الضحك حتى البكاء

حين اتصل بي صديقي الفنان عادل إمام يدعوني للانضمام لجهود اللجنة الفنية التي أُنشئت لدعم الانتفاضة الفلسطينية الأخيرة، والتي اقترح عادل إمام إقامة حفل كبير يُخصص دخله لدعم الانتفاضة.

حين حدث الاتصال التليفوني ووضعت السماعة وجدت نفسي أضحك كما لم أضحك في حياتي، فصوت عادل إمام وملامحه ومجرد تصوري له يضحكني، فما بالك إذا تحدث؟ إنه ينثر السخرية والابتسامات بتلقائية غريبة وضعها الله فيه كما وضع في الياسمين رائحته وفي الكروان حلاوة صوته، ولكن هذه المرة لم أكن أضحك من عادل إمام، كنت أضحك في الحقيقة فيما آلت إليه أحوال ما كان يُسمى بالرأي العام المصري عندنا، لقد كنا خلال القرنين الأخيرين منشغلين بكل قضايا العالم من معارك روسيا مع اليابان تلك التي ألف فيها شاعرنا الكبير حافظ إبراهيم قصيدة مطولة، إلى أقل شرخ يحدث في مئذنة أحد مساجد استامبول، وطوال خمسين عامًا نحن مشغولون بالقضية العربية إلى درجة الالتحام المسلح والقتال، فماذا بالضبط حدث لنا؟ إنني متأكد وأعرف أن كل مصري ومصرية ينتفض جسده غضبًا وغيظًا مما تفعله حكومة الاحتلال الإسرائيلي بسكان قطاع غزة والضفة، وأعلم أن الجميع — حتى الأطفال — يستنزلون اللعنات على جنود الاحتلال كلما رأوا منظرًا كهذا في النشرة، مع أنها نشرة مخففة جدًّا بالقياس إلى نشرات الأخبار في التليفزيون البريطاني (الذي يملك اليهود نفوذًا كبيرًا فيه) والأمريكي الذي يملكونه كله.

وأتطلع أنا إلى رد الفعل العام في مصر فلا أكاد أجد، حتى رد الفعل الوحيد الصادر عن نقابة المحامين لم أقتنع به تمام الاقتناع؛ فهو مثل بعض الحكومات العربية لا يجد أمامه إلا الحكومة المصرية يلومها ويعنِّفها ويوبخها ويتهمها بالخيانة ويطالبها بإلغاء وتجميد كامب ديفيد، وكأن هذا الإلغاء هو الذي سيوقف تكسير وضرب وقتل الفلسطينيين في الضفة وغزة، ولقد كانت كامب ديفيد كارثة، على الأقل في شِقها الفلسطيني بكل معنى الكلمة، ولكنها عندي غير مهمة بالمرة، إنما المهم أننا رُبطنا فيها وفي العجلة الإسرائيلية علنًا، أما ما حدث في السر فقد كان أدهى؛ إذ قد رُبطنا وكأنما للأبد بالعجلة الأمريكية الإسرائيلية أيضًا، وأصبحت اليد المصرية مشلولة تمامًا، أقصد اليد المصرية الرسمية، بل أصبحت محل سخط هذه الدوائر الفاجرة الأغراض، وما محاولة إفشال رحلة الرئيس المصري إلى أمريكا بهذا الفتور الأمريكي وتوريطه في مبادرة لم يقبلوها حتى هم أنفسهم، إلا مثَلٌ واحد على أنه لا الأمريكان ولا الإسرائيليون يريدون لمصر أو لرئيسها أن يقوى، أو أن يعود يتزعم العرب كما هو الشيء الطبيعي تمامًا، وإنما يريدون لمصر ولرئيسها أن تكون دائمًا مكسورة الإرادة والجناح؛ مجرد دولة عربية أخرى مثلها مثل أصغر دولة عربية تعدادها ربع مليون، كيف ستحل هذه التبعية القومية القمحية السلاحية النقدية، تلك هي القضية الكبرى والأولى إذا أردنا أن نعود لأن نكون أو تنمحي صفحتنا من الوجود.

ولكني هنا لا أتحدث عن مصر الرسمية.

إنما أتحدث عن مصر الشعبية، مصر الرأي العام القوي، المسمع دائمًا للعالم صوته.

أين هو هذا الرأي العام؟

كيف لا تصدر نقابة الصحفيين بيانًا إلى كل نقابات الصحفيين في العالم كله تستنهضهم ضد هذه الهجمة الهمجية الشرسة على إخواننا الفلسطينيين؟

أين هو اتحاد الكتاب — وفي مصر والله العظيم تنظيم اسمه اتحاد الكتاب المصريين — أين صوته؟ أين اتصالاته باتحادات الكتاب في العالم؟ أين موقفه حيال قضية وقَّع على شجبها خمسمائة كاتب ومثقف فرنسي ونُشرت في كبريات صحفه؟ أين هذا كله؟

نقابة الأطباء، نقابة الصيادلة، نقابة الزراعيين والمهندسين والتجاريين والإداريين، كل نقابات مصر، سواء على مستوى المصنع أو مستوى المؤسسة أو المستوى القومي العام.

إن النقابات هي القنوات الشرعية لإيصال صوت الشعب إلى الحكومة المحلية وإلى العالم كله، فأين نقابات العمال، واتحاد عام العمال، أين جامعاتنا — باسم الله ما شاء الله عشر جامعات أو تزيد — لكل منها اتحاد طلبة ونادي هيئة تدريس، ورئيس ومجلس، ومئات المئات من المدارس الثانوية والفنية، لو أن ناظر كل مدرسة ومدرسيها وطلبتها أرسلوا برقية للأمين العام للأمم المتحدة ولرئيس مجلس الأمن وللرئيس ريجان أو حتى لشامير يلعنون سياسته ويتوعدونه بالويل والثبور، لو أن هذا قد حدث لارتجت أبدان استعمارية كثيرة ولارتعشت يد رابين وهو يوقع الأمر بالضرب في المليان، ولكن شيئًا من هذا لم يحدث.

ذلك لأننا شعب قد أمرضنا أنفسنا وتولوا هم إضافة الجرعات لمرضنا، أمرضنا أنفسنا حين فصلنا بين الدين وبين الوطنية وحين أصبح الصراع يدور حول من المسلم وكيف يكون الإسلام، وكيف تكون علاقة المسلمين بغير المسلمين … إلى آخره.

وهذا كان أعظم ما يطمع إليه الطغاة والبغاة في كرتنا الأرضية، أن يلتهي المسلمون بفتنهم الداخلية عن أن يواجهوا أعداء أي دين وكل دين، أولئك الذين لا ملة لهم ولا أمان، وحوش القرن العشرين.

ثم جاءت أحزاب المعارضة حين تكونت الأحزاب لتوجه مدافعها الرشاشة والثقيلة إلى وزير الداخلية وضباط وزارة الداخلية، ومع أنهم يستحقون النقد على بعض ما يقترفون، ولكن عدونا ليس زكي بدر وليس أبو باشا ولا مكرم محمد أحمد، عدونا هو شامير وشارون وريجان الخاضع ورابين، أولئك هم الذين كانوا يتوجب علينا أن نوجه لهم كل مدافعنا، فنحن لا نزال في مرحلة تحرر وطني، وهم لا يزالون المستعمرين بلا جنود، ولكن بلقمة العيش وقطعة السلاح والدولار والسياح، استعمار من نوع جديد غريب لم يرد في الكتب ولن تجده في المراجع، وإنما هو ذا أمامنا في الحقيقة واضح وجلي وصريح ولا يحتاج إلا لذي نظر وبصر، ولكن أنظارنا مشغولة بالتفرقة بين الدجاج الأبيض والبني، وبين الأجور والارتفاع الجنوني في الأسعار، وأزمة السكن وأزمة المواصلات، وعمرنا، طوال عمرنا، نعاني من مشاكل الحياة، في طفولتي كنا نأكل اللحم مرة كل شهر، ومع هذا كنا نقاوم ونحارب ونتظاهر ضد الاستعمار والاحتلال غير محتجين أبدًا بالفقر أو بالديون أو بالحاجة؛ فقد كانت روح مصر لا تزال حالَّة في جسدها ولا تزال تغذينا بموتور من الطاقة الروحية على المقاومة.

ولست أعني باستصراخي للمدارس والجامعات والنقابات أن أدعو إلى مظاهرات تجأر وتملأ الشوارع وتتيح الفرصة للمتربصين بها وبنا لكي يعيثوا فسادًا في الأرض، إنما أدعو إلى مؤتمرات تُعقد في المعاهد العلمية والنقابات لها كل الجلال والخطورة، تناقض وضع إخواننا الفلسطينيين الذين تتقطع لهم قلوب الناس في أمريكا نفسها وحتى في إسرائيل، مؤتمرات ليست موجهة ضد حكومتنا لكي تشتبك في صراع داخلي لا يفيد أحدًا، وإنما بإشراك رجال حرب الحكومة أنفسهم في تلك المؤتمرات وبالاشتراك في تلك المعارك السياسية، حتمًا ستقل الفجوة، فجوة العداء إلى حد البطش من ناحية والاستنكار الصارم من ناحية أخرى، وبتقليل تلك الفجوة يمكن فعلًا أن نتحدث بعد هذا عن حوار بين المعارضة والحكومة وعن حلول قومية حقًّا.

أما أن تتطوح مصر اﻟ ٥٢ مليونًا ويحمل الفنان عادل إمام وحده ومن تلقاء نفسه ومعه مجموعة صغيرة جدًّا من الفنانين عبء التعبير عن غضبة شعب مصري يُبصق في وجهه دم كل يوم من قبل أعدائه، ولا يصنع شيئًا، فذلك هو ما جعلني أغرق في الضحك حتى البكاء.

قطعة من ضمير مصر الحي

من بين الخطابات الكثيرة، حين قرأت هذا الخطاب «طب» قلبي رعبًا، أو فرحًا أو شعورًا غامضًا لم أحس به من قبلُ، لا أعرف، أخذت الخطاب وطبَّقته بعناية ومعه الظرف، وإلى أن عدت إلى منزلي بعد ساعات طويلة كنت دائم الإحساس بوجود الخطاب في جيبي يتحول، من كلمات غريبة وكأنها رسوم الآراميين على معابدهم، إلى ما يشبه التعويذة، إلى شيء دافئ حميم وأنه قطعة من ضمير مصر تكورت داخل جيبي.

وقبل أي شيء آخر سأعرض لكم الخطاب، وكنت أفضِّل لو كنت طبعته بالزنكوغراف لتروا كيف كُتب، لولا علمي أن كثيرين منكم لن يستطيعوا فهمه ربما لرداءة الخط أو اللغة أو حتى الهجاء؛ ولهذا آثرت أن أُتعب نفسي في حل ألغازه، وأنشره، بنفس لغته.

الكاتب الحقاني يوسف إدريس

باكتب لحضرتك الجواب ده ومعلش أنا ابتدائية قديمة وبافهم كلامك في الجرنان لأنه سهل وحقاني، وعلشان كده اسمع حكيتي (حكايتي)، بيقولوا مين شاف منكر لازم يغيره بإيديه، ولو مقدرش بلسانه، ولو مقدرش بقلبه، وده أضعف الإيمان، مش كده؟ طيب، أنا ممرضة وعندي بنتين بيشتغلوا في الشركة المصرية … (لا تؤاخذوني لم أذكر اسم الشركة لأني أخاف على صاحبة الخطاب من الانتقامات الجبانة) بنتين: ماجدة متجوزة ومبسوطة والتانية لسه مخطوبة، واحنا ناس على أد حالنا ورأس مالنا جمال البنات وشرفهم، وبعدين بنتي الصغيرة مرة جت تعيط وتقول بإن زميلتها اللي بتشتغل في قسم الهندسة وأن مهندس كهربا فضل يعاكسها وهي تصده لغاية ما ضحك عليها وهي متجوزة من مدة بسيطة، وأخدها يوصلها لبيتها لأنها سكرتيرة معاه وراح جنينة (…) وهناك هجم عليها، وصدفة شفهم البوليس وهي بتصرخ وبقت قضية، البنت اترفدت وطلَّقها جوزها، وهي كانت بتصرف على أمها لأنها يتيمة اتظلمت، أما اللي ضحك عليها فإدارة الشركة نقلته لحتة تانية في المخازن وبعدين جه مدير عام صاحبه قوي أول حاجة عملها أنه بالرشاوي والهدايا رجعه مدير زي ما كان، وعشان البنات بيشتغلوا بعقد ٦ شهور بس يتجدد لو وافق مدير عام الهندسة، الاثنين يستغلوا الفرصة من غير ضمير مع البنات ضد الأصول والدين والقانون، وبعدين جه خطيب بنتي وهو مهندس كبير بالمراكب، وكان غلبان زي حالنا وبعدين لقيته بيجيب هدايا بهبالة وكتير قوي وبعدين اشترى عربية بلونور (بولونيز) قلت: منين الفلوس دي كلها؟ ضحك وقال: شيِّلنى وأشيِّلك، فقلت: يعنى ايه، مخدرات؟ ضحك وقال: لا أنا باشتغل في مراكب البحر الأحمر ومفتش هندسي (…) مريض بالفلوس، وكل حاجة النُّص بالنص وكل الهدايا لما بطلبها بيكون جايبنها، وكل الإصلاحات أو أي حاجة عايز أشتريها من بره وكله بثمنه. قلت له: مش فاهمة. قال: مدير عام الهندسة جاهز وبيوافق على اللعب ما دام شيلني وأشيلك. فقلت: بس ده مال حرام ده مال حرام والمراكب والناس اللي فيها ممكن يجرا لهم حاجة. ضحك وقال: هو حد حاسس أو شايف؟! ما هو المراكب بتتعطل وأدي مركب الطقم محبوس في ألمانيا علشان الحاجات لما ركبوها كانت خسرانة، والسرقات شغالة على ودنه، هو أنا بس؟! تعالي شوفي زمايلي عندهم عربات وفلوس وعمارات زي الرز، والبركة في المدير الجديد. وحضرتك يا دكتور هل يرضيك قلة الشرف والنصب ده وفين المباحث والوزير، أنا ح افك خطوبة بنتي لأن ده مال حرامي بس ما اقدرش أخليها تسيب الشغل لأنها بتصرف علينا وأبوها ميت، بس هي خايفة ليجبرها على الرذيلة أو يضحكوا عليها وتبقى فضيحة، أرجوك احمينا قبل ما تقع الفاس في الراس، السلام.

الحاجة أم هاشم
بلوك المساكن الشعبية (…)

إني آسف أني أخفيت عن عمدٍ بعض التفاصيل والأسماء، ولكن الخطاب عندي وتحت تصرُّف السيد سليمان متولي وزير النقل والمواصلات.

ولكن حتى وزير النقل لن يستطيع حمايتك يا سيدتي؛ فالفساد قد استشرى في بعض القطاعات إلى درجة يعجز أي وزير بشري عن إيقافه.

بل وأنا أرفع هذه الكلمة إلى الرئيس محمد حسني مبارك لا أرفعها نيابةً عنكِ وإنما أرفعها نيابةً عن كل سكان البلوكات والعرب والقرى والشقق، عن كل الذين لم يدخلوا بعدُ في «اللعبة»، عن الذين لا يزالون يصرون أن يعيشوا بشرف وفي شرف، عن الخائفين على أولادهم وبناتهم من عصر قادم يأكل الناس فيه بعضهم بعضًا ويتحولون إلى ذئاب بشرية لا ترحم أحدًا.

نعم الفساد يا سيادة الرئيس موجود بشكل ويأتي في الإدارة الحكومية والقطاع العام وحتى الخاص، وهو فساد لست أنت صانعه، إنما بلاء حتى في ظل الثورة وحكم الرئيس جمال عبد الناصر؛ فلقد سمعته مرة في خطابٍ عامٍّ يقول: إنني حينما أضع ميزانية لمشروع أعرف أن ١٠٪ على الأقل منه ستذهب سمسرةً وسرقات. ولقد روعتني هذه الكلمات حقًّا أن يصرح رئيس الجمهورية بأنه غير قادر على إيقاف السرقات، وأي رئيس جمهورية، وجاء عصر ما بعد عبد الناصر لتزيد اﻟ ١٠٪ أضعافًا مضاعفة.

ولكن قلب مصر الحقيقي يا سيادة الرئيس لا يزال سليمًا وضميرها لم يدخله الغش بعدُ، والحاجة أم هاشم ليست سوى قطعة مجهولة من ذلك الضمير الذي أعلم أنه موجود وأنه حي وأنه قادر. نعم إن الخير لا يزال في مصر أكثر بكثير من الشر، كل ما في الأمر أن الخير ضعيف جدًّا؛ لأنه خير الذين لا صوت لهم ولا مال، والشر عالٍ مشهور؛ لأنه شر المزودين بالمال والمشترين للذمم. تصور يا سيادة الرئيس أن المرأة القادرة الحديدية لا تزال تحيا في مصر، وتذهب إلى أي سوبر ماركت وتشتري وينحني لها كل الموظفين، مع أنها مطلوب القبض عليها ومقدمة للمحاكمة وهاربة؟ إنها تستطيع وقادرة أن تشتري حريتها حتى لو حُكم عليها بالسجن المؤبد لأنها تملك المليارات.

وفي خطبك يا سيادة الرئيس توجه نقدك اللاذع لصحف المعارضة، والمعارضة السياسية لبعض خطواتك، ولكني أرجوك يا سيادة الرئيس، ولو من أجل أولادك الذين سيحيون في هذه الذات المصرية، أن تُرِي العين الحمراء مرة لهذا السرطان المستشري في الآلة الحاكمة المصرية، أن تتحرك أجهزة التفتيش والقبض والتقديم للمحاكمة، أن يُعاقَب كل مختلس أو تُعاقَب إدارة بنك أقرضت بغير مستندات، أن يحدث شيء، أي شيء، يُوقِف هذا الزحف الشيطاني الكاسح.

وإلى أن يحدث هذا، فيا سيدتي الحاجة أم هاشم حسنًا ما فعلت بفسخ خطبة ابنتك، وثقي أنها لن تُمَس، بشعرة، ولو حدث، فسأحمل أنا بنفسي القضية إلى السيد وزير النقل وربما إلى النائب العام.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤