الفصل السابع

١

يقولون: «ولو أن الرجل تمرد على وظيفته فاستأنث واستقر في البيت لتحطمت الرجولة وفسد المجتمع، وتعطلت الحياة، وذلت قيمة الإنسانية، وكذلك لو تمردت المرأة على تعاليم ربها، ونظم مجتمعها، فهجرت البيت إلى الشارع، وميادين العمل الخارجية، لفقدت أنوثتها ونسيت أمومتها وهدمت بيتها بيدها، وتعرضت للاختلاط المشين بالرجال».

هذه العبارات الخطابية لا تغني عن الحق شيئًا، فما كان للرجل أن يستأنث أي يصير أمًّا ومرضعًا، وما كان للمرأة أن تهجر بيتها إلى الشارع لمجرد أنها تتحرر من قيود التقاليد، والبيت عند المرأة أقدس منه عند الرجل، بل إن للبيت في نفس المرأة من الحرمة ما ليس له مثيل في نفس الرجل، إن المرأة سلطانة البيت بل الملكة غير المتوجة في ذلك الكنِّ الأقدس، فكيف نتخيل؛ إرضاءً لنزعات عجيبة نحاول إرضاءها، أن المرأة إذا تحررت هجرت البيت إلى الشارع!!!

ولماذا نذهب بعيدًا؛ فليس نساؤنا غير محررات، بل إنهن أصبحن مالكات لرقابهن منذ أن نهضت مصر نهضتها الأخيرة، فانتزعن الخمار وهتكن الحجاب، وخرجن من البيوت، لا ليكنَّ في الشوارع متسكعات، بل ليعدن إلى بيوتهن عارفات بأخص الواجبات، مسلمات قانتات بعيدات عن الغي والهوى! من أين إذن ذلك الخيال الذي أملى هذه العبارات العجيبة التي قلبت الرجل أنثى، وجعلت من المرأة بنت هوى تتسكع في الشوارع والطرقات!!! إنما جاء ذلك الخيال مؤيدًا لنزعات التسلط على المرأة بأية سبيل ومن أية ناحية، وما نما واستشرى وكبر وضخم في تلك الرءوس إلا مجاراة لأوهام ما أنزل الله بها من سلطان، فإن الفسق والفجور والبغي، تلك المعاني التي لا يفكر واحد من هؤلاء في المرأة إلا وتكبر في نفسه آثارها، حتى أصبح بين هذه المعاني والمرأة تشارك ذهني عجيب، إنما تقوم دليلًا على أن الذين يذهبون ذلك المذهب، لا يدركون أن الفسق والفجور والبغي ليست أشياء وقفتها الطبيعة على المرأة، أو صفات رصدها الطبع للأنثى، وإنما هي أشياء يشاركها فيها الرجل أيضًا، أما أن الرجل مثال للطهر والعفة، وتصور المرأة مثالًا للبغي والإسفاف، فإن ذلك من أبعد الأشياء عن العدل الذي يقيم قواعد المجتمع، ويرسي أسس النظام.

٢

يحنو هؤلاء على المرأة، ويصورون أنفسهم في صورة المشفقين عليها أن تتعرض للمشكلات والمصاعب التي يتعرض لها الرجل خلال سبحه الطويل في خضم الحياة المتلاطم كما يقولون، ولماذا لا يظهر ذلك الحنو وهذا الإشفاق على المرأة، عندما ترضخ لإرادة الرجل فتحبس في البيت، وتستذل اقتصاديًّا، وتمنع عن أن تكون ذاتًا مستقلة بنفسها في الحياة؟! أمن الحنو أو العطف أن تحرم المرأة ثمرة العمل؛ لتظل عالة على الرجل فيستعبدها ويستبد بها، بحكم أنها في حاجة إلى سعيه، واستجداء عطفه، واستدرار جيبه؟! أمن الحنو والإشفاق أن تظل المرأة تلك المستجدية الذليلة المحتاجة إلى سعي الرجل، والحياة من حولها تدعوها إلى العمل، بل وأن الأمة جمعاء تستصرخها أن تبذل من جهدها العملي والفكري ما تستكمل به الأمة ذاتيتها وتقوي اقتصادياتها التي هي السبيل الأوحد إلى استقلالها السياسي؟!

ولماذا نذهب بعيدًا، فهل في مستطاع هؤلاء بخطابياتهم هذه أن يحملوا الفلاحة على أن تقر في البيت ولا تخرج منه؛ فلا تساعد في الزرع وفي الحصاد، ولا تعاون في رعي الماشية وإقامة الأبنية ورفع الطفيليات من الحقول ومقاومة دودة القطن، ونقاوة الأرز، إلى غير ذلك مما تضطلع به في عالم الزراعة أساس ثروتنا الأهلية؟! وهل في إمكانهم أن يصوروا لنا حالة الريف ومقدار ما تفقد هذه الأمة من الملايين المملينة من الجنيهات إذا كفت الفلاحة عن الخروج إلى الحقل والمعاونة في أعمال الزراعة، واتبعت مذهب هؤلاء فاستقرت في البيت ولم يرن صوتها الغرد الجميل في أرجاء الحقول النضرة في الأصائل والأسحار؟

والواقع أن الفلاحات أشد اختلاطًا بالرجال من نساء المدن، فهن في الحقول وفي الأسواق وفي القرى وفي البنادر متجولات متاجرات بائعات مشتريات، عاملات غارسات حاصدات، فهل سادت بذلك الفوضى، وعم الشقاق كما يقولون، أم أن الفوضى والشقاق بل إن العماء والموت إنما هو في مذهبهم الذي يريدون به أن يصدوا الفلاحة عن القيام بأعباء العمل المنتج في الحقل، وعملها فيه لا يقل عن خمسين في المئة من مجموع العمل الحقلي في السنة، فإذا أضفت إليه عملها في البيت باعتبارها منتجة، زادت قيمة عملها على ذلك كثيرًا.

وكيف يرضى هؤلاء للمرأة المتعلمة أن تظل عالة على الرجل؛ في حين أن الفلاحة الجاهلة تكاد تكون مستقلة بأعمال بيتها، بل وتكاد تكون مستقلة بحياتها؛ فإنها في اليوم الذي ينبذها فيه الرجل، تشمر عن ساعدها وتخرج إلى الحقل عاملة تكسب قوت يومها؛ ذلك بأن طبيعة حياتها لم تفقدها قوة العضل ولا قوة الإرادة.

٣

لا أريد أن أتكلم في أن المرأة في الإسلام قد اعتبرت نصف إنسان؛ إذ هي على النصف مما يستحق الرجل، ولا تقبل شهادتها في الحدود والقصاص، وأن شهادة المرأة كالنصف لشهادة الرجل، دعنا من أن القانون الجنائي والقانون المدني يأخذ كل منهما الآن بشهادة المرأة على المساواة بشهادة الرجل، وأن شهادة المرأة في حادث جنائي قد يؤدي برجل إلى المشنقة أو إلى السجن المؤبد، ولكن الإسلام قد أباح في الوصية والوقف أن يعطي الموصي والواقف ما يشاء من ماله إلى امرأة أو بنت أو أخت أو عمة أو خالة أو لمن يشاء من النساء بغير حساب، ومن غير أن يكون عليه في ذلك قصاص من ناحية الدين، فكأن الإسلام بسماحته المعروفة قد اعتبر المرأة إنسانًا كاملًا إذا أراد الرجل أن يعتبرها كذلك، أي أنه جعل المرأة مساوية للرجل من طريق غير مباشر؛ تاركًا الأمر في ذلك لمن يريد أن ينزلها تلك المنزلة، ولكن قلما يلجأ الرجال إلى هذه الرخص السامية فيطبقونها، وإذا أردت دليلًا على ذلك فانظر في وثائق الأوقاف، فكل وقف صدر عن رجل إما أن تحرم منه البنات إلا قليلًا، وإما أن يعطى لهن نصف ما للذكور عند التسمح.

وأكثر الأوقاف التي صدرت عن نساء تساوى فيها نصيب الذكر والأنثى، وكان النساء في ذلك أقرب إلى العدل والمرحمة من الرجال، فإنهن لم يقلن على الأقل:

أبناء أبنائنا بنونا وبناتنا
بنوهن أبناء الرجال الأباعد

يقولون: إن الفوارق بين المرأة والرجل، كانت سببًا في أن يفرق بينهما الشرع؛ فلا يصح إمامتها للرجال، ولا محاذاتها لهم في الصلاة، ولا تصح خطبتها في الجمعة والعيدين، ولا يجوز لها الأذان أو الإقامة، ولا يجب عليها الجمعة ولا العيدين ولا الجهاد؛ ويقولون: إنه من الفروق بين المرأة والرجل أن لا تتزوج إلا رجلًا واحدًا، بينما يجوز للرجل أن يتزوج أكثر من واحدة إلى أربع إذا قدر على النفقة المعتادة والعدل المستطاع، وأنه لا يصح إيقاع الطلاق منها إلا أن يفوضه الزوج إليها، ولا تصح منها الرجعة في الطلاق الرجعي.

كل هذه الأشياء ولا شك تزهد فيها المرأة، فهي ولا شك زاهدة في أن تؤم الرجال، زاهدة في أن تحاذيهم في الصلاة، زاهدة في أن تخطب الجمعة والعيدين، والأذان والإقامة، وصلاة الجمعة إلى غير ذلك، فليهنأ بذلك الرجال! ولكن كيف تزهد المرأة في أن تكون إنسانًا؟! كيف تزهد في أن تكون شريكة واحدة لشريك واحد؟! كيف تزهد في أن يكون زوجها لها لا لأربع نساء؟! ولئن كانت الرخصة بالزواج بأكثر من واحدة إلى أربع، كانت لضرورة! فأجازها الشرع، فإنه قد حوطها بسياج من التحرز جعل القيام بشرائطها ضربًا من المحال؛ فقال: فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً، وَلَن تَسْتَطِيعُوا أَن تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ، والمعنى الصريح لهذا القول العلوي أن استطاعة العدل محال، وإذن يكون الحكم هو التزوج بواحدة.

أما من حيث الطلاق، فمقتضى النظام الاجتماعي، يحتم علينا أن نقيم الأسرة على أساس أثبت من الأساس الذي يجعل للرجل حق الطلاق غير منازع فيه، وأن نجعل الطلاق حقًّا للطرفين، على أن يكون بحكم تصدره محكمة خاصة، وإلا فلا يقع طلاق مهما كان الأمر، أما الطلاق الرجعي فمعناه أن الرجل يبيع المرأة في سوق الغضب، ويشتريها في سوق الرضا، يطلقها اليوم ويردها غدًا كأنها السلعة أو السائمة، وأي درك أحط من ذلك الدرك تنزله المرأة، فتترك غرضًا ترميه سهام النزق والحمق والجهالة والسفالات.

٤

يقولون: «المرأة لا تَسْعَدُ ولا تُسْعِدُ غيرَها إلا إذا كانت محكومة».

ولكن ما طبيعة ذلك الحكم، وما هو مداه، ولمن يكون الحكم؟ ذلك ما لم يُبِنْ عليه أولئك الذين يريدون أن يعموا على الحق بخطابياتهم، إذا كان المعنى المستفاد من أن المرأة لا تصلح إلا إذا كانت محكومة، أن يكون ذلك بالخضوع للقوانين، فإنها والرجل سواسية من حيث ذلك؛ فإن الرجل لا يسعد نفسه ولا يسعد غيره إلا إذا حكمه القانون، وسيَّرت خطاه الشرائع، أما أن يحاولوا بذلك القول أن يكون الحكم للرجل بمطلق إرادته الفردية، وأن تكون المرأة خاضعة لذلك الحكم بلا أي ضابط، فذلك نظام باد ومضى زمنه، فإن زمن الإرادات الفردية أصبح اليوم حديثًا يروى.

ينبغي أن ينظر في قضية المرأة نظرة واسعة وشاملة؛ حتى يكون الحكم فيها ملائمًا لحاجات العصر مسايرًا لمقتضى الحال، فإن اللجوء إلى خطابيات تقوم على مجرد آراء منقولة أو نصوص أريد بها الإشارة إلى حالات عابرة لا تلبث أن تزول عندما تزول بواعثها، أمر جد خطير، وكذلك لا ينبغي أن يؤخذ بما جرى عليه بعض القدماء من تأويلات؛ كقولهم مثلًا: إن الإسلامَ لم يبحْ للمرأة أن تخرج من بيتها إلا لضرورة، تاركين تعريف هذه الضرورة لصاحب القوامة عليها؛ وهو الرجل، فأعطوا الرجل بذلك سلطة لا حد ولا ضابط لها، فله أن يأسرها أسرًا طويلًا وله أن يقدر الضرورة التي تضطرها إلى الخروج من بيتها بمحض هواه، ولا شك في أن كلمة الضرورة من الأشياء التي يمكن أن يضيق معناها أو يتسع بمحض الإرادة، لا سيما وأن تقدير ذلك متروك إلى شخص ذي مصلحة خاصة في تقدير معناه، وإذن يتراوح ذلك المعنى بين الشدة واللين بحسب الظروف التي تقوم بين من يريد أن ينتفع بالضرورة، وبين من يقدر هذه الضرورة، وعلى الجملة فإن كلمة الضرورة لم يقصد بها في السماح للمرأة بالخروج من البيت إلا أن يكون لأحد طرفي الشركة في الزواج سلطة غير محدودة على حرية الطرف الآخر، على أن ذلك كله لا يمكن أن يكون ذا أثر في توجيه الحياة في عصرنا هذا؛ فإن الضرورات التي تحمل المرأة على الخروج من بيتها في عصرنا هذا ولا شك غيرُ الضرورات التي كانت تحمل المرأة على مغادرة بيتها في الأزمان التي قيل فيها ذلك القول، ولكننا إلى جانب هذا نذهب إلى أن شرط الضرورة في الإذن للمرأة بالخروج من بيتها لم يقصد به في الواقع إلا أن تستعبد وأن تسلب حريتها، ولكن ذلك لم يصبح ممكنًا في هذا الزمن، ولا نستطيع إلا أن نقرر أن المرأة حرة في الخروج من بيتها، وأن أساس الحياة الصالحة أن يبادل الرجلُ المرأةَ ثقةً بثقةٍ، فلا يفرض أنه مخلوق مشكوك فيه، وأنه مخلوق مبرأ من كل نقص.

٥

عمد الرجعيون إلى اتخاذ القول بأن النساء ناقصات عقل ودين وأنهن قد خلقن من ضلع أعوج، مبررًا لأن تكون المرأة تبعًا للرجل؛ تبعًا لإرادته وجزءًا من متاعه، وأنها لنقص الدين، وصغر العقل، وخلقها من ضلع أعوج، لا ينبغي أن يكون لها حق الحرية أو حق الحياة إلا بقدر ما يبيح لها الرجل من الحرية ومن الحياة الإنسانية.

أول شيء: لا أستطيع عقلًا أن أسلم بأن ذلك القول قد صدر عن النبي صلاة الله عليه وسلامه، وأنها من قبيل ما نقل إلينا من الأحاديث التي لا يقبل عقل أنها صدرت عن النبي؛ لشدة الفارق بين صغر ما نقل وعظمة المنقول عنه، فهل أعقل مثلًا أن النبي قد قال: «من أكل فليلعق أصابعه أو يلعقها غيره»؟ كلا، من المستحيل أن أعتقد أن ذلك القول قد صدر عن النبي ولو صح سنده، ومثله القول بأن النساء ناقصات عقل ودين، في الوقت الذي تواتر فيه أن كبار الصحابة قد أخذوا عن عائشة ثلثي الدين، وما عائشة إلا من النساء، فكيف نوفق بين هذا القول، وبين إقبال كبار الصحابة على عائشة يأخذون عنها ثلثي الدين بعد موت النبي — عليه الصلاة والسلام — مع أنه قد كان بين عائشة والصحابة تلك الوشائج التي نعرفها؛ من حيث العلاقة ومن حيث الزمن.

أما أن النساء قد خلقن من ضلع أعوج، فكلام لا يستقيم مع الواقع؛ لأن كل الضلوع بها عوج، والقول بأنهن خلقن من ضلع أعوج يوجب وجود ضلوع مستقيمة، وهذا تناقض لا يصدر عن النبي، وكذلك فيه تناف مع حقائق العلم الحديث؛ لأن نظرية خلق الأنواع خلقًا مستقلًّا قد أفسحت الطريق لنظرية التطور العضوي، فلم يصبح لها من الشأن ما يصح أن يحتج به؛ لا في العلم، ولا في غير العلم.

أما إذا نظرنا في الرجل والمرأة، لنرى أيهما أحق بأن يوصف بأنه ناقص العقل والدين، لرأينا أن المرأة أحق من الرجل بأن توصف بأنها أكمل دينًا، وإن لم نستطع القول بأنها أكمل عقلًا، فإذا كانت وصايا الأديان جميعًا قد هدفت إلى أن يستقيم المجتمع، فالمرأة أكثر مراعاة لوصايا الدين من الرجل، فإذا أخذت مثلًا إحصائية الجنايات، وبخاصة جنايات القتل، لما وجدنا في تلك الإحصائية حادث قتل واحد ارتكبته امرأة؛ اللهم إلا النادر اليسير، ولوجدنا أن بين جناية القتل التي يرتكبها رجل، وأخرى ترتكبها امرأة، فارقًا في طريقة القتل؛ يدل على مقدار ما في جناية الرجل من وحشية، وما في جناية المرأة من أثر التردد وتخفيف الموت على المقتول، وكذلك نجد في أكثر الأمر أن القتل الذي ترتكبه امرأة فيه عنصر من التحريض أو المساعدة مصدره الرجل.

وعلى ذلك فقس: السرقة والسطو والتزوير والاغتصاب وغير ذلك من الرذائل التي ما أرادت وصايا الأديان إلا أن تكف عنها الإنسان، فإن جميع هذه الوصايا أصبح اتباعها وقفًا على المرأة دون الرجل، فأيهما أكمل دينًا: المرأة أم الرجل؟

نترك الجواب عن ذلك لمن له عقل يحكمه أو ضمير يحاسبه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤