الفصل التاسع

لوكينفار

في اليوم التالي، كسرت موجةَ الحر أمطارٌ غزيرة، وبحلول منتصف النهار، أصبحت مياه نهر ليفر عَكِرة، وبحلول المساء أصبحت فيضانًا هادرًا. خرجتُ وبيتر جون قبل العشاء، وتمكنَّا من صيد الكثير من الأسماك باستخدام الديدان طُعمًا من البرك التي توجد في الطرف الشمالي من المنتزه. كانت السماء لا تزال تمطر رذاذًا في صباح اليوم التالي، ووُفقنا في صيد وفير من روافد النهر باستخدام طُعم يُعرَف في هذه الأنحاء باسم العنكبوت الأسود. لطالما كنت أهوى الصيد في الجداول، فمن المستحيل أن تتمكن من إلقاء الصنارة بالطريقة نفسها مرتين، كما أني أحب المناظر الطبيعية المختلفة التي تقدمها كل انحناءة في الوديان الصغيرة. ولكن، بعد الغداء، طمحت نفس بيتر جون لما هو أفضل. كانت ثمة بحيرة جبلية تبعد مسافة ستة أميال داخل التلال تُسمَّى بلاك لوك، حفرة تغطيها الطحالب وتنتشر على سطحها زنابق الماء الصفراء ومن الصعب جدًّا الصيد فيها. حاولنا الصيد فيها من قبل في غروب أحد الأيام، ولكن لم يحالفنا الحظ، رغم أننا رأينا بها أسماك سلمون كبيرة. لطالما قال سيم إن أفضل وقت للصيد في هذه البحيرة هو بعد المطر عندما تكون أسماكها الخمولة مضطربة بفعل المياه المتدفقة من التلال. فانطلقنا مع أوليفر وجوردي هاميلتون، وأخبرنا باربارا بأننا قد نتأخر عن موعد العشاء.

لم نعُد إلى المنزل إلا بعد التاسعة والنصف. وأصبح الجو صافيًا، وكانت الأمسية الدافئة أشبه بكرنفال صيد أسماك السلمون من بحيرة بلاك لوك. كانت الأسماك تلتقم أي طعم نلقيه لها، ولكن كانت أربع أسماك من كل خمس إما أن ترهقنا حتى نتركها أو تفلت منا. كنا مضطرين إلى إلقاء خيوط صنانيرنا من فوق حزام كبير من زنابق الماء والأعشاب، ما كان يعني أن خيط الصنارة سيكون طويلًا ومرتخيًا. كان من المستحيل بالنسبة إلينا أن نخوض لمسافة أبعد داخل البحيرة، فلم يكن قاعها مستويًا، وقد خضت فيها ذات مرة حتى وصل الماء لمستوى خصري. لكي نخرج سمكة من المياه، كان علينا أن نسحبها بقوة مفرطة عبر أعشاب البركة، ولأننا كنا نلقي بخيوطنا الرفيعة لمسافات بعيدة داخل البحيرة، كنا نفشل فشلًا ذريعًا. كان ثمة لسانان من الحصى يتخللان البحيرة، وكانت فرصتنا الوحيدة في الحصول على سمكة كبيرة أن نحاول توجيهها نحو أحدها، وهي مهمة ليست بالسهلة، فلم يكن أيٌّ منا مجهَّزًا بعتلة. وتمكن بيتر جون، الذي كان أفضلنا أداءً، من صيد سمكتين رائعتين، يبلغ وزن كلٍّ منهما رطلين تقريبًا، رغم أنه مُنِي بالكثير من الإخفاقات أيضًا. رغم كل هذه الصعوبات، تمكنَّا إجمالًا من صيد دزينتين وثلاث سمكات، بوزن إجمالي يبلغ سبعة وعشرين رطلًا، وهي أفضل حصيلة صيد خرجت من بحيرة بلاك لوك على ما يتذكر أوليفر.

جعلني اليومان اللذان قضيتهما في الصيد أنسى كل شيء، وهو أمر دائمًا ما يحدث لي خلال الصيد. بينما كنا نجتاز الأراضي المظلمة ذات الرائحة العطرة في اتجاه المنزل، لم أكن أفكر في شيء سوى الاستحمام وتناول العشاء. ولكن مع اقترابنا من المنزل، عدت إلى رشدي فجأةً. فأمام المدخل الأمامي للمنزل، كانت تقف سيارة ضخمة وقذرة جدًّا ترجل منها رجل يرتدي معطف مطر. لم يكن يرتدي قبعة، ورأيت رأسه الأصلع ووجهه المحمر الملطخ بالطين، وكان يبدو عليه الإنهاك والاضطراب. كان الرجل يساعد شخصًا آخر، بدا وكأنه فتاة، على الترجل من السيارة. ثم سمعنا ضوضاء تصدر فجأة من داخل المنزل، وخرج منه هارالدسن وهو يصيح كالمجنون. وحمل الفتاة من داخل السيارة وغمرها بالقبلات والأحضان.

عندما اقتربنا أكثر، أدركت أن الرجل هو لومبارد، ولكنه كان على النقيض تمامًا من ذلك الثري الأنيق من المدينة الذي التقيته منذ أمَدٍ ليس بالبعيد. فكان يبدو مرهقًا وقذرًا، ولكنه كان سعيدًا، بل وبدا أصغر عمرًا، أصبح أشبه بلومبارد الذي أتذكره عندما كنا في أفريقيا. قال: «لقد وصلنا أخيرًا والحمد لله. كان الطريق قاسيًا … ما أكثر شيء أريده؟ أولًا الاستحمام، ثم الطعام؛ الكثير من الطعام، فلم نتناول شيئًا سوى البسكويت. لم أُحضر معي أي حقائب، ويجدر بك أن تعيرني بعض الملابس النظيفة.» أما هارالدسن، فظل يتصرف كرجل مجنون، فلم يتوقف عن الربت على كتف الفتاة والتشبث بها كما لو أنه يعتقد أنها ستختفي في أية لحظة. وظل يقول: «لقد اكتملت سعادتي.» ظل الحال على هذا المنوال حتى جاءت باربارا وماري وأخذتا الفتاة معهما.

أعطيت لومبارد حلة ذات قماش ناعم، وتناولنا وجبة عشاء متأخرة ضخمة، على الأقل أربعة منا فعلوا، بينما جلس الثلاثة الآخرون، الذين تناولوا عشاءهم بالفعل، يتفرجون. كانت أنَّا ترتدي تنورة زرقاء ذات ثنيات وقميصًا أبيضَ اللون، ما افترضت أنه الزي الموحد لمدرستها. كانت فتاة أطول قامة بالنسبة إلى سنها، شقراء الشعر لحدٍّ كبير حتى يقارب أن يكون أبيض. وكانت أجزاءٌ من شعرها الأشقر تبدو بيضاء تحت إضاءات معينة، وكان وجهها شاحبًا، وملامحها تنم عن سن أكبر من سنها الحقيقية، فقد كانت الانحناءة الكاملة لذقنها من سمات النساء لا الفتيات. كانت عديمة اللون فيما عدا عينَيها، وفكرت أن هارالدسن كان يستحق ما هو أفضل من تلك الفتاة الباهتة الشاحبة. همست لماري بهذه الكلمات عندما كنا في الردهة قبل العشاء، فضحكت مما قلت. وقالت: «إنك حمار أعمى يا ديك. فهذه الفتاة ستصبح بارعة الجمال ذات يوم ببشرتها العاجية وعينيها اللتين في زرقة البحر.»

بعدما أكلنا، ذهب هارالدسن مع الفتيات ليضع أنَّا في فراشها ويرى ما تحتاج إليه من ملبس، فلم تكن معها حقائب أيضًا. تناول لومبارد كأسين من نبيذ ساندي الشهير، وعندما انتقلنا للجلوس في غرفة التدخين، اختار لنفسه مقعدًا وثيرًا جلس عليه وقد بدا عليه الرضا البالغ. وقال: «نقطة أُولى أحرزها فريقنا. ولكننا تمكنا من ذلك بمشقة، أؤكد لك ذلك. حتى عشر ساعات مضت، لم أكن لأراهن ببنسَين على فرص نجاحنا. سيكون عليَّ أن أرسل الكثير من البرقيات غدًا، ولكن الليلة، حمدًا لله! يمكنني أن أنام قرير العين.»

أخبرنا لومبارد بقصته، والتي سألقيها عليكم كما قالها.

(قال) وصلت برقيتك إلى كلانرويدن صباح أمس. وأنت تقول إنك أرسلت إليه خطابًا أيضًا، أليس كذلك؟ حسنًا، لم يكن الخطاب قد وصل إليه عندما انصرفت، ولكن يبدو أنك شرحت له ما يحدث بشكل وافٍ في البرقية. فتواصل معي على الفور، لحسن الحظ كنت نائمًا في المدينة التي قدت سيارتي إليها في اليوم السابق. فكانت ثمة بعض الأمور التي يجب أن أنتهي منها قبل أن أحصل على عطلتي، وكنت قد انتهيت منها بالفعل وعلى وشك الرجوع إلى المنزل بعد الغداء.

قال لي كلانرويدن إني يجب أن أتحرك على الفور، فربما حصل خصومنا على عنوان ابنة هارالدسن ومن المؤكد أنهم سيتحركون على الفور. وربما فات الأوان أثناء حديثنا الآن. كان عليَّ أن أذهب إلى المدرسة في نورثامبتونشير وأحضر الفتاة إلى المدينة. ورتب أن تقيم الفتاة مع عمة والدته في ميدان ساسكس حتى يرتب خططًا أخرى. كان سيذهب لإحضارها بنفسه، ولكنه لم يحبِّذ ذلك، فقد كان يعتقد أنه مراقب عن كثب، ولكني لا أزال بعيدًا عن الشكوك، وأنا الوحيد الذي يمكنه إتمام هذه المهمة. وأرسل معي رسالةً إلى مديرة المدرسة، الآنسة بارلوك، يخبرها فيها بأنه أقرب أصدقاء هارالدسن؛ أي سميث، وأنه مَن يدير شئونه، وأن لديه تفويضًا منه بإحضار ابنته إليه في لندن لتقضي معه بضعة أيام من أجل بعض الشئون العائلية. واعتقدَ أن هذه الرسالة ستكون كافية، فقد كان واثقًا من أن مديرة المدرسة تعرف اسمه، وقال أيضًا إن مظهري جدير بالاحترام والثقة. كان من المفترض أن آخذ الفتاة إلى ميدان ساسكس مباشرةً، حيث سينتظرني. قال إنه سينتظرني حتى الرابعة، ولكن إذا حدثت أي عقبات، فعليَّ أن أرسل إليه برقية على الفور، وسيرسل أحد أعوانه في المصرف الذي دفع مصروفات المدرسة.

أعجبتني مهمة منقذ الفتيات، فقد انتابني شعور بأني لا أشارك بالقدر الكافي في هذا الأمر، فانطلقت بسيارتي ومعنوياتي مرتفعة. ذهبت بسيارتي البنتلي الكبيرة التي أقودها بنفسي دائمًا. ووصلت إلى مدرسة بروتون آشيز في تمام الحادية عشرة، ووجدتها عبارة عن مبنى ضخم من الطوب الأحمر ذي واجهة جرداء يتوسط حديقة جميلة، وأعتقد أنه كان أحد المنازل التي بناها رجل النفط، تومبلين، لنفسه قبل انهيار تجارته. حسنًا، أرسلت بطاقتي إلى الآنسة بارلوك، ولكني، لحسن الحظ، لم أرفق رسالة كلانرويدن معها. قيل لي إن الآنسة بارلوك مشغولة قليلًا، ووُجهت إلى قاعة استقبال مليئة بالمجموعات المدرسية ولوحات ألوان مائية فائزة بجوائز وأوعية ضخمة تحوي زهورًا رائعة الجمال. جعلتني الغرفة أولع بالمكان، فقد أرتني أن القائمين عليه يعرفون كيفية زراعة الزهور، ولن تجد في أي بستانيٍّ حريصٍ الكثيرَ من العيوب.

انتظرت حوالي عشر دقائق، ثم انفتح باب الآنسة بارلوك وعبره ثلاثة أشخاص. أحدهم أنَّا، التي كانت تبدو مضطربة. وكان الشخصان الآخران رجلًا وامرأة؛ شاب يرتدي حلة صوفية وربطة عنق ملائمة لها، كان شابًّا بارز الأسنان أسمر اللون، وامرأة في منتصف العمر ترتدي ثوبًا كتانيًّا بني اللون ونظارة ضخمة. صحبت خادمة الأشخاص الثلاثة إلى الطابق السفلي، وأُخبرت بأن أدخل لمقابلة الآنسة بارلوك.

كانت امرأة نحيلة ذات شعر رمادي وعينين لامعتين، يكتنفها مظهر الكفاءة الصارمة الذي تضفيه النساء الخجولات عادةً على أنفسهن كنوع من الدفاع عن النفس. لم يكن ثمة ما يريب بشأنها، ولكني أدركت حال وقعت عيناي عليها أنها متزمتة وأنها ستكون شديدة التمسك بالقواعد. فنبهني حدسي إلى أنه يجدر بي أن أتعامل بمكر. لحسن الحظ، بدأت حديثي بأن أخبرتها أني أحد أصدقاء والد أنَّا سميث القدامى، وأني حضرت إلى هنا لأقابلها وأعطيها رسالة.

فابتسمت الآنسة بارلوك. وقالت: «المصائب لا تأتي فرادى. ليست العزيزة أنَّا معتادة على استقبال زيارات من أصدقاء. ولم يحضر والدها المسكين لرؤيتها منذ شهور. ولكن هل تعلم أن أبناء عمومة أنَّا حضروا إلى هنا هذا الصباح؟ ولا بد أنهما مَرَّا من أمامك وبصحبتهما أنَّا أثناء دخولك إلى مكتبي. كانا يحملان خطابًا من السيد سميث يطلب فيه أن أسمح لهما باصطحاب أنَّا معهما قبل أن تبدأ العطلة بأسبوع. وأعتقد أنهما قالا إنهما سيأخذانها في رحلة إلى عواصم دول الشمال. وافقت على الفور، فقد كانت الفتاة تذوي في هذا الطقس الحار.»

جعلني ما أخبرتني به أتوقف وأفكر مليًّا. بدا الأمر وكأني قد تأخرت كثيرًا، وأن الفريق الآخر قد سبقني إلى الفتاة. وقررت أنه لن يكون في صالحنا أن أريها رسالة كلانرويدن. يبدو أن الآخرين قد أعدوا خطة مُحكَمة، فقد عرضوا عليها رسالة من هارالدسن نفسه مع تقليد دقيق لخط يده الذي لا شك في أن الآنسة بارلوك قد رأته أثناء أيامه الأولى في إنجلترا. رأيت أنهم كانوا مهرة جدًّا عندما أرسلوا شابًّا غير لافت للنظر وامرأة عادية لا تهتم بالموضة، بدلًا من إرسال امرأة أنيقة دهنت شفاهها باللون القرمزي وذات وجه شرير قد يثير الشكوك في نفس مديرة المدرسة. كان الاثنان نموذجًا لأبناء العمومة الريفيين. لم أستطع أن أبخسهم حقهم، وإذا ما أخبرت الآنسة بارلوك بالحقيقة، فسأبخس حق نفسي. فخطاب كلانرويدن لم يكن ليصمد أمام كلمات هارالدسن، حتى وإن لم تشك مديرة المدرسة في أنه مزور. وجدت نفسي في موقف لا أُحسَد عليه، وكان يجب أن أتصرف بحذر. كان أول ما عليَّ فعله هو أن ألتقي أنَّا نفسها.

حدقت الآنسة بارلوك في البطاقات الموضوعة أمامها على المكتب. وقالت: «قالت الليدي بليتسو وابنها — ذلك البارونيت الشاب — إنهما سيتناولان الغداء مع أنَّا في بروتون آرمز في تمام الواحدة، ثم سيذهبون جميعًا إلى لندن. وأن فترة الصباح ستمضي في حزم أمتعة أنَّا.» لاحظت وجود شجرة العائلات النبيلة على الطاولة، وقد نُقلت من فوق حامل المراجع الخاصة بهذا الموضوع. كانت الآنسة بارلوك امرأة حذرة، وكانت تتقصَّى عن زوارها قبل أن تلتقيهم. تساءلتُ عن عائلة بليتسو الحقيقية. لقد سمعت الاسم من قبل في يوركشاير.

قلت بودٍّ إني سعيد أن أقرباء أنَّا سيصحبونها في رحلة. وتظاهرت بالسذاجة وأنا أقول إن الرحلات مفيدة جدًّا في توسعة مدارك النشء. ولكن، بما أني قطعت كل هذه المسافة حتى هنا، أود أن أتحدث إلى الفتاة، فأنا صديق والدها وأحمل رسالة منه إليها وعدته بأن أوصلها إليها. كنت أود لو تمكنت من اصطحابها لتناول الغداء، ولكن، بما أنها ستذهب لتناول الغداء مع أبناء عمومتها، فهل يمكنني أن أخرج معها في نزهة قصيرة في المنتزه؟

لم ترَ الآنسة بارلوك مانعًا. فدقت جرسًا وأمرت خادمةً بالبحث عن الآنسة مارجيسون. أخبرتني الآنسة بارلوك بأن الآنسة مارجيسون هي صديقة الفتاة الأقرب من بين المعلمات، وأن والدها قد كلفها بشكل خاص بمراعاة الفتاة، وأنها اصطحبت الفتاة أكثر من مرة خارج المدرسة خلال العطلات. حضرت الآنسة مارجيسون، ومنحتني رؤيتها أول بارقة أمل. فلم يبدُ عليها أيٌّ مِن تزمُّتِ المعلمات العاديات وتحذلُقهن. كانت فتاة طويلة القامة، ذات شفاهٍ تنم عن الطيبة، وعينين تشعان بالذكاء والود. يجب أن أجعلها حليفتِي بأي ثمن.

سألتها مديرتها قائلة: «هل انتهى حزم أمتعة أنَّا سميث يا آنسة مارجيسون؟ هل سينتهي في خلال ساعة؟ رائع. ستأتي سيارة لتقلها إلى بروتون آرمز في الساعة الواحدة إلا الربع، حيث ستلتقي أبناء عمومتها. وحتى يحين ذلك الوقت، هذا أحد أصدقاء والد أنَّا حضر ليراها. هلَّا رتَّبتِ أمر أن يخرج معها في نزهة قصيرة في الحديقة؟ نعم، الآن.» ثم أضافت وهي تلتفت نحوي: «لا يجب أن تكون نزهة طويلة يا سيد لومبارد، فلا شك في أنَّ أنَّا سترغب في توديع معلماتها وصديقاتها.»

صحبتني الآنسة مارجيسون إلى الطابق السفلي وخرجنا من المبنى إلى حديقة غَنَّاء مُسوَّرة تقع خلف المنزل. ثم دخلت المنزل وعادتْ سريعًا ومعها آنَّا. كانت المرة الأولى التي أرى فيها الفتاة عن قرب، وأذهلني ما رأيت. إنها ليست بارعة الجمال، كما رأيت بنفسك، ولكني فكرت أنها تمتلك ملامح تنم عن العقل بشكل غير معتاد لمن هم في مثل سنها الصغير. لا أعرف الكثير عن الأطفال، فلم أُرزَق بأطفال من صلبي، ولكني رأيت أن تَعقُّل هذه الفتاة أمر استثنائي. يبدو أنها لم ترث عن والدها أعصابه المضطربة. كانت رؤيتها هي بارقة أملي الثانية.

لم يكن ثمة وقت لأضيعه، فبدأت أخبرها بقصتي على الفور.

قلت: «آنَّا، عزيزتي، إننا لم نلتقِ من قبل، ولكني تعرفت إلى جدك في شبابي عندما كنا في جنوب أفريقيا، وجعلني ورجلًا آخر، يُدعَى الجنرال هاناي، نتعهد بمساعدة والدك إذا وقع في مشكلة. ثمة خطر كبير محدق بوالدك — وكان محدقًا به منذ فترة طويلة — ولكن الأمور أصبحت أسوأ حالًا. لهذا السبب، لم يأتِ لرؤيتك منذ فترة طويلة. ولهذا السبب يدعوك الجميع باسم الآنسة سميث هنا، بينما اسمك الحقيقي هو الآنسة هارالدسن. ولهذا السبب تأتيك خطاباته دائمًا عبر المصرف. لقد أصبحت عُرضةً للخطر أنتِ أيضًا. هذان الشخصان من عائلة بليتسو، اللذان أتيا هذا الصباح ويزعمان أنهما من أبناء عمومتك، ليسا سوى محتالَين. والخطاب الذي معهما من والدك مُزوَّر. أعداء والدك هم مَن كتبوا هذا الخطاب، ويريدون أن يضعوا أيديهم عليكِ. واكتشف أصدقاؤك الخطر المحدق بك، وأرسلوني لكي أصحبكِ إلى بر الأمان. ووصلت في الوقت المناسب تمامًا. هل ستثقين بي وتفعلين ما أطلبه منكِ؟»

لم تتغير ملامح تلك الفتاة غير العادية. كانت تستمع إليَّ بنفس الهدوء الذي لا يتزعزع، ولم تفارق عيناها عينَي. ثم التفتت نحو الآنسة مارجيسون وابتسمت. وكان كل ما قالته هو: «يا لها من مغامرة يا مارجي!»

ولكن لم ترَ الآنسة مارجيسون الأمر من المنظور نفسه. فقد بدا عليها الخوف والاضطراب.

وقالت: «يا لها من قصة سخيفة! إنها محض هراء يا أنَّا. إن اسم عائلتك هو سميث.»

أجابتها الفتاة بوضوح وصراحة: «لا، هذا ليس صحيحًا. إنه هارالدسن. آسفة يا عزيزتي مارجي، ولكني لم أتمكن من إخبار أحد بذلك، حتى أنتِ.»

تلعثمت الآنسة مارجيسون مرتبكةً وقالت: «ولكن … ولكنك … لا تعرفين شيئًا عن هذا الرجل — إنك لم تلتقيه من قبل. كيف تجزمين أنه يقول الحقيقة؟ يملك أبناء عمومتك خطابًا من والدك، ولم تشك الآنسة بارلوك في كونه مزيَّفًا، وأنت تعلمين كم هي ذكيَّة. إنهما يبدوان محترمين.»

قالت أنَّا: «لم أرتح لهما» فتجدَّد أملي مرة أخرى. واستمرت الفتاة تقول: «كانت المرأة ترمقني بنظرات غير مريحة من خلف نظارتها. كما أني لم أسمع من قبل عن أقرباء إنجليز.»

صاحت الآنسة مارجيسون: «ولكن اسمعيني يا حبيبتي. إنك لم تسمعي عن هذا الرجل أيضًا من قبل. كيف تجزمين أن والدك من أرسله؟ كيف تجزمين أنه يقول الحقيقة؟ إذا كان ثمة أي شكوك تراودك، فلنذهب إلى الآنسة بارلوك ونخبرها بأنك لا تريدين الذهاب في أي رحلة، وأنك تُفضِّلين البقاء هنا حتى نهاية الفصل الدراسي. وفي خلال ذلك، يمكنك أن تتواصلي مع والدك.»

قلت: «هذا رأي سديد، ولكنه لن يعود بنفع. لقد أصبح أعداء والدك يعرفون مكانك الآن. إنهم مهرة جدًّا ومعدومو الضمير. إذا لم تذهبي مع آل بليتسو، فسيعثرون على طرق ووسائل أخرى ليصلوا إليك قبل أن يتمكن والدك من التدخل بوقت طويل.»

قالت الآنسة مارجيسون بوقاحة: «هراء. هل تتوقع مني أن أصدق هذه التمثيلية؟ إنك تبدو صادقًا، ولكنك قد تكون غبيًّا. ما هي مهنتك؟»

قلت: «مهنةٌ لا تصلح لرجل غبي. أنا صاحب شركة مصرفية وتجارية»، وأخبرتها باسم شركتي. ومن حسن الحظ أن أحد أقرباء الآنسة مارجيسون يعمل في شركتي، وتمكنت من أن أخبرها بالكثير عنه. أعتقد أن هذا أقنع الآنسة بحسن نواياي.

فسألتني: «ماذا تنوي أن تفعل مع أنَّا؟»

«سآخذها إلى والدها مباشرةً.» كنت قررت أن هذه هي الخطة الوحيدة. فالفتاة ستكون في خطر محدق في لندن، خاصةً الآن بعدما أصبح بإمكان الأعداء تتبع مسارها.

سألتني: «هل تعرف مكانه؟»

قلت: «نعم، وإذا ما تحركنا على الفور، فقد أتمكن من إيصالها إليه قبل منتصف الليل.»

ثم خطر لي فجأةً أن في جعبتي دليلًا مقنعًا.

فقلت: «أنَّا، يمكنني أن أخبرك بأمر من شأنه أن يقنعك بصدقي. لقد وصلك خطاب من والدك يوم عيد ميلادك منذ ثلاثة أيام، أليس كذلك؟»

أومأت الفتاة برأسها أن نعم.

«ولم يصلك الخطاب من لندن في أحد أظرُف المصرف. لقد وصلك من اسكتلندا.»

قالت الفتاة: «نعم، لقد وصلني من اسكتلندا. إنه لم يكتب عنوانًا عليه، ولكني لاحظت خاتم أحد مكاتب البريد الاسكتلندية. وشعرت بحماسة شديدة لأني لطالما أردت الذهاب إلى اسكتلندا.»

«حسنًا، هذا الخطاب الذي أرسله والدك هو ما دل أعداءه على مكانك. فقد رأى أحدهم العنوان في مكتب بريد اسكتلندي. وشعر صديق والدك، اللورد كلانرويدن، بالقلق عليك، فأرسلني إلى هنا على الفور. ألا يثبت لكِ هذا أني أقول الحقيقة؟» ونظرتُ نحو الآنسة مارجيسون.

ورأيتُ أن تشكُّكها قد بدأ يتزعزع. وصاحت قائلةً: «لقد شَل فكري. لا يمكنني تحمل أي مسئولية عن …»

فأمسكت تلك الطفلة المذهلة بدفة الحديث ببساطة.

وقالت: «ليس عليك أن تتحملي أي مسئولية يا عزيزتي مارجي. عودي إلى داخل المنزل واستمري في عملك. سأذهب مع السيد لومبارد. فأنا أصدقه. وسأذهب معه إلى اسكتلندا حيث يوجد والدي.»

فقالت الآنسة مارجيسون: «ولكن أمتعتها لم تُحزَم بعد. لا يمكنها أن ترحل هكذا …»

قلت: «أخشى أننا لن نستطيع الانتظار أكثر من ذلك. توشك الساعة على أن تدق الثانية عشرة، وقد يظهر آل بليتسو في أية لحظة ويثيرون المتاعب. يمكننا أن نرسل في طلب أمتعة أنَّا فيما بعد، وسيتم شرح كل شيء إلى الآنسة بارلوك في غضون يومَين. وعليكِ أن تخرجي نفسك من الأمر تمامًا. كانت آخر مرة تراني وأنَّا هي أثناء تنزهنا في الحديقة، ولا تعلمين شيئًا عمَّا فعلناه بعد ذلك. ولكنك ستغمرينني بكرمك لو أرسلت هذه البرقية بعد ظهر اليوم. إنها موجهة إلى اللورد كلانرويدن — هل سمعت اسمه من قبل؟ — إنه داعم والد أنَّا الأكبر. لقد أخبرني بأن أحضر أنَّا إلى لندن، ولكن هذه الخطوة أصبحت شديدة الخطورة الآن. أريد أن أخبره بأننا اتجهنا إلى اسكتلندا.» وكتبت برقية سريعة على ورقة قطعتها من مفكرتي.

كانت الآنسة مارجيسون فتاة طيبة، وبدا أنها تشارك أنَّا اقتناعها. فعانقتْ أنَّا وقبَّلتها. وقالت: «لا تتأخري في الكتابة إليَّ، فسأكون غاية في القلق»، ثم ركضتْ إلى داخل المنزل.

قلت: «فلنتحرك الآن. سيارتي تنتظر أمام المدخل الأمامي. سألتقيكِ في الشارع الرئيسي حتى لا يرانا أحد من المنزل. هل يمكنكِ أن تصلي إلى هناك دون أن يراكِ أحد؟ وأحضري معطفًا معكِ. خذي معطف أي فتاةٍ أخرى إن لم تعثري على معطفك. وكلما كان أثقل، كان أفضل، فسيكون البرد قارسًا في طريقنا إلى ليفرلو.»

ركبت أنَّا معي من الشارع الرئيسي حسب الاتفاق، وخرجنا من بوابات المدرسة في الثانية عشرة والربع تمامًا. ثم رأيت شيئًا لم يعجبني. فأمام البوابات كانت ثمة سيارة مركونة، سيارة قوية جدًّا أجنبية الصنع ذات لونين أصفر وأسود. بدت لي أنها سيارة من نوع استوتز. وكان راكبها الوحيد سائقًا يرتدي زيًّا موحدًا ويقرأ جريدة. حدَّق بي بقوة، وبدا للحظة أنه سينطلق خلفنا. وبعدما مررنا به، نظرتُ خلفي ورأيته يشغل السيارة وينطلق بها في اتجاه القرية. خمنت أنها سيارة آل بليتسو، وأن الرجل انطلق بحثًا عن سيده. لم يبدُ سائقًا عاديًّا.

كانت هذه بداية رحلتنا. كانت خطتي أن أصل إلى طريق جريت نورث رود بأقصى سرعة ممكنة — وكانت ستامفورد تبدو لي أفضل نقطة توصلني به — ثم أترك السيارة البنتلي تنهب أفضل طريق سريع في إنجلترا. لم أرَ أنه من الممكن تتبعنا بصورة جدية حتى وإن رأى ذلك السائق البغيض مغادرتنا. ولكن كان كل ما يهمني هو أن أصل إلى ليفرلو في تلك الليلة. لم يكن موضوع لوكينفار هذا من الأمور التي اعتدت على فعلها، وكنت أرغب في الانتهاء منه.

وصلنا إلى ستامفورد دون أن يعترضنا شيء، ثم انطلقنا بسرعة تتجاوز ستين ميلًا في الساعة. كان الجو في هذا الصباح حارًّا ومشرقًا، ولكن تغيَّر اتجاه الريح، واعتقدتُ أنَّ الطقس سرعان ما سيسوء. في البداية، كنت أواصل النظر إلى الخلف لأرى إن كان ثمة مَن يتبعنا، ولكني لم أرَ أي سيارة تحمل اللونين الأصفر والأسود، وسرعان ما نسيت أمرها تمامًا. كانت مشكلتنا التالية هي تناول الغداء، ولأن الطريق كان مزدحمًا بالسيارات، خشيت أننا إذا ما توقفنا عند أي فندق محترم لتناول الغداء، فقد نعلق في الزحام. سألت أنَّا عن رأيها، فقالت إنها لا تأبه لما تأكل طالما كانت ثمة كمية كافية من الطعام، فهي تتضوَّر جوعًا. توقفنا عند مكان صغير، نصف حانة ونصف مقهًى، عند قاعدة تلٍّ عالٍ على مشارف نيوآرك. وبينما كان خزان وقود سيارتي يُملأ، تناولت وجبة خفيفة مكونة من البيرة وبعض الشطائر، بينما تناولت أنَّا القهوة والكعك، الذي أكلت منه كمية كبيرة أذهلتني. كما اشتريت رطلين من الشكولاتة وصندوقًا من البسكويت، اكتشفت بعد ذلك أنها كانت خطوة موفقة.

كنا على وشك الانطلاق مرة أخرى عندما تصادف أن رفعتُ نظري نحو أعلى التل من خلفنا. يمكنني الرؤية جيدًا لمسافات بعيدة، ورأيتُ عند قمة التل، على بعد حوالي نصف ميل، سيارة تشبه السيارة الاستوتز التي رأيتها في بروتون. اختفت السيارة من أمام عيني بعد دقيقة واحدة بسبب مرور بعض السيارات أمامها، ولكني رأيتها مجددًا على مسافة تقل عن ربع ميل. لم يراودني أدنى شك في أنها السيارة نفسها التي تحمل ألوان الزنبور، ولم أعتقد أنه من الممكن أن تكون ثمة سيارة أخرى من النوع نفسه وتحمل الألوان نفسها تسير على الطريق في ذلك اليوم.

إذا كان ركاب السيارة يملكون منظارًا، وأنا على يقين من أنهم يملكون واحدًا، فلا شك في أنهم قد حدَّدوا مكاننا. قدتُ سيارتي البنتلي بأقصى سرعة جرُؤْتُ على الوصول إليها، وحاولت العثور على مخرج من هذا الموقف. فلا شك في أنهم أصبحوا يعلمون وجهتنا. ولا شك في أن سرعتهم تتجاوز سرعتنا، فقد سمعت قصصًا رائعةً عن إمكانات السيارة استوتز في هذا المضمار، وربما كانت هذه السيارة تملك إمكانات أكبر من السيارات العادية؛ لذا لم يكن من المرجح أن نتمكن من الهرب منهم. إذا ما توقفنا لقضاء الليلة في أي مدينة فسنقع تحت رحمة أولئك الأشخاص الذين قال عنهم كلانرويدن إنهم بارعون جدًّا، وسيتغلبون عليَّ بطريقةٍ أو بأخرى. ولم أجرؤ على الإقدام على مثل هذه المخاطرة. كان الطريق الذي سنقطعه والذي يمتد لمائة ميل أو نحوها يمر عبر قرًى مكتظة بالسكان، ولم أعتقد أنهم سيقدِمون على محاولة إيقافنا عليه. فسيكون الأمر محفوفًا بمخاطرة كبيرة في ظل وجود الكثير من السيارات على الطريق، كما أنهم قد لا يريدون أي مشكلات مع الشرطة أو الدخول في تحقيقات عسيرة. ولكني كنت أحفظ طرق اسكتلندا جيدًا، وكنت أعلم أني لكي أصل إلى ليفرلو، سيكون عليَّ اجتياز بعض المناطق الريفية المهجورة. حينئذٍ، ستحين فرصتهم. لم أكن أملك القدرة على مواجهة الشاب البارز الأسنان والسائق ذو المظهر المرعب. ربما سينتهي بي المطاف جثة مكسورة الجمجمة ملقاة في مصرف، وتُخطَف أنَّا.

كان شعوري الرئيسي هو إصرار قوي على الانطلاق بأقصى سرعة لكي أصل إلى ليفرلو. لم أكن قادرًا على التفوق عليهم ذكاءً أو سرعةً، ولكن لا سبيل أمامي سوى الثقة في الحظ. كان كل ميل نقطعه يقربنا أكثر من بر الأمان، وإذا كنا نقترب أكثر من المروج الشمالية، فلا بد أن أنفض هذه الفكرة عن ذهني. بادئ ذي بدء، كنت أخشى أن أُرعِب أنَّا، ولكن عندما رأيت وجهها المحمر بفعل الرياح وعينيها اللامعتين المستمتعتين، فكرت أن شيئًا لن يؤثر فيها.

قلت: «هل تذكرين السيارة التي رأيناها عند بوابات المدرسة؟ تلك السيارة ذات اللونين الأسود والأصفر؟ أعتقد أنها تتبعنا. عليكِ أن تضعي عينك عليها، فأنا أحتاج كلتا عينَي لقيادة هذه السيارة الكبيرة.»

صاحت أنَّا قائلة: «أوه، هل نحن مطارَدون؟ يا للمرح!» بعد ذلك، جلست مديرةً رأسها إلى الخلف وظلت توافيني بآخر المستجدات.

بعدما عبرنا باوتري، غمرنا المطر، المطر الغزير المنهمر الذي يشتهر به ريف الشمال. كما تعثَّرنا في شبكة من إصلاحات الطرق التي اضطررنا فيها عدة مرات إلى انتظار دورنا للمرور عبر أجزاء من الطريق لا تسمح إلا لعبور سيارة واحدة. وفي النهاية كانت السيارة الاستوتز في نفس صف السيارات مع سيارتي وتمكنت من رؤيتها بوضوح. لم يكن ثمة شك في أنها السيارة نفسها. فقد رأيت سائقها مرتديًا معطفه الأنيق الرمادي الفاتح، وهو الشخص نفسه الذي ظل يحدق بنا في بروتون. وبالطبع كان الركاب في مؤخرة السيارة خارج نطاق رؤيتي.

بعدما عبرنا بونتيفراكت، اشتد هطول المطر، وبدا من الطرق الغارقة أن كمية كبيرة من الماء قد هطلت بالفعل. كانت الساعة ما بين الرابعة والخامسة، وكنا نسير ببطء بسبب التوقفات المتتالية. لم تحاول السيارة الاستوتز الاقتراب منا رغم أنها أسرع منا بكثير، وأعتقد أني خمنت السبب. لقد فكَّر ركابها مثلما فكرت. لم يرغبوا في حدوث أي مواجهة في هذه المنطقة الريفية المزدحمة، وكانوا يعرفون أني في طريقي إلى ليفرلو، وكانوا يعرفون أيضًا أني لكي أصل إلى هناك، لا بد أن أمرَّ عبر مناطق مقفرة منعزلة. وحينئذٍ، ستلوح لهم الفرصة.

في قرية كبيرة بعد بوروبريدج، غيروا من أسلوبهم. قالت لي أنَّا: «السيارة الزنبور تكاد تلحقنا»، وسمعت فجأة صوت بوق من خلفي، كان بوق من تلك النوعية المفزعة التي يركِّبونها في سيارات السباق الفرنسية. كان الطريق واسعًا بما يكفي لأن تتخطاني السيارة. وأدركت ما يخططون له. كانوا يريدون أن يسبقوني ثم ينتظرون وصولي. ففي القريب، ستتشعب عدة طرق عبر الحدود، وكانوا يريدون أن يتأكدوا من أني لن أهرب منهم. زمجرتُ في غضب؛ فالخطة التي كنت أحاول تنفيذها قد انقلبت رأسًا على عقب.

ثم حالفنا الحظ بصورة غير متوقعة. فمن طريق جانبي، خرجت شاحنة تجارية صغيرة يقودها أحد أولئك الشباب الذين لا يرتدون قبعات والذين يتمنى أي سائق لو يراهم مشنوقين ليكونوا عبرة لغيرهم؛ فهم أخطر ما على الطريق. ومن دون تحذير، قطعت الطريق أمام السيارة الاستوتز. سمعت صيحاتٍ وصفيرَ مكابح سيارة، ولكن لم يكن ثمة وقت لأنظر خلفي، وأخبرتني أنَّا بما حدث. انحرفت السيارة الاستوتز يسارًا، وصعدت فوق الرصيف، وتوقفت وقد كادت مقدمتها تصطدم بمدخل أحد المتاجر. أما سائق الشاحنة، فلم يستطع التحكم فيها، فانزلقت شاحنته واصطدمت بعمود إنارة، ثم دارت حول نفسها واصطدمت برفرف السيارة الاستوتز الأمامي. وكان ثمة فوضى عارمة.

صاحت أنَّا: «يا إلهي، لقد شلَّ هذا حركتهم. لقد أحسن سائق شاحنة الجزارة عملًا!»

ولكنها قالت إن السيارة الاستوتز، طبقًا لما رأت، لم تتعرض لضرر بالغ. الشاحنة فقط هي التي فقدت إحدى عجلاتها. ولكنْ تجمَّع حشدٌ من الناس، وبينهم شرطي يحمل دفترًا، وفكرتُ أن الأمر برمته قد يعطلهم حوالي ربع ساعة. انطلقتُ مجددًا، وثبتُّ سرعة السيارة البنتلي على ثمانين ميلًا في الساعة على طريق ممهَّد واسع. كان أكثر ما يؤرقني هو حالة الطقس، فقد كان المطر ينهمر بشدة لدرجة أن الرؤية أصبحت سيئة، فلم أكن أرى إلا لمسافة قصيرة أمامنا، ولم تكن أنَّا ترى إلا لمسافة قصيرة خلفنا.

كان عليَّ أن أقرر أي طريق سأسلك، فقد كنا نقترب من سكوتش كورنر. إذا ما سلكت طريق نورث رود الرئيسي عبر دارلينجتون ودورام، فسأسير طوال المائة ميل التالية عبر قُرًى مكتظة بالسكان. ولكن سيبعدني هذا الطريق عن ليفرلو، وسيكون عليَّ أن أعبر وادي تويد الطويل قبل أن أصل إلى وجهتي. أما إذا انحرفت يسارًا عبر بروف إلى أبلبي، فسأكون مضطرًّا إلى عبور الأراضي المنعزلة التي ستمنح ركاب السيارة الاستوتز الفرصة التي يحتاجونها لتنفيذ مخططهم. تذكرت طريقًا ثالثًا يمر عبر قرى تعدين يعيش بها الكثير من السكان. كان طريقًا رائعًا رغم ما تقوله الخرائط عن أن القسم الأكبر منه ليس ذا جودة ممتازة. كما أنه من المحتمل أن ركاب السيارة الاستوتز لا يعرفون هذا الطريق، وإذا ما سبقتهم بمسافة كافية، فقد يفترضون أني سلكت طريق دارلينجتون أو طريق بروف. على أية حال، إذا لم يتمكنوا من اللحاق بي سريعًا، فستفشل مهمتهم. وبدا جليًّا أن هذه هي فرصتي الذهبية.

ولكن لم يُتم الحظ، متمثلًا في صورة سائق شاحنة الجزارة، عمله على الوجه الأكمل. فقد توقف المطر، وأصبح الجو صحوًا، واصطبغت السماء فوق تيسدايل بحمرة الغروب الرائعة، وبينما كنت أنحرف نحو الطريق الذي اخترته بذهن مرتاح، أخبرتني أنَّا بأن السيارة الزنبور قد ظهرت خلفنا.

قلب هذا الخبر الطاولة رأسًا على عقب، كما يُقال. لم أكن قد تمكنت من تشتيتهم بعد، وطوال نصف الساعة التالية، انطلقت بسرعة جنونية، فقد كنت أريد الخروج من المنطقة الريفية المقفرة إلى منطقة المناجم. خرقت جميع القواعد المرورية أثناء انطلاقي، ولكني تمكنت من الحفاظ على مسافة ميل أو نحوه أمامهم. كان الطريق الزلق بعد توقف الأمطار يحد من قدرة السيارة الاستوتز على الانطلاق، كما أن سائقها لم يكن يعرف الطريق مثلما أفعل أنا. كان الظلام يزحف، وكنت أعلم جيدًا أن القمر لن يظهر حتى الساعات الأولى من الصباح. وكان أملي الوحيد أن مطارِديَّ قد ينزلقون في مكان ما من وادي تاين. لقد انحرفت عن الطريق هناك مرات كثيرة، عندما كنت مولعًا بسور هادريان، وأعلم جيدًا مدى التواء الطرق عبر التلال.

وصلتُ إلى منطقة المناجم دون عقبات، وبعثَت أنوار القرى وبريق مسابك الحديد البعيد في نفسي شعورًا بالراحة لوجود أناس ومن ثَم وجود حماية. بعدما عبرنا كونسيت، خيَّم الظلام، وظننت في خوفٍ أننا على وشك الدخول إلى منطقة أراضي برية ستستمر حتى نصل إلى مشارف وادي تاين. وانتابني شعور بأن الحدث الماضي لم يكن ليحدث لو أني تمكنت من إلهاء من يطاردوننا. كان باستطاعتي رؤية المصابيح الأمامية الكبيرة للسيارة الاستوتز على بعد ميل من خلفي، ولكني كنت واثقًا من أنهم سيسرعون ويلحقون بنا عندما تلوح لهم الفرصة. أدركت يائسًا أنه يجب أن أعثر على ملاذ في خلال الدقائق العشر التالية وإلا سينتهي أمرنا.

في تلك اللحظة، وصلنا إلى تل كبير حجب مرآنا عمن خلفنا. رأيت ضوءًا باهرًا أمامي، وخرجت سيارة كبيرة من طريق جانبي ودخلت طريقنا أمامنا بمسافة قصيرة. ولاحت لي فرصة ذهبية. فعلى يساري، كان ثمة طريق صغير بدا وكأنه يؤدي إلى منزل ريفي، وينعطف إلى داخل غابة من أشجار السرو. إذا ما انحرفت إلى هذا الطريق، فسيرى ركاب السيارة الاستوتز، التي وصلت إلى قمة من خلفنا، السيارة الأخرى التي تسير بعيدًا أسفل التل وسيظنون أنها سيارتنا … لم يكن ثمة وقت لأضيعه، فأطفأت أنوار سيارتي وانحرفت إلى الطريق الريفي وسرنا حتى اختفينا خلف أشجار السرو. كنا قد وصلنا إلى مخبئنا بمشقة عندما رأيت، بطرف عيني، بريق السيارة الاستوتز فوق قمة التل، وأوقفت محرك سيارتي مباشرةً قبل مرورها بسرعة كبيرة على بعد خمسين ياردة منا نحو أسفل التل.

قالت أنَّا: «يا إلهي، يا لها من مغامرة! أين الشوكولاتة يا سيد لومبارد؟ لا شاي معنا، وأنا جائعة جدًّا.»

بينما كانت أنَّا تمضغ الشوكولاتة، أدرت محرك السيارة، وبعدما عبرنا بوابتين مكسورتَي المفصلات، وصلنا إلى مزرعة صغيرة. لم يكن ثمة أحد في المزرعة سوى امرأة مسنة أخبرتني بأننا انحرفنا عن الطريق، وهو أمر كان شديد الوضوح، وأعطتنا كوبين كبيرين من الحليب الذي حُلب من البقرة للتو. أخرجت الخريطة (أحتفظ بالكثير منها في سيارتي، لحسن الحظ) ورأيت أن خطًّا أحمر، ما يعني على الخريطة طريقًا، يستمر إلى ما بعد المزرعة ويبدو أنه يؤدي في النهاية إلى وادي تاين. لا بد أن أغتنم هذه الفرصة، فهي تبدو خطة جيدة. فكَّرت أن ركاب السيارة الاستوتز سيواصلون السير نحو أسفل التل وقد يستمرون في السير لأميال قبل أن يكتشفوا أن السيارة التي يتبعونها ليست سيارتنا. وقد يعودون للبحث عنا ويكتشفون أي طريق جانبي سلكناه، ولكن ثمة العديد من الطرق الجانبية في المنطقة، ولن يمر وقت طويل قبل أن يكتشفوا آثار إطارات سيارتنا على الطريق الريفي. وإذا ما تمكنوا من الوصول إلى المزرعة، فستخبرهم المرأة بوصولنا، وستقول لهم إننا عدنا إلى الطريق الرئيسي. تظاهرت أمامها بأننا متعجلون للعودة إلى الطريق الرئيسي. ولكن، بمجرد أن أغلقت الباب من خلفنا، عبرنا جُرنًا صغيرًا، وعثرنا على امتداد للطريق يمر عبر مرج منحدر، فهبطت المرج المنحدر، مغلقًا من خلفي جميع البوابات التي عبرتها، حتى وصلت إلى غور حيث كانت الماشية تفر من أمام مصابيحنا الأمامية، وكان علينا أن نتفادى الأغنام الناعسة.

كان الجزء الأول من الطريق سيئًا، ولكنه التحم في نهايته بطريق ريفي آخر، وشكل اندماج الطريقين الريفيين طريقًا جيدًا، مليئًا بالحصى، ولكن ذا قاعدة مضبوطة. كان جُل ما أخشاه هو أن ننقلب في أحد الجداول المائية المنتشرة في الأراضي. وبعد قليل من سيرنا، أصبحت قادرًا على زيادة سرعة السيارة، وعلى الرغم من أني توقفت كثيرًا لأطلع على الخريطة، فقد قطعنا اثني عشر ميلًا في خلال نصف ساعة. كنا في منطقة مقفرة من الريف، ولم تكن ثمة أي دلالات على وجود سكان في المنطقة سوى مرورنا من وقت لآخر بكوخ على جانب الطريق وأنوار مزرعة تقع عند سفح التل، ومررنا بعدد كبير من مشاتل أشجار السرو الصغيرة. فكَّرت أن هذه المنطقة مناسبة للحصول على قدرٍ من النوم، فلم تكن أنَّا قادرة على رفع رأسها بسبب النعاس وكنت أشعر بإرهاق شديد. توقفنا خلف أجمة من أشجار السرو، وصنعت فراشًا من غطاء السيارة من أجل أنَّا، لم يكن في الحقيقة فراشًا، فلم أحضر معي سوى غطاء السيارة الصيفي لأن الطقس في الجنوب كان حارًّا. تناولنا بعض البسكويت والشوكولاتة، ونامت الفتاة قبل أن تتمكن من ابتلاع طعامها، وألصقت نفسها إلى جواري، ولم يمر وقت طويل قبل أن ألحق بها. كنت متعبًا لدرجة أني لم أرغب في التدخين.

استيقظت في حوالي الرابعة. وكانت جميع البرك التي خلفتها الأمطار مصطبغة بلون وردي انعكس عليها من السماء، وكنت أعلم أن هذا اللون ينذر بهطول المزيد من الأمطار. أيقظت أنَّا، وغسلنا وجهينا بماء الجدول، وتناولنا المزيد من البسكويت. كان الهواء باردًا ونقيًّا، وكنا على استعداد لدفع الكثير مقابل بعض القهوة الساخنة. كان المكان هادئًا تمامًا، فلم نسمع حتى تغريد طائر أو ثغاء خروف، وانتاب كلًّا منا شعورٌ غريب. ولكننا استفدنا كثيرًا من قسط النوم الذي حصلنا عليه، وكنت واثقًا من أني تمكنت من إرباك ركاب السيارة الاستوتز. لا بد أنهم قضوا ليلة عصيبة إذا ما ذهبوا للبحث عنا في الطرق الريفية شمال دورام. وكانت خطتي الآن هي أن أتجه نحو ليفرلو مباشرةً وأن أتمنى أن يحالفني الحظ.

لم نكن نبعد كثيرًا عن وادي تاين بالقرب من هكسام. كان الصباح لا يزال صحوًا، ولكن الضباب كان يكسو سفوح التلال، وتوقعت أن تهطل الأمطار في خلال ساعة أو اثنتين. بدا أن أنَّا تشعر بالبرد، وقررت أنه يجب أن نتناول إفطارًا أفضل من ذلك الذي تناولناه. كنا نسير على طريق جيد الآن، وواصلت البحث أثناء سيرنا عن نُزل بعيد عن الأنظار. وعثرت على واحد خارج الطريق بمسافة قصيرة، ودلت مدخنته التي يتصاعد منها الدخان على أن أصحابه قد استيقظوا. انحرفت لأدخل فناء النُّزل الذي كان يقع على الجانب البعيد عن الطريق، وتعثرت وأنَّا أثناء سيرنا نحو المطبخ، فقد كان جسدانا متخشبَين بشدة. كان صاحب النُّزل رجلًا من نورثمبريا ضخم الجثة بطيء الكلام، وكانت زوجته امرأة حنون أعطتنا ماءً ساخنًا لنغتسل به ومشطًا لتمشط به أنَّا شعرها. كما وعدتنا أيضًا بأن وجبة مكونة من اللحم المقدد والبيض ستكون جاهزة في خلال ربع ساعة، وأثناء ذلك، ابتعت بضع عبوات من الوقود لأملأ خزان سيارتي. تولى صاحب النُّزل مهمة ملء خزان السيارة بينما سرت أنا حوله، لأمدد ساقيَّ، وعثرتُ على مكان تمكنت فيه من رؤية الطريق السريع.

فزعت بشدة عندما سمعت صوت سيارة كبيرة، ومرت السيارة الاستوتز بسرعة كبيرة من أمامي. وخمنت ما حدث. لقد اختفينا بلا أثر عند مستنقعات دورام، ففكر ركاب السيارة في أنه لا سبيل أمامنا إلا التوجه نحو ليفرلو، وأننا إذا ما ورطنا أنفسنا في السير على الطرقات الفرعية، فلن نتمكن من الانطلاق بسرعة كبيرة خلال الليل. لذا، عليهم أن يسبقونا ويراقبوا تقاطعات الطرق المتجهة شمالًا. ثمة تقاطع طرق أتذكره جيدًا، حيث يتفرع الطريق المتجه شمالًا عند نهر تاين الشمالي عن الطريق السريع الرئيسي الذي يمر من فوق تلال تشيفيوت مرورًا بممر كارتر بار. كان الطريقان محتملين، ولم يكن ثمة طريقٌ ثالث يمكن لسيارة ثقيلة الوزن أن تحرز تقدمًا جيدًا عليه. كانت خطتهم جيدة حقيقةً. إذا لم ننحرف عن مسارنا نحو هذا النُّزل لتناول الإفطار، كنا سنقع في أيديهم، وإذا لم أرهم يمرون، كنا سنصبح تحت رحمتهم بعد ساعة واحدة.

لم تتسبب تلك الفزعة الأولى في تثبيط همتي. بل انتابني شعور بأننا من نتحكم في مسار الأحداث، وأننا تمكنَّا من تخطي أسوأ العقبات. لم أخبر أنَّا بأمر السيارة الاستوتز، وتناولنا وجبة إفطار هائلة في هدوء. ثم تحدثت إلى صاحب النُّزل عن الريف، وأخبرني بالكثير عن الطرق الجانبية المؤدية إلى وديان تاين الشمالية الصغيرة. انطلقنا مجددًا في تمام الثامنة تحت زخات المطر، وسرعان ما انحرفنا إلى الطريق الرئيسي السريع على اليسار عبر طريق علمت أنه واحد من طرق الماشية القديمة.

قضينا الصباح بأكمله نتلمس طريقنا عبر متاهة من أسوأ الطرق في بريطانيا. كانت معي خريطتي والتوجيهات من صاحب النُّزل، ولكني توقفت عدة مرات عند المزارع الصغيرة لأسأل عن الطريق. لا بد أن أنَّا فتحت خمسين بوابة، ومررنا بأوقات شعرت فيها بأننا لن نخرج من هذه المتاهة أبدًا. يمكنني أن أخبركم بأن الموقف كان عصيبًا، ولكني بدأت الاستمتاع به، فقد شعرت بأننا انتصرنا عليهم، وكانت معنويات أنَّا في عنان السماء. كان لمرأى المروج الخضراء تأثير السحر عليها، وأخذت تغني وتلقي الشعر. وخصت طيور الكروان بالمدح ووصفتها بأنها صديقات قديمات لها، وألقت قصيدة دنماركية عنها بأعلى صوتها …

حسنًا، لقد أوشكت قصتي على نهايتها. لم نصادف السيارة الاستوتز مرة أخرى، وإلى حد علمي فهي لا تزال تجوب ممر كارتر بار جيئة وذهابًا. ولكني لم أخاطر، وعندما وصلنا إلى الطريق الرئيس شَمال وادي تاين المؤدي إلى ليدسديل، لم أسلك أقصر طريق مؤدٍّ إلى ليفرلو، والذي كان سيمر عبر نهر رول ووتر، أو عبر منطقة هرميتدج ونهر سليتريج. كنت أخشى أنه عندما لا يعثر ركاب السيارة الاستوتز على أثر لنا على طريقَي كارتر وبيلينجهام، فقد يفكرون في مراقبة الطرق القريبة من ليفرلو. فقررت أن أحضر إلى هنا من الناحية التي لن يتوقعوا أن نأتي منها. كانت الشمس ساطعة بعد منتصف النهار، وكانت فترة ما بعد ظهر رائعة. يا إلهي، أعتقد أننا قطعنا بالسيارة نصف طول الحدود. سلكنا طريق ليدل جنوبًا نحو لانجوم، ثم سلكنا طريق إسك شمالًا نحو إسكدالموير، ثم دخلنا إتريك. ولم نرَ أغلب الوقت شيئًا سوى الأغنام وشاحنة خباز صغيرة غريبة.

أنهى لومبارد قصته فاتحًا فمه عن آخره متثائبًا. ثم ابتسم في سعادة. وقال: «حان الوقت لأنام، وأستحلفكم بالله أن تتركوا هذه الفتاة تنام كما يحلو لها. يا لها من مهمة عجيبة بالنسبة إلى رجل مثلي قد تقدَّم في العمر ويعيش حياة ملؤها الهدوء والسكينة! أنا سعيد أني أديتها، ولكني لا أتخيل أن أكررها كثيرًا.»

طرحت عليه سؤالًا واحدًا. «كيف بدا سائق السيارة الاستوتز؟»

أجابني قائلًا: «لم أره جيدًا، ولكني أعتقد أني سأتعرف عليه إذا رأيته مجددًا. إنه شاب غريب المظهر. طويل القامة شديد النحول. له وجه طويل أسمر، وذقن مدببة، وعينان كعينَي قِط. يمكنني القول إنه أجنبي، وبدا لي وضيعًا إلى حدٍّ ما.»

تذكرت الرجل الذي أتى إلى فوسي بصحبة الشاب فاريندر، والذي تعرف عليه ساندي وقال إنه جاك دينجرافيل. لم نكن على يقين من مشاركته في ابتزاز هارالدسن، وكانت مهمة ساندي أن يكتشف ذلك. أصبحت أعرف الآن، وهذه المعرفة أقلقتني، فقد كان ساندي يتحدث عن هذا الرجل بجدية أقرب إلى الخوف.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤