مركز الدائرة

سران كبيران من أسرار الوجود يحيرانني: سر الكون، وسر الشعب المصري …

أما الكون فعلماء الفلك والطبيعة النووية والكيميائية وعلماء الفضاء عاكفون على دراسته، وكل يوم أقرأ جديدًا عن اكتشاف مجرة ما، أو سرعة ما أسرع من سرعة الضوء التي أجمع العلماء على أنها أسرع سرعة في الكون منذ عهد أينشتين. أقرأ عن البقع السوداء التي تتكثف فيها المادة بالتقارب الشديد بين ذراتها وبين مكونات الذرات داخلها، بحيث يمكن أن يصل ثقل ما يوازي كرة المطاط منها، ثقل الكرة الأرضية كلها، الكون يتمدد، الكون ذات يوم سيعود إلى الانكماش، الكون ينبض، الكون يتحرك، إلى أين وفي أي اتجاه، وهل ما هو خارج الكون فضاء أثيري كما كنا نعتقد، أم أنه لا يوجد للكون خارج، فكل الكون داخل كل الكون، والأحداث كلها تدور منه ومن داخله.

وأنا هنا لا أتحدث عن خلق الكون ولا عن الخالق سبحانه، إنني إنما فقط أورد بعضًا من البحوث التي كُتبت لسير هذا الشيء الكوني الذي نحن البشر منه، وهو منا، والذي يُعتبر فيه الإنسان العين الوسيطة بين الكون الأكبر اﻟ (…) والكون الأصغر الذي يوجد داخل الذرة اﻟ (…) ولهذا فهو وحده الذي يدرك وجودهما معًا، ورغم ذلك فمعلوماته عن كنه هذا الوجود لا تزال قشرية تمامًا، ولم تصل بعد إلى أي حد أدنى معقول لإدراك كنه التركيبة الكونية الصغرى أو الكبرى.

ذلك عن سر الكون …

أما السر الذي يكاد يجاوز في صعوبته سر الكون، فهو سر الشعب المصري … الشعب المصري بالذات، ولا أقولها كمصري منحاز لمصر، ولا فخور أو متفاخر، إنما أقولها لأؤكد حقيقة أنفقت حال عمري، ذلك الذي أنفقت نصفه في تأمل الكون وخالقه، أنفقت نصفه الآخر في تأمل شعبنا المصري هذا وسره.

إنه من جنس الإنسان قطعًا، بل من المحتمل تمامًا أن يكون من أول الكائنات البشرية التي وُجدت على سطح الأرض؛ ولهذا فتاريخه هو أطول تاريخ لأي شعب، فقد وحد الملك «مينا» القطرين من أكثر من خمسة آلاف سنة، ولكن قبل هذه الوحدة كانت هناك دولتان عاشتا طويلًا ولم يُعرف عنهما شيء، وقبل الدولتَين كانت ثمة عشائر وقبائل وعصور صيد وزراعة وتاريخ طويل طويل، سر لا يمكن أن تعرف منه أبدًا ماذا يريد هذا الشعب وماذا لا يريد، ماذا يغيظه وماذا يسعده!

•••

لماذا تبادر إلى ذهني السران الآن؟

الجواب حقًّا غريب؛ إذ هو يتعلق بترشيح الرئيس حسني مبارك ومبايعته؛ ذلك أنني أمضيت الأسبوع الماضي كله أستمع إلى صرخات شباب متشنج يشجب الطريقة الإعلانية المواكبة المصطنعة التي تدور على صفحات الجرائد وشاشات التليفزيون. والغريب أني حين كنت أناقش هذا الساخط أو ذاك وأقول على سبيل الدعابة: وماذا يغضبك؟ هل أنت ضد مبارك؟ الغريب أن الجواب من كل الشباب الذين سألتهم كان يأتي على هيئة: أبدًا، أنا مع مبارك، إذن لماذا غضبك؟

وهنا تبدأ تتفجر على ألسنة الجميع، من هنا وهناك، أجزاء من حمم بركانية طال غليانها في النفوس التي مجت طويلًا فكرة فسرها على الإجماع وفكرة مبايعة المحافظين والوزراء للرئيس وبنقود الدولة والمواطنين، فكرة خلق ما يشبه الرأي العام الزائف والمزيف الداعي أولئك الذين يريدون وقرروا انتخاب مبارك فعلًا، أن ينتخبوه!

لو كان هذا الخطأ البشع في حق مبارك وفي حق عهده قد ارْتُكِبَ في بلد آخر أعصابه ليست في ثلاجة، كأعصاب الشعب المصري، لكان قد ركب رأسه وأسقط ذلك الرئيس الذي يدعون إليه بطريقة مستفزة لا ذوق فيها ولا صدق ولا شيء سوى النفاق الأعمى. تلك الحملة الغوغائية الإعلامية جعلت نفسي تجزع حقًّا عن أن أكتب رأيي في إعادة ترشيح مبارك، وبالطبع لم أكن وحدي، إني أعرف عشرات من عقلاء المصريين الفاهمين الواعين المقدرين لموقف مصر الخطير في وسط شرق أوسط تحكمه أمريكا وإسرائيل، ووضع داخلي يتحكم فيه الجشع والتعصب والجهل، أعرف عشرات من هؤلاء، كانوا ينوون، بل كتبوا فعلًا، مقالات موضوعية تمامًا، تقييمًا لفترة حكم مبارك السابقة، وطلبوا منه أن يرشح نفسه لفترة قادمة، ولكنهم لا يفعلون هذا على بياض، كل منهم كان يطالب الرئيس بمجرد موافقة مجلس الشعب على ترشيحه أن يلقي بيانه الانتخابي الأول الذي يحدد فيه على وجه الدقة واليقين ماذا سيكون عليه أن يفعله خلال السنوات الست القدامة، وعلى ضوء هذا البرنامج يتم الاستفتاء؛ إذ هو سيشكل عقدًا سياسيًّا اجتماعيًّا اقتصاديًّا بين الرئيس وبين الشعب يُرجع إليه وقت الخلاف أو الاختلاف، ويكون هو الأساس في الحكم والدستور المحدود للمرحلة القادمة.

ولكن هؤلاء العاقلين طووا الصفحات ووضعوا الأقلام باعتبار أن آراءهم تلك ستضيع وسط الزفة ووسط المواد، ووسط بضعة موظفين من موظفي الحكم المحلي، وللأسف جهات لها احترامها وتقديرها، لديهم نقود الشعوب يشترون بها صفحات الجرائد، ولديهم التليفزيون الملاكي يذيعون منه ويقولون ما يشاءون.

والشعب الماكر الخبيث يتفرج، ويضحك من صميم قلبه، حتى إذا التقى بصديق أو مسئول مهما كان صغيرًا انفجر فيه بالسخط والغضب؛ سخط وغضب أعتقد أن مصدرهما هو هذه المحاولة البشعة للاعتداء على حق المواطنين في إبداء الرأي أو حتى في تكوين الرأي. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، أدرك الشعب أن كل هؤلاء المزيفين بمئات الألوف لآراء المحافظات والجامعات والهيئات معظمهم — ولا أقول كلهم — جماعات الانتهاز التي دأبت ومنذ هيئة التحرير إلى الآن على أن تركب أعلى الموجات، تصرخ وتزعق بآخر ما تستطيع وتمتلك من ميكروفونات، وتمتلك عبقرية خاصة في إزجاء المدح والنفاق دون الحاجة حتى إلى محترف كتابة يصوغ لها ما تريد قوله. إنهم إذن ليسوا ناخبين، أو مؤيدين لمبارك «بالروح والدم نفديك يا …» «فلم يفد أحد أحدًا لا بالدم ولا بالمال» إنهم إنما بإعلاناتهم يرشحون أنفسهم هم وليس مبارك ليبقوا في الصورة أثناء عهد الرئاسة القادم، أو ربما يضرب الحظ مع بعضهم ويُختار لمناصب أعلى.

•••

لقد كنت من أوائل من طلبوا مقابلة الرئيس مبارك بعد انتخابه في ١٣ أكتوبر ١٩٨١، فقد كنت أريد أن أطمئن على الرجل الذي أُلقيت إليه مقاليد أمورنا في واحدة من أدق مراحل حياتنا، وكتبت عن تلك اللقاءات وقلت في إحداها: إن رجلًا مثل مبارك لا يمكن أن يخون القضية المصرية لسببَين رئيسيَّين: لأنه أولًا ضابط جيش، والجيش المصري منذ ما قبل عرابي وإلى الآن هو مدرسة أولى للوطنية المصرية، إن هذا الشاب الذي يدخل الكلية الحربية ليخوض حربًا قد يفقد فيها حياته دفاعًا عن بلاده وشعبه، شاب غير عادي، وطني بالضرورة، شجاع بالسليقة. أما السبب الثاني فهو أنه حارب إسرائيل دفاعًا عن مصر، وما دام ضابطًا ومحاربًا فمن رابع المستحيلات أن يخون أو يفرط.

ولقد مضت سنوات حكم الرئيس مبارك الأولى، والشعب ينتظر تغيرات عظمى تزيح من على وجه الساحة الطغمة الباغية التي أودت بكبيرها إلى حتفه، أولئك الذين جعلوا من عبد الناصر بنفاقهم اليومي شبه إله لا ترد له كلمة. ولكن لأن الرئيس مبارك ذكر لي أثناء تلك اللقاءات أنه أبدًا لم يسعَ لوظيفة ما من وظائف الدولة منذ تخرج من كلية الطيران، وأصبح مدرسًا بها، وتفانى في أداء وظيفته حتى وجد نفسه ذا يوم مرقًّى إلى رتبة أركان حرب الكلية، وبنفس الجهد والتفاني عينه عبد الناصر مديرًا لكلية الطيران، ثم عينه الرئيس السادات رئيسًا لسلاح الطيران وخاض الحرب، وفُوجئ بنفسه يُعين نائبًا لرئيس الجمهورية، والمحيطون بالرئيس مبارك، وهم قليلون، يذكرون أنه أمضى في بيته ثلاثة أيام بعدما عرض عليه الرئيس السادات منصب النائب، يفكر في الكيفية التي يعتذر بها عن هذا المنصب؛ فمبارك إذا عرفته عن قرب رجل لا تهمه المناصب، ولا يسعى إليها، شاب طيار مصري يحيا حياة الطيارين المثالية: يستيقظ مبكرًا جدًّا ويعد الشاي، أحيانًا بنفسه، لأولاده، ثم يمارس رياضته المفضلة الإسكواش لأكثر من ساعتَين، ثم يبدأ «يدرس» مشاكل مصر وحلولها؛ ذلك أنه جيء به إلى الحكم من القوات المسلحة البعيدة في شئونها تمامًا عن الحياة المدنية، وعن المشاكل الكثيرة المعقدة للدولة وللشعب، بلا حرج كان يقول إنه يدرس، ويتشاور، ويعقد جلسات خاصة لا يُعلن عنها، باختصار، ودون خدش لمكانته كان مبارك «يتمتم» كيف يدير مصر إدارة وطنية نظيفة، تحل مشاكلها العاجلة وتفتح الباب أمام مستقبل أكثر ازدهارًا.

ورغم أن بعض من يكونون في مرحلة التعلم تأخذهم العزة بالنفس والتمسك المتعصب بالرأي، إلا أن الرجل كان يمتلك ميزة فريدة، ربما لا يتمتع بها كثيرون ممن تربوا في الحياة العسكرية، وهي قدرته على تقبل النقد، وتمسكه الشديد بالديمقراطية، وبالذات بحرية الكتابة، وأشهد أني منذ أكتوبر ١٩٨١ لم تُشطب لي كلمة واحدة من مقال واحد، بينما لي دوسيه كامل من المقالات المرفوضة وأوامر الفصل في العهود السابقة؛ ذلك أنه كان أيضًا يتعلم من النقد، بل ويتعلم من أخطائه. ولقد أخطأ الرئيس مبارك ذات مرة في حقي نتيجة دسائس قام بها أناس يرحمهم الله أحياءً وأمواتًا … يحيطون به ويغذونه بمعلومات يتضح بعد هذا أن معظمها كاذب. ولقد كتبت أدافع عن نفسي وأتهمه أنه — وهو الرئيس للدولة قد تجنى عليَّ — فلمن أشكو ويشكو أي إنسان رئيس الدولة إذا تجنى عليه، حتى القضاء لا يستطيع الحكم ضده (إلا بعد إجراءات مستحيلة بنص الدستور).

ولكن لأن خبرتي بطبائع النفوس لا تجعلني أحكم على الإنسان بخطأ حتى ولو كان الخطأ ضدي؛ فلقد ظللت أؤمن أن مبارك هو الحل منذ أن انْتُخِبَ، وكأنما أراد الله لمصر أن يأتي لها بحاكم ينفر من فكرة الزعامة ولا يسعى لأمجاد، وإنما يريد أن يسوس بلاده وشعبه ويؤدي واجبه هذا بمنتهى التفاني، كما كان يفعل وهو مدرس بالكلية الجوية، حين كان يستيقظ في الخامسة صباحًا ليوقظ الطلبة جميعًا إلى طابور رياضة، يتعلمون فيه الجدية والمحافظة على أجاسدهم وصحتهم حتى ضج الطلبة منه، ولكني أعتقد أنهم الآن قد أدركوا فائدة ما كان يصنعه مدرسهم بهم.

لقد كان مبارك هو الحل الأمثل لتناقضات مصر الصارخة بعد عصر السادات والانفتاح المجنون والانكفاء على أقدام الأمريكان والإسرائيليين، ولقد حدثت أثناء حكمه أحداث مروعة، أقلها إضراب جنود الأمن المركزي، وبدايات الفتنة الطائفية المهولة، ولو كان مبارك قد تصرف بعصبية للحظة لفجر براكين هائلة لا تزال تغلي في نفوس الشعب، ولكنه استعمل الزمن معه، واستعمل الصبر — يا لقدرته على الصبر الطويل — معه، والنتيجة ليست سيئة بالمرة، صحيح لم يتحقق كل ما حلمنا به ومن أجله خرجنا خروج رجل واحد، بلا لافتات ولا صفحات ولا برامج متلفزة تنتخبه، لم يتحقق الشيء الكثير، بل ولا أعتقد أنه خلال السنوات القادمة ستحقق معجزات؛ فزمن المعجزات قد انتهى، وزمن الرؤساء أصحاب المعجزات انتهى، ونحن بشر، ومبارك بشر، مصري مثلنا ونحن مصريون مثله، ولا يزال هو أيضًا مركز الدائرة المصرية، تلك الدائرة التي يشمل محيطها من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، ومن المفكرين لغيرهم الحاكمين بإعدامهم، إلى أصحاب العقول والعقول الإسلامية الرحبة، ومن شيخ الأزهر إلى الباب شنودة … ولأنه مركز الدائرة، ولأن الدائرة أوسع من مصر إذ هي تشمل بلادنا العربية التي تمردت مرة — وكان لها الحق — وقطعت علاقتها بنا، فبدون أن يتحرك المركز ها هي علاقتنا العربية تُستعاد، إن لم يكن على المستوى الرسمي فعلى المستوى السياسي والاقتصادي والثقافي، لدرجة أني كدت أضحك وأنا أقرأ بطاقة الدعوة في افتتاح معرض السعودية بين الأمس واليوم، ومذكورة في أعلاها: سفارة باكستان — قسم رعاية المصالح السعودية — يا للعار!

شكرًا أيها الرئيس مبارك على قيادتك للسفينة بكل ما تملك من جهد وكفاءة طوال ستة أعوام.

شكرًا أن السفينة لم تغرق.

ولم تُصدم.

وأن ركابها لا يزالون أحياءً، مع أن حملها زاد بازدياد مطلبهم واحتياجاتهم، ومع أننا — بتجربتنا معك — واثقون أنك ستمضي مستقيمًا كما مضيت، إلا أننا نحن الآخرين نريد أن نرى معك الطريق؛ ولهذا أنت مطالب أيها الرئيس بأن تعلن لنا — وفي أقل الكلمات — برنامجًا لكي تكون هناك عملية استفتاء حقيقية؛ إذ إن هذا البرنامج لو لم يُعلن فلا فائدة من الاستفتاء أصلًا، فأنت المرشح الأوحد، وأنت مركز الدائرة ومركز إجماع المصريين، وكلهم لم ينتخبوا سواك، فلماذا الاستفتاء؟! إلا إذا كان استفتاءً على برنامجك وليس على شخصك، فهو استفتاء أساسًا على حاضر مصر ومستقبلها ومن أجلها وليس استفتاءً على شخص الرئيس مهما أُجمع عليه، أليس كذلك يا سيادة الرئيس؟!

وإلى أن نلتقي إن شاء الله بعد أسابيع الإجازة أتمنى لكم أطيب الأوقات …

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤