زخم كبير. ولا بد أن بيتر جون قد فكر في المثل. فقد جلس يستمع إلى حديثنا وعيناه تكادان تخرجان من محجريهما، وارتسم على وجهه ذلك التعبير المتجهم الذي يظهر على وجهه دائمًا عندما يتأثر بشدة. ولكن، عندما حوَّل بصره إلى ساندي، انقلب تعبير وجهه الجاد المتجهم إلى ابتسامة.

قال ساندي: «سأذهب إلى المدينة غدًا، وسأنخرط بالكامل في ذلك الأمر. إني بحاجة إلى المزيد من المعلومات، ولديَّ أساليب للحصول عليها تفوق أساليب ماكجيلفري. ولكم أتمنى لو عرفنا كم من الوقت تبقى لنا. إن العصابة تقتفي أثر هارالدسن، هذا واضح تمامًا، ولكن السؤال المهم هو: هل حددوا مكانه؟ إن ذلك الشاب فاريندر ليس متأكدًا، وإلا لم يكن ليعود مرتين … إن كانوا متأكدين من مكانه، لكانوا أنهوا الأمر اليوم دون أدنى شك. وإني لأتساءل كم اقتربوا من تحديد مكانه الليلة؟»

تحدث بيتر جون. وقال: «لم يقتربوا كثيرًا. لم يتمكنوا من ذلك. لقد سقطا كلاهما في بركة الطاحونة.»

أخرج ساندي غليونه من فمه وحدق في وجه الصبي. ثم قال مكرِّرًا: «سقطا كلاهما في بركة الطاحونة؟ ماذا تعني يا بُني.»

قال بيتر جون: «لقد رأيتهما عندما وصلا إلى هنا، وأدركت أنهما لن يبقيا في المنزل لوقت طويل على أية حال، فتسللت إلى الخارج ونبَّهت السيد هارالدسن ليظل مختبئًا في كوخه. وعندما خرجا من المنزل، تبعتهما. توجها إلى غابة هاي وود عبر الحديقة، ولكني كنت واثقًا من أنهما يقصدان أشجار البندق الواقعة خلف كوخ جاك. ولكي يصلا إلى هناك، عليهما أن يعبرا مصرف الطاحونة عبر الجسر الخشبي الذي يمر فوق البركة مباشرةً. لا تكون الأحجار عند طرف الجسر آمنة إلا بشد الألواح الخشبية وتثبيتها جيدًا على الضفة. ففككتها أكثر، وجذبت الألواح الخشبية بحيث تستقر عليها.»

سألته وساندي في صوتٍ واحد: «وماذا حدث؟»

«سقطا كلاهما في البركة، وهي عميقة جدًّا. فساعدتهما على الخروج، وعرضت عليهما أن يأتيا إلى المنزل لتغيير ملابسهما المبتلة. ولكنهما رفضا، فقد كانا منزعجين جدًّا. ولكن أعطاني السيد فاريندر خمسة شلنات أخرى.»

١  القصة المفصَّلة لما فعله اللورد كلانرويدن في أوليفا موجودة في رواية «مغازلات الصباح».

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤