أجادير في عينيك

أحب الطيران، وأكرهه؛ فالطيران سفر، وللسفر خمسون فائدة، ولكن السفر بالطائرات بالذات يعطيني متسعًا كبيرًا من الوقت أستطيع أن أتأمل فيه أحوالنا وأحوال نفسي، فإذا زاد هذا المتسع كثيرًا وطويلًا، وبدا الملل من قلة الحركة وطول الزمن فإنه يصبح عبئًا كبيرًا على النفس، وما أكاد أسمع ذلك الجرس المخصوص الموجه لطاقم الطائرة والذي يعني الاستعداد للهبوط، حتى أتنفس الصعداء.

والرحلة هذه المرة كانت طويلة جدًّا، من الرياض في المملكة العربية السعودية إلى المغرب مع توقف ست ساعات في القاهرة، رحلة طويلة جدًّا، رحت أستعيد فيها ما شاهدته في الجنادرية من طقوس للحياة القبلية القديمة الجميلة، ثم مناقشات الكتاب والمثقفين حول التراث، وها أنا على الغداء أو العشاء أو في الندوات كنت ألمح رجلًا وسيمًا طويلًا له مهابة خاصة، وكنت أسأل عمن يكون، فقد كان لا يبدو أنه واحد من كتاب العالم العربي، فجميعهم — المعروفون — أعرفهم، وكذلك لا يبدو أستاذًا جامعيًّا، وفي جلسة ما سألت جاري في الجلوس الصديق والشاعر عبد الله الشيتى أحد قلائل الظرفاء الموجودين في العالم العربي، وما أمتع أن يجلس الإنسان معه ويكون ثالثنا محمود السعدني، تصبح الجلسة متفجرات من الضحكات، ولأننا قليلًا ما نضحك هذه الأيام، لست أدري لم؛ فساعة مع محمود السعدني وعبد الله الشيتي نعمة من نعم الله في هذا الطقس العربي المتزمت.

سألت الشيتي عن ذلك الرجل فقال لي: ألا تعرفه؟ إنه وزير الثقافة المغربي. وقدمنا لبعضنا البعض بعد الندوة، وكانت لي مع هذا الرجل قصة غريبة، ولكن قبل أن ننتهي من الجنادرية أحب أن أوضح للقراء لماذا أقطع أعمالي وأصر على الذهاب إلى مهرجان وندوة ثقافية تُعقد في الجنادرية (هذه هي السنة الرابعة) ويكون موضوعها الموروث الشعبي والإبداع الفكري والفني؟ ذلك أنني أعتبر أن مناقشة هذه الموضوعات في المملكة السعودية مسألة خطيرة جدًّا؛ فالمملكة في الآونة الأخيرة — خاصةً بعد أحداث الحرم — بدأت تدرك أن الجمود الفكري هو الأرض الخصبة لنمو التعصب والتعنت وضيق الأفق، ولهذا بدأت الدولة «تتقدم» المراكز الفكرية والأدبية السائدة في المملكة، وبدأت تدعو مثقفين من اتجاهات كثيرة وتضعهم وجهًا لوجه أمام الثقافة التراثية السائدة، وهذه خطوة عظيمة لا شك؛ لأن زحزحة الجسد الرجعي الجاثم على قلب الثقافة السعودية هي زحزحة أيضًا لنفس هذه الاتجاهات السائدة في مصر وفي كل أنحاء الوطن العربي؛ ذلك أن السعودية لها وضع ديني وروحي خاص بالأمة العربية، ويصر الكثيرون على خلط المفهومات الإسلامية بالمفهومات الثقافية والفكرية، فتكون النتيجة الجمود التام؛ بمعنى توقف أو توقيف عقل المجتمع عن أن يعمل ويفكر ويتقدم، وزمان قال العقاد: أنا أفكر فأنا مسلم. وللأسف انتهينا هذه الأيام إلى من يقولون أنا لا أفكر، إذن فأنا مسلم حقيقي، ولقد سألني كاتب سعودي ذو لحية بيضاء جليلة: لماذا تنفقون الوقت والجهد في مناقشة هذه الخيالات (يقصد السير الشعبية من سيف بن ذي يزن إلى عنترة وألف ليلة والزير سالم) إنها خيالات، مجرد خيالات؟ لماذا تضيعون وقتكم في مناقشتها؟ قالت له: إذن ماذا تريد منا أن نناقش؟ قال: الحقائق التي حدثت في التاريخ مثل الخلفاء الراشدين ومعاوية وغيرهم من أبطال الإسلام، قلت له: أتعني أن الإسلام الحقيقي ضد الخيال؟ إنك بهذا يا رجل تسلب الإنسان — سواء كان مسلمًا أو غير مسلم — أعظم موهبة منحها الله له، وهي القدرة على التخيل وتجسيد هذا الخيال في أعمال فنية، إن الحيوان لا خيال له، إنه لا يرى إلا ما أمامه فقط، وهو لا يستطيع أن يتخيل أبدًا شيئًا غير ما يراه رأى العين، أما المخ البشري ففيه مراكز هائلة للتخيل، نعمة من الله، لولاها لأصبحنا سائمة أو كالسائمة.

وسؤال ذلك الكاتب السعودي لم يأتِ من فراغ؛ فهناك مدرسة بأكملها في العالم العربي وفي السعودية على رأسها الأستاذ عبد الله بن إدريس رهيبة السطوة على النفوس واشتراكها في تلك الندوات إنما يهدف إلى تغليب الجانب القائل بالتمسك التام بالموروث وبكل ما صنعه الآباء والأجداد، وعدم التحرر منه لشعرة، وإلا فقدنا لغتنا العربية وفقدنا بالتالي إسلامنا، وكأننا إذا أعطينا إنساننا الحديث أو مثقفًا حرية الحركة، وأبحنا له أن يخرج على تعاليم الآباء والأجداد والموروث فإنه حتمًا سيضل وسيضيع، معاذ الله.

إلى هذا الحد يبلغ عدم ثقتنا بأنفسنا، فنحن مثل الأجداد بشر، وقد كانوا بشرًا، وعاشوا حياتهم وتصرفوا فيها «وكانوا أعلم بشئون دنياهم»، وأصبحت حياتهم وتصرفاتهم «تراثًا»، هذا صحيح، ولكننا أيضًا لنا حقنا في أن نعيش مثلهم ونتصرف حسبما تمليه علينا ظروف حياتنا الراهنة «ونحن أعلم بشئون دنيانا» بحيث تصبح حياتنا وتصرفاتنا تراثًا أيضًا للأجيال القادمة التي لا بُدَّ لها هي الأخرى أن تحيا حياتها وتتصرف تصرفاتها.

ولكنهم يردون عليك ويقولون هذا خروج ومروق سينتهي بك إلى أن تترك الدين، هذه قضية لم أفهمها أبدًا، وأعتقد أنني لن أفهمها، هل التمسك بالدين يعني أن تحيا مثلما كان يحيا الناس أيام معاوية وأيام العباس مثلًا، وإلا خرجنا على الدين؟ ما علاقة الدين وهو إيمان كامن في النفس وفي القلب لا يتزحزح، ما علاقة هذا بأن أركب سيارة بدلًا من الجمل، أو أن آكل هامبرجر من لحم البقر بدلًا من الخروف (والفتة)؟

المهم لي عامان وأنا أحضر ذلك المهرجان والمعركة لا تزال محتدمة بين أنصار الجمود وأنصار التقدم، يا إلهي، إن المشوار أمامنا طويل!

•••

كان ذلك الرجل الذي لفت انتباهي هو وزير الثقافة المغربي، وهو مثل زميلي فاروق حسني عندنا، نموذج فاخر للمثقف المتعدد الاهتمامات والقدرات، هذا الرجل كان هو وصديق عمره (الذي أصبح وكيلًا لوزارة الثقافة المغربية) يعملان في الأمم المتحدة في نيويورك لمدة عشرين عامًا متوالية، وفجأة قررا أن يتركا العمل في أمريكا ويعودا معًا إلى بلدهما المغرب، بل ليس حتى إلى المغرب، وإنما إلى مسقط رأسَيْهما في قرية «أسيلة» وهي قرية صغيرة على المحيط الأطلنطي، قرية فقيرة يعمل معظم سكانها بالصيد، وكأي قرية صغيرة في العالم الثالث لم يكن بها ماء نقي أو كهرباء أو تليفونات أو أي شيء … هذا الرجل (محمد بن عيسى) قرر أن يحيل القرية إلى جنة من جنات الله بعد عودته من أمريكا، قرار رجل واحد أو رجلَيْن، لو أن كل مثقف في العالم العربي قرر أن يفعل مثلهما لأصبح العالم العربي جنة، وبدأ بالاستعانة بنفر من زملائهما من الفنانين، بجمع نقود قليلة تمكنا بها من طلاء القرية باللون الأبيض الجميل، وبهذا الطلاء فقط تحول موقف أهل القرية من هؤلاء المثقفين الأفندية الغرباء، وبدءوا يسمحون لأولادهم سواء أكانوا تلامذة أم غير تلامذة أن يعملوا معهم بالاستعانة بهؤلاء الأولاد: بدأ الأفندية ينظفون شوارع القرية، ثم بواسطة بعض التبرعات يحفرون بئرًا للماء، ويدخلون «موتور» كهرباء، فيضيئون القرية، ثم بدأ الفن: استقدموا أصدقاءهم الفنانين من الدار البيضاء مراكش، وعهدوا إلى كل منهم برسم حوائط القرية، بل حتى برسم شوارعها بعد سفلتتها، ولكي يتموا هذا العمل الكبير كان عليهم أن يرشحوا أنفسهم للمجلس البلدي للقرية (تعداد القرية اثنان وعشرون ألفًا) ونجحا في الانتخابات بعد كفاح رهيب طبعًا، فتراث القرية المعتادون على تولي مناصب المجلس البلدي بحكم النفوذ أبوا أن يفسحوا المجال لهؤلاء الغزاة الجدد المسلحين بالفن والفكر والرغبة الشديدة في التغيير، وحين تمت لهما السيطرة على المجلس البلدي، استعانا بقوة المجلس وأمواله في إحداث هذا التغيير، وفعلًا، وبعد أقل من عامَين كانت «أسيلة» قد أصبحت جنة، أو متحفًا حيًّا للجمال يضم الزرع الأخضر واللوحات على الجدران وعلى الأرض. وهنا بدأت الحكومة المركزية تفطن إلى هذا الحدث وتحاول الاستيلاء عليه وتحويل «أسيلة» إلى قرية سياحية، وهنا وقف محمد بن عيسى وصديقه، أو بالأصح ناما بالطول عند مدخل القرية وأبيا أن يدخلها سائح واحد؛ قال لي محمد بن عيسى: كنا لا نريد أن نحول أنفسنا وأهل القرية إلى قرود في حديقة حيوان يتفرج عليها السياح، كنا نريد أسيلة لنفسها ولأنفسنا، وقلنا على جثتنا إذا مر سائح واحد.

وفعلًا لم يمر سائح واحد ووصلت المعركة إلى الملك الحسن الثاني فاستقدم هؤلاء الفتية وكان أن عهد إلى محمد بن عيسى بوزارة الثقافة.

والذي حدث أن محمد بن عيسى طور الفكر وتفتح ذهنه عن إقامة مهرجان أسيلة للفنون والآداب كل عام، وأُقيم المهرجان وأصبحت حديث أوروبا وأمريكا، انتقلت من قرية صيادين في العالم الثالث إلى لوحة عالمية يرنو إليها أي أوروبي أو غير أوروبي، يرغب أن يراها رأى العين.

أرأيتم ما أقصده … إن مجهود فرد واحد أو فردَين مخلصَين ممكن أن يحولا قرانا الموحشة إلى جنات … فقط أين الإرادة.

•••

أكتب هذا وأنا في طريقي إلى أجادير أو أغادير، تلك المدينة البطلة التي وقفت في وجه الاستعمار، مثل بورسعيد، موقفًا بطوليًّا عظيمًا، ثم بعد زوال الاستعمار الإسباني والفرنسي، أصبحت مدينة سياحية عالمية، وحيث أنهيت أعمال مشاركتي مع المجلس القومي للثقافة في المغرب في اللجنة التحضيرية للمهرجان القومي الثقافي العربي الذي سيُعقد في أغادير في أكتوبر القادم بإذن الله، ها أنا ذا في طريقي لمشاهدة معالم المدينة وقضاء إجازة يومَين قبل العودة للقاهرة؛ لكي أشهد أعظم حدث روحي، حلول رمضان المعظم في قاهرة المعز.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤