اللص ذو الأقدام الكبيرة

بشق الأنفس، ولظروف شخصية قاهرة، فقد كان لي ابن يعاني منذ صغره بحالة ربو نتيجة لحساسية جسده الشديدة لتغيرات النفس، وبالذات في الصيف، حيث كنا أحيانًا نستدعي له عربات الإسعاف حين تزداد الحالة ويكاد يتوقف عن التنفس، كان لا بُدَّ أن آخذ شقة في منطقة المعمورة بالذات لكي تقضي فيها العائلة، وبالذات ابني بهاء، شهرَين على الأقل في السنة، يوليو وأغسطس، وأحيانًا بعضًا من سبتمبر، وفي أول الأمر، في منتصف الستينيات كان الموضوع لا يشغل أمرًا صعبًا أو مستحيلًا؛ إذ كنا نحن مجموعة من الكتاب قد تعودنا أن نأخذ شاليهات للتصييف في بورسعيد، ورغم أن إيجار الشاليه المفروض كان فيما أذكر لا يتعدى الستين جنيهًا، إلا أنها كانت أقصى ما نستطيع دفعه من النقود في ذلك الحين، والحق أننا كنا مجموعة متكاملة تمامًا؛ فمن أستاذ علم الحكي والكلام والصحافة المرحوم سامي داود، إلى رائد فكرة الشعبية في الأدب والفن المرحوم أحمد رشدي صالح، إلى وحيد زمانه الولد الشقي محمود السعدني، إلى موسى صبري ذلك الحين، إلى الزميل الكبير حلمي سلام، إلى من لم تعد تعيه الذاكرة من أسماء، زمن جميل، الآفاق مفتحة، والمستقبل تحوم حماماته وترفرف كحمامات صلاح جاهين، ومصر انتفضت وتمضي قدمًا بعد ملحمة ٥٦ ومجدها وحربها وخروجنا ظافرين، وظللنا هكذا إلى أن قامت حرب ٦٧، وأُبيد نصف بورسعيد، واحتلت قوات الجيش شققه وشاليهاته، واضطررنا اضطرارًا للذهاب إلى الإسكندرية، وكانت النقلة باهظة على ميزانيتنا؛ إذ كان على العائلة منا أن تدفع مائة جنيه بأكملها في شقة مفروشة، ويا له من مبلغ باهظ في ذلك الحين.

المهم أن المائة أصبحت بعد عامَين مائتَين ثم ثلاثمائة، وبدأ «ربو» بهاء يتفاقم والمدة التي يجب أن نقضيها تطول، وحينذاك، وكنا جاوزنا منتصف السبعينيات وجدت نفسي مضطرًّا إلى تأجير شقة في الإسكندرية للعام كله أو … وهذا هو المستحيل بعينه، الحصول على شقة تمليك.

كان ثمة طبقة جديدة قد بدأت تزحف، وكالجراد الممتلئة حيوية بنقود وافرة، تزحف وتقتني كل شيء، وكانت شركة المعمورة تطرح كل عام حوالي خمسين شقة، كان سعر الواحدة منها ثمانية آلاف جنيه، وبالكامل كانت الطبقات الصاعدة مع الحكم الساداتي والانفتاح الجديد تأخذها كلها، نقدًا وعلى الفور، وذهبت إلى رئيس شركة المعمورة في ذلك الوقت وقلت له: أريد شقة. فقال: قدم طلبًا، وأنت وحظك، إذا أصابتك القرعة دفعت ثمنها وأخذتها. وكان معنى هذا بصريح العبارة أنني لا بُدَّ أن أعتمد على الحظ في شراء الشقة، وثانيًا، وهذا هو المستحيل بعينه: أن أدفع ثمنها في الحال، ولم يفد أي نقاش مع رئيس الشركة، حتى وأنا أذكره أنه مع أنه رئيس مجلس إدارة أو حتى لو كان وزيرًا فإن ماهيته لا تسمح له أبدًا باقتناء شقة بهذا السعر في ذلك الوقت (عام ٧٨)، وخرجت وأنا محبط أشد ما يكون الإحباط، ولكنَّ موظفًا ابن حلال في الشركة لحقني على السلم وقال لي إنني ممكن أن أحصل على شقة بالتقسيط، وكيف يكون هذا يا عم؟ قال: أنتم ناس كتاب ومتصلون، اذهب إلى وزير الإسكان وقدم طلبًا، ولن يدخلوك القرعة وإنما «سيخصصون» لك شقة، وسيقسطون لك ثمنها على عشر سنوات. وبدا كما لو أن المسألة قد فُرجت، وفعلًا ذهبت، وقابلت الوزير، وقدمت الطلب، وقابلني الرجل بكل ما يملك من ترحاب ولطف، ولكنه أفهمني بطريقة يفهمها كل لبيب أن الشقق التخصيص تأتي قائمتها من رئاسة الجمهورية مباشرةً، وبالطبع رفضت الفكرة رفضًا باتًّا أول الأمر؛ فأنا أبدًا لم أتعود أن أطلب من رئيس الدولة، أي رئيس دولة، شيئًا خاصًّا بي، حتى لو كان الأمر يتعلق برئتَي ابني، وصرفت النظر عن الموضوع، وعدت إلى القاهرة. وبعد ثلاثة أيام حدثت للولد أزمة نقلناه ليلتها في عربة إسعاف إلى مستشفى الشبراوي، ولحسن حظي أنا أسكن قريبًا من مستشفى الزميل العزيز الدكتور محمد الشبراويشي الذي أقام لنا في أول الأمر مستشفى صغيرًا في الدقي ما لبث أن توسع، ولحسن الحظ لم يلحقه التأميم، وأصبح يجمع كل التخصصات ويقدم كل أنواع الخدمات الطبية وبأسعار في مقدرة موظف قطاع عام مثلي، شيء يُعتبر نعمة في الوقت الذي كانت المستشفيات الحكومية قد ساءت الخدمة فيها، وقل الدواء، وإن كانت لا تزال تحتفظ بأساتذتها الكبار، وقضى بهاء ثلاثة أيام بأكملها وهو بالكاد يستطيع أن يلتقط النفس، ونصحني الدكتور حسن حسني أستاذ امراض الصدر وابن عمي في الوقت نفسه أن لا بُدَّ لبهاء أن يقضي أشهر الصيف القائظة وبالذات يوليو وأغسطس في الإسكندرية، أو رأس البر، وكانت بورسعيد لم تعد صالحة للإقامة أو قضاء الصيف، وكنت في ذلك الوقت أكتب مقالات دائبة النقد للحكومة وللدولة، ولكن تحت إلحاح المرض فإن أي أب في الدنيا يضرب عرض الحائط بأي اعتبار آخر، وهكذا ذهبت إلى المعمورة، وكتبت طلبًا للرئيس السادات، شارحًا ظروف بهاء، وبمنتهى حسن النية، إن لم يكن السذاجة، سلمت الطلب لضابط الحرس الجمهوري الواقف على باب الحديقة الفاصلة بين المعمورة وبين فيلات الرئيسَين عبد الناصر والسادات.

والحق أني فُوجئت بعد يومَين أو ثلاثة بتليفون من موظف في الرئاسة يقول لي إن الرئيس السادات قد أمر بأن يُدرج اسمي ضمن من تُخصص لهم شقق من كبار موظفي الدولة والرئاسة، وأن يُقسط ثمنها كما هو الحال بالنسبة للآخرين، وشكرت للرجل مروءته، فقد تصورت أنه أدرك أن الأثرياء من تجار الخردة والخيش لا يمكن أن يستولوا على كل المتاح من الشمس والبحر والهواء، بحيث لا يبقى ثمة ثقب إبرة لكاتب أو شاعر أو عالم أو موظف يفني عمره وحياته في خدمة بلاده، ولا يستطيع أن يملك أو يستمتع بصيف أو ببحر أو بهواء.

وكنا قد وصلنا شهر أكتوبر والعائلة — عائلتي — كلها سعيدة بأن مشكلة بهاء قد حُلت، وأنه أبدًا أبدًا لن تتكرر مأساة كتم أنفاسه كل صيف. في ذلك الشهر أُقيم الاحتفال السنوي بعيد العلم، ذلك الذي تُوزَّع فيه الأنواط والجوائز، ودُعيت لحضوره، وجلست ومعي الفنان الكبير صلاح طاهر نشاهد فقرات الحفل، وفي الاستراحة فُوجئت بالأستاذ فوزي عبد الحافظ سكرتير الرئيس السادات يأتي لي حيث كنا أنا وصلاح نقف، وينتحي بي جانبًا ويقول لي: إن الرئيس قد سحب منك الشقة، أي شقة؟ شقة المعمورة واستغربت تمامًا وسألت: لماذا؟ قال: ألم تكتب مقالًا في الأسبوع الماضي عنوانه: مطلوب واحد قانون؟ قلت: نعم، قال ما دمت تريد تطبيق القانون فقد قرر الرئيس أن يطبقه عليك ويسحب منك التخصيص. والحق أني أحسست بشيء كالغثيان، إنني أعرف أن معارف وأصدقاء للرئاسة وللمحافظ مخصصة لهم عشرات الشقق، وهل معنى أن أكتب مقالًا أطالب فيه بأن يسري القانون على الكبير والصغير، دون أي استثناء أن أُعاقب بمنع الهواء عن صدر ابني؟ مع أن التخصيص قانوني ويترك للمحافظ وللرئاسة نسبة تصل إلى ٢٥٪ من الشقق المعروضة لبيعها مباشرةً دون إدخالها نظام القرعة، قلت له: يا سيدي إذا كان القانون سيسود في مصر بإلغاء تخصيص الشقة لي، وسيصبح كل شيء في البلد على ما يُرام فأهلًا به من إجراء، وأرجوك أن تبلغ شكري للرئيس على هذا الإجراء «العادل».

والحق أن شخصية الرئيس السادات كإنسان أو كبطل تراجيدي أو درامي لم تنل حظها من التأليف، فقد كانت تلك «العملة» أصغر كثيرًا من حجم رئيس الجمهورية بل ولم تفلح في عقابي أو إسكاتي، فقد مضيت أكتب مقالات من أمثال: تعالوا ننظف مصر، وتعالوا ننظف مصر ثانية، أقول: لا يزال الرئيس السادات لم يُكتب عن شخصيته وعن تصرفاته كما يجب، فبعد أقل من ١٥ يومًا يبدو أنه كان قد راجع نفسه ووجد أنه تصرف بما لا يليق به ككبير للعائلة المصرية، وأن إجراء سحب الشقة مني لا يؤذي إلا ابني الصغير الذي لا حول له ولا قوة؛ إذ وجدت في البريد خطابًا من مكتب نائب الرئيس السيد محمد حسني مبارك يستدعيني لمقابلته بقصر العروبة، وكانت تلك أول مرة أقابله فيها، وقال لي إن الرئيس السادات حول الأمر إليه، وأنه ستُخصص لنا شقة في العام القادم، ومعنى هذا أنها ستزيد بمقدار أربعة آلاف جنيه، لم يتولَّ السيد النائب هذا، ولكن عرفته فيما بعدُ، ولم يكن مهمًّا حتى لو كلفني الأمر ما كلفني طالما أنني لن أستيقظ أبدًا على «شخير» ولدي حتى تُكتم أنفاسه ليلًا.

المهم، حصلنا في النهاية على الشقة، وما زلت من أيامها أدفع ثمنها بالتقسيط إلى الآن، وهي نفسها الشقة التي سُرقت في رمضان الماضي، ولكن لا أكتب عنها لأروي القصة، أو لأستعرض حادث السرقة، ولكني أكتب من الموضوع لسبب قد لا يخطر على البال مطلقًا.

فقد دق لي عبد العظيم البواب ذات صباح رمضاني تليفونًا من الإسكندرية قائلًا إنه اكتشف أن لصًّا اقتحم الشقة وطلب مني الحضور لمعرفة ما سُرق منها، وذهبنا على عجل إلى هناك، وفحصنا الشقة، ولم نجد شيئًا ثمينًا أو ذا بال قد سُرق منها، فماذا يمكن أن يُوجد في شقة مصيف إلا بضعة كراسي أو شماسي وملابس صيف؟ الذي أدهشني حقًّا أن أثمن ما سرقه اللص كان أنبوبتَيْ بوتاجاز، وكانا، نظرًا لوجودهما في فراندة صغيرة ملحقة بالمطبخ هما السبب الذي من أجله كسر اللص «شيش» البلكونة، ودخل الشقة وأخذ الأنبوبتَين، مع راديو كاسيت، ومروحة، وأشياء من هذا القبيل …

وأخذت أتأمل حادث السرقة تأملًا أعمق بكثير من مجرد كونه حادث سرقة، فمسألة أن يكسر لص باب شقة أو يقتحم نافذتها ممكن أن تحدث، ولكن أن يكون الدافع إلى السرقة، الدافع الوحيد، هو أنبوبتا بوتاجاز فارغتان، مسألة غريبة فعلًا، إنسان يعرض نفسه لأن يُضبط متلبسًا بجناية أو جنحة سرقة واقتحام بيت من أجل الاستيلاء على أنبوبتَيْ بوتاجاز مسألة قد تدعو في ظاهرها للضحك، ولكن في حقيقتها لا بُدَّ أن تدعو للرثاء، فحتى اللصوص قد أصابتهم الأزمة الاقتصادية وأصبحت مسألة أن يُعرِّض إنسان منهم نفسه للسجن من أجل أنبوبة بوتاجاز لا يتعدى ثمنها الثلاثين جنيهًا مسألة واردة.

أبلغت البوليس بالطبع وجاء ضابط المباحث، وجاء «بوكس» فيه أربعة مخبرين، ومفتش من إدارة السرقات بمديرية أمن الإسكندرية، وجاء فنيون من المعمل الجنائي ورفعوا البصمات، وكانت النتيجة أن عاد ضابط المباحث ومخبروها بعدد من البوابين ليستجوبوهم، وما كاد الموكب يمضي حتى وجدت نساء البوابين وبناتهم وأولادهم يتقاطرون على الشقة، وكذلك بعض رجال المنطقة ويستعطفونني لأتوسط لهم في الإفراج عن أزواجهم في تلك الأيام الرمضانية الكريمة، وكان يستعطفونني ونظراتهم تحرجني، وكأني قد أصبحت أنا الجاني وليس المجني عليه المسروقة شقته، ووجدتني أقضي يومَين في الإسكندرية رغم مشاغلي الكثيرة فقط للتوسط للإفراج عن البوابين وأمري إلى الله، وحين نجحت أخيرًا في هذا عدت إلى القاهرة بخفَّيْ حنين، أو في حقيقة الأمر بدون خفَّيْ حنين، وهذا هو ما غاظني حقًّا، فرغم أن الحصول على أنبوبتَيْ بوتاجاز وجدته أمرًا مستحيلًا فلا توجد في الإسكندرية كلها أنبوبة بوتاجاز واحدة، ورغم سرقة وسام الجمهورية وأشياء لها قيمة معنوية كبيرة، إلا أن ما أحزنني ولا يزال يحزنني هو أن اللص قد سرق حذائي ماركة «باتا» الذي كنت أعتز به كثيرًا؛ ذلك أن مقاس قدمي ٤٦، وفي الصيف لا أطيق ارتداء الجورب، وكنت أستبدل الحذاء والجورب بما يُسمى «سباتري» ولعامَين متتاليَين وأنا أبحث عن سباتري على قدر مقاسي دون أن أعثر له على أثر، حتى إني ذهبت إلى بورسعيد خصيصًا لاحتمال أن أجد هذا المقاس هناك، وعدت دون أن أعثر للمقاس على أثر، إلى أن ذهبت إلى شركة باتا في الإسكندرية وسألت البائع عن المقاس، فقال لي إن آخر مقاسات يصنعونها لا تتعدى ٤٤، وبالصدفة البحتة كان رئيس الشركة الأستاذ عادل يمر، وحين عرف المشكلة ابتسم لي ابتسامة مصرية محببة وقال: سنصنع لك «سباتري» مخصوصًا، وطبعًا استنكرت أن يفعل هذا فقال لي: إنه لا يفعله استثناءً ولكن هناك بعض المواطنين المصريين أحجام أقدامهم عريضة من الأمام مثل أقدامي ومنهم محافظ القاهرة الصديق يوسف صبري أبو طالب ووزير الخزانة السابق الدكتور سلطان أبو علي يعانون من نفس المشكلة؛ ومن أجل هذا صنع قالبًا مخصوصًا لهذه الحالات الشاذة، وأيضًا للمواطنين الذين يدوخون الدوخات السبع ولا يجدون مقاسهم. وما أروع وأسعد اللحظة التي عدت فيها بعد يومَين فوجدت زوجَين من الإسباتريهات لا يتجاوز ثمن الواحد منها سبعة جنيهات، وحين جربتهما أحسست براحة لم أحس بها منذ زمن طويل، حتى إني كنت لا أكاد أخلع أيهما من قدمي، بل بهما أستطيع أن ألف اليابان كلها وجنوب شرقي آسيا، وبدونهما لم أكن أستطيع أن أتحرك أكثر من بضعة أمتار، وكنت أتركهما في الإسكندرية، والطامة الكبرى أني وجدت أن اللص قد استولى عليهما مع أنه كانت توجد أسفل الدولاب أحذية جلدية أغلى وأكثر أناقة.

إذن اللص كان يعاني مثلي من كِبر القدمَين ولا بُدَّ أنه فرح فرحة عمره بالعثور عليهما إذ كان ممكنًا أن يأخذ من الشقة أشياء أخرى، ولكن فرحته جعلته يكتفي بهذه الغنيمة، وأنبوبتَي البوتاجاز اقتحم من أجلهما الشقة، ولولا أنني وأنا في طريقي للقاهرة مررت على إدارة شركة باتا ورئيس مجلس إدارتها وقصصت عليه القصة فطمأنني أن القالب الكبير لا زال عندهم، وأنه يمكنني أن أحصل على سباتريهات أخرى لكانت تعاستي ستبقى إلى أبد الآبدين، وبالمرة تفرجت على إدارة ومصانع شركة باتا بالإسكندرية، وهي شركة قطاع عام، لولاها، ولولا أسعارها الرخيصة لمشى نصف المصريين حفاة، ومع هذا فهي تحقق ربحًا مجزيًا تمامًا، وتكاد في نظافة مبناها ومصانعها تعادل إن لم تتفوق على بعض مصانع القطاع الخاص، ومن هذه الجولة اكتشفت أن مشكلة القطاع العام ليست مشكلة اقتصادية أو عمالة زائدة أو كل تلك الأسباب التي نقرؤها صباح مساء، إنها مشكلة إدارة أولًا وثانيًا وثالثًا، أعطني مديرًا يحب عمله ويتقنه ويشيع تلك الروح في موظفيه وعماله يعطِك قطاعًا عامًّا ناجحًا، أما الشركات والهيئات الفاشلة فسببها الأوحد في رأيي أننا نعين فيها أناسًا لا يبحثون إلا عن شكليات الوظيفة وفخامة المكتب ونوع جهاز التكييف والتليفونات ذات النغمات الموسيقية. إنني أقترح على الدكتور محمد عبد الوهاب وزير الصناعة أن يأخذ مديري شركات القطاع العام الخاسرة في جولة على شركاته الناجحة، ويريهم على الطبيعة لماذا ينجح الناجح ولماذا تفسد بعض الشركات وتخسر.

إني أعدل إجابتي التي قلتها ردًّا على سؤال ضابط مباحث قسم المنتزه: هل تتهم أحدًا معينًا بسرقة شقتك؟

ساعتها قلت له: بصراحة أنا لا أتهم أحدًا بالمرة.

اليوم أقول له: آسف يا حضرة الضابط إني أتهم لصًّا ذا أقدام كبيرة مقاسها ٤٦، ابحث لي أرجوك في لصوص الإسكندرية والمعمورة البلد بالذات عن رجل أو شاب مقاس أقدامه ٤٦ وستجد ضالتك المنشودة.

أقمنا مصيفًا سياحيًّا فاخرًا على أرض المعمورة وبقيت في وسطه تمامًا عزبة مليئة بضجة الميكروفونات والإزعاجات إلى ما بعد أذان الفجر، وفي أول الأمر حين كان سكان تلك العزبة من الفلاحين والزراع الذين يعتمدون في أكل عيشهم على أشجار الجوافة، وزراعة الخضروات أسفلها، كانوا أناسًا طيبين وفقراء، ولكن ذممهم وقيمهم كانت مضرب المثل حقًّا، حتى إن حادثة سرقة واحدة لم تسجل منذ إنشاء المعمورة إلى ما قبل عدة سنوات، حين حدث الانفتاح الأهوج وامتلأت المعمورة بالطبقات الثرية الجديدة التي لا عمل لشبابها إلا ركوب سيارات آبائهم المرسيدس وضغط الفرامل بكل قسوة، والطلوع بالسيارة «أمريكاني»، بل حتى صبيتهم يزودونهم بموتوسيكلات مزعجة الصوت ذُهلت تمامًا حين عرفت أن ثمن الواحد منها لا يقل عن الألفي جنيه، يركبه صبي في العاشرة، ويزعج البنات والأولاد راكبي الدراجات والسائرين على الأقدام، والراديوهات مفتوحة على الآخر وأغاني عدوية وسحر حمدي بأعلى صوت وعلى ودنه. فسد الصيف كمنتجع هادئ، وفسدت أيضًا ذمم قاطني العزبة الذين بدأت تطلعاتهم الطبقية تتأجج والحصول على النقود ولو حتى باقتحام شقة وسرقة أنبوبة بوتاجاز حادثًا عاديًّا تمامًا لا يستغرب له أحد.

أما أنت أيها اللص ذو الأقدام الكبيرة، فإذا كنت تستمتع بالحذاء وقد أراح قدمَيك فإني مستعد أن أسامحك وأرجو الله أن يغفر لك شريطة أن تعيد لنا أنبوبة بوتاجاز بأي سعر تحدده، وأقسم لك أني لن أفعلها أبدًا وأبلغ عنك البوليس، فكيف يبلغ الإنسان عن رفيق أقدام وزميل دفعة واحدة، دفعة ٤٦ التي منها سلطان أبو علي ويوسف صبري أبو طالب؟!

ويسميها انتهاكات الكلمة!

من حق كل زميل في جريدة أن يعلق أو ينقد ما يكتبه زميل أو كاتب آخر، أما أن يلوي هذا الزميل كلام زميله ويخرج به إلى عكس معناه ويسمح لنفسه بعد هذا أن يرد على الكلام المغلوط الذي اختلقه فهذا ليس من حقه فقط، ولكنه يتنافى مع أبسط مبادئ السلوك البشري، فما بالك إذا كان هذا الزميل ممن يزعمون أنهم من حملة راية السلوك الإسلامي القويم، ويكذب هذا الانتهاك الصارخ للحقيقة تحت عنوان — يا للجرأة — انتهاكات الكلمة.

في مفكرة سابقة كتبت أرصد التناقض الذي أصبح صارخًا بين علو صوت الميكروفونات المتشنجة الداعية إلى الإسلام، وبين خفوت صوت الضمير، في حين كان المفروض في ظل ازدهار الدعوى للتدين أن تترسب هذه الدعوة على هيئة قيم ومبادئ وسلوك إسلامي قويم، فجاء الزميل ليقول إنني أهاجم التدين وألمز المتدينين وأستنكر ظاهرة تنامي الوعي الديني، فهل ممكن أن يفسر عاقل كلامي هذا الذي قلته على أني أستنكر ظاهرة تنامي الوعي الديني أم أني أستنكر علة نبرة الوعظ والتهديد والوعيد، والفارق بينهما كبير، فنحن جميعًا مع تنامي الوعي الديني؛ لأنه الطريقة الوحيدة لترسيخ المبادئ والقيم وتقويم السلوك، أما الميكروفونية التي تزعج الناس وتشوش على تلقيهم وتأملهم لما يُقال، فلا علاقة بينها وبين تنامي الوعي، إلا إذا كان الوعي عند الزميل هو القرين لغلظة أصوات الميكروفونات.

أنا لا أريد أن أسأل الزميل بأي حق ينصب من نفسه المدافع الأوحد عن الإسلام بعد سنوات قضاها يعمل بعيدًا في البلاد الغنية، بينما نحن هنا نناضل بشراسة من أجل الحفاظ على تديننا الحق وقيمنا الإسلامية الحقيقية، وبأي حق يسمح لنفسه أن يختلق كلامًا على لسان كاتب قرأ كلمة — في نفس الجريدة — كل الناس وكلهم شهود عليها.

إن الدعوة للإسلام دعوة حق وقائلها لا بُدَّ أن يتحلى بالصدق والتمسك بقول الحق؛ إذ إن الالتواء والإلواء لا بُدَّ أن يفقده صفة الداعية مهما حاول أن يتسربل بها.

ويكفي هذا الآن.

الهزيمة الثالثة

حسن جدَّا، فتورنا سببه موقف احتجاج لا واعٍ على كثير، إن لم يكن كل شيء، مما يجري حولنا موقف احتجاج يدفعنا للإضراب غير المعلن بالطريقة التقليدية من اجتماعات ولافتات وهتافات وخطب، ولكن، كما ابتكر العمال الفرنسيون أثناء احتلال ألمانيا الهتلرية لفرنسا خلال الحرب العالمية الثانية، ابتكروا فكرة العمل ببطء؛ إذ لم يكونوا في موقف أو لديهم القدرة على الإضراب العلني أو الامتناع عن العمل؛ إذ كان الجستابو الرهيب وقوات العاصفة ستتولى ضربهم وتحطيمهم وتخريب المجتمع الفرنسي تمامًا، وهكذا ابتكروا فكرة أن يعملوا وفي نفس الوقت، وفي الحقيقة، لا يعملون؛ فالعمل الذي يمكن الانتهاء منه في ساعة يأخذون يومًا بأكمله لإنهائه.

ولكن هذا كان من عمل وابتكار قيادة الشعب الفرنسي المغلوب على أمره، قيادة المقاومة الفرنسية ومفكري وفلاسفة هذه المقاومة، وهي كما نرى فكرة ليست في غاية الذكاء فقط، وفيها تعجيز شبه كامل لعملية إنتاج الذخيرة والمعدات العسكرية التي كانت تطلبها وتحتاجها آلة الحرب الألمانية الهتلرية، ولكن فيها أيضًا — وهذا هو المهم — فكرة ألا تطلب من الناس العاديين، عمالًا كانوا أم فلاحين أم حرفيين أم متعلمين، ألا تطلب منهم شيئًا يعجزون عن تنفيذه، أو يؤدي تنفيذهم إياه إلى تعريض هؤلاء الناس للخطر وللتهلكة.

ولو كانت قياداتنا العربية، خاصةً تلك القيادات التي تدعي الثورية القصوى والصمود والتصدي وتنادي بالقضاء قضاءً مبرمًا على إسرائيل مهما امتدت واستطالت فترة الحرب والتصدي، ولو كان هؤلاء الناس قد ذاكروا التاريخ، وبالذات تاريخ الشعوب التي قاومت أعداءها ومستعمريها، لأخذوا مما فعلته قيادة حركة المقاومة الفرنسية السرية، درسًا.

فالناس العاديون ليسوا بالضرورة والسلفية والوراثة مخلوقات خارقة البطولة أو هكذا يجب أن تكون، وأيضًا الأبطال لا يُصْنعون بالقسر والأمر والقوة، البطولة عند الإنسان العادي تنشأ بالتاريخ الشديد، وبالتصعيد خطوة خطوة، ونتيجة اصطدامات بالعدو يتبدى من خلالها، وبوضوح ظاهر، أن الملاينة أو الاستكانة أو غض الطرف لم تكن كلها تجدي، والنتيجة أن الإنسان العادي، وبمنطقه العادي، يصل إلى اقتناع جازم أنه إذا استمر على منواله المستسلم المسالم فإنه لا محالة هالك، فإن لم يكن بالضرورة هو شخصيًّا، فأولاده وإخوته وأقرباؤه لا محالة هالكون. هنا يصل المواطن إلى درجة اليأس من الحل الاستسلامي الكامل، ويبدأ يقاوم، فيُضرِب، ويحسمها، فيجد أنه إذا استسلم لضربة رد الفعل فإن ضربًا مبرحًا آخر ينتظره؛ ولهذا فإن الأسلم له والحل «المعقول» الأصح هو أن يرد الضربة، فإذا فعل رد العدو عليه بضربة أقوى، ويحسبها مرة أخرى ليجد أن لا سبيل لأي حل آخر، فشيء من اثنين: إما أن يتراجع تراجعًا كاملًا فيُعامَل معاملة الكلاب النجسة التي لا تليق بأي آدمي، وإما أن يستمر يقول لا، وقد يُعذَّب لقولها ويُنكَّل به، ولكن هذا لن يشكل مشكلة؛ فالعذاب والهوان نتيجة الملاينة سيستوي معه العذاب والهوان نتيجة المقاومة، وبالضرورة سيختار المقاومة.

هكذا يصعد الإنسان العادي سلم البطولة، ومن مستوى سطح الأرض والمعيشة، خطوة فخطوة يجد نفسه مضطرًّا لأن يصمد كل حين خطوة، وإلا هانت عليه نفسه وقُضيَ على كيانه المعنوي قضاءً تامًّا مع الموت الجسدي.

أقول: لو كان قادتنا الثوار العظماء المتحمسون لمعركة لا ينال فيها أحدهم أذى، ولا تُخدش له إصبع، وإنما يموت فيها الناس البسطاء العاديون، ويفرون هم هاربين في آخر لحظة، أو حتى قبل آخر لحظة، لو كان هؤلاء القواد العظام قد أدركوا حقيقة الطبيعة البشرية، وطبيعة دور القائد أو القيادة من أنها تسبق القاعدة بخطوة واحدة لا تزيد، فلا تطلب من الشعب أبدًا أن يقفز قفزة أكبر بكثير من قدراته العضلية أو الإرادية، وإنما القائد الثوري الحقيقي هو الذي يطلب من قاعدته الشيء أو الخطوة التي يرى ويرى الناس معه أنها ممكن أن تتحقق، فإذا تحققت فإن الشعب يتعلم اولًا أنه يستطيع الخطو — وذلك في حد ذاته إنجاز عظيم — وثانيًا يثق في أنه قادر على خطوة تالية مقبلة، وثالثًا، وهذا هو الأهم، يثق ثقة عضوية ملموسة في قيادته، ويعرف أنها تدرك إمكاناته، ولا تطالبه بما لا طاقة لها به، وأنها في النهاية تعمل لمصلحته وليس لمصلحتها أو لتضخيم ذاتها.

ولو كنا كقادة عرب، أو مصريين بالذات، قد وعينا هذا الدرس لأدركنا أن القوات المسلحة وحدها، ولا فرق الصاعقة ولا المخابرات، ولا حتى كل احتياطي جيوشنا كفيل بأن يحسم معركتنا مع الاستعمار ومع إسرائيل، فنحن كنا لا نحارب دولة أو جارة، وإنما نحارب أخطبوطًا ضاربًا بآلاف سيقانه ومخالبه في كل أرجاء الأرض، وأن لا يقدر على هذا الأخطبوط إلا الشعب كله، ليس الشعب المصري وحده، ولكن الشعب العربي وشعوب العالم الثالث كلها، ولكنا قد فعلنا كما فعلت المقاومة الفرنسية، وبدأنا نعلم شعوبنا خطوات ممكنة محدودة ليقوموا بدور في المعركة، دور لا يمكن أن يعطي للعدو فرصة لتوجيه ضربة ساحقة إلى جماهير بالكاد بدأت تعرف العدو من الصديق، وعن طريق الخطوة الصغيرة إثر الخطوة الصغيرة يتصاعد الدور ويشتد عود الإنسان الفرد والإنسان الشعب والمجتمع، ويتعلم أن عليه أن يقوم بدور ما، وأن القيام به أمر ممكن، وهكذا نصل إلى اللحظة التي يمكن فيها أن نقوم بعمل جماعي كبير مرة واحدة وفي لحظة واحدة؛ إذ حتى لو لم يؤدِّ هذا العمل إلى دحر كامل للعدو وانتصار كامل لنا، فإن فشلنا فيه لن يشتت شملنا، وما دمنا قد ذقنا متعة الكفاح معًا، والثقة بأنفسنا معًا، فإن التاريخ سيعيد نفسه وأن لا نكل حتى ننتصر.

إن نجاح ثورة ١٩ مرجعه إلى أن المطلب الشعبي فيها بدًا بسيطًا جدًّا وممكنًا جدًّا، وقانونيًّا جدًّا ولا غبار عليه، أن يجمع الشعب توقيعات يوكل فيها قادة ثورة ١٩ بأن ينوبوا عن الشعب في مفاوضة الإنجليز.

وكانت النتيجة أن شباب الوفد حين قام بجمع توقيعات وبصمات الملايين على تلك العرائض، قد جند — وهو يدري أو حتى دون أن يدري — كل من وقع أو بصم على العريضة للحركة الوطنية، وجعله يحس أنه «ساهم» وأن له دورًا، وهكذا حين رد الإنجليز بنفي سعد زغلول ورفاقه، صعد الشعب في كفاحه خطوة، وأعلن الإضراب، وكانت المظاهرات، وحين رد الإنجليز بالقوة الغاشمة وبالعساكر الاستراليين وقد ركبوا بغالهم وانهالوا على الناس ضربًا وتقتيلًا، بدأت قيادات الوفد تفكر، بل وتكوِّن، جيشًا شعبيًّا مسلحًا يقاوم هذا العدوان المسلح.

وحين نما إلى علم الإنجليز هذا الذي بدأ يحدث، والإنجليز قوم أذكياء لهم باعهم الطويل وتجاربهم في مقاومة الحركات الوطنية، بدءوا يدركون أنهم سائرون في طريق ماحق الخطر سينتهي حتمًا بمعركة مسلحة عليهم أن يخوضوها ضد شعب كامل مسلح، وكان أن أفرجوا عن سعد زغلول وقبلوا رياسته لوفد المفاوضات.

•••

تلك مقدمة قد طالت وأطلتها عن عمد لأهميتها، فمن الواضح أن شعبنا المصري وحكومتنا المصرية يعاني كلاهما أزمة حكم، فلا الشعب يريد أن يعود إلى الحكم الذي جرى حتى في أمجد أيام ثورة عبد الناصر، ولا هو يريد أبدًا حتى لو قامت المجازر أن يعود إلى حكم كحكم السادات، وفي العالم العربي حوله يرى غير هذَين النموذجَين حكومات قامت على التعصب الديني الأعمى أو الحكم العسكري الديكتاتوري وكلها نماذج، جربنا بعضها، ونقرأ الكثير عن المآسي التي تنشب من ورائها، ولقد رحب الشعب بزوال العهد الساداتي، وفتح أبواب آماله مرحبًا بمجيء مبارك إلى الحكم، على اعتبار أنه لن يكرر كثيرًا من أخطاء عبد الناصر في عنفوان حكمه، لن يفكر أبدًا في أن يحكم على النسق الساداتي، وفعلًا، جاء مبارك تزفه تلك الآمال ويزفها هو إلى الشعب، ولم تكن مصادفة أبدًا أن كان أول عمل سياسي داخلي يقوم به أن يفرج عن آلاف المعتقلين، بل ويقابلهم في القصر الجمهوري مقابلة ترضية خاطر وما يشبه الاعتذار عما فعله سلفه، وانتخبنا، في إجماع حقيقي لأول مرة، حسني مبارك رئيسًا، وسرت في الشعب روح أمل جديدة، خاصةً وقد بدأ حكم مبارك يمسك بتلابيب لصوص عصر السادات ورموز فساده ويحاكمهم ويسمح للمعارضة باستعادة أحزابها وجرائدها وبكم أوسع من الحرية، وما لبث أن أعقب هذا بالتفاتة ود إلى الدول العربية التي انتهزت فرصة ما فعله السادات وقطعت كل ما بينها وبين — ليست القاهرة الرسمية فقط ولكن — الشعب المصري كله، بنقاباته وتنظيماته وهيئاته.

وبدأ مبارك بمنظمة التحرير، وتلك كانت بداية هامة جدًّا، وفي بضعة شهور كان عرفات في القاهرة، وكانت قيادة المنظمة توافق على دوام الاتصال مع مصر والتعاون معها، ثم جاء دور الأردن، ودول الخليج، وحدثت محاولات مع ليبيا وسوريا، وبدا كما لو أن الأرض التي فقدتها مصر في عهد السادات عربيًّا تُسترد شبرًا شبرًا، وبلدًا بلدًا … حتى ليكاد الإنسان وهو يراجع سياسة مبارك العربية لا يجد إلا أقل القليل من المشاكل والأخطاء، وكلها موروثة بكليتها من القيود التي قيدها بنا الرئيس السادات، بتلك العلاقات الخاصة جدًّا مع أمريكا، وبالتعاون الاستراتيجي الإسرائيلي الأمريكي الذي في ظله لن تستطيع مصر وحدها أن تجابه ذلك التحدي، ولكني شخصيًّا أعتقد أن تلك القيود أمور موقوتة تمامًا، وأن باستعادة مصر لقدرتها وقوتها الذاتية، واستعادة الالتفاف العربي حول مصر ومع مصر، سوف يتغير الحال حتى بدون قتال.

فالمضحك أن بعض البلاد العربية «الصامدة والرافضة» تتصور أن كامب ديفيد لا تزال هي السبب في المصائب التي حلت والتي لا تزال تحل بالأمة العربية جمعاء، وهو قول يبعث حقًّا على الرثاء؛ فلم يحدث في تاريخ العالم أن تسببت معاهدة — مهما كانت بنود تلك المعاهدة — في تفرقة أمة بأسرها وتمزيقها نتفًا. إن كامب ديفيد كارثة هذا صحيح، كارثة بكل معنى الكلمة، ولكن كامب ديفيد هي الجزء الظاهر الصغير من جبل الثلج المختفي تحت سطح الماء والذي تعانيه أمتنا العربية.

لقد حولت كامب ديفيد انتصار أكتوبر العسكري إلى هزيمة سياسية، حتى لو كانت قد أدت إلى تحرير سيناء، فقد كان ثمن تحرير سيناء هو عزل مصر عربيًّا وإسلاميًّا وأفريقيًّا وآسيويًّا، وهو ثمن فادح، ولكن كل بلد عربي قد قام بما يشبه كامب ديفيد بل وربما أسوا: فغرق الجيش السوري في الوضع اللبناني إلى درجة الشلل التام الذي ألغى فاعلية سوريا، والوقيعة بين العراق وإيران إلى حد إراقة كم من الدماء لم يُرَقْ في كل التاريخ الإسلامي بين دولتَين إسلاميتَين، وتشويه سمعة العرب بإلصاق تهمة الإرهاب بليبيا وضربها على مرأى ومسمع من العالم، دون أن تستطيع دولة عربية أو غير عربية أن تصنع شيئًا إزاء هذا الإرهاب الريجاني الإجرامي، والاشتباك الليبي التشادي، والصومالي الحبشي، والسوداني-السوداني، والشيعي الفلسطيني الماروني الدرزي السني، والمؤامرة على سعر البترول والنزول به من حيث كان ٣٤ دولارًا للبرميل إلى سبعة وعشرة دولارات (تلك التي سميتها مذبحة صابر وشاتيلا البترولية)، ضرب المفاعل النووي العراقي، وضرب الكوماندوز المصريين واختطاف الكرامة المصرية الطائرة واتهام مسئوليها — علنًا وعلى الملأ — بالكذب، ثم أخيرًا هذا العمل الإجرامي الكبير بتزويد إيران بأسلحة عبر إسرائيل، وإعطاء العراق معلومات خاطئة عن أهداف إيرانية كاذبة، والوقيعة بين الفصائل المتقاتلة في لبنان، بحيث إذا هدأت الأحوال بين أمل والمنظمة فُجِّرَت سيارة ملغمة في قرية شيعية ليظن أن الفلسطينيين هم الذين فعلوها، أو يحدث العكس ويُفَجَّر صاروخ أو لغم في مخيم فلسطيني لتقوم القيامة بين اللبنانيين الشيعيين والفلسطينيين. إن تشويه سمعة العرب ومحاولة دمغ سوريا بأنها دولة إرهابية، وكذلك ليبيا، وفي نفس الوقت التعامل مع ما سماه كارتر وريجان الدولة الإرهابية الأولى في العالم، إيران، ثم بالغش والخديعة والفجور إرسال أرباح الأسلحة المباعة لإيران عبر إسرائيل إلى المناهضين للحكومة الشرعية في نيكاراجوا، أي ضرب العالم الثالث بالعالم الثالث، كلها أعمال ليست فقط غير أخلاقية، وغير إنسانية، ولكنها أعمال مافيا مجرمة محترفة آلت على نفسها أن تسيطر على العالم بالقوة الغاشمة، وأن تنفق مئات المليارات من الدولارات لإشعال حرب ذرية يفنى بها العالم الاشتراكي والعالم الثالث، وإغراق دول الجنوب الفقيرة بمئات المليارات من الدولارات كديون، وفي نفس الوقت خسف الأرض بأسعار منتجاتها التصديرية لتبقى مغروسة في وحل الدين والفقر والمرض والفاقة إلى آذانها.

كل هذا تفعله دولة أفلتت كالوحش الكاسر من قفص السلوك البشري، وانطلقت أسودها ونمورها وثعابينها وكلابها تنهش وتقتل وتحرض وتقهر وتستأصل أي قيمة بشرية أو إنسانية وأي شريعة من شرائع الله، تبشر بكل ما يزخر به قاموس الشيطان من موبقات، لقد أُتيح لي أن أشهد بعض أحدث إنتاج هوليوود من الأفلام، وفوق أنها كلها دعاية في غاية الذكاء، والعبقرية لشعب الله «المختار»، المختار ليلعب أسوأ دور لعبه شعب في تاريخ البشر، فإنها تقطع الجذور العميقة التي تربط الإنسان الفرد او الشعب بجنس البشر، وكان هدفها الأسمى أن تحول الكرة الأرضية إلى غابة متوحشة لا يسري فيها أي قانون، حتى لو كان قانون الغابة نفسها حيث البقاء للأقوى، إنما البقاء فيها للأحط وللأخس وللشاذ وللأناني والخيبة والفشل والضياع، وكل من يحاول أن يتحلى بصفة واحدة من صفات الإنس أو حتى الوحش.

•••

لا يمكن أن يكون هذا كله قد حدث لأن مصر لا تزال ملتزمة، حكوميًّا فقط، بكامب ديفيد، فإذا كان لكل شيء سيئ جانبه الحسن؛ فالجانب الحسن في كامب ديفيد أنها أقنعت إسرائيل وأمريكا أن أي معاهدة صلح أو اعتراف تُوقَّع مع أي حكومة عربية على حدة، أو مع عدة حكومات عربية، ولا يكون العدل والحق هما أساسا توقيعها، فهي لا تساوي المداد الذي كُتِبَت به، وآلاف السياح الإسرائيليين يأتون إلى مصر، وما يرونه في عيون الناس، وما يقرءونه في تعبيرات وجوههم، يؤكد لهم بالدليل القاطع أن صلح حكومة مع حكومة لا قيمة له بالمرة، أما الشعوب فهي لا تقبل إلا الصلح العادل، وطالما أن إسرائيل باغية ومعتدية وملتهمة لفلسطين كلها، ولاعبة دور الشيطان في المنطقة فإن أحلامها في الصلح هي أضغاث أحلام، وغربتها في المنطقة ستظل تتعانق مع الزمن؛ إذ الزمن باستمرار العدوان هو مع تعميق العدوان وفي النهاية انفجاره.

كل ما في الأمر أن هناك شيئًا واحدًا لا بُدَّ أن نملك الشجاعة لقوله والاعتراف به: إنَّ ما نراه في ساحتنا العربية من تمزق وتشرذم وانعدام إرادة وتفتت كلمة وقرار، إنَّ ما نراه يحدث في منطقتنا منذ عام ١٩٧٩ إلى الآن إنْ هو إلا علامات هزيمة غير معلنة، أقولها مرة أخرى: علامات هزيمة غير معلنة.

والهزيمة أبدا ليست كارثة، وكلمة الزعيم الصيني الكبير صن يات صن لا تزال ترن في أذني حين فشلت ثورته ضد الاحتلال الياباني فقال: ليس هذا سوى فشلنا أو هزيمتنا الثالثة عشرة.

إن أولى بوادر الانتصار هي الكف عن مخادعة النفس، والاعتراف أنك هُزمت، وأولى بوادر النجاح هي إيقاف التحجج بالأسباب الواهية والاعتراف بأنك رسبت، فحين يدرك الإنسان أنه فعلًا يعاني هزيمة، وأنه فعلًا قد فشل في تحقيق الهدف فإن الطبيعة الإنسانية سرعان ما تكتسب القدرة على التحدي، وتتشكل لها من داخلها قوة مارد أعظم تبادر إلى الاستعداد للتحدي القادم، ومن ثم إلى النجاح والانتصار، ولولا أننا اعترفنا بأننا هُزمنا عام ١٩٦٧، بل وجاء هذا الاعتراف على لسان قائدنا العظيم نفسه، بل واعتبر أن الهزيمة هي أولًا هزيمته شخصيًّا، وبادر وأعلن أنه مسئول عنها، لولا هذا ما ركبتنا روح التحدي ولمَا بدأنا الاستعداد الجدي للمعركة المقبلة، ولمَا بلغ التحدي مدًى جعل الجيش المصري الباسل ينطلق كالمرجل المغلي يحطم خطوط أعدائه ويلحق شر الهزيمة بهم.

•••

نعم، إن كل الأعراض على ساحتنا العربية تؤكد، لكل ذي عينين، ولكل أعمى أنها علامات هزيمة لا يعانيها عالمنا العربي فقط، ولكن العالم الثالث كله يعانيها.

وإذا كانت تلك الهزيمة قد أخذت شكل الصراع بين الطوائف في بعض بلادنا العربية، وشكل الحروب بين نظم ونظم، وشكل عملاء يحكمون ووطنيين يُحكم عليهم، شكل سيادة الفرقة والتعصب، شكل الهروب من الجهاد في سبيل الله إلى الإغراق في شرح النحو والصرف وسحب روح التضحية والفداء والإيمان من ديننا الحنيف وتحويله إلى ما يشبه التعاويذ، وموضات الأزياء والحجاب، وإسقاط هزيمة الرجال على جنس النساء واعتباره أنه الجنس الخاطئ والمذنب والمثير للفتنة على الأرض (أي إحلال نسائنا الفاضلات محل الاستعمار والصهيونية في غرس الفتنة وتضليل الجماعة وإغواء الفرد).

إذا كانت الهزيمة على المستوى العربي العام قد أخذت هذا الشكل، فهي في مصر قد أخذت طابعًا — في رأيي — أكثر خطرًا؛ إذ هي أوصلت الإحساس بالهزيمة إلى قلب وعقل الفرد نفسه، إن لا مبالاتنا، إن فتورنا، إن يأسنا، إن كرهنا لبعضنا البعض، إن معصياتنا في حق أنفسنا وفي حق دولتنا التي كثر فيها: نهب الأموال، وشيوع الارتشاء، والتكالب على الطعام والشراب واللذة المريضة العابرة.

بل أن يؤدي الحال إلى أن تصل الهزيمة إلى الحد الذي أصبح أسهل شيء للمواطن المصري أن يقول: ليس هناك من فائدة تُرجى. وسعد زغلول قال: ما فيش فايدة، ومصر حالة ميئوس منها، أو أن يصل إلى الحد الذي أصبح منتهى الأمل الهجرة والإقامة في مجتمع يتمتع بالنظام والصحة والعدل والتقدم، إلى أن تيأس تمامًا وتكفر، كل على حدة. إننا ممكن أن نصنع من أنفسنا شيئًا، ومن بلادنا دولة قوية قادرة، ومن ديوننا وفرة نرفع بها عن كاهلنا عبء اليأس والمذلة والخضوع.

ذلك هو الشكل وتلك هي الأشكال التي أخذتها الهزيمة الثالثة في بلادنا الحبيبة مصر.

في الهزيمة الأولى عام ١٩٤٨ رفضناها واستنكرناها وقامت ثورة ٢٣ يوليو ترد لنا الاعتبار، وترد لنا الإحساس أن العالم لم ينته بهزيمة ٤٨، وأن العمل الجاد لا بُدَّ أن يبدأ، في هزيمة ٦٧ اكتشفنا أننا هُزمنا لأننا قمنا بثورة على الورق، فإجراءاتنا فيها كانت قرارات، وقواتنا المسلحة تركناها لمن لم يرعَها ومن لم يكوِّن بها جيشًا حقيقيًّا للخلاص.

وكان أن شددنا الأحزمة على البطون، وبنينا قواعد الصواريخ تحت وابل القنابل الإسرائيلية، حتى إن العمال والعاملات الذين كانوا يعانون في بناء تلك القواعد، وكان معظمهم من أبناء الشرقية، كانوا يعرفون أن ثلثهم على الأقل لن يعود لبيته — إن كان له بيت — في آخر النهار، ومع هذا فقد كانوا يذهبون إلى عملهم وهم يغنون أغاني الأفراح ويغردون وكأنهم ذاهبون إلى زفة انتصار.

وهكذا عبرنا القنال في ٧٣ وانتصرنا.

•••

في هزيمتنا الثالثة تلك، نحن لسنا أمام هزيمة عسكرية ملموسة، ولا بضعة قواد من الجيش ممكن عزلهم ومحاكمتهم وإحلال غيرهم — أكثر كفاءة — محلهم … نحن أمام هزيمة لا نرى لها آثارًا ملموسة واضحة، وكأنما قُصد أن يكون الأمر كذلك، إنها هزيمة نُحِسُّ بأعراضها، ولكننا لا نعترف بأننا مرضى وأننا مهزومون وأننا في حاجة إلى هبة كبرى، من كل النواحي، توقظ جسدنا الذي خدرته قرصة ذباب، تسي تسي، التي تسبب مرض النوم المستمر العليل.

أعرف أن الكثيرين سيزايدون ويغالون ويقولون: بل أنت المهزوم، بل أنت المخطئ، بل أنت النائم، وشيء من هذا لا يهمني من قليل أو كثير، ليت الأمر كذلك، ليتني النائم المقروص في شعب صاحٍ حي، وليت كلماتي كلها تخاريفُ حُمَّى، فأنا أعلم وأنتم تعلمون أننا كلنا نعاني نفس الشعور، وما دام الأمر كذلك؛ فالمرض عام، وسببه واحد: مهزومون يخدعونهم بقولهم إنهم غير مهزومين، بل يريدون إقناعهم بأن المسألة «شوية ديون، وشوية سلبيات، وشوية انحرافات» وبإجراء هنا وإجراء هناك، بالمحافظة على الديمقراطية، وعلى القائمة النسبية ننقذ أنفسنا منها ونشفى.

لا، هذه هزيمة ألبسوها طاقية إخفاء بحيث لا نراها، ولن نراها إلا إذا توقفنا لحظة ورمقنا حياتنا، وما نعانيه ونحسه في لحظة صحوة، فإنني لأكاد أقسم أننا إذا تبينا الصورة لومضة فلن ننام بعدها أبدًا، أجسامنا نفسها سترفض النوم وتأباه، قوى الحياة التي نحن بالضرورة مزودون بها، ستستيقظ وترفض وتقول: لا لن أقبل، ولن نقبل أن نحيا مهزومين.

فحتى الديدان ترفض حياة الهزيمة، وتزحف ملليمترًا ملليمترًا، لتخرج من المأزق، وتنقض على فريستها أو عدوها وتنتصر.

حتى الديدان إذا أيقنت أنها هُزمت أو في سبيلها لأنْ تُهزم، تنتفض فيها كل ما تمتلكه من قوى المقاومة، وتستحيل من إرادة الدودة حيث ركنت واستكانت إلى إرادة العملاق المستوحش في الدفاع عن حياته وعن حقه في حياته، وقدرته على هذا الدفاع.

لقد بدأنا القضية بعرض الفتور، ثم اكتشفنا أن الفتور راجع لحالة الغضب، وها نحن أخيرًا نضع أيدينا على سبب الغضب أنهم قد هرَّبوا الهزيمة إلى كل منا دون أن يدري، ولأنه لا يدري فهو لا يملك أن يصنع لغضبه أو لفتوره شيئًا.

ربما إن أدرك السبب، وبطل العجب، وأيقن أن الهزيمة وصلت إلى عقر داره وتجويف صدره، انقلب غضبه من الآخرين إلى غضب على هزيمته الخافية وانقلب غضبه على الهزيمة، ومنها إلى إرادة عظمى لقهرها، وهزيمة الهزيمة.

ولأننا نعرف حال إنساننا وما آل إليه.

فلا تطلبوا منه ولا تتوقعوا أن يهب من نومه المريض أو مرضه النائم فجأة، ويمتشق حسامه ويقضي على الهزيمة وهازميه بضربة واحدة.

ليكن مطلبنا منه مثلما فكرت ودبرت قيادة المقاومة الفرنسية أيام الاحتلال، شيئًا بسيطًا جدًّا في استطاعته، ومن أمكن أن نبدأ به، وتصعد مع البداية خطوات فوقها خطوات، إلى أن تصل إلى العمل الجماعي الكامل العملاق.

ليكن شيئًا بسيطًا جدًّا لا شعار «اشترِ البضائع المصرية» ولا «تشجعوا منتجاتنا المحلية»، ولا حتى شعار أن يشتري الإنسان شيئًا على الإطلاق.

لتكن البداية أن نطلب من المواطنين عكس ما طالبت به المقاومة الفرنسية أن يسرعوا في إنهاء الأعمال المطلوبة منهم.

فقط يسرعون في إنهاء الأعمال المطلوبة منهم.

فقط ينجزون في ساعة ما يأخذ ساعتين لإنجازه.

بهذا ومن هنا نصعد السلم ونتعلم خطوة خطوة أن نصعد، إلى أن نبلغ الدرجة التي ينقلب فيها غضبنا على ما ساد حياتنا من تراخٍ وفتور إلى غضبنا على الشعور الخفي بالهزيمة الذي استخفى علينا، ومن غضبنا على إدراكنا أننا هُزمنا إلى إرادتنا الكبرى: أن نهزم هزيمتنا ونقهرها.

دعونا من الحديث عن الجبهة والحوار الناصري الإسلامي وأخبار الشيخ صلاح أبو إسماعيل مع حزب الأحرار، وعن المقارنة بين عبد الناصر والسادات وبين عصر الملك وعصر الثورة.

دعونا من هذا كله.

ولنبدأ بهذا الجهد الصغير القادرين عليه تمامًا: أن نسرع إذا مشينا، أن نسرع إذا عملنا، أن نسرع في اتخاذ قرارنا، أن نسرع في تصحيح خطتنا … أن نسرع بنفس النسبة التي تسرع بها الدودة إذا أحست بالخطر وأدركت أن بطأها هزيمة وهزيمتها في بطئها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤