الفصل السادس

١

عمد زعماء الدين في كل زمان إلى ما يسلحهم به الدين من سلطة؛ لتكون هذه السلطة برهانهم الأوحد ودليلهم القاطع في مجال الرأي، وعمدوا إلى جانب ذلك إلى تصوير الدين بأنه ذلك الشيء الجامد الصلب الذي لا يساير الزمن ولا يخضع لمقتضى ما تخضع له الأحياء من التطور والنشوء، عضويًّا وفكريًّا وعاطفيًّا، ظانين أن الزمن إنما يدور ولا تدور معه الأحياء، ولا تختلف الأوضاع ولا تتغير المشاعر ولا تتبدل الاتجاهات، وأن ذاك الذي كان عليه الناس في زمان ماض، لا تؤثر فيه العوامل الاجتماعية والاقتصادية، بل إنهم بذلك يشعرون الناس بأن من طبيعة الدين التخلف إذا ما جد السير بالجماعات الإنسانية نحو أهداف جديدة أو نظامات تحتمها عوامل من التطور دقيقة كل الدقة غامضة أسبابها كل الغموض، في حين أن آثارها كالسيال الموجب في الكهرباء لا بد من أن يخلف أثره المحتوم في تكوين مزاج الجماعات.

عمد زعماء الدين إلى أشياء اتخذوا منها وسيلة لإقرار سلطانهم لا سلطان الدين، كقولهم بالتكفير والمروق والردة، إذا ما بدا في الأفق من أثر التطور الفكري ما يمس ذلك السلطان الذي يحاولون من ناحيته الاحتفاظ بما لهم من سلطان.

حدث ذلك عند نشوء العلوم الحديثة في جميع أنحاء العالم، وفي أوربا خاصة، حدث أن رمى رجال الدين العلماء بالكفر والإلحاد والزندقة عندما أخذت علوم إثباتية يقينية في التنشؤ؛ كعلم الفلك الحديث، وعلم تطور الأحياء، وعلم الجيولوجيا، والطب النفساني، والاقتصاد، والأرصاد الجوية، بل كانت لهم مواقف كهذه إزاء كل رأي أو حركة اجتماعية أو فكرية فيها شيء من روح المنافرة لما اعتقدوا أنه من أصول الدين أو من قواعده الأولية، ناسين إلى جانب ذلك أن الدين إنما يهدي إلى الحق، وإن الحق إذا ظهر وبان واتضح، انبغى أن يعتبر أصلًا من أصول الدين، وإن الحق إنما هو ذلك الشيء الذي يصطلح عليه أكبر مجموع في جمعية بشرية؛ لأن الدين الذي هو الحق، لا يرغب عن نصرة الحق إذا بان إلا وكان في ذلك منافاة صريحة لرسالته، فيقر الدين الحق أينما كان في أية صورة ظهر، وفي أي مرفق من مرافق الحياة كان، وإنما يحاول أن ينكر ذلك رجال نصبوا أنفسهم قوامين على الدين وعلى الحق وعلى الناس، لا لشيء إلا لأن التقاليد التي درج عليها الناس منذ القدم، هي أن يكون للدين ممثلون، والدين عند الواقع في غير احتياج إلى من يمثله ما دام أنه يمثل الحق، والحق يمثله.

يلجأ أولئك إلى جانب هذا إلى أقوال قلما يؤمنون بها؛ يقولون: إن الدين إنما يحكم في أمور الناس والحياة صوت العقل والتفكير لا دواعي الهوى والغرض، وهم إذ يقولون ذلك لا يلبثون غير قليل حتى يقولوا: إن اللجوء إلى التأويل شطط وتبديل، كأنما هم في نفس الوقت الذي يقولون فيه بأن «صوت العقل»، ينبغي أن يكون الحكم في أمور هذه الحياة، لا يصفون العقل إلا بأنه الخضوع لما جرت عليه أحوال الناس في عصور تفصلهم عن العصر الذي يعيشون فيه المئات بل الألوف من السنين، بل هم يريدون أن يقولوا: إن العقل ينبغي أن يقيد بالنقل تقييدًا، وأن يخضع لما فسرت به النصوص في زمان لو أننا ارتددنا إليه الآن، ورجعنا إلى ما كان فيه من أصول مدنية وحالات اجتماعية وأفكار ونزعات ونظامات، لفقدنا في وسط هذا العالم الذي تمثله مدنية القرن العشرين، كل حق لنا في أن نوجد أو يكون لنا كيان اجتماعي أو سياسي، بل لو أننا ارتددنا جمعية بدوية تدين من حيث النظام السياسي بما دان به أوائلنا؛ إذن لكنا في وسط هذه المدنية الحديثة أشبه شيء بالنقطة المظلمة من الضوء اللامع.

جريًا على القاعدة التي اتبعها رجال الدين في كل الأزمان سميت مطالبة النساء بحق الانتخاب والتمثيل «فتنة»، أراد القائلون بأنها «فتنة» أن يضخموا المعنى فاختاروا له اللفظ الذي ينقل إلى الذهن معنى الخروج والردة والعمل على تقويض أصول المجتمع، اختاروا كلمة «الفتنة» بالذات ولم يقولوا «البدعة» أو غيرها من الكلمات التي تخفف المعنى المنقول إلى الذهن، كما قالوا قديمًا بالكفر والزندقة، يرمون بهما كل من أراد أن يصلح من الفكر أو النظام شيئًا درجت عليه القرون، ذلك في حين أنهم لو فكروا قليلًا لوجدوا أن جميع الرسالات الدينية كانت في عصر نشوئها ثورة على الأوضاع القديمة، فكأن الأديان بحكم أنها رسالات إصلاح هي في حقيقتها خروج على ما درج عليه الناس من أفكار ونظامات وشرائع، وإذن تكون رسالات الأديان هي أقوى الرسالات التي عملت على رقي الإنسان، وإنها بمقتضى ذلك أعظم ما أصاب الفكر البشري والمدنية من الانقلابات المدوية في خلال القرون، وتكون هي أقوى الأشياء أثرًا في تكوين الآراء والأفكار الجديدة، وتكون أول ما يعترف بحقيقة التطور في الحياة، ولو لم يكن في نشر الرسالات الدينية اعتراف ضمني بحقيقة أن الحياة تتطور وتتنشأ، وأنه بمقتضى هذا التطور تحتاج إلى نظامات وشرائع ومعاهد جديدة تلائم درجات التطور التي بلغ إليها؛ لظللنا إلى الآن نضرب في ظلمات القرون الأولى، في ظلمات الوثنية والتكثير، ولما قام لعبادة الواحد الأحد قائمة في هذه الدنيا.

إذن وجب علينا، ووجب على رجال الدين قبلنا، أن يعترفوا بحقيقة تطور الأشياء، وأن يسلموا إلى جانب هذا بأن الرسالات الدينية، لم تكن في حقيقة الأمر إلا استجابة طبيعية لما وصل إليه الناس من درجات ذلك التطور، وأن كل رسالة من تلك الرسالات كانت من طابع ذي لونين: أنها تفرض من النظامات ما يلابس الدرجة التي بلغها تطور الناس، وأنها تضع إلى جانب هذا من الأصول العامة ما يجعل تحوير تلك النظامات مستطاعًا لتلابس حالة أخرى سوف يصل بهم إليها التطور.

هذه حقائق لا يمارى فيها إلا مراءً ظاهرًا، ولكن الواقع أن رجال الدين حتى لو سلموا بهذه الحقائق، فإنه يكون عليهم أن يجاهروا بها؛ لأن في المجاهرة بها انتقاص لذلك السلطان الذي يتوسمون أنهم به يستطيعون الاحتفاظ بتلك السلطة التي انتزعوها من الدين وما هي من الدين في شيء.

٢

في صميم الرسالات الدينية إذن اعتراف ضمني بحقيقة التطور، وإلا لكان في إنكار ذلك نكران صريح لما للدين من القوة الارتقائية، أي القوة التطورية؛ لأن التطور ارتقاء ونشوء وانتقال من حال إلى حال أضرب منها في معارج التقدم.

لو لم تكن هذه هي روح كل رسالة دينية، لظلت المرأة قبل الإسلام كما كانت؛ «تعد من سقط المتاع، لا حرمة لها ولا كرامة، ولا رأي ولا حرية، تعامل كالعبيد، وتسجن كالمجرمين، وتورث كالأثاث والعقار، وتعذب للهوى الجامح أو الشهوة الرعناء، وتحرم من التعلم والتملك والإرث» … ولما حملت من التبعات ما حمل الرجل؛ ذلك بأن الإسلام أباح لها التعليم والاتجار والتملك والإرث وإبداء الرأي فيما يخصها ويعينها من أمور الحياة، وندب إلى أن يسمع رأي المرأة في اختيار زوجها وشريك حياتها.

ولكن ذلك الذي أقر الإسلام للمرأة، قد تحور الرأي فيه تحويرًا استند فيه إلى نَصَّين: الأول قوله تعالى: الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم، والثاني قوله تعالى: وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ ۚ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ، صدق الله العظيم.

ولا مماراة في أن هذا النص الصريح، قد بولغ في تفسيره مبالغة أدت إلى نقيض ما قصد منه، فكون الرجال قوامين على النساء بوجه التفضيل وبما أنفقوا من أموالهم، وأن للرجال عليهن درجة، لا يستنتج منه كل ما ذهب إليه أولئك الذين فسروا ذلك تفسيرًا سلب المرأة كل ما أضفى عليها الإسلام من الحقوق وما اختصها به من الامتيازات العليا.

فسر ذلك بأن الأسرة التي تتكون من رجل وامرأة وتوابعها لا بد لها من تنظيم القيادة، وتعيين الخطة؛ لأنها أشبه بدولة صغيرة تتكون منها الدولة الكبيرة، وأنه إذا لم يوجد في الدولة من يقودها ويسوسها تعددت القيادات واختلفت الرغبات، فسادت الفوضى، وعم الشقاق، وأن الله قد ميَّز الرجل بميزات دينية وعقلية وحيوية تجعله كفؤًا لهذه القيادة، بذلك يقولون إطلاقًا وبغير تحديد.

لقد اتخذت قوامة الرجل على المرأة سبيلًا إلى الاستبداد الذي لا حدود له ولا ضوابط، بالرغم من أن الإسلام لم يقصد مطلقًا إلى هذا، بل الواقع أنه قصد بقوامة الرجل على المرأة أن لا تكون مطلقة بل مقيدة بقيود وضوابط تستنتج عقلًا، فهل كل رجل جدير بأن يكون قوامًا على كل امرأة ولو كان فاسقًا قاتلًا أو لصًّا سفاحًا، وكانت هي من الفضليات العفيفات العارفات بحدود الله؟! هل الرجل المسرف المقامر الرذل خليق بأن يكون قوامًا على المرأة إطلاقًا وبغير حد، إذن تكون قوامة الرجل على المرأة محصورة في حدود أن يكون رجلًا فاضلًا كاملًا عفيفًا تقيًّا عارفًا بواجبه، نقيًّا طاهر الذيل، وعلى الجملة أن يكون رجلًا مستحقًّا لأن يكون قوامًا على أسرته وأهل بيته، وإلا فإن هذه القوامة ولا شك تسقط عنه، وتكون المرأة إذا كانت عفيفة فاضلة أجدر منه وأخلق بأن تكون قوامة عليه وعلى أسرتها وأولادها وبنيها، بل وعلى ثروته وشئونه ومعاملاته، وكثيرًا ما رأينا نساءً قد أصبحن وصيات أو قيمات بأحكام القانون والشرع على أزواج لهن أو أولاد؛ لأن الإسلام الحنيف لم يضع من الأحكام ما هو مطلق من قيود الزمان والمكان وظروف الحال، بل إنه حضنا على أن نجتهد وأن نفكر وأن نتطور مع الزمان ومع الظروف، بل إنه جعل الناس أحرارًا حتى في العقيدة من حيث تعلقها بالكفر والإيمان: فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ، وإن دينًا يقدس حرية الإرادة هذا التقديس، يبعد عليه أن يجمد، كما يريد هؤلاء، فيطلق قوامة الرجل على المرأة من كل قيد ويحررها من كل الحدود التي قد ندركها بالعقل أو تفرضها علينا ظروف الأحوال، ومَنْ مِنَ النساء تستكبر بأن يكون القوام عليها رجلًا فاضلًا عارفًا بحدود الله والأدب، ومن منهن تقبل أن يكون القوام عليها رجلًا ساقط الأدب، رذلًا سفيهًا، أو قاتلًا لصًّا دنيء الطبع سيئ النشأة، أسفت نزعاته واستقوت عليه شهواته واستعبدته نزواته الحيوانية.

٣

إن القول بتنظيم القيادة وتوحيد الخطة في سياسة الأسرة، لقول له خبأ وخبيئه أن تكون السلطة المطلقة المفردة والإرادة التي لا ترد، للرجل دون المرأة، بلا نظر إلى الملابسات التي قد تجعل المرأة في كثير من الأحوال أجدر بأن تكون صاحبة القيادة لا الرجل، خبيئه أن يكون الرجل الحاكم المطلق المستبد، وأن تكون المرأة الكائن المستذل السجين في قيود من إرادة الرجل، وقيود من نزواته وإسفافاته، اللهم إلا أن يكون رجلًا فاضلًا يعرف كيف تكون الحدود، وكيف تكون القيود، وأن يكون فوق ذلك رجلًا عارفًا بأن الحياة جهاد وتطور، وأن ما صلح لعصر لا يصلح لعصر غيره، وأن عجلة الزمان تدور.

على أن الواقع أن الرجل والمرأة لا تفصل بينهما من حيث التحلي بالفضائل أو التردي في الرذائل، تلك الفروق التي تبرر أن يكون الرجل قوامًا على المرأة إطلاقًا وبغير قيد أو حد؛ ذلك بأن فضائل الأخلاق ليست وقفًا على الرجل وحده، وليست الرذائل وقفًا على المرأة وحدها، ولكن التفسير الذي فسره هؤلاء لقوامة الرجل على المرأة، قد فرض، ولكن بغير مرجحات، أن كل رجل أفضل من أية امرأة؛ ولهذا وجب عندهم أن يكون الرجل إطلاقًا صاحب القوامة وصاحب القيادة وصاحب التوجيه، وأن الرجل فاضل صالح لكل ذلك، وأن المرأة إطلاقًا لا تصلح لشيء!!!

لكي نسلم لهم بما يريدون، ينبغي عليهم أن يقيموا الحجة على أن فضائل القيادة والتوجيه وحسن الرأي، لا يختص بها إلا الرجل، وأن المرأة لم تخصها الطبيعة بشيء من ذلك، عليهم أن يبرهنوا أن الرجل خلقٌ وحده، وأن المرأة خلق آخر حتى يستقيم مذهبهم مع منطق الواقع، وإلا فإن الحجة تلزمهم بأن قوامة الرجل على المرأة ينبغي أن تخضع لشروط قلما تجعل حق القوامة الذي ينشدون منطبقًا مع حاجات الحياة ومع حاجات العيش الطيب.

أما أن نقول: إن الرجل قوام على المرأة إطلاقًا وبغير قيد، ففيه منافاة للعقل، وفيه معاداة لكل ما أضفى الإسلام الحنيف على المرأة من الحقوق، وما حدد لها من منزلة في الحياة؛ ذلك بأن كل ما فيه صفة الإطلاق، فيه أيضًا صفة الاستبداد والتحكم، وإخضاع إرادة تعتبر إرادة دنيا، لإرادة أخرى تعتبر إرادة عليا، فيترتب على ذلك أن تصبح المرأة ذلك المخلوق القاصر الذي لا رأي له ولا إرادة ولا كيان مستقلًّا في حياة الأسرة أو الوطن.

وإنما قصد بأن الرجل قوام على المرأة أن يكون بينهما تشارك في المصالح محدود بحدود العقل والحرية ومراعاة للواجبات والمسئوليات، وعلى الجملة قصد به أن يكون أساسًا لإقامة حياة تكافلية في ذلك العالم الصغير الذي نسميه الأسرة، ولن تقوم حياة تكافلية في جماعة من الجماعات إلا إذا كانت حرية الإرادة أساسها وسنادتها.

إن ملاك الأخلاق الفاضلة الاعتراف بأن غيرك من المخلوقات فيه قدر من الفضائل والاستعداد الطبيعي لفعل الخير ما يبرر أن يكون له قدر من الحرية العقلية والإرادية، هو حقه الطبيعي في حياة أساسها حرية الإرادة، أما أن نطلق قوامة الرجل على المرأة من كل قيد، ونحررها من كل الحدود، حدود العقل والأوضاع الاجتماعية، فإنما ذلك يكون الاستبداد بعينه، بل يكون الاستعباد الذي حضت جميع الأديان على مقاومته والخروج عليه، بل إن تقاليد الإسلام نفسه؛ وهي تقاليد ورثناها تشبعًا بروح الإسلام، قد جعلت الحرية أساسًا من أسس الإيمان الصحيح، بل إن الإيمان في الإسلام لا يكون إيمانًا صحيحًا إلا إذا اكتملت فيه عوامل الحرية بجميع مجاليها العالية.

٤

يقولون: «جعل الإسلام لكل من الرجل والمرأة ميدانًا يختص به، ويجاهد فيه؛ فالرجل في الخارج يتعب وينصب ويشقى ويجاهد، ويجمع ويكتسب؛ لا ليستأثر بما جمع، بل ليشارك فيه أختًا عزيزة علية، تجاهد من خلفه من ميدان آخر كريم مستور هو ميدان البيت، فتبذل هناك كل ما في وسعها من حيلة وفن وتدبير لتهيئة سعادة بيتية حبيبة تطعم شهدها وسلافها الطهور مع زوجها في حياة كريمة» …

هذه الجمل الخطابية هي غاية ما وصل إليه القائلون بأن المرأة خلقت للبيت من حقائق هذه الحياة الحديثة، لم يدركوا أن الحياة انقلبت موازينها وتبدلت حقائقها، وأن الإسلام الذي أباح للمرأة أن تبدي رأيها، وأن تتجر، وأن تتعلم، وأن يكون لها ملك تتصرف فيه بمحض إرادتها، لا تتفق مبادئُه هذه مع أسر المرأة في البيت، وأن يكون كل حقها في الحياة أن تقيم بين جدران أربعة تحصر في جوانبها الضيقة كل واجباتها في الحياة، على أن الذين يستمسكون بهذا المذهب لا يدركون عادةً أن الحياة الجديدة حياة أساسها اقتصادي صرف، وأن أثر ذلك في كيان الجماعة قد جعل الاستقلال في الحياة صنو القدرة الاقتصادية، وأن المرأة إذا لم تعمل لتكون مستقلة اقتصاديًّا، ارتدت تلك اللعبة التي يتلهى بها الرجل، بل عادت ذلك الكائن الخاضع المستكين الذي يحتاج دائمًا إلى معونة الرجل، مما يتنافى مع روح الإسلام، بل يتنافى مع الحق الذي هو روح جميع الأديان.

ولعمري بأية شريعة أو قانون يفسح للرجل أن يكون مستقلًّا في ميدان الحياة، ولا يفسح مثل ذلك للمرأة؟ ولماذا يكون للرجل حق السعي والكسب مما يجعل له اليد العليا في الحياة على المرأة، ولا يكون للمرأة نفس هذا الحق؛ ليكون لها من الاستقلال الاقتصادي ما تتحصن به من استبداد الرجل إذا ما ظلت عالة عليه؟! اللهم أن لا شريعة ولا قانون يمنع المرأة من ذلك، وإنما يمنعها من ذلك تقاليد درجنا عليها ولزمناها غير شاعرين أن زمانها قد فات وانقضى، متعامين عن أن حقائق الحياة التي تغمرنا قد عصفت بها عصفًا وأرسلتها أباديد.

عاشت الجماعات الإنسانية في العصور الأولى مأسورة ضمن حدود جغرافية، عاشت في أرجاء تفصل بينها الأنهار والجبال والبحار وغير ذلك من الموانع الطبيعية، فكانت هذه أشبه بعوالم صغيرة يتألف منها عالم كبير، ولكنه عالم بالرغم من كبره واتساعه، كان مفكك الأوصال ممزق الوحدة، على العكس مما نشهد اليوم؛ فقد اندثرت قوى الزمن وقوى المكان، تلك القوى التي احتكمت في حياة الجماعات الإنسانية الأولى، لقد أصبحت الحياة الإنسانية وحدة كاملة، وأصبح العالم الذي نعيش فيه بغير حدود طبيعية، بل إن حدوده انقلبت حدودًا ليست هي بأكثر من اعتبارات جغرافية، فالطائرة والموجات الأثيرية والباخرة، قد أثرت في قوى الزمن وقوى المكان وكادت تدثرهما، وربطت بين مصالح العالم بتلك الوحدة الاقتصادية التي تحتاج فيها الشعوب إلى بذل كل مجهوداتها لتحتفظ بكيانها الاقتصادي قوامًا على استقلالها السياسي، هذه الحالات الجديدة تقتضي انقلابًا في حشد قوى الجماعات حشدًا من شأنه أن يزج بجميع أفراد الأمة رجالًا ونساءً في معترك الإنتاج الاقتصادي؛ لأن ذلك أصبح طريق الخلاص في هذه الدنيا العامرة بصنوف التنافس الإنتاجي، والتي أصبحت القدرة الاقتصادية فيها معيارًا للاستقلال السياسي، وهذه الحقائق التي نلمسها ونعاني آثارها في كل لحظة من لحظات حياتنا، تجعل لزامًا علينا أن نحشد قوانا جميعًا؛ رجالًا ونساءً، وتحملنا قسرًا على أن نخرج المرأة إلى ميدان العمل، وأن نزج بها في مرابع الاقتصاد والإنتاج؛ لأن غيرنا من الأمم الطامعة في خيراتنا، العاملة على هدم استقلالنا الاقتصادي؛ توصلًا إلى إخضاعنا السياسي، قد حشدت جميع قواها للهجوم، فكيف بنا إذا لم نحشد جميع قوانا للدفاع عن حياتنا وكياننا واستقلالنا؟! لا شك في أن مصيرنا في هذا المعترك يكون مصير أمة اكتنزت قواها وعطلتها؛ جريًا وراء أوهام تساور بعض الرءوس؛ انتظارًا للخلاص في الآخرة، وإن كان ثمنه السقوط والاستبعاد في هذه الحياة، وما كان الإسلام إلا دين القوة والاستعلاء والحرية والاستقلال السياسي، حضنا على أن نعد لهذا المركز العالمي ما استطعنا من قوة ومن رباط الخيل، وقد أصبحنا بالتهاون والجمود لا حول لنا ولا قوة، ولا خيل ولا رباط.

لقد كان للفتيات الروسيات خطر السبق في إنقاذ ستالنجراد من الغزاة الألمان، حقيقة لا يماري فيها إلا العميان؛ فقد قمن بتموين المدينة في أثناء الليل وتحت جنح الدجى، وحملن إليها الذخيرة والميرة، تحت وابل الرصاص والقنابل، ولولاهن لسقط ذلك الحصن الذي حمى روسيا كلها من السقوط، فهل يظل نساؤنا للبيت في حين أن نساء غيرنا قد خرجن إلى حومة الوغى يتحملن الموت في سبيل الوطن، ونطلب من هذه الدنيا أن تعطينا مزيدًا من مطلوبات الحياة؟!

خرج نساء العالم المتمدين إلى المتجر والمصنع والحقل، ونريد لنسائنا أن يكنَّ قعيدات البيوت، وأن يظللن الكائنات المعولة، وأن يمضين ذليلات حقيرات بعيدات عن الحياة مقصورات على الطبخ والغسل وحمل القمامة إلى خارج الحجرات والمنازل، ثم نقول: إن ذلك حكم الله!!! إنما ذلك حكم أننا نحاول أن لا نساير الزمن، ونبغي أن نظل كما كان آباؤنا مأسورين في حلقة من الأفكار البالية، جاهلين أن العالم قد اندفع إلى الأمام فراسخَ وأميالًا، وأن الأمم تحشد جميع قواها؛ لتستأثر بالدنيا، في وقت نتطلع فيه إلى الآخرة وحدها، وننسى أن هذه الدنيا هي الطريق إلى تلك الآخرة، بل إننا نحاول أن نتجاهل أننا في هذه الدنيا الصاخبة، دنيا العمل والجهاد، دنيا الحشد والاستجماع، دنيا الاقتصاد والإنتاج.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤