الفصل الخامس

١

إن العلاقات التي قامت بين النصيفين؛١ الرجل والمرأة، منذ أقدم العصور التي نشأت فيها الجماعات الإنسانية قد تقلبت في أطوار عديدة مختلفة المظاهر، متباينة المرائي، ولا شك في أن هذه العلاقات في أول النشأة الإنسانية كانت أشبه بالعلاقات التي يذكرها المواليديون (علماء التاريخ الطبيعي) قائمة بين القردة العليا، وهي التي يسمونها علميًّا «البشريات»: Anthropoidea. كانت علاقة مزاوجة لا علاقة إباحية، على ما يرى من حال أربعة الأجناس العليا من القردة؛ وهي: الغرلى، والشمزي، والأرطان، والشوجر، وكانت فوق ذلك علاقة طبيعية صرفة؛ أي علاقة تعايش فطرية لم يدخلها شيء من تأثير الأديان والعقائد، أو المؤثرات النفسية التي نشأت من بعد ذلك الطور في نفسية الإنسان، فإن القردة، وهم أبناء عمومتنا الأقربين، على ما ثبت بالأدلة العلمية القاطعة، كانوا، ولا يزالون في غاباتهم الاستوائية، المثل المضروب لما كانت عليه أقرب حالة للإنسان في بدائيته الأولى، وهي حالة لم تتصرف فيها المؤثرات الطبيعية عن أن تؤثر أثرها المحتوم في أفراد الجنس البشري، فقام كل قانون من قوانين النشوء الطبيعي بدوره الكامل في تنشئة الصفات التي كان من الضروري أن يتسلح بها كل من الذكر والأنثى في سبيل الفوز في معركة الحياة؛ فرديًّا واجتماعيًّا، لم يقف من شيء مصطنع في سبيل التناحر على الحياة والانتخاب الطبيعي وبقاء الأصلح يصدها عن السبيل الذي رسمته الطبيعة لرفع مستوى الأحياء.

ولما ضرب الإنسان في سبيل التقدم والنشوء العضوي، وزادت تلافيف دماغه تعقدًا، وأفضى ذلك إلى اكتمال انتصاب قامته وقدرته على استعمال يديه، نشأت مع هذه الدرجات التطورية صفات نفسية وأخرى خلقية، صدت تلك السنن الطبيعية عن أن تقوم بدورها الكامل في تنشئة الصفات الجديدة أو على الأقل في الاحتفاظ بكل الصفات التي رأت الطبيعة أنها ضرورية للحي البشري حتى يستطيع البقاء في أحضانها، وكان ذلك أول ما نشأ في الإنسان من الصفات التي دفعت به نحو تلك الصورة الجديدة التي ندعوها «المدنية» أو «الحضارة»، وما هذه الحضارة في حقيقتها إلا انحراف عن جادة الطبيعة أدت إليه سلسلة من التطورات البطيئة جرت الإنسان جرًّا على الغايات التي نعيش في كنفها الآن.

منذ أزمان موغلة في القدم قام عند الإنسان بضعة عقائد صورتها الأساطير والخرافات، ومن هذه العقائد فئة كان أثرها المباشر على حياة المرأة أعظم ما يكون، ولو أردنا أن نعدد شيئًا من ذلك لما وسعنا فراغ هذا الكتاب، ولكن يكفي أن نقول: إنه كان من أثر هذه الخرافات والعقائد التي كان مصدرها الدين، أن بحث بعض الرجال في «هل للمرأة نفس»؟! وهل لها حق الحياة إذا أراد أبوها أو زوجها أن تموت؟! فوئد البنات، ودفن الزوجات أحياء مع جثث رجالهن، وحرمتهن أكثر الشرائع القديمة حق الملك والإرث والحرية، وسلطت عليهن إرادة الرجال يأسروهن في البيوت ويضربوهن ويقتلوهن ويتلهون بهن كأنهن الحطام، ويفعلون بهن كل الأفاعيل التي من شأنها أن تردهن غبيات مسترخيات ضعيفات لا حول لهن ولا قوة، ويسلكون بهن كل طريق من شأنه أن يميت فيهن الإرادة ويضعف فيهن قوة الإدراك، ولم يكن يطلب من المرأة، شأن ممتهني الرجعية في زماننا هذا، أكثر من أن تكون الدمية التي لا حياة ولا عقل ولا رأي لها ولا فهم فيها، وليس من شيء في هذه الحياة أعمل على صد التطور عن سلوك سبيله الطبيعي، من أن تقف في سبيل حي فتسلب منه كل مقومات الحياة الطبيعية، فتمنع عليه أن يكتمل جسمانيًّا ونفسيًّا وعقليًّا، وتعجزه عن أن يتهيأ للسير في موكب الطبيعة، أمنا العظمى.

بهذا، وبتسلط الرجل على المرأة هذا التسلط العجيب، تخلفت المرأة عن التطور والنشوء الطبيعي في عصر الحضارة، فوهن جسمها وعقلها وذكاؤها، ومرضت نفسها وتعطل وجدانها واستنامت همتها لضغط الاستبداد والظلم، حتى أصبحت المخلوق العاجز الجبان، كل هذا والرجل يستكمل على مدى تلك العصور المتطاولة أهبته لحياة الفكر والعمل، فعظم الفرق بينه وبين المرأة جسمانيًّا وعقليًّا ونفسيًّا، بحيث أصبح الصدع بينهما مما لا تألفه الطبيعة ولا مثيل له في غير الإنسان من عالم الحيوان.

كان من نتيجة ذلك، وقد استل من المرأة كل سلاح، أن تدفعها طبيعة الحياة إلى أن تتسلح ذودًا عن حياتها، بصفات الخداع والمكر والحيلة، بل إن الطبيعة دفعتها إلى أن تتسلح بالدموع، وهي العنوان الأكبر على انهيار النفس وخور الروح، وبعد؛ فهل رأيت منتصرًا يبكي، أو حرًّا يتذلل، أو يحتال، أو ينافق، أو يخادع فيسلك طريق الظلام، وأمامه طريق النور؟!

٢

ذا كان تاريخ الرجل مع المرأة: تعطيل للمواهب والكفايات أن تكتمل فيها، وصد لسنن الطبيعة عن أن تأخذ بيدها وترفعها إلى المستوى الحقيق بأن يكون لها بين الأحياء، ولا يغرننا ما نرى في رجل اليوم من مظاهر التلطف والأدب مع المرأة، فإن أكثر الرجال إنما يتخذون ذلك وسيلة لاستغلالهن الاستغلال الكامل، مستعيضين عن الوأد والدفن والضرب والأسر بهذه المظاهر؛ لأن شرائع هذا الجيل قد كفت الرجل عن حقوقه، وإن شئت فقل عن مظالمه القديمة، وإنما نحتاج إلى كثير من الفهم والمرانة العقلية والنفسية؛ لنتخلص نحن الرجال مما ورِثناه من ذلك، كما أن المرأة تحتاج إلى أن تدفع عن حقها في الحياة بالظفر وبالناب.

وهل من بَغْيٍ أشد من أن يقف الرجل بنزواته الدنية في سبيل أن تتطور المرأة وتتنشأ مواهبها الطبيعية، ثم يقول لها، وما هي إلا خلق شهواته: إنك «مخلوق أدنى»؟!

شذت بعض العصور فلم تستقوِ فيها هذه العوامل المفتعلة، فنشطت مواهب المرأة وازدهرت بفضلها الحضارة واستقام المجتمع، ولكن مع الأسف أن هذه العصور في تاريخ الإنسانية، أشبه شيء بكلمات الصدق التي تفلت من شفاه الكاذبين، هي ومضات البرق الخلب، ولكن الأمل فسيح في أن تصعد المرأة في عصر الحرية سلم الارتقاء، وأن تضرب في فضاء هذه الدنيا الواسعة التي احتكرها الرجال دونهن القرون والأحقاب.

٣

يقول الرجال: إن المدنية من خلق الرجل، من خلق عضلاته وعقله ونفسه، وإن المرأة كانت عالة عليه في ذلك، وقد نسلم جدلًا بكل هذا، وإن كنا نسلم أيضًا بأن الرجل كان طفلًا، وأن الطفل كان جنينًا، وأن الجنين كان مضغة، وأن له أمًّا هي التي نشأته وأخرجته خلقًا سويًّا؛ ليقيم صرح المدنية، أم نذكر بعض الرجعيين بما يخزيهم؛ إذ يقولون: إن المرأة ليست بشيء أكثر من أنها «حاضنة حية» فيما تتخلق الإنسانية! وما يقصدون بذلك إلا أن جنينها لا يكسب من دمها ومن صفاتها شيئًا؛ زورًا ومبالغة في الكبر والبغي، وافتياتًا على الطبيعة وعلى الفطرة.

نتجاوز عن هذا كله، نتجاوز عن المركز السامي الذي خصصته الطبيعة للمرأة، بحيث جعلتها القوامة على الطفل، سيد المخلوقات، نتجاوز عن هذا لنسأل: ومن ذا الذي كف عضلات المرأة وعقلها ونفسها عن أن تشارك الرجل في إقامة صرح الحضارة؟! من ذا الذي أسرها وكبت أحاسيسها وأضعف عقلها وأوهى عضلاتها؟! من ذا الذي وأدها ودفنها حية؛ ليشعرها بأنها المخلوق الذي لا شأن له ولا وزن في الحياة؟! من ذا الذي احتفظ بها جاهلة ضعيفة العقل مكبوتة العاطفة منبوذة الرأي؟! من ذا الذي اتخذها ألهية ولعبة من ألاعيبه؟! من ذا الذي استغل فيها عاطفة الحب، أسمى العواطف الإنسانية، واستذلها بها ثم تنكر لها؟! من ذا الذي أشعرها بأنها المخلوق العاجز المستكين؟! من ذا الذي أحيى فيها الشهوات وأمات فيها العقل؟! ومن ذا الذي دفعها إلى الخديعة والمكر والحيلة؟! ومن ذا الذي جعلها تتسلح بالدموع؟! أظن أن أسيادنا الرجعيين عندهم به علم اليقين.

٤

إن القيود والحرمانات، بل وضروب الشقاوات التي فرضها الرجل على المرأة، إنما كان السبب الأول فيها نزعة الرجل إلى حب التسلط والكبرياء، ثم الجهالات التي تتفرع عند هذه الصفات النفسية، أضف إلى ذلك الأوهام التي بثها الدين في كثير من الشعوب البدائية، وتوارثها الناس جيلًا بعد جيل، فأصبحت بالوراثة واللقاح خلفًا عن سلف، أشبه شيء بالمقدسات التي يعتبر الخروج عليها انتهاكًا لحرماتها.

أعتقد مع هذا أن بين الرجل والمرأة فروقًا فطرية لا سبيل إلى نكرانها، فروقًا جسمانية وتكوينية اختص بها كل منهما، ولكن هذه الفروق قد استغلت من ناحية الرجل استغلالًا زادت بها قوته وكفاياته، واتضعت بها قوة المرأة وكفاياتها، وإن من المشاهد الجلية في هذا الأمر أنك مهما أدرت عينيك في عالم الحيوان لم تجد أن الفروق بين الأنثى والذكر قد بلغت من المقدار ما بلغت بين الرجل والمرأة في الحضارات القديمة والحديثة، بل إنه على العكس من ذلك اتزن في عالم الحيوان كفتا التبادل بين الذكر وأنثاه من حيث النفع والعمل والترابط، فقامت العلاقة بينهما على مقتضى الفطرة، بتوزيع العمل والتخصص، وعلى العكس من ذلك تمامًا في عالم الإنسان، استبد الرجل بكل شيء، ولم يترك للمرأة شيئًا، بل إنه قد اعتدى على ما خصصت الطبيعة للمرأة من ميادين العمل والإنتاج، ولم يترك لها إلا الأشياء التي صدته الطبيعة عند القيام بها، كالحمل والوضع والرضاعة، وجملة القول: إن الرجل قد خلف المرأة أداة للقيام بما لم يستطع هو القيام به، وانتزع منها فوق ما انتزع من حقوق الحياة والحرية والسعي، أكثر ما كان ينبغي لها أن تدبر من شئون الأسرة والبيت؛ ليقيم بذلك سلطانه عليها، وتنتهي هي بذلك إلى الخضوع والذلة والاستكانة.

ومحصل ذلك كله أن معاملة الرجل للمرأة كان سببًا في أن ترتد كائنًا ضعيفًا مترهلًا، بل إنه في أكثر الحالات وعند الأغلب الأعظم من طبقات المجتمع، لا تعتبر المرأة إلا كائنًا من شأنه أن يلبي نداء الجنس، فنحن الرجال قد رمينا النساء بأدوائنا وانسللنا؛ لنقول لهن في النهاية: أنتن خلق أدنى.

١  النصيف: النصف؛ وهي الكلمة العربية التي اخترتها لتقابل كلمة Sex؛ والتي جرى المترجمون على أن تقابل كلمة جنس، وكلمة «الجنس» علميًّا: Genus تنقل معنًى مخالفًا تمامًا مما يقصد بكلمة Sex، وقد استعمل القرآن كلمة «الزوج» لإفادة الوصفية لا لإفادة الاسمية فقال: فخلق منه الزوجين الذكر والأنثى. وكلمة نصيف حسنة تقابل كلمة Sex؛ فيقال: نصيف ذكر، ونصيف أنثى.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤