الفصل الثاني

١

كان القضاء على بضعة صناعات منزلية، إثر ظهور بعض اختراعات خطيرة، من أعظم الانقلابات الداوية التي أصابت إنجلترا في خلال القرن التاسع عشر، كانت تلك الصناعات وقفًا على بيوت ريفية هائلة العدد منتشرة في عرض المزارع وطولها، فلما اكتسحتها تلك الاختراعات وقضت عليها، نشأ على أنقاضها مصانع فخمة واسعة، تستخدم عشرات الألوف من العاملات، ولقد كان لهذا الانقلاب آثارًا هامة يمكن تتبعها في كل مرفق من مرافق الحياة في إنجلترا، اجتماعيًّا وسياسيًّا، ولكن من المحقق الثابت أن فعلها كان أبين في المرأة من حيث التأثير في حياتها وعاداتها ومصالحها، منه في أية طبقة أخرى من طبقات المجتمع، وإذا نظرنا في هذا الانقلاب من ناحية بعض الاعتبارات الخاصة، رأينا أنه قد أنتج نتائج بالغة منتهى السوء، فمن ناحية الأخلاق كانت الصناعات المنزلية ذات أثر في الاحتفاظ بالناحية الطيبة منها؛ إذ كانت حياة الأسرة غير مدخولة بعنصر جديد يفكك عراها، كما كانت من أشد العوامل فعلًا في الاحتفاظ بطبقة الفلاحين والأجراء مكفية الحاجة، وهي طبقة من أفيد طبقات المجتمع، وعنصر من أقوى عناصره؛ بل إن شئت فقل: إنها صلب المجتمع وفقاره المقوِّم لحقيقته وصورته، فإن آلافًا مؤلفة من المزارع الصغيرة في إنجلترا، كانت ولا شك تصبح عرضة للبيع بثمن بخس والاندماج في المزارع الكبيرة، عندما تنزل قيمة إنتاجها الزراعي بفعل ظروف خارجة عن إرادة الزراع، لو لم يؤيدها في مثل هذه المحنة الناسج والغزال، ولا شك في أنه من أروع الحقائق الظاهرة في الحياة الاقتصادية أن لا يعتمد الناس في معيشتهم على مصدر واحد من مصادر الثروة، وأنه من الحكمة أن يكون من وراء ذلك المصدر مصدر آخر تابع له، يأخذ بيدهم إذا أصابهم الكساد أو نزلت بهم قلة، فكانت المصانع المنزلية من حيث ذلك ذات قيمة كبيرة، وكان من الممكن أن يفزع إليها كلما دقت ساعة الحاجة وحزب الأمر، وكانت هذه المصانع في الواقع وسيلة لاستغلال فراغ أشهر الشتاء، عندما تتطلب المزارع قليلًا من العناية والوقت.

إن عمل المرأة يتراوح بين الشغل والفراغ تراوحًا شديدًا، لا نظير له في عمل الرجل؛ فإن عمل امرأة متزوجة من طبقة العمال ينحصر في العناية بمنزلها وأسرتها، ولكن كمية العمل المطلوب منها أداؤه تلقاء ذلك، تختلف اختلافًا كبيرًا بمقتضى الحالات؛ فهو يتوقف إلى حد كبير على عدد أبنائها، وعلى سنهم وصحتهم، والدرجة التي وصلوا إليها في التعليم، وعملهم في خارج المنزل، وإلى وجود بنات لها، وسنهن وقدرتهن على مساعدتها أو احتياجهن إليها، فحياتها في سنة ما قد تكون مثقلة بالعمل، وفي أخرى مخللة بالفراغ، وفي مثل هذه الظروف تعمل الإبرة والوشيعة١ والنول اليدوي، فتصبح أشياء بالغة القيمة.

كل هذه الصناعات وأترابها مما له صلة بها، قد عطبت وبادت، ناهيك بأن الصناعات المنزلية لا يتسنى لها أن تنافس المصنوعات التي تخرجها الآلات، وهي أرخص ثمنًا وأتقن صناعةً، وكذلك هي الحال في عالم الإنتاج الفني، فإن الآلات قد قاربت من حيث القدرة على الجمال الفني صناعة اليد، وقد مضت في ذلك شوطًا قد يؤدي بها إلى التفوق عليها.

انظر إلى صناعة «الدانتلا» مثلًا؛ فإن الآلات قد برعت في صناعتها براعةً أدت إلى القضاء عليها قضاءً مبرمًا بين الأيدي العاملة، وكانت من أعظم الصناعات اليدوية في بلجيكا قبل نشوء تلك الآلات، وقبل إقامة معاملها العظيمة في تلك البلاد؛ ذلك بأن المنافسة بين الآلة والإنسان، قد قضت على الإنسان، وأقامت صرح الآلة، وكذلك الحال في الملابس التي كانت تغزلها وتنسجها الأسر في داخل المنازل، فإن رخص المنسوجات الآلية، قد قضى تقريبًا على صناعة الثياب المنزلية.

قد يتفق أن يكون مجال الاستخدام والعمل قد اتسع بوجود الآلة، ولكن مما لا شك فيه أن مقدار العمل المتقطع، أي الذي تتخلله فترات فراغ وتعطل، والعمل الناشئ اتفاقًا، أي الذي تتطلبه ظروف طارئة، قد يحتمل أن تكون فرصه قد ندرت أو هي كادت تزول تمامًا، وعلى الحقيقة نجد عند النظر في طبقة أرفع بعض الشيء من طبقات العمال والصناع، أن الصحافة وصناعة الأدب والتأليف مثلًا قد هيأت عملًا للكثيرين، وأن هذه الأعمال، وإن لم تتخذ صناعة دائمة في بعض الأحيان، فإنها بطبيعتها قد تشحذ بعض المواهب حتى يصبح الاشتغال بها ملكة وفنًّا دائمًا، وبذلك تضيف إلى الحياة قسطًا من المرح والفائدة، قد نلفى أن الحياة بغيره ذميمة مرذولة، ذلك على العكس مما تقع عليه في عالم الصناعة، فإن الصناعة قد تركزت وتبلرت في مواضع خاصة لا توجد في غيرها، فانتقل بذلك عمل المرأة العاملة من البيت إلى المصنع.

وكان من الضروري أن يسن لهذه الصناعات الهائلة قوانين تتدخل في شئونها فتنظمها وتحميها، ولم يكن هنالك من حاجة إليها عندما كانت هذه الصناعات مقرها البيت ومصنعها جلسة هادئة إلى جانب الموقد، وقد شعر كثير من المصلحين بأن هذه الشرائع المنظمة للصناعة ظلت في الماضي وستظل في المستقبل، من أشكل ما ينصرف إليه السياسيون ورجال الدولة من المهام والواجبات، وهنالك إلى جانب هذا شرائع تتفق إزاءها مصالح الرجال ومصالح النساء على السواء، وإن قليلًا جدًّا من المعضلات الاجتماعية ما يفوق معضلة: إلى أي حد يذهب القانون في حماية المرأة من التأثر بدنيًّا وعقليًّا من جراء إرهاقها بالعمل، من غير أن يحرمها القانون حق العمل، ويحول بينها وبين مزاحمة الرجل فيه؟ فإذا تنافس طائفتان من الناس تختلفان في القوة البدنية، كما تختلفان في قيمة الأجر الذي يصيب كل منهما جزاء العمل، فلا شك في أن مصالح متناظرة تنشأ بينهما، فإذا قام ممثلو ناحية منهما بوضع القوانين التي تنظم العمل، فمن الراجح جدًّا أن الناحية غير الممثلة تتأثر لحساب الناحية الأخرى، وذلك ما حدث في إنجلترا وفي كثير غيرها من البلدان الصناعية، فإن عمل المرأة تنظمه قوانين خاصة أشد وأمعن في الحرج من القوانين التي تنظم عمل الرجل، فالمرأة ممنوعة من العمل الليلي، ومن العمل في باطن الأرض، ومن العمل في المصانع أسابيع معدودات بعد الوضع، ومن الاشتراك في جماعات العمل الفلاحي، وهن فوق ذلك ممنوعات من العمل أمام الآلات الخطرة، والساعات التي يعملن فيها محدودة في كثير من المناطق بالقانون، ومركزهن في العمل مركز الفتيان الذين لم يرشدوا بعد.

غير أنه لا ينبغي لنا أن ننسى أن الحجج التي أقام عليها المشرعون هذه الفوارق، هي من القوة بحيث لا يستطاع أن يناقش فيها أو يمارى في صحتها، ومهما يكن من أمر المنازعة واختلاف الرأي في الفروق التي تفصل بين الرجل والمرأة عند مقارنة الكفايات، فلا يخامرنا الشك مثلًا في أن المرأة أقل من الرجل قوة جسمانية، وقدرة على العمل، ومن عادة النساء، وهي عادة تكاد تكون طبعًا فيهن، أنهن يحملن أنفسهن من العمل ما يرهقهن، ولهن في ذلك ميزة على الرجل من حيث الإنتاج؛ ولكنها ميزة تقودهن إلى الانتحار البطيء.

ويظهر أن النساء في بعض الحالات أكثر تعرضًا إلى النتائج السيئة عن الاشتغال ببعض فروع الصناعات ذوات العلاقة المباشرة بالصحة، فمما يقال مثلًا، وقد يكون حقًّا، إنهن أكثر استجابة للتسمم بالرصاص، وفي سن أبكر، من الرجال، غير أن حقيقة طبيعية لا مناص من تقريرها في مثل هذا البحث، وقد تفصل بين الرجل والمرأة فصلًا تامًّا من حيث العمل: تلك حقيقة أن المرأة لا ينبغي أن تحسب أنها امرأة وحسب، ولكن يجب أن يضاف إليها حقيقة الأمومة، فإن التأثيرات القاتلة التي تؤثر في الأم وفي الجنين، قبيل الوضع وبعيده، من جراء العمل المرهق، وانصراف الأم عن العناية بولدها في الأسابيع الأولى من حياته، هي من الحقائق التي لا منازع فيها.

ومهما يكن من أمر اختلاف الرأي بين الرجال والنساء إزاء ما يتطلب هذا الموقف من تشريعات على هذا النمط، فإن المسألة في ذاتها من أعقد المسائل الاجتماعية وأكثرها تشعبًا، ذلك فوق ما نلمس فيها من الدقة، وما يتطلب علاجها من ترفق بها، وبعد نظر فيها، ومن هنا حق للمرأة أن يكون لها صوت مسموع ورأي يوزن.

هنالك شكاوى رُددت الفينة بعد الفينة، كقولهن مثلًا: إن التشريعات التي نظمت العمل في المصانع قد أخرجتهن من كثير من الأعمال التي كانت تدر عليهن رزقًا، وإنها أنقصت أجورهن، وكانت بطبيعتها أقل من أجور الرجال، وإنها نالت بقسوة غاشمة من طائفة كبيرة من النساء اللواتي يعملن في صناعات مهملة قليلة الأجور، ولكنها كانت تروج وتثمر في بعض المواسم؛ تبعًا لرواج نماذج موسمية مثلًا.

من البراهين التي أدلين بها: أن كل تقييد يتناول حدود عملهن بمنعهن عن العمل نفس الزمن الذي يعمل فيه الرجال، وبنفس الكمية، معناه إحلال الرجال محلهن في فرع ما من فروع الصناعات التي يتناولها ذلك التقييد.

أضف إلى ذلك أن هذه القيود قد فرضت على النساء في عصر اشتدت فيه حاجتهن، أكثر من أي عصر آخر، إلى العمل للحصول على ما يقوم بأودهن، وأنه في ظل التنافس القائم في عالم الإنتاج الحديث، قد تحدث نزعة العطف على المرأة، إذا لم يسوغها الواقع، نفس الأثر الذي تحدثه رغبة الرجال في إقصاء النساء من حيز العمل المنتج، فيقع عليهن بذلك من المضار ما تعجز الأجيال أن تصلح من أمره شيئًا.

هناك فئة من المصلحين الاجتماعيين قالوا بوجوب حظر العمل في المصانع على المرأة حظرًا قاطعًا، وآخرون أرادوا أن يطبقوا على المرأة قانون العمل الخاص بالفتيان الذين هم دون الثانية عشرة العاملين في مخازن البيع، فينتج عن ذلك، كما اعتقد كثير من النساء العاملات في القرن التاسع عشر، استبدال العاملات بالعمال في كثير من الأعمال التي يعتمد فيها عليهن أكثر شيء.

٢

قلما اجتمع مجلس من مجالس التشريع في أنحاء أوربا خلال القرن الماضي فلم ينظر في تشريعات العمل ليفرض على العمل النسوي قيودًا ترمي إلى شلهن ودفعهن عن منافسة الرجال، بما يسن من شرائع ولوائح تنظم العمل، حتى يؤدي تنظيمه إلى هذه النتيجة، وأكبر مثل على ذلك ما وقع في إنجلترا سنة ١٨٩٥ عندما أقر مجلس العموم قانون المصانع الذي أدخل المغاسل العمومية في نطاق العمل الذي تنظمه القوانين، فسن قيودًا جديدة تناولت الزمن الإضافي الذي يحق للمرأة أن تعمل فيه تحت ظروف خاصة، وشفعها بقيود أخرى تناولت عملهن في المنازل بما ينتقص ذلك العمل انتقاصًا، وهيئ وزير الداخلية بسلطات جديدة، بحيث أصبح من حقه منعهن عن العمل في أعمال قد يتراءى له أنها خطرة أو غير صحية.

ولا شك في أن هذا التشريع وغيره من أمثاله، إن هو إلا ثمرة قانون الانتخاب الذي لا صوت للمرأة فيه، بل إنه الجني المباشر لتصويت الرجال واحتكارهم هذا الحق الطبيعي دونهن، واستبدادهم بذلك الحق، مضافًا إلى ذلك ضغط هيئات العمال السياسي، وما قولك في أن التفتيش في المصانع قد ظل إلى وقت قريب، وفي أكثر أنحاء أوربا، وقفًا على الرجال دون النساء، وكان تعيين امرأتين للتفتيش في المصانع سنة ١٨٩٣ في إنجلترا، حادثًا يروى في المنتديات ويتندر به.

٣

في المقدمة الفذة التي وضعها «تيرجو» الوزير الفرنسي المعروف سنة ١٧٧٦ للأمر العالي الذي حظر فيه نظام العرفاء٢ للمهن والصناع والتجار في فرنسا، فقرة نعى فيها تلك القيود المفروضة على الصناعات والتي — «تقصي عن العمل أحد شطري الجمعية؛ ذلك الشطر الذي هو لضعفه واستكانته، أصبح كثير المطالب قليل الموارد، وأنه بما فرض عليه من تعاسة وذلة، قد جنح إلى الغواية والفجور …» وقد يحدث مثل ذلك بحكم الحالات المحيطة بالصناعة الحديثة، تلك الحالات التي نتجت من جراء ما سن من التشريعات المنظمة للعمل في المصانع.

ولا ينبغي أن ننسى أن مصالح الرجال والنساء إن اتفقت وتلاءمت في كثير من الأشياء، فإن هذه المصالح تختلف وتتباين، بل وتتناقض تناقضًا عظيمًا في نواحي العمل الصناعي، ولذا فإن الآلات إن كانت قد أنزلت بالعمل النسوي أضرارًا بالغة بأن قضت على الصناعات المنزلية، فإنها قد عوضتهن عن ذلك مزايا أخر أخصها أنها فتحت لهن أبوابًا واسعة للعمل والكسب، كذلك هي قضت على ملكة القوة الجسمانية وأنقصت من شأنها وحطت من قيمتها، كما أنزلت من قيمة المهارة الصناعية بما أنشأت من ضروب التخصص في الصناعات وتقسيمها أبوابًا ودرجات، ففي مستطاع الآلة أن تهيئ للبنات الضعيفات وغير ذوات المرانة الكافية، فرصة القيام بأعباء من العمل كانت تتطلب في الماضي رجالًا أقويا محنكين، زد إلى ذلك أنهن في أكثر الحالات يعملن تلقاء أجور أقل من أجور الرجال، غير أن هنالك ولا شك استثنآت؛ صناعة القطن من أظهرها وأينعها، ولكن مستوى أجورهن في أكثر فروع الصناعة أقل من أجور الرجال بنسبة ظاهرة محسوسة، وحتى في مخازن البيع، وهي محال من غير الطبيعي ولا المعقول أن تتفاوت فيها الأجور، نجد أن أجر العاملات ينقص بمقدار الثلث عن أجر العاملين.

ويرجع اختلاف الأجور إلى أسباب متفرقة، ولا شك في أن بعض هذه الأسباب يشير إلى أن عمل الرجل، كما يقضي العرف ويؤيده الواقع، أفضل وأتقن وأكثر تواصلًا من عمل المرأة، وأن النساء أكثر عددًا من الرجال، وأن مجال الأعمال التي يصح أن يُستخدمن فيها أضيق نطاقًا من مجال الأعمال التي يُستخدم فيها الرجال، كما أن بعضًا من هذه الأسباب يعود إلى ذلك التقليد القديم، تقليد الاعتقاد بِضَعَةِ المرأة، وهو تقليد لم تقوَ عادات العصر الحديث ومتجهاته الفكرية والفعلية أن تقتلع أصوله، ثم إلى الاعتقاد بأن العاملات أقل خضوعًا للنظام واتباعًا لمقتضياته من العمال؛ ولذا فهن أقل كفاءة في سوق المساومة على الالتحاق بالأعمال من نظرائهن الذين يتمتعون بسمعة أنهم أخلد للنظام وأرعى لأصوله.

ليست هذه الأشياء هي كل العناصر التي تكون المشكلة، فإن مستوى الحياة يؤثر تأثيرًا جمًّا واضحًا في قيمة الأجور وتكاليف الحياة ومستواها عند العزب، وهي في العادة أعلى من تكاليف العزبة، إذا كانا من طبقة اجتماعية واحدة، والعامل المتزوج في العادة عماد أسرته، في حين أن الأجر الذي تحصل عليه الزوجة العاملة، فيه صفة الإضافة أي صفة أنه شيء يسد النقص الذي قد يقصر عنه كسب الزوج.

ولا ريبة في أن هذه الأشياء من شأنها أن تؤثر في قيمة الأجر النسبي الذي يخصص لكل من الجنسين، ولكن الحقيقة أن نزول مستوى أجور النساء عن أجور الرجال، من شأنه أن يذكي المنافسة ويشعل لظاها، ويزيد الرجال رغبة في أن يقصوا المرأة عن مجال العمل، فإذا لم يستطيعوا ذلك، تمنوا لو أنهم ردوها إلى القصور والعجز، ومما لا شبهة فيه أن القيود التي تفرضها تشريعات المصانع ونظام اتحاد المهن على العمال، من شأنها أن تكون موضع شكوى البعض منهم، غير أنها إلى جانب هذا إنما تعبر عن رغبات أكثريتهم الغالبة؛ ذلك بأن مثل هذه الرغبة قد تستغل استغلالًا فعالًا في تعزيز تلك القيود والحرمانات التي تُفرض على العمل النسوي.

٤

قيل بأن العمال عندما دافعوا عن خطة فرض القيود وزيادتها على عمل العاملات، لم يكونوا محفوزين إلى ذلك ببواعث إنسانية صرفة، بل كانوا واقعين تحت تأثير المنافسة المهنية، وليس ذلك بمستغرب، فإنه ولا شك نتاج إحساسات عادية تظهر آثارها في كل الجماعات الكبيرة التي تنزع لأمر ما إلى التنافس، وأن قليلًا من الناس من يدخلهم الشك في حقيقة أن أصحاب مهنة الطب، ما عارضوا في قبول النساء عاملات في هذه المهنة، إلا واقعين تحت تأثير هذه البواعث، ولو بشكل جزئي على الأقل، وكذلك ترى أن نقابات المهن التي طالبت بإخراج النساء من العمل في المطاحن، قد بنوا طلبهم صراحةً على أن ذلك من شأنه أن يخفف الضغط عن سوق مفعم بالعمال، بإبعاد العدد الزائد منهن عن المزاحمة فيه، والذين أدلوا برأيهم أمام لجنة العمل التي أرادت أن تزاد الحدود والقيود المفروضة على عمل النساء في المعامل قد ذهبوا مذهبين: الأول: أن هذه القيود من صالح النساء، والثاني: أن ميلهم إلى زيادة هذه القيود إنما يقوم على رغبة في التخلص من مزاحمة العمل النسوي الذي أثر في أجور العمال وفي معيشتهم تأثيرًا بيِّنًا.

لست أريد أن أبالغ في الأمر، ولكن لي أن أقول: إن النساء أميل إلى المحافظة على النظامات الحكومية من الرجال، ومما لا شك فيه أن النساء إذا أصبح لهن صوت ذو أثر في هذه الأجور، فإنهن ولا شك لا يرغبن في زيادة القيود التشريعية، أكثر مما يرغبن في إنقاصها، وأن حق تصويت النساء في الانتخاب إذا تم لهن، فإن نسبة قليلة مما يكون لهن من الأصوات يكون ذا علاقة بالعمل؛ ذلك بأن اللواتي سوف ينتخبن من طبقة العاملات سوف يكنَّ قليلات، كذلك لا ينبغي أن يغيب عنا أن التنافس بين العاملات والعمال قد قلت حدته في هذا العصر عما كان في الماضي، فإنه بعد كثير من الأخذ والرد والهجوم والدفاع بين الناحيتين، قد تحدد لكل من الفريقين، وعلى الأقل في مجال الصناع في إنجلترا، مجاله العملي، فاستقر الأمر بينهما استقرارًا مقبولًا، حتى لقد أصبحت النسبة العددية بين العمال من كلا الجنسين متراوحة في مجال ضيق، كما أن التغيرات التي تصيب عمل العاملات قد نزعت إلى زيادة كبيرة في سوق العمل ربحته عاملات الطبقة الوسطى، ونقصان بيِّن في عدد المتزوجات من العاملات.

وبالرغم من كل هذا فإن الحقيقة الواقعة هي أن البرلمان في إنجلترا كان يتدخل شيئًا بعد شيء ممعنًا في فرض القيود والنظامات التي تملى إملاءً على الصناعات الهامة، وأن تشريعاته التي تتناول المرأة مختلفة أبعد الاختلاف عن التشريعات التي تتناول الرجل، ويدل ذلك على أن هناك مصالح منفصلة، بل ومصالح متضادة، ذات قيمة حيوية، قد لاحت في أفق المجتمع وأن الأحوال التي تحمل على إعطاء النساء حق الإشراف على التشريع قد قوي وزاد.٣

بالإضافة إلى مشكلة طول يوم العمل والأحداث التشريعية التي تتناول عمل المرأة في غير ذلك من النواحي، فإن هنالك مشكلات سياسية صرفة تؤثر في موقف النساء إزاء نظام المصنع في الحاضر أكثر ممَّا كانت تؤثر في الماضي؛ فإن السوق الذي يزودنه لم يصبح السوق المحلي الذي زوَّدْنه من قبل بمصنوعاتهن، والتجارة الخارجية وتجارة المستعمرات العظيمة، تلك التي يقوم عليها نظام المصنع الحديث، وتتأرجح وتتذبذب بمقتضى تغير السياسة، فمشكلة حماية السوق الحرة ومشكلات المعاهدات التجارية، والسلم والحرب، والحصارات بحرية وبرية، وامتداد أطراف الإمبراطور وانكماشها، وعلاقة المملكة العظمى بما يتبعها من المستعمرات، عامة هذه المشكلات تؤثر بصورة مباشرة وسريعة في وسائل العيش لمن يعدون بعشرات الألوف من الناس، والأكثرية من العمال في بعض فروع الصناعة وبخاصة صناعة القطن، نساء؛ ويقال: إن عدد النساء اللواتي أُقْصِين عن العمل في خلال الحرب الأهلية الأمريكية، أكثر من عدد الرجال الذين أصابهم التعطل.

هنالك انقلاب شبيه بذلك الانقلاب الذي أحدثه نظام المصنع يكاد يأخذ بخناق تجارة الحوانيت، فإن النزعة الاقتصادية الحديثة تسير ببطء نحو التبدل مما يسميه الفرنسيون الإنتاج الكبير، بما يسمونه الإنتاج الصغير؛ فقد زادت الصعوبات التي تواجهها البيوت التجارية الصغيرة بحكم أن نسبة بيعها قليلة، فعجزت عن منافسة البيوت الهائلة العظيمة التي تعتمد في نجاحها على سرعة تداول السلع برأس مال كبير، وكثرة البيع مع قلة الربح، والأسعار إذا حالت بين صاحب الحانوت الصغير والاتصال بالمشغل ما دام بيعه قليلًا وبطيئًا، فإنها تجزي أعظم الجزاء وتنتج أكبر الربح إذا كان البيع كبيرًا وسريعًا، وبذلك يُقضى على الحوانيت الصغيرة لقلة ما تبيع، ويحال بينها وبين الانتفاع بما يخرج المشغل لقلة ما تشتري؛ ذلك بأن الحوانيت الكبيرة قد تحتكر، أو تكاد تحتكر، في نطاق بعينه، ضروبًا كثيرة من السلع، وهي تعرضها بسعر مخفض، وفي أشكال ونماذج مختلفة، ثم تعمل على تنمية عملها وتجارتها بأن تجمع في بنائها بين مصنوعات مختلفة متباينة تؤدي أغراضًا واسعة، وما يحدث هذا النظام من الرضا والتقبل عند المستهلك الذي يرضيه مرأى تلك المجموعة المنوعة من السلع التي يحتاج إليها، يضفي على الحوانيت الكبيرة ميزة في منافسة الحوانيت الصغيرة التي تكتفي بسلع قليلة.

إن نشوء هذا النظام التنويعي في عرض السلع، ولا سيما منذ صدور قانون المسئولية المحدودة في سنة ١٨٦٢ في إنجلترا، قد هيأ الفرصة لتأسيس مثل هذه البيوت الضخمة، بينما تجد أن البخار ونظام طرود البريد قد جعل من السهل الهين على مثل هذه البيوت أن تمد منافستها إلى عواصم المديريات وإلى القرى، بذلك نرى أن الصناعة قد أخذت تتركز، فأصبح كثيرون ممن كانوا أصحاب حوانيت مستقلين، مأجورين بمرتبات، فانضموا إلى صفوف العمال الذين جندهم أصحاب تلك الأعمال الواسعة.

كان هذا التغير لزامًا؛ لأنه نتاج أسباب اقتصادية قاهرة، ولقد كان ذا فائدة في مجموعه، ترجيحًا أو تغليبًا، ولكنه إلى جانب هذا لا ينكر أحد أن له آثارًا رجعية ذات بال، وأنه قد جر معه جملة كبيرة من الآلام الممضة لا ضرورة لها، وكان للكاتب أميل زولا خطر السبق في إحدى رواياته القوية الصادقة، إلى الكشف بوضوح وجلاء عن حقيقة تلك المعركة؛ معركة اليأس والجهاد الفاشل، التي قامت بين صاحب الحانوت الصغير، ونده العملاق الكبير صاحب البيت التجاري، وضغطه عليه ومطاردته له، ولن يضل باحث فيه فراهة النظر وعمق الفكر، عن أن يدرك مقدار ما في هذا التغيير من أثر الثورة الانقلابية في حالات الصناعة، فإن الطرق التي سلكت من قبل قد سدت وشوهت إلى درجة كبيرة، وأن عديدًا وافرًا ممن كانوا يسلكونها قد اضطروا، بعد سنين أنفقوها عاملين بأمانة وجهد، أن يبحثوا عن موارد أخرى للعمل، وقد نزل معظم الضغط على نفس تلك الطبقة التي تنزل مقتضيات العادة والاعتياد من حيواتهم وسعادتهم أسمى منزل.

لقد كان هذا الانقلاب بالغًا منتهى الضرر بالمرأة، إذا نحن بحثنا مؤتمين باعتبار من الاعتبارات المهمة؛ ذلك بأنه خلق نزعة هي على خط مستقيم مناقضة للنزعة التي تنشأ من انتشار استعمال الآلات، فإن القوة البدنية ذات قيمة كبيرة في عمل البيوت التجارية الضخمة مما هي في الحوانيت الصغيرة التي حلت هذه محلها، وبهذا طردت المرأة إلى حد ما من مجال العمل الذي لاح كأنه محلها المختار، وظهرت جماعات كبيرة من الشبان على مناضد البيع في البيوت الكبيرة يقيسون الأشرطة ويقصون لفائف الحرير!!!

٥

أثر هذا الانقلاب في تقوية قضية القائلين بإلغاء القيود التشريعية التي تعوق النساء عن الحصول على وظائف أو أعمال، كذلك أثر تأثيرًا كبيرًا في عدد النساء ونسبتهن في الصناعات القديمة، كما بذلت جهود حقة، سواء من طريق التشريع أم من طريق البذل الشخصي، لتوسيع دائرتهم في العمل، ففتحت لهن أبواب العمل في مكاتب البريد والبرق ومصارف التوفير، وغيرها من الوظائف الصغيرة في الخدمة المدنية؛ كالهيئات البلدية، وإدارة سكك الحديد، كذلك تضاعف فيهن عدد المؤلفات والمشتغلات بالصحافة وفي جميع ميادين الفن، بل إنهن قد احتكرن على وجه التقريب مهنة الكتابة على الآلات الكاتبة، وهي مهنة يظهر أن أصابعهن المرنة قد خلقن لها، ومنهن من وجدن عيشهن على المسرح أو في قاعة المحاضرة، وقليلات منهن برزن في فن التفتيش والمراقبة وبضعة من الوظائف الإدارية التي تحتاج إلى مهارة خاصة، ولقد حاول بعضهن أن يجدد في الكنيسة الأنغليكانية نظام الأخوة على النمط الذي عرف به في القرون الوسطى وكان يأوي الغالبية العظمى من النساء غير المتزوجات، ولكن التجربة فشلت؛ لأن عصرها قد فات وانقضى أجله، وفي الولايات المتحدة سمح للمرأة أن تزاول المهن القانونية فأصبح فيها عدد كبير من المحاميات، وفي سنة ١٨٧٩ سن قانون يخول للمحاميات رفع القضايا أمام المحكمة العليا، على أن كثيرًا من البلدان الأوربية قد رفضن الجري على هذا المثل، بالرغم من أن روسيا كانت منذ زمان مضى قد أجازت للنساء أن يكن محاميات، وبالرغم من أن السويد ورومانيا قد أظهرتا استعدادًا لاتباع خطوات أمريكا.

أما ما في المرأة من الاستعداد الفطري لخدمة المرضى، فظاهرة اعترف بها اعترافًا كاملًا؛ ذلك بأن المرأة أسرع شعورًا، وأدق ملاحظة في إدراك أتفه التغييرات، وهي صفة من أخص الصفات اللازمة في التمريض بنجاح، وهي تتفوق على الرجل في هذه الناحية تفوقًا لا مراء فيه، ولكن العصر الحديث قد حور بعلمه وفنه كثيرًا من صفات هذه المهنة؛ إذ أصبحت علمًا يدرس وفنًّا يلقن، فارتفعت إلى درجة كبيرة من المقدرة والامتياز، لخير طرفي الجمعية؛ الرجل والمرأة، على السواء.

وفي سنة ١٨٦٨ صدر قانون فتح باب الصيدلة أمام المرأة، وبعد عهد طويل من الجهاد استطعن أن يلجن باب الطب فيصرن طبيبات، وقد سبقت الولاياتُ المتحدة في ذلك إنجلترا بل وأوربا جميعها في ذلك، فكان لديها من الطبيبات عدد كبير شغلن وظائف طبية ذات مكانة كبرى قبل أن تفكر أي من الأمم الأوربية في ذلك، وقد سبقت جامعة أدنبرة غيرها من الجامعات في إنجلترا في هذا المضمار، وفي سنة ١٨٧٤ أسست مدرسة طبية للنساء في لندن، وفي سنة ١٨٧٧ أبيح لهن حضور المحاضرات التمريضية في مستشفى لندن، وفي سنة ١٨٧٨ صدر قرار تكميلي أباح لجامعة لندن أن تعطي درجات علمية للنساء من جميع كلياتها بما فيها كلية الطب، ولقد تبع جامعة لندن غيرها من معاهد العلم، وعند نهاية سنة ١٨٩٥ كان في إنجلترا ٢٦٤ طبيبة ممتهنات كما يثبت من السجل الطبي البريطاني.

ومن الغالب أن لا يصبح الطبيبات منافسات قويات للأطباء في العمل التطبيبي، ولكن هنالك فروعًا من التطبيب النسوي تفضل خدمتهن فيها على خدمة الرجال عادةً، ولا شك في أن العبقرية والنبوغ في المرأة لا بد من أن تلحظ وتحتل مكانتها في عالم العمل، كما هي الحال تمامًا في الرجال، ولقد فتح في الهند مجال واسع للطبيبات يتصلن من طريقه بملايين من نساء تلك البلاد التي يحرم فيها — حتى في عصر انتشار الأمراض الحادة بآلامها الشديدة — أن يتصل الأطباء بالمريضات بأي حال من الأحوال، ولو أتيح لتلك البلاد أن تقبل فكرة تخريج الطبيبات في معاهدها ليكنَّ رسولات العلم إلى مناطق الألم والمرض؛ إذن لأَدَّيْنَ للإنسانية خدمة لا تقدر بقيمة.

لم تتفرد الأمم الأنجلوسكسونية بالسير في هذه الطريق؛ فإن جامعة زوريخ لها فضل كبير في السبق إلى أن تصبح مركزًا للتعليم النسوي في الطب في طور مبكر من أطوار هذه الحركة الارتقائية، ولكل من فرنسا وسويسرا وبلجيكا وإيطاليا طبيباتها، بل إن سيدة من الفضليات كانت أستاذة الباتولوجيا في جامعة پيزا، أما روسيا فقد مر بها عهد كانت فيه على رأس الممالك التي مدت يدها بسخاء وكرم إلى أوليائكن اللواتي أردن الالتحاق بالمهن الطبية وغيرها، ولكن في أثناء الموجة الرجعية التي اجتاحت تلك البلاد في النصف الأخير من القرن التاسع عشر، فقد الروسيات كل هذه الخصائص، وفي سنة ١٨٧٦ حرم النساء بمقتضى مرسوم إمبراطوري من مزاولة المحاماة، وبعد ذلك بقليل حرمن من معالجة التعليم في المعاهد العليا، ولم يسمح لامرأة بأن تزاول مهنة الطب في جميع أنحاء روسيا.

وفي النصف الثاني من القرن التاسع عشر أخذت مهنة التعليم تحتل مكانة سامية بين المهن المدنية، وزاد عدد النساء اللائي يزاولنها حتى أصبح عددهن فيها كبيرًا، وبرزن في التعليم تبريزًا جعل لهن مكانًا ملحوظًا، سواء أمن ناحية الكفاية، أم من ناحية المرتبات التي يتقاضينها، وبالرغم من أن التغييرات التي أصابت تعليم الصبيان كانت كبيرة وعلى نطاق واسع، فإنها كانت أقل أهمية من تلك التي أصابت تعليم البنات في السنين الأخيرة من القرن التاسع عشر؛ فقد شاطر البنات الصبيان مزايا التعليم التي قررت بمقتضى قانون التربية الذي صدر في إنجلترا سنة ١٨٧٠، وبخاصة عند تأسيس المدارس المتوسطة ومدارس الفنون والتعليم الصناعي الفني؛ ثم قانون التعليم الثانوي في إرلندا، وتحسين حال المدارس الاختيارية الذي أتى على أثر المنافسة التي قامت بين المدارس الداخلية، والخضوع للتفتيش الحكومي عليها، وفتح الإعانات لها بنسبة النتائج التعليمية، أما المدارس العليا وكليات السيدات التي أسست في أنحاء متفرقة من المملكة البريطانية؛ فقد أتاحت لآلاف عديدة من النساء من أهل الطبقتين العليا والوسطى، قدرًا من التعليم أسمى بكثير من التعليم الذي ناله أمهاتهن، وخرجت معلمات لمزاولة التعليم في معاهد الدنيا وللأسر الخاصة أرقى من أنصاف المتعلمات اللاتي زاولن هذه الحرف من قبل.

إن التعليم السنوي العالي في إنجلترا قد توسع فيه ونظمت دراسته ورسمت قواعده حتى لقد أصبح ثمانين في المئة من جامعات بريطانيا العظمى، وكذلك الجامعة الملكية بأيرلاندا، من معاهد العلم التي تعنى بتعليم النساء وتمنحهن الشهادات والدرجات أما جامعتا أوكسفورد وكمبردج، وكلاهما من الجامعات التي أيدها النساء بمالهن في العصور الأولى، قد ظلتا في أواخر القرن التاسع عشر متحرجتين عن أن تمنح درجاتهما وجوائزهما للنساء، ولكن بالرغم من أن تزمت بعض رجال الكنيسة أمثال بارجون Burgon ولدون Liddon وپوسي Pusey؛ فقد سمح للنساء أن يحضرن حلقات دروسهم، وإن افتتاح كليات هتشن Hitchinn وجيرتون Gurton ونيونهام Newnham وسومرفيل Somerville والسماح للنساء بشهود المحاضرات في الجامعات الكبرى، وأداء امتحانات الدرجات والشرف والامتحانات الموضعية التي تنظمها الجامعات في طول البلاد وعرضها، وتلقين العلوم الطبيعية والرياضية، كل ذلك كان من شأنه أن ينشر المعرفة بين النساء، وأن يزيد من خطرهن؛ سواء أكنَّ من أهل الطبقة العليا أم المتوسطة، وإن قليلًا جدًّا من الأحداث العظمى في تاريخ الحضارة الإنجليزية، ما يبز فتح أبواب الجامعات للنساء، وقبولهن عضوات في حركة الفكر والثقافة، أما ما خافه بعض المعارضين من فتح أبواب معاهد العلم للنساء، مثل الخوف من الفوضى في النظام والأخلاق، فأشياء لم يقم عليها من دليل، بل كانت مخاوف وهمية، كما أنه لم تقم من حاجة إلى تغيير كبير في برامج الدرس.

على أن هذه الحركة الارتقائية لم تقتصر على إنجلترا وحدها؛ ففي بلاد اسكانديناوة وإيطاليا وسويسرا والولايات المتحدة والمستعمرات البريطانية، فتحت الجامعات أبوابها للنساء، وبذلت جهود الجبابرة في سبيل رفع مستوى تعليمهن.

كانت صوفيا كوڨالڨسكي Sophie Kovalewsky التي أثارت الترجمة عن حياتها إعجاب القراء وبعثت فيهم إحساسًا بالإكبار والإجلال، أستاذ الرياضيات العليا في جامعة استوكولم، على أن البنات كنَّ قد أخرجن من حظيرة التعليم بمقتضى الإصلاحات التي وضعتها حكومة الثورة في فرنسا؛ وفي عصر نابوليون الأول، وقد اعتقد نابوليون؛ بل استمسك بفكرة أن تعليم النساء لا ينبغي أن يتعدى الأوليات، ولكن قوانين ١٨٥٠ و١٨٦٧ قد أباحا تأسيس مدارس ابتدائية؛ لتعليمهن في كل مركز من المراكز الكبيرة في فرنسا، كما قصد قانون ١٨٨٢ على أن يكون تعليم البنات إجباريًّا، وفي عصر نابوليون الثالث أسست في باريس مدارس لتعليمهن المهن، وأتيح لهذه المدارس أن تتبع في تعليمها برامج الكوليج دي فرانس Collège de France وعند سقوط الإمبراطورية أتيح لهن أن يحملن شهادات الجامعات في الآداب والعلوم والطب.

ظلت ألمانيا حتى عهد قريب متخلفة عن أكثر الممالك الأوربية في التعليم العالي للمرأة، ومضت الحكومة الروسية خاصةً تقاوم كل حركة ترمي إلى إعطائها حق الدخول في الجامعات والترخيص لها بالاشتغال بمهنة الطب، ففي أواخر القرن التاسع عشر كان في روسيا ٢٠٩ مدرسة ابتدائية للبنات، لم يكن منها سوى ١٧ مدرسة لها ناظرات والبقية نظارًا، كما أن فكرة الطبقة الحاكمة والجامعات كانت معادية لكل حركة قصد بها التسوية بين الجنسين في التعليم العالي والثقافة العامة، كذلك صدر عن الروح البروسي قانون في سنة ١٨٥٠ حظر على النساء أن يكن أعضاء أو يشهدن اجتماعات كل الجمعيات المشتغلة بالسياسة أو التي تناقش في المسائل السياسية، ولقد كان في النمسا وفي بقية الدول الألمانية مثل هذا القانون، ولكن لم يشرف القرن التاسع عشر على الختام حتى نهضت ألمانيا نهضة كبيرة في التعليم النسوي وتبعتها النمسا.

على أن العناية بأمر التعليم النسوي في إنجلترا قد بز من جميع النواحي أمثاله في القارة، كما أن نساء إنجلترا قد كان لهن السبق إلى العلم وإلى الأدب والفنون على جميع نساء بقية البلدان الأوروبية، ولقد ظن أن التعليم قد يؤثر على الحالة الزوجية وأنه قد يجعلها أقل صفاءً وأقل سعادةً؛ لأن نسبة اللواتي سيلجأن إلى الزواج باعتباره ملجأهن الأخير وملاذهن الاقتصادي سوف يقل، أو لأن الرجل والمرأة يكونان أشد صلة وأمتن آصرة إذا ربطت بينهما مصالح جوهرية، أو جمعت بينهما فكرات تميل إلى الكظم والكآبة، ولكن الواقع أن تعليم المرأة قد دل على نقيض ذلك تمامًا، كذلك الانقسامات الكبيرة التي تفصل بين الرجل والمرأة من حيث الرأي والميول، وكانت سببًا في شقاق مشاهد جد المشاهدة في كثير من أسر القارة الأوروبية، قد قلت أسبابه في إنجلترا أو هي كادت تختفي كليةً، وأخذت روح من التسمح والتساهل في النشوء حالَّة محل روح التزمت القديم، ولقد دلت التجربة على أن الخوف من أن المرأة المتعلمة قد تهمل شئون بيتها، إنما هو خوف لا محل له ولا سبب، وأنه إلى جانب امرأة واحدة تهمل شئون بيتها لسبب أنها متعلمة، مئات يهملنها بسبب الاستهانة أو الفجور، أما ما لوحظ في بعض النساء المتعلمات من الحذلقة والكبر والإسراف في الذوق وفي الآراء، فلم تكن أشياء غير طبيعية بحكم أن أمثال أولياء قد وجدن أنفسهن مهملات مقصيات، وأنهن في حرب دائمة مع أوضاع الجمعية؛ معرضات إلى وابل من الاستهزاء والسخرية، فلما أن تغير الوضع وأصبح ما ليس طبيعيًّا طبيعيًّا، واعترف بما لم يكن يعترف به في أوساط الجمعية، امَّحت كل أوجه الشذوذ، واعتدل مزاج المرأة المتعلمة، وأحست بأنها في جمعية هي منها وإليها.

خيف من شر آخر ظن أنه أنكى من سابقه وأدهى؛ ذلك هو القول بأن نهج التنافس العقلي قد يفصح عن صدع كبير بين استعداد الرجل واستعداد المرأة، بمقتضى ما في تكوين المرأة من رخاوة ورقة، ولكن أولئك الذين قاموا على التعليم النسوي العالي في إنجلترا لم يغفلوا هذا الخطر، فجهدوا بحذق وكافحوا بمهارة فنجحوا في التخلص منه، وكان من نتاج جهدهم أن وقع تغير كبير في الأمزجة والأذواق، تقبلته الأمة من غير أن تشعر بأنه وقع بالفعل، فإن جمال الصحة الكاملة ومرح الروح قد حلَّا تدرجًا محل الرقة المريضة والضعف والترهل وانحلال الأعصاب، تلك التي كانت مثال الجمال في القرن الثامن عشر، وأصبحت الملابس أكثر اتفاقًا ومقتضيات الصحة، والمرانة الرياضية من مستلزمات الحياة، وعكف النساء على تمضية أوقات من المرح والتسلية تستخف الروح وتشحذ الذهن، ولقد صحب هذا حركة التقدم الذهني فيهن، حتى لقد قال الأستاذ هكسلي: إنه في خلال خمسين السنة التي توسطت القرن التاسع عشر طفر متوسط القوى البدنية في النساء الإنجليزيات طفرة كبيرة وبخاصة بين الطبقات العليا والطبقات المتوسطة، ولقد كان التعليم نعمة عظمى للنساء غير المتزوجات وهن كثر، سواء أكن غنيات أم فقيرات، وبالرغم من أن تعليمهن لم يبلغ مبلغ المثل الأعلى، فإنه على الأقل قد زودهن بسلاح يواجهن به معركة الحياة؛ فقد زاد إلى كفايتهن، وأوسع من نظرتهن في الحياة وجعلهن أوصل بحاجات ومصالح لم يكن لها بها صلة، وغرس فيهن خلقًا جديدًا، قلما تعجز عن أن تغرسه قيود النظام الذي تفرضه العادة المتواترة المركزة في عمل بعينه.

بالإضافة إلى ما تقدم، أقول: إنه يتعذر على باحث لبق أن يفوته ذلك التغير الكبير الذي وقع في الأوساط الإنجليزية العليا في خلال الجيل الأخير من القرن التاسع عشر خاصًّا بالأوضاع الاجتماعية المتفق على أنها الحدود التي لا يسمح للمرأة أن تتعداها من حيث العمل في هذه الدنيا، فإن الفكرة الأغريقية القديمة؛ فكرة أن عمل المرأة ينبغي أن يقتصر على المنزل ولا يتجاوزه وهي التي ظلت إلى أواخر القرن التاسع عشر رائجة في ألمانيا إلى حد ما، قد انتفت وتركت وزال أثرها في بريطانيا، وأصبح عدد من السيدات البريطانيات يتناولن من الأعمال ويؤدين بنشاط وأمانة خدمات للمجتمع كتلك التي يؤديها متوسطو الرجال، ولقد تناول هذا التغير كل ميادين العمل والتسلية والعادات.

جرت العادة في بريطانيا حتى أواخر القرن التاسع عشر، أن لا يؤذن لسيدة أن تمشي في شوارع لندن بغير حارس، أو تنتقل إلا في عربة مقفلة، أو تسافر إلا تحت ضغط أعتى الظروف، ولا يؤذن لها بذلك إلا إذا كانت برفقة رجل يؤتمن عليها، فكيف ينظر أهل ذلك الزمن لو أنهم عادوا إلينا ثانيةً ورأوا سيدات وشابات يرتمين في أحضان المجتمع الصاخب ويشهدن حفلات كرة القدم كالشباب، ويختلطن بالطلاب في الجامعات وفي قاعات المحاضرة والامتحانات العامة، وأنهن يخطبن الجماهير من فوق المنابر، ويدبرن الحركات السياسية والاجتماعية، ويتسلقن جبال الألب، ويشاركن في الألعاب الرياضية، ويسافرن بغير رفيق؛ فيطفن أنحاء العالم المتمدين، ويدرسن ما يشأن بملء حريتهن، ويناقشن في أخص المسائل التي تقوم عليها دعائم الدين والعلم والفلسفة؟! الراجح أن أول ما يلفتهم هو مرأى ذلك المخلوق الذي عرفوه مشاكسًا صاخبًا، قد ارتد كائنًا وديعًا سهل القياد هادئًا، وليس بين المرأة التي كن يعرفنها في زمانهم وبينه إلا سمات فرضتها عليه الطبيعة فرضًا.

إن الأسباب التي أدت إلى هذا التغاير الظاهر وما ترتب عليها من النتائج، قد تفتح أمامنا ميدانًا فسيحًا للبحث، لا ينبغي أن نمر به غير آبهين، فإن البعض يرون أنه قد لا يقل أثره عن إحداث ثورة أدبية في أخلاق المرأة، أما أن تغايرًا قد وقع بالفعل، فذلك ما لا يمكن إنكاره أو إخفاء أثره، ولكن يظهر لي أن مداه قد بولغ فيه كثيرًا.

إن الطبيعة قد وضعت من الفوارق بين الرجل والمرأة، ما لا يستطاع تخطيه أو التغلب عليه، وفي خلال كل الأعصر تطلعت المرأة إلى أن تكون أمًّا أو زوجة، وكان ذلك أسمى منزلة تتطلع إليها، وسيظل حالها على هذا خلال كل الأعصر المقبلة، تنقل معها جيلًا بعد جيل أثبت المنافع، وأرق العواطف، وإنا لنرى أن التغاير كان أظهر وأجلى في مجال الأخلاق الرقيقة، وأن بعض ظلال من الخلق النسوي قد أخذت تضمحل وتحول، في حين أن غيرها مضى يعمق ويقوى، والغالب أن النساء سوف يمضين في المستقبل — الطيبات والخبيثات، الأنانيات والغيريات — محتفظات بنفس النسبة التي لهذه الصفات من أنفسهن، ولكن صفاتهن، الطيبة والخبيثة سوف تختلط في نفسيتهن بصورة مختلفة عما هي عليه، قد نجد في الطراز النسوي الحديث قدرًا أكبر من رجاحة الحكم وضبط النفس والشجاعة والاستقلال، ومدى أوسع من العواطف والانجذابات والمصالح المادية، أكثر مما كان ذلك في غابر الأيام، ستصبح المرأة أكثر شكًّا، وأقل سذاجةً وتطوحًا مع الأساطير والأوهام، ولكن مع ذلك ستكون أبرد طبيعةً، وأشد صلابةً، قد يحتمل أن لا تقل غيريتها، ولكن سيكون منشؤها أرجع إلى حب الواجب والعادة الثابتة، بيد أن العناصر الانفعالية والدفعية والخيالية في الخلق، بما يعتورها من الأخطار والمحاسن، سوف تصبح أقل بروزًا في صفاتها، أما في الطبقات الطيبة؛ فقد يقع أن تكون قوة الإحساس بالواجب، موجهة إلى غايتها باستنارة الحكم ورجاحة النظر، هي القوة المسيرة، وأن الحياة بذلك ستضحى ألمع وأنور باتساع دائرة المصالح الغيرية والتضحية واللذائذ المفيدة، أما في الطبقات التي هي أدنى، فلا شك في أن الشهوة غير المحكومة بالعقل ستكون أضيق دائرة وأقل أثرًا في الحياة، ولكن إلى جانب هذا سيصبح الدين والقيود الاجتماعية أضعف وأشد تراخيًا، كذلك سنجد أن الرغبة في الأشياء المثيرة وحب الجدة، تلك التي خلقتها حياة مزدحمة متدافعة بالمناكب، سوف تزيد، وأن حب الدنيويات ستلابسه صورة هي إلى القساوة وإلى الدنيات أقرب شيء، وأن قليلًا من أشياء هذه الحياة ما يبذ قباحة وبشاعة، انهماك إنسان لم يتجاوز الثامنة عشرة، في دنيويات يتطلع من طريق ما فيها من مباهج ومسرات إلى انتهاز الفرصة التي تواتيه، وتقدير الدخل والخرج والتشاريف والمراتب، وما مضى وما يتوقع، كل ذلك بعين المدرة اللبق والمنطيق المتزن، العالم بأن الكبوة قد تكسر ركبتيه.

١  أكرة النسج.
٢  العريف النقيب دون الرئيس والجمع عرفاء وبابه ظرف إذا صار عريفًا (مختار الصحاح).
٣  كان هذا قبل أن يُعطى النساء حق الانتخاب في إنجلترا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤