المندوب الغائب

ولا أقصد بهذا، المندوب الغائب، بعض الرؤساء المسلمين الذين لم يحضروا المؤتمر.

إنما هو مندوب آخر، لن أنتهي من هذه الكلمة إلا وقد عرفناه.

فهذا ليس مؤتمرًا إسلاميًّا آخر يُعقد.

وليس مجرد منبر عربي إسلامي آخر سيقف كل رئيس أو ملك ليتحدث فيه حديثًا بليغًا عن «المخاطر» التي تحيق بالأمة الإسلامية وعن «التشرذم» و«الفرقة» التي أصبح عليها المسلمون اليوم، عن أحوالهم التي تدهورت، وأصبحت وسائل الإعلام العالمية وليس لها من عمل إلا نشر غسيل المسلمين على العالمين لكي يبدو قذرًا، وإلا نشر أخبار الفضائح السياسية العربية والإسلامية وملء أدمغة الرأي العام الغربي بصورة مسلم إرهابي يخفي الخناجر والمتفجرات في عمامته، ولا يتوانى عن ذبح أخيه تحقيقًا لما نطقت به طبيعته من حقد على الغرب والشرق معًا، ونزعة إلى الإرهاب والإجرام عمومًا. نفس وسائل الإعلام والاتصال التي تولت تغذية مخيلة القرن التاسع عشر والعشرين بصورة اليهودي البخيل المرابي الذي لا يتوانى عن اقتطاع جزء من لحم أي بشري وفاءً لدينه، صورة شيلوك شكسبير تاجر البندقية، لا، لقد ذهبت تلك الصورة إلى الأبد، وحلت محلها صورة يهودي حساس شديد التقوى متحضر السلوك واقف بأطفاله وشيوخه ونسائه مهددًا من قبل عربي مسلم له لحية قاتل، وأنياب سفاك، يرتدي العقال ويحمل صرة الملايين ويهدد عالم الغرب وحضارته بالفناء.

لا، ليس هذا المؤتمر مجرد منبر آخر سيقف عليه كل رئيس أو ملك يعيد شرح الفضيحة العربية والإسلامية، ويناشد الضمير العالمي أن يستيقظ و«يحن» على عالم المسلمين بقليل من الرحمة والرأفة والقروض والتأييد.

نعم أخشى ما أخشاه أن يتحول مؤتمر الرؤساء المسلمين إلى «مكلمة» ومحزنة تُلطم فيها الخدود وتُشق الجيوب على الحال المسلم المائل.

فهذا أخطر مؤتمر قمة إسلامي يُعقد.

ويُعقد في أخطر مرحلة وصل إليها العالم الإسلامي والعربي منه على وجه التحديد.

ذلك الذي بدأ فيه المسلمون يأكل بعضهم بعضًا، ويذبح بعضهم بعضًا ويدمرون بلادهم بأنفسهم وبأيديهم، ويفعلون بأوطانهم ما لم يجرؤ على فعله أي تتار أو استعمار أو مغول.

ولهذا فإني، ومعي على ما أعتقد كل من بقي لديه ذرة من إدراك ووعي وبصيرة، نرجو من مؤتمركم هذا أن يكون شيئًا آخر غير ما درجت عليه مؤتمراتكم؛ فهو ليس مؤتمر مسئولين أو حكام هذه المرة، وإنما هو مؤتمر مساءَلين، أكاد أقول مؤتمر متهمين؛ إذ أنتم بأنفسكم الذين توليتم إيصال عالمنا العربي إلى تلك الحالة التي هو عليها، فإذا كان للمسلمين أعداء هم الذين يكيلون لهم الضربات تلو الضربات، فأقسى تلك الضربات وأشدها فتكًا يأتيها منكم أنتم، من القيادات التي حضرت والتي لم تحضر.

حتى أوصلتمونا إلى مرحلة الهزيمة الكاملة.

أجل، بصراحة أيها السادة «اجتماعكم هذا» إذا وضعناه تحت عدسة الحقيقة المجردة، والواقع، والنظرة الموضوعية البحتة، اجتماعكم هذا هو اجتماع مهزومين.

الكلمة بشعة ومروعة، وأنا متأكد أن الكثيرين سيغضبون لها ومنها، وبل ربما كان رد فعلهم أشد وأقسى، ولكن الوقت أيها السادة كما قلت لم يعد وقت مجاملات، ولا وقتًا لتهوين الأمر على النفس أو الضحك والكذب عليها.

لقد كذبنا على أنفسنا، واسمحوا لي أيضًا أن أضيف كذبتم علينا طويلًا وكثيرًا، وكنا باستمرار نصدقكم، وكنا باستمرار نتلقف كلماتكم الهادرة التي تتحدث عن حتمية وقوفكم في وجه طغيان العدو، وتعهدكم أننا حتمًا منتصرون … كثيرة وطويلة هي الخطب والتصريحات والخطابات الجماهيرية المباشرة في عشرات المناسبات، الخطابات التي تنطلق بل وتجأر بتعهدكم بالحفاظ على الأرض والعرض والشعب والوطن، وكانت الأحداث تتوالى وظلت تتوالى إلى اليوم، اليوم الذي وصلنا فيه إلى مرحلة الهزيمة.

وها هو ذا اجتماعكم التاريخي يحدث تحت راية الهزيمة وليس أبدًا تحت ظل راية أخرى؛ فهو أبدًا ليس اجتماعًا تجتمع فيه على أثر انتصار ولو ضئيلًا حققناه، وليس اجتماعًا تحت ظل وضع إسلامي متأزم كالعادة ولا بُدَّ لنا من البحث عن حل لأزماته، إنما هو اجتماع، وأقولها بإيمان من آلى على نفسه ألا يخدع نفسه أبدًا أو قارئه، اجتماع يقع في ظل هزيمة عربية وإسلامية، هزيمة تكاد تكون أبشع هزائمنا في طول التاريخ وعرضه، أبشع من هزيمتنا في «بواتييه» أمام الفرنسيين، أبشع من هزيمتنا في غرناطة أمام الإسبان وضياع الأندلس، أبشع من هزيمتنا أمام جحافل المغول وقبائل آسيا التركية، أبشع من هزيمتنا من فرنسا وإنجلترا بتهامة الحرب العظمى الأولى، بل أبشع من هزيمتنا الأولى في عام ١٩٤٨ أمام إسرائيل.

•••

في أعقاب هزيمة ٤٨ بل وأثناءها حدثت لنا هزة عميقة أيقظتنا كلنا حكامًا ومحكومين، أجل كلهم استيقظوا، الحكام بعضهم فقط هو الذي استيقظ، وبدأ يدرك مدى المصيبة التي حاقت وحلت، ويعي بانتفاضة الشعوب العربية والإسلامية القادمة ولا يقف أمامها، ويحاول مع الاستعمار ضربها، كما تصرف البعض بغباء الرجعية التقليدي، ولكنه فطن لها وانضم إلى قضية التحرر الإسلامية العربية التي كانت أرض الواقع قد بدأت تدمدم بها. أما أولئك الذين سدروا في غفوتهم وغفلتهم فقد أطاحت بهم عجلة التاريخ حين حركها الشعب الإسلامي وتحرك بها، ووقفت الشعوب الإسلامية العربية تنفض عن نفسها الغيبوبة التي كان يبقينا الاستعمار الإنجليزي والفرنسي تحت تأثيرها، وهبت أممنا من باكستان في أقصى الشرق، إلى المغرب الدار البيضاء، تدرك أن هزيمة ٤٨ إنما هي هزيمة أنظمة وحكام طال تعاونهم مع الإنجليز والفرنسيين والغرب بشكل عام … وقامت ثورة ٢٣ يوليو، ثورة الشعب المصري العربي المسلم تعزل الملك الذي خان قضيتها وجعلها تدخل الحرب بأسلحة فاسدة وتقبل الهدنة الخائنة التي حدثت أثناء معركة ٤٨ ليتحول الانتصار الذي حققته جيوشنا العربية الباسلة إلى هزيمة عسكرية، وإلى تدشين قيام دولة إسرائيل بالعالم كاملًا، بغربه وشرقه، يعترف بها وبشرعية اقتطاعها معظم فلسطين واعتبارها دولة شرعية لها كل حقوق أعرق الدول، وليس عليها أبدًا أي واجب من واجباتها.

وعادت جيوشنا التي كتفوها بالهزيمة إلى بلادنا لتدرك أن عدوًّا جديدًا لم تكن قد عملت له ولوجوده حسابًا، وكان كفاحها، وكانت كلمة الاستعمار حتى تقولها أو تدركها تعني فقط الاستعمار الغربي المجسد في الاحتلال العسكري بقواعده وقوته وعتاده.

أدركت جيوشنا ومن ثم شعوبنا أن الاستعمار قد غرس بيده شيئًا قال هو عنه إنه دولة وقلنا نحن عنه إنه دولة مزعومة. وأكدت لنا قيادة ما تبقى من الجبهة الفلسطينية الوطنية أنها لن تبدأ حتى تلقي بتلك الدولة المزعومة في البحر وتعيد الأرض المغتصبة إلى أصحابها وتنتزع هذه الشوكة المسمومة التي غرستها قوًى متآمرة كثيرة في قلب وطننا.

وبرغم أننا كلنا رحنا نتحدث عن هزيمة ٤٨ وعن ضرورة وحتمية نشوب معركة جديدة تنتصر فيها الأمة العربية المسلمة، التي كانت لا تزال هي الحامية والراعية للقدس الشريفة موطن كل الأديان وكعبة كل المؤمنين، رغم أننا رحنا «نتحدث» عن الهزيمة، إلا أن القليلين جدًّا هم الذين وعوا حجم تلك الهزيمة ونظروا إلى أبعد من كونها معركة عسكرية هُزمت فيها سبعة جيوش عربية، فقط نتيجة النظم المهترئة التي أثبتت فشلها في أول اشتباك عسكري مع عدو كان جيشه لا يزال في حكم العصابات الإرهابية التي بالكاد توحدت وانضمت، وبارجون تشفاي ليومي والهاجاناه، تشكل ما سوف يصبح اسمه بعد هذا جيش الدفاع الإسرائيلي، وما سوف يثبت أنه ليس مجرد جيش للدفاع عن مجتمع صغير ضعيف من المهاجرين الأوروبيين اليهود، إنما هو في الحقيقة ميلاد أخطر قوة استعمارية — لم تقد — وإنما زُرعت وصُنعت من قلب منطقتنا نفسها وأيضًا في قلبها.

فكما أثبتت الوثائق بعد هذا لم يكن اختيار فلسطين لتكون قاعدة للاستعمار الاستيطاني القادم عبثًا؛ لقد اخْتِيرَتْ لتشطر الأمة الإسلامية بشكل عام والأمة العربية بشكل خاص إلى شطرَين كبيرَين، تمهيدًا للتشطير والتقطيع والتجزيء والتشرذم، والهزيمة الكاملة القادمة. ولو كان الوجود الإسرائيلي قد بقي على هيئة إسرائيل ٤٨ بالضفة الغربية وجزء من الشرقية عربية وكذلك قطاع غزة وصحراء النقب والقدس، لما عاشت إسرائيل، ولماتت كما تموت الشتلة، إذا نُقلت إلى أرض غريبة وبقيت على حالها، عملاق الشعب المصري يخرج من القمقم المحلي الذي حبسوه في داخله طويلًا، القمقم الذي كان يؤمن بأن مصر بلد فرعوني التاريخ لا يمت بصلة في أهدافه وتوجهاته إلى البلاد العربية، وحتى إلى آسيا وأفريقيا، وأن تطلعه علميًّا وفلسفيًّا وحضاريًّا لا بُدَّ أن يتجه عبر البحر المتوسط إلى الشمال الأنجلوساكسوني ومن ثم الأمريكي. عملاق هائل خرج يغلي بفلسفة الثورة الجديدة المؤمنة بعروبة مصر وانتمائها الإسلامي الكامل وجذورها الضاربة في أفريقيا وآسيا، وتطلعاتها إلى وحدة عربية شاملة مع شقيقاتها العربيات، ووجود إسلامي عالمي يضمها إلى الإطار الإسلامي الأوسع الذي يجمع الشعوب المسلمة في آسيا وأفريقيا من شمال وجنوب شرقي آسيا إلى أفريقيا بشمالها وجنوبها ووسطها، وكل هذا العالم سواء في دائرته الأكثر صغرًا، الدائرة العربية أو دائرته الأكثر كبرًا، دائرته الإسلامية مركزها مصر، هي بمثابة القلب منه وهي الرابطة بين شرقه وغربه وبين أفريقيته وآسيويته وعالمه الثالث كله.

أجل شيئًا فشيئًا بدأت تتكشف ملامح المؤامرة الكبرى على العرب والإسلام اللذين يشكلان العمود الفقري للعالم الآسيوي والأفريقي الثالث، يتكشف أن اختيار إسرائيل — حتى ولو أنهم حاولوا إخفاءه بالشعارات التي لا تتوقف على أرض الميعاد وشعب الله المختار وحائط المبكى والحق التاريخي — يتكشف أن السبب الأهم يكمن في أنه من مثل هذا الموقع الذي اخْتِير لتقوم عليه إسرائيل يمكن دق إسفين قاتل في قلب الأمة العربية أولًا ثم العالم الإسلامي ثانيًا ثم العالم الآسيوي الأفريقي الثالث كله ثالثًا.

ولكن العقبة الكبرى أمام هذا الإسفين كانت واضحة وجلية لكل ذي عينين، مصر؛ إن وجود مصر الدائرة القومية المعادية للغرب الاستعماري، مصر العربية المسلمة غير المنحازة القائدة والمثل والمثال أمام شعوب آسيا وأفريقيا والعالم الثالث. وجود مصر، بهذه الخطورة في الموقع والمكانة وبتلك القوة التي بدأت تتبدى، هذا الوجود خطر رهيب على المشروع الإسرائيلي الأمريكي الاستعماري كله، يهدد بوأده والقضاء عليه.

ولهذا كان الهدف الأول طبيعيًّا ومنطقيًّا جدًّا، إن فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية لم تتكشف عن شعوب عربية وإسلامية أطاحت بالاستعمار القديم جانبًا وتطمح إلى وجود مستقبل مستقل متين، ولكن ثبت أن تلك البلاد تمتلك في جوف أرضها أعظم كنز عرفه تاريخ البشر؛ كنز الطاقة البترولية التي يعتمد وسوف يعتمد عليها الغرب خلال — على الأقل — الأعوام المائة القادمة لكي يعيش ويصنع ويتدفأ ويأكل ويحيا ويرى؛ كنز تحيا فوقه شعوب عربية إسلامية «متخلفة» لولا مصر التي كانت قد قطعت شوطًا طويلًا في طريق التقدم.

فهل معقول أن يترك الغرب الإسرائيلي الاستعماري وضعًا كهذا قائمًا؛ إن معناه ببساطة أن يسلم الغرب روحه و«زمارة رقبته» للعرب وللمسلمين ولرأسهم القائد والمدبر والقادر على إقرار «كادر» دفاعي تكنولوجي عامل مدرَّب يعمل من أجل أن تقبض البلاد العربية على ثروتها وأن تصبح ليس سادس بل ربما ثالث قوة عالمية.

إذن لا بُدَّ من ضرب مصر.

ولتكن تلك الضربة موجَّهة في نفس الوقت إلى العلاقات بين مصر وتلك البلاد العربية المسلمة من ناحية، ومن ناحية أخرى ضربة موجهة إلى العلاقات بين البلاد العربية نفسها وبين بعضها البعض، ثم بين البلاد العربية وبقية الكتلة الإسلامية الكبرى، ثم داخل الكتلة الإسلامية نفسها.

وتاريخ العرب الحديث كله، تاريخ مصر وتاريخ السعودية، والكويت والعراق والمغرب والجزائر وليبيا وموريتانيا، تاريخ باكستان وأفغانستان وحتى الصومال والسودان والحبشة … هذا التاريخ كله بداية من أواخر الخمسينيات وإلى الآن هو شريط سينمائي واحد متعدد الفصول والأبطال، هذا صحيح، ولكنه تطبيق حرفي لسيناريو هدفه في النهاية ضرب القوة العربية والإسلامية الصاعدة والاستيلاء على مقدراتها وثرواتها وتأخيرها تكنولوجيًّا وحضاريًّا إلى أسوأ مدى، ولتكن البداية هي ضرب رأس الرمح الذي يهدد بتجميع هذه القوى وتكاتفها وتآزرها … مصر.

وامسك معي أية بداية خيط وأي حدث سياسي أو عسكري وأي عراك عربي أو إسلامي أو إسلامي عربي أو إسلامي إسلامي أو عربي عربي، وتتبع هذا الخيط فستجده يوصلك دائمًا إلى الكابل الرئيسي للخطة، ضرب العمود الماسك بين المشرق والمغرب العربيَّيْن الواصل ما بين باكستان وماليزيا الرابط بين الرباط وموريتانيا ونيجيريا وحتى المسلمين في جنوب أفريقيا. ولم يكن السيناريو سيناريو تافهًا ككثير من سيناريوهات وروايات السينما المصرية أو الهندية التجارية … كان سيناريو متقنًا جدًّا ومحسوبًا جدًّا ومدروسة كل تفصيلة فيه، دراسة خبراء كبار ودكاترة في علم قهر الشعوب.

ورثت أمريكا وإسرائيل كل الملف العربي الإسلامي الذي كانت قد جمعته وظلت تحتفظ به فرنسا وبريطانيا وهولندا وحتى ألمانيا للمنطقة والاتجاهات الدينية والطائفية والمذهبية وتاريخ كل هذا وذاك، تاريخ العلاقات والحزازات العرقية والقبائلية والأحقاد ونقاط الضعف ومفاتيح التفجير … درست هذه الملفات كلها وذاكرتها ووعتها ثم بعقلية متقدمة جدًّا ودائبة جدًّا لا تيأس ولا تغفو راحت أمريكا الإسرائيلية وإسرائيل الأمريكية تنفذ المخطط لحظة بلحظة ودقيقة بدقيقة وتفصيلة بتفصيلة، مع الاستعداد الفوري لتنفيذ الخطط الجاهزة البديلة إذا حدث متغير غير متوقع.

•••

والمضحك المؤلم المخجل أننا جميعًا اشتركنا في تمثيل هذا المخطط وإنجاح الرواية، كلنا رغم أنوفنا في أحيان وبغفلتنا في معظم الأحيان وبغبائنا دائمًا وبانعدام الرؤية وقصور التفكير؛ ذلك أن التفكير والتدبير في مجتمعاتنا يحتكره الحكام، ولأن همهم الشاغل الأوحد هو المحافظة على كراسيهم، فإن الإحاطة بالرواية الرهيبة كلها ودورهم هم حتى فيها لم يكن محل تفكيرهم أبدًا، زد على هذا أننا مجتمعات تفكر — إذا فكرت — بعواطفها، ولو حاول أحدنا إعمال تفكيره انهالت عليه الاتهامات أحيانًا، الاتهامات المغرضة العميلة كي تشوهه، وأحيانًا اتهامات الطيبين ذوي النيات الحسنة الأغبياء تمامًا غير المدركين ماذا يفعلون أو ماذا يُراد بهم وبنا، غير واعين أننا نقوم بالدور كأي «كومبارس» أو ممثل ثانوي، ولا يعرف ولا يحيط بكل الرواية ولا يرى منها إلا ذلك الجزء الصغير الضيق القادر على رؤيته، بل والمعتمد على غفلته ليؤديه وببراعة الجاهل يفعل. حتى «عتاولة» الثوريين ضد أمريكا ونفوذها عهد إليهم هم الآخرون بأدوار ما، أدوار لم يُلَقَّنوها، هذا صحيح، ولكنها أدوار ردود الفعل المحسوبة؛ فمثلًا حين تريد أمريكا أو إسرائيل أن تجعل العقيد القذافي يخدم هدفها فهي لا تذهب «بعبط» وتطلب منه أن يفعل كذا أو كيت، ولكنها تجعل مصر مثلًا أو السعودية بناءً على معلومات خاطئة أو مخطأة تفعل هذا الشيء أو ذاك، وتكون هي عارفة تمامًا أن مصر أو السعودية أو السودان إذا فعلت كذا فإن رد فعل العقيد سيكون «كيت»، وهو بالضبط ما تريده هي لتأخذ من فعلته حجة لتقوم هي في هذه الدولة أو تلك أو حتى على مستوى العالم بعمل هذه الشيء أو ذاك.

والأمثلة كثيرة وبالآلاف، ألم يرد الرئيس السادات بنفسه أنه قبض على عصابة من عملاء ليبيا كانت تنفذ مؤامرة لاغتياله وأنهم ضبطوا في أماكنهم وفي جيوبهم الخطط والأسماء والاتصالات والمخازن التي أخفوا فيها الأسلحة؟ لم يلحظ أبدًا أي أحد أن السادات قال بعد هذا إنه علم بأمر تلك الخطط من السلطات المغربية، ومن أين علمت السلطات المغربية بالخطة؟ اتضح باعتراف بيجين نفسه أن المخابرات الإسرائيلية هي التي «عَرَفَتْ» بها أولًا وحارت كيف تخبر السادات بها والعلاقات كانت في قمة تأزمها بين مصر وإسرائيل، فوجد بيجين ومخابراته أن خير طريقة لإخبار السادات هي الإفضاء للمخابرات المغربية بالمعلومات، وأعتقد أن بيجين في هذه النقطة كان يكذب؛ لأن سبب لجوئه للمغرب هو لكي تأتي الأخبار للسادات من مصدر لا يشك فيه؛ إذ لو عرف أن المصدر إسرائيل لشك في الحال، وهكذا وصلت المعلومات إلى السلطات المصرية التي قامت بالقبض على المتآمرين في حالة تلبس أو شروع تلبس، ويومها اشتعل السادات غضبًا وقال عن القذافي: والله لن يفلت من يدي.

وفعلًا أصدر السادات أمره باختراق الحدود الليبية واختيار ٢٣ يوليو بالذات وقاعدة جمال عبد الناصر ليضربها ويدمرها انتقامًا لمؤامرة اغتياله. ولماذا نذهب بعيدًا؟ إن معظم المعارك الطائفية التي تدور في لبنان معارك مدبرة بحيث كلما هدأت الأحوال بين هذه الطائفة أو تلك فُوجئنا بعربة ملغمة تنسف في الحي الشرقي من بيروت أو الغربي، وتقوم قيامة الانتقام، وتلغيم السيارات من الناحية الأخرى … وهكذا وهكذا بين أمل والمقاومة، أقول: كانت حرب ٥٦ ثم حرب ٦٧ المدبرة بإحكام أشد، ثم ثغرة الدفرسوار بعد العبور المنتصر، ثم زيارة القدس وما أسفرت عنه من نجاح ساحق في مقاطعة الدول العربية والإسلامية لمصر، ليس مصر الرسمية فقط وإنما مصر بمؤسساتها ومكانتها ودورها … إلى حد وصل إلى طرد مصر من المؤتمر الإسلامي نفسه، مصر الأزهر، مصر محمد عبده والمراغي والإمام الشافعي، مصر الحسين والسيدة زينب ورفاعة الطهطاوي وهيكل وأحمد أمين … طردها من عضوية المؤتمر الإسلامي أي طردها ﮐ «دولة» من ملة الإسلام نفسه وزمرة المسلمين.

كان النجاح ساحقًا وأكثر مما حلمت به إسرائيل وأمريكا، وبقيت في العالم العربي الإسلامي قوتان رهيبتان لا يقلان خطرًا وأهمية عن مصر: بقيت إيران المسلمة الثائرة الخارج شعبها من قمقم السافاك والإمبراطور، والعراق التي بدأت تتوحد وتقوى وتصل إلى مرحلة المفاعلات النووية والتقدم التكنولوجي الخطر؛ فكان لا بُدَّ من ضربهما معًا.

ونحن في عالم لم يعد سهلًا أن تأتي بضع سفن أو طائرات بريطانية أو فرنسية أو أمريكية وتغزو وتضرب هكذا، على مرأى ومسمع من العالم، دولة عربية كانت أو غير عربية؛ فنحن لسنا في قرن الاستعمار العسكري الواضح: القرن التاسع عشر، وإن كانت أمريكا قد بدأت تعود بالدنيا إليه وتحتل جرينادا وتضرب بأسطولها طرابلس وليبيا أيضًا في وضح النهار وفي الربع الأخير من القرن العشرين.

ولهذا كان الأروع والأوفق أن تجعل العرب يقضون بأنفسهم على أنفسهم أو أن تجعل المسلمين هم أنفسهم الذين يذبحون المسلمين.

والمضحك المبكي أني أقرأ بحوثًا كثيرة ومطولة حول من بدأ بالعدوان على الآخر أهي العراق أو إيران، مع أن مسألة إشعال فتنة أو تحريض طرف على طرف ليست مشكلة أبدًا في العصر التخابري المتقدم جدًّا؛ ذلك الذي تمر به المخابرات الأمريكية والإسرائيلية. إن تسريب معلومات خاطئة للعراق عن إيران أو العكس، وعن طريق طرف ثالث عربي أو إسلامي حسَن النية مدسوسة عليه المعلومات، ليست مشكلة أبدًا أن يحدث شيء كهذا؛ ففي مثل هذه الظروف التي يخوضها عالمنا العربي والإسلامي، والذي بلغت فيه الثقوب في أنظمة وأجهزة مخابراته ودفاعه أقصى مداها من الاتساع والعدد، من الممكن أن تعبث بأي دولة فيه كما تشاء، وتثير من العداوات بين أي دولتَيْن كما تشاء.

لقد ذكر لنا الرئيس مبارك أثناء لقائه بالكُتاب في معرض الكتاب أنه فوجئ بالإذاعات السورية الموجَّهة وأجهزة الإعلام تشن حملةً مفاجئة على النظام المصري، وتطالب بعدم شرعية عودة مصر إلى المؤتمر الإسلامي، في حين أن المسائل كانت في طريقها إلى التحسن والتقارب بين مصر وسوريا، بل وبين الرئيس حافظ الأسد شخصيًّا وبين الرئيس مبارك. والحقُّ وأنا أستمع إليه كانت الفكرة التي أوردها هنا تفسِّر لي ببساطةٍ كل شيء، فهل كان معقولًا أن تترك إسرائيل الأمريكية وأمريكا الإسرائيلية المسائل والمياه تعود إلى مجاريها ويحدث لقاء واحد أدنى من اللقاء بين سوريا ومصر مرة أخرى؟ كان لا بُدَّ من إيقاف هذا وبأي ثمن؛ فالنجاح الذي لاقاه الكُتاب المثقفون والفنانون المصريون في سوريا والسوريون في مصر نجاح خطير، ومقدمة لا بُدَّ لحوار على مستوًى سياسي يبدأ ويحل عقدًا كثيرة جمَّدتها القطيعة الكاملة بين القاهرة ودمشق؛ ولهذا كما قلت كان لا بُدَّ من إيقاف هذا «العبث» فالمخطط لا بُدَّ أن يمضي إلى النهاية، وداخل هذا المخطط لا بُدَّ أن تبقى القاهرة مقاطعة تمامًا من طرابلس ودمشق ومن اليمن الجنوبي بحيث تبقى منظمة التحرير مُقاطَعة هي الأخرى، وبحيث يبقى الاشتباك اللبناني الشيعي قائمًا في لبنان وحرب المخيمات لا تتوقف وتُحال القضية الفلسطينية لمخزن المحفوظات؛ فخط التمزيق والتحارب والحروب العربية العربية والإسلامية العربية والإسلامية الإسلامية لا بُدَّ أن يظل مستمرًّا ومستمرًّا؛ فلا تزال هناك بقية شبه سليمة من الجسد الإسلامي العربي، بقية لا تزال حية تنبض ولا بُدَّ من استمرار الخطة حتى يذبح هذا الجسد الإسلامي العربي نفسه ذبحًا كاملًا وتامًّا.

•••

والآن أيها السادة المجتمعون.

أعتقد أني لا أكتب هنا شيئًا جديدًا ولا أزعم أني أزفُّ اكتشافًا لم يكن أحد يعرف عنه شيئًا … كلنا حكامًا ومحكومين نعرف أن هناك خطة لتمزيقنا وإبادتنا، وأن هذه الحروب المشتعلة في هذا الجزء من العالم — لاحظوا أنه لا توجد حروب في العالم إلا في منطقتنا الإسلامية العربية، أو حتى أمريكا اللاتينية لا توجد بها إلا حروب عصابات محدودة — هذه الحروب المشتعلة في جزئنا من العالم لم تشعل نفسها أبدًا، ولا كان اشتعالها مصادفة ولا استمرارها مصادفةً أيضًا؛ فقد ثبت أن أمريكا ضالعة في إرسال أسلحة إلى إيران، كما هي ضالعة في تضليل العراق، ولا توجد دولة في العالم تصِفها أمريكا بأنها إرهابية إلا ثلاث دول، و«بالمصادفات المحضة كلها دول إسلامية، حتى جنوب أفريقيا لا تعتبرها أمريكا — وإن كان العالم كله يعتبرها كذلك — إرهابية.»

إن أمريكا الإسرائيلية وإسرائيل الأمريكية؛ بمعنًى آخر الاستعمار العالمي الجديد ليس مشغولًا بتدخين المارجوانا، وهو يعرف أنكم مجتمعون في الكويت، وأنكم لو خرجتم من اجتماعكم هذا بإجماع إسلامي، ولو على أبسط وأهون الأسباب؛ فإن في هذا خطرًا عليه وعلى مخططه كل الخطر، فلا بُدَّ لهذا الاجتماع إذن أن يفسد ومن داخله يفسد؛ بمعنًى آخر لا بُدَّ أن تنتقل الحرب الحقيقية الدائرة رحاها في شط العرب ولبنان لا بُدَّ أن تنتقل إلى قلب مؤتمركم في الكويت، بحيث تتولون أنتم بأنفسكم؛ إذ لا يوجد ممثل رسمي لإسرائيل الأمريكية وأمريكا الإسرائيلية في المؤتمر؛ إذ المهمة متروكة للمؤتمرين أنفسهم في تحقيق أهداف أي طموحات إسرائيلية أمريكية بيدٍ مسلمة ولسانٍ مسلم وفعلٍ يجري باسم الإسلام.

هذا المندوب الغائب سيكون — لو علمتم الحقيقة — حاضرًا بأكثر خطورة مما لو كان له مقعد واسم ولافتة ويمثِّل دولة، سيحاول هذا المندوب الغائب أن يشعل نيران الحروب الصغيرة التي تخصَّص فيها وبرع، وسيهرِّب متفجرات الحرب داخل حقائب السمسونايت مهما بالغتم في تفتيشها إلكترونيًّا؛ وذلك لتفتيت هدفكم الأوحد الكبير؛ ألا وهو حماية عالمنا العربي من التمزق والانتحار. تفتيت هذا الهدف إلى أهداف تافهة صغيرة وكثيرة تربككم وتربكنا، وتجعلنا نخرج من المؤتمر بخلافات وحزازات أكثر بكثير من التي دخلنا بها. سيفعل المندوب هذا والأدهى أنكم ستساعدونه كالعادة إذا تقمصتم نفس الأدوار التي تتقمصونها خارج المؤتمر.

•••

وعلى هذا، فأمامكم أمران لا ثالث لهما:
  • إما أن تكونوا على علم تام بخطورة ما يقوم به أعداء الإسلام والمسلمين والعرب باعتبارهم العمود الفقري للعالم الثالث الذي يعاديه ذلك الاستعمار العالمي الطاغي. إما أن تكونوا على علم بأنهم يأخذون عداواتهم لنا جدًّا لا هزال فيه ولا يكُّفون ثانية واحدة في طعننا بهذا الخنجر أو ذاك. وفي هذه الحالة في حالة علمكم تدركون خطورة الموقف والوضع وموقف الحياة أو الموت الذي نقفه هذه الأيام، وتأخذون ليس قرارات وإنما أفعالًا جادة للدفاع عن أنفسنا وحتى — كحكام — عن انقسام وإما …

  • وإما أنكم لا تعلمون، وهذه كارثة، أو تعلمون وتخافون في وجه المخطط، كي يحافظ كل منكم على وضعه، بعيدًا عن الشر ويغني له، وعلى هذا تمضون قدمًا في نفس الاتجاهات التي تدور خارج المؤتمر، وعلى هداها تدور الحروب ويدور إفناء العالم الإسلامي لنفسه ذاتيًّا.

فإذا فعلتم هذا …

وأرجو أن لا تفعلوه.

لأن معناه مصيبة أعظم، ومن الشعوب العربية هذه المرة ستحيق — لا قدر الله — بكم الكارثة والضربة، ولأننا حريصون عليكم حكامًا ورؤساء وملوكًا وأمراء ورموزًا لوجودنا وعقيدتنا وحياتنا … فنرجوكم أن تفعلوا مثلنا وتحرصوا على أنفسكم من أن تصبحوا أدوات للاستعمار ومخالب قطط لتنفيذ مخططاته، في هذه الحالة عليكم أن تحرصوا على أنفسكم منا نحن؛ فللصبر حدود.

والشعوب إذا أرادت الحياة يستجيب القدر.

ونحن نريد، بإرادة الله، الحياة، حتى لو أردتم أنتم غير هذا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤