يقظة

وحي الجبل

لم يخلُ العالم العربي من «النظم» وإن خلا من الشعر؛ فالنظامون كانوا في كل عصر أكثر من الهم على القلب؛ فالشعر عندنا كالجبن والزيتون للسفرة، تعوَّدنا أن نهيئ الشاعر قبل الوليمة، فهو من حوائج كل حفلة؛ فلا بد للزواج من عِقْد شِعْرِيٍّ يُهدَى إلى العروسين، ولا بد للمولود من أقمطة شعرية، وحق كل ميت أن يُكفَّن بالشعر، ثم يُختَم قبره — بعدئذ — ببلاطة التاريخ الشعري … كانت للشعر سوق رائجة، ولما انسدت الأبواب بوجه الشعراء حوَّلوا وجوههم صوب أنفسهم فمدح بعضهم بعضًا.

وإذا قلنا نام الشعر نومة أهل الكهف مئات من السنين، فلا نعني أنه لم يكن هناك من يحسنون توقيع الكلام على مفاعلتن مفاعلتن فعولن، فقد سمعت هذه الدندنة أو الشقشقة — سمِّها كما تشاء — حتى في القسطنطينية، حول عرش سلاطين بني عثمان الذين لم يعرفوا من لغة الضاد غير حروفها.

لقد نام الشعر نومًا عميقًا قرونًا، وما تمطَّى وتثاءب إلا في أخريات القرن الثامن عشر، حين تنبَّه العرب واستيقظوا على صراع أوروبا حول أبوابهم في مصر، وعند أسوار عكا. انفتحت أبواب المسألة الشرقية، فانبثثنا في أربعة أقطار المسكونة حاملين معنا قيثارتنا وآدابنا.

فهذا الغريب الذي جاء مصر فاتحًا لم يكن يجهله لبنان، بل عرف بلاده وعرف لسانه حين كان يأخذ منه ويعطيه. تعلمنا لغته وعلمناه لغة الضاد، و«كراسينا» الجامعية في عواصم الدنيا لا يجهلها التاريخ؛ لأنها ما زالت وطيدة القوائم. أجل؛ كان اللبناني رسول ثقافة بين الشرق والغرب فأنشأ في سفوح جبله وعلى قممه مدارس تعلم لغات الغرب على حقها، قبل أن صاح الديك الفرنسي فقلبت ثورته وجه المعمورة، وكان الذين تعلموا في تلك المدارس تراجمة الأجنبي حين جاء مصر غازيًا، ثم انكفأ عنها بعدما ألقى فيها بذور علمه ومدنيته.

لا نعني بهذا أن لبنان هو الذي أحيا الأدب والشعر، ولكننا نزعم أنه هو الذي حاول إيقاظه من رقدته، وهو الذي طعَّم الأدب العربي ببراعم جديدة فأورقت وأثمرت على ذاك الجذع القديم؛ ففي تلك الحقبة الخرساء كان للبنان أمير، وكان لهذا الأمير بلاط فيه شعراؤه وأدباؤه. وما انتعش الشعر على يد الترك وكرامة، وناصيف اليازجي في لبنان، حتى كان شاعر آخر يجوب الآفاق، ويمدح الملوك وأشباه الملوك؛ مثل: السلطان عبد المجيد، ونابوليون، وباي تونس. فيستقدمه «الباي» على دارعة حربية. يظهر أن «بانت سعاد» كانت ميمونة الوجه في كل عصر فبوَّأت أحمد فارس الشدياق — نسر لبنان — أسمى أريكة أدبية. إن كرامة والشدياق واليازجي وغيرهم من أشباههم قد أيقظوا الشعر من غفوته، فقصر الأمير بشير، على ما في إنشاء شعراء بلاطه من ركاكة وضعف وتبلد خيال، قد أيقظ الأقطار الأخرى؛ فهذه «الخاليَّة» قصيدة شاعر القصر — بطرس كرامة — تفتِّق قرائح شعراء العالم العربي، فيعارضها الشاعر الشيخ عبد الباقي العمري الموصلي، ويخمسها الشيخ إبراهيم يحيى العاملي، والشيخ موسى بن شريف المهدي، وينتقدها الشيخ صالح التميمي نقدًا عنيفًا، رادًّا على ناظمها بقصيدة هذا مطلعها:

عهدناك تعفو عن مسيء تعذرا
ألا فاعفنا عن رد شعر تنصرا
وهل من مسيحي فصيحٍ نعده
إذا أينع الشعر الفصيح وأزهرا؟!

فيرتفع صوت من باريس هو صوت الكونت رشيد الدحداح منتقدًا التميمي، وينهض صاحب الخالية بطرس كرامة مدافعًا عن نفسه بقصيدة مطلعها:

لكل امرئ شأن تبارك من برا
وخص بما قد شاء كلًّا من الورى
ولو شاء كان الناس أمة واحد
ولم تلقَ يومًا بينهم قط منكرا
إذا انحط قدر الدرِّ من أجل بائع
فذلك جهل باللآلي بلا امترا
كما عاب شعري قائل في قريضه
ألا فاعفنا عن رد شعر تنصرا
عجبت له مع أنه خير فاضل
فكيف تغاضى عن أخي الفضل وازدرى؟!
نعم إنني من أمة عيسوية
وأهل كتاب لن يُشان ويُحقرا
وأقرب من كل الأنام مودة
إليه كما قد جاءه الذكر مخبرا
لعمرك ما داعي الفصاحة ملة
ولا نسب حتى أُلامَ وأُهجرا
فقُسٌّ مسيحي والسموءل موسوي
وغيرهما ممن تقدم أعصرا

فانبرى للرد على الشيخ صالح التميمي شاعر عراقي هو السيد عبد الجليل البصري، فقال معارضًا:

حكمت وحكمي الحق ناءٍ عن المرا
بأن التميمي الأديب تعثرا
بذم قوافٍ في تمام جناسها
وذلك نوع في «البديع» تقررا

ومما قال رادًّا على الكلمة المأثورة: «أبت العربية أن تتنصر»:

وقد قام من أهل الكتابين زمرة
جنوا من رياض الشعر ما كان مزهرا
فمَن كابن عباد يجاري مهلهلًا
وكان مسيحيًّا تقدم يشكرا
وكالأخطل المعروف شاعر تغلب
يسوق به القسيس في الدير كالفرا

ثم يثني على بطرس كرامة ثناء طيبًا حتى يقول:

أتى منه نظم هدَّ حجة «صالح»
وإن كان في المنظوم قدمًا تصدرا
وقد كان لي من «صالح» خير صحبة
وعند اتباع الحق ما زلت أجدرا
لكل تراني قد قضيت بحقه
وأسأل بارينا الهدى والتبصرا

كان في كل الأقطار شعراء ككرامة بل أرصن وأمتن منه كلامًا، ولكنهم لم ينعموا بشهرته وصيته، وانقضى عهد الأمير ولكن المجرى الأدبي لم ينقطع، فكانت نهضة عظيمة بالمدارس والصحافة والجمعيات الأدبية والتآليف العلمية الضخمة التي صنفها المعلم بطرس البستاني. واستمر ناصيف ينسج على منوال القدماء ويتبع آثارهم خطوة خطوة، فبلغ في التقليد مبلغًا يُحسَد عليه، بينا كان خصمه الأدبي يشن الغارة على التقليد في الفارياق، وكشف المخبَّا، والجوائب، ويكتب بأسلوب جديد، وهو وإن لم يبلغ في شعره ما بلغه في نثره فقد أنعش الشعر نقده العنيف، أما المعلم بطرس البستاني فراح يبني صرح العلم حين فاته أن يبرز في الأدب فكان مع رهطه بناة النهضة الحديثة.

لا نزعم أن اللبناني كان ذاك «الفطحل» في اللغة، إذا استثنينا الشدياق واليازجي الابن، ولكن اللبناني كان دائمًا وأبدًا رسول تجديد في الأدب، حتى إنه ليصح في تحديده قول ابن عربي عن نفسه: لقد صار قلبي قابلًا كل صورة … وخلف هذه العصابة عصابة قامت في مصر، فبزتها في قول الشعر على نهج القدماء، فأعاد البارودي وصبري شباب الشعر العباسي، ومنهما انبثق حافظ إبراهيم وأحمد شوقي.

أحمد شوقي

إن أحمد شوقي هو الشاعر الذي يعنينا أمره؛ لأنه خلاصة «الرءوس» وخاتمة الشعر المدرسي — الكلاسيكي. لا شك أن أحمد شوقي رأس، وفي هذا الرأس معانٍ من جميع الرءوس التي تقدم ذكرها؛ ففي شعره رقة البهاء زهير، وحلاوة أبي نواس، وفيه من أبي تمام تصيده المعاني وأخذها عنوة إذا اقتضى الأمر، وفيه سلاسة بحترية، وفيه حِكم متنبئية تهالك عليها شوقي؛ طمعًا في سيرورة شعره، كما يقول:

رواة قصائدي فاعجبْ لشعرٍ
بكل محلة يرويه خلق

حوَّل شوقي وجهه شطر التجديد في الشعر فلم يظفر بذلك، فعاد أخيرًا يعارض جميع «الرءوس» التي مر ذكرها، فكان له في كل عرس قرص، وإذا رجعت إلى ديوانه أدركت، دون أن تُنبَّه، آثار هذه المعارضة الصارخة.

عارض الجميع وكاد يجاريهم إلا المتنبي، فما حاول محاكاته إلا قصر عنه، ومع ذلك نسمعه يخاطب السلطان عبد الحميد بقوله:

مَلَكْتَ أمير المؤمنين ابن هانئ
بفضل له الألباب ممتلكات
وما زلتُ حسان المقام ولم تزل
تليني وتسري منك لي النفحات
ومن كان مثلي أحمد الوقت لم تجزْ
عليه ولو من مثلك الصدقات
ولي دُرَرُ الأخلاق في المدح والهوى
وللمتنبي درةٌ وحصاة

إن أحمد شوقي الذي يقدِّم نفسه على أبي الطيب قد كان يستوحي هذا الشاعر العظيم كلما نظم، ويحاكيه حتى في الفخر الذي عابه الناس على المتنبي، فقال للسلطان أيضًا:

وإني طير النيل لا طير غيره
وما النيل إلا من رياضك يحسب

كما قال لأميره:

إن عصرًا مولاي فيه المرجَّى
أنا فيه القريض والشعراء

قلنا إن في أحمد شوقي ملامح من جميع الرءوس ولكن هذا لا يعني أنه شاعر لا شخصية له، إنما نعني أن همه الأكبر كان في معارضتهم، فيعارضهم وكأن لسان حاله يقول: ما قولكم؟ أما فُقْتُهم؟! … قد كوَّن هذا التحدي شاعرًا هو شوقي، فكان شأنه في هذا شأن عنصر تولَّد من عنصرين كيماويين، فجاء منفصلًا عنهما وإن نشأ منهما، والدليل على هذا هو أنك إذا عرضت على بصير بأساليب الكلام شعرًا لشوقي فلا يتردد أن ينسبه إليه.

وإذا صدقنا ما قاله شوقي عن نفسه أن فيه أربعة أصول، ولله در التطعيم، قلنا: هذا شاعر أخير يُضاف إلى سلسلة المستعربين الذهبية.

أما العناصر التي عملت عملها في شاعرية شوقي، فمنها: معرفته الفرنسية والتركية، وسياحاته، وتقلبات حياته، وتطوراتها. فلو بقي الشاعر عند أميره لما كان لنا شعره الذي يبقى؛ فهو في ظروف وأحوال شتى يشبه المتنبي، ويتشبه به، ولكنه لم يدركه قط، وإن ادعى أنه فاته.

ولا ننسَ الحوادث العظمى فقد كان لها أثر بيِّن في شاعرية شوقي؛ فمن أمير يُنفَى وشاعر يُبعَد إلى الأندلس فيئن ويحن ويشكو، ويقابل الشاعر في الأندلس بين الفردوس المفقود وجنته الضائعة، فيصف من كبد مقروحة بقايا الملوك العرب مقابلًا حالًا بحال، فيتذكر النيل باكيًا شاكيًا، فيقول:

نحن اليواقيت خاض النار جوهرنا
ولم يهن بيد التشتيت غالينا
ولا يحول لنا صبغ ولا خلق
إذا تلون كالحرباء شانينا
لم تنزل الشمس ميزانًا ولا صعدت
في ملكها الضخم عرشًا مثل وادينا
ألم تُؤلَّه على حافاته ورأت
عليه أبناءها الغر الميامينا؟!

ومن خلافة تركية إسلامية تتقوض أركانها، فيبكيها متذكرًا عزه وعز أميره في ظلها، ومن وطنية مصرية يجلِّي في ميدانها، إلى نزعة فرعونية يباهي بها، إلى جامعة إسلامية شرقية يحض عليها، إلى سياسة محلية يخوض غمارها، ولكن بحذر كلي. تعلَّم هذا الحذر فحذقه يوم كان في القصر وفي ظل العهد التركي، فيقول مخاطبًا اللورد كارنارفون مطالبًا إياه بآثار توتنخ آمون:

سكتَّ فحام حولك كل ظن
ولو صرَّحت لم تُثِر الظنونا
يقول الناس في سر وجهر
وما لك حيلة في المرجفينا
أمَن سرق الخليفة وهو حي
يعف عن الملوك مكفنينا؟!

إلى بلدان يزورها فيُكرَم فيها، فيقول شعرًا يقضي به الحقوق، فيأتي رائعًا؛ لأن شوقي يخلص الحب لمن يجله ويحترمه، ويغضب على من يمس قدس أقداس شعره، فهو حريص على إبعاد شعره عن حضرة النقد؛ ليظل كأنه في حرم.

كان شوقي قوي المخيلة، وعينه أحدَّ من قلبه، فوثب وثبات استولى بها على الأمد فكان شاعر جيله. كان له في الكتب وحوادث التاريخ امرأ مرعى، وكان شاعر الوقت يُدعَى للمواقف الجُلَّى، فإذا استطاع الوثوب نظم القصيدة وأجاب الداعي، وإلا طواها واعتذر. أما إذا كان في مأزق، وتدجت على آفاقه مظلمة كان له مخرج منها ومعتصر، بدق باب الحكمة والاستجارة بالأخلاق وهي جابرة الخواطر عند شوقي. وشوقي في جميع مواقفه بين بين، لا يهاجم ولا يشن غارة، فهو كالطائر يغنِّي إذا طاب له التغريد، ولكنه حذر دائمًا يخاف أن يحصب، وإذا ضيقت عليه السياسة جذبته رغبته الملحة إلى الوصف. اقرأ هذا الوصف الطريف تدرك قوة التخيل عنده:

أيها المنتحي بأسوان دارًا
كالثريا تريد أن تنقضا
قف بتلك القصور في اليم غرقى
ممسكًا بعضها من الذعر بعضا
كعذارى أَخْفَيْنَ في الماء بضًّا
سابحات به وأبدين بضا
شاب من حولها الزمان وشابت
وشباب الفنون ما زال غضا
رُبَّ نقش كأنما نفض الصا
نع منه اليدين بالأمس نفضا
وضحايا تكاد تمشي وترعى
لو أصابت من قدرة الله نبضا
ومحاريب كالبروج بنتها
عزمات من عزمة الجن أمضى

رحم الله جِنَّ النابغة الذين بنوا تدمر بالصفاح والعمد …

يظهر لنا شوقي من خلال شعره أنه هادئ الأعصاب، متزن الميول، وقد يكون في ذلك كالأخطل يوم شيَّخ، فقال:

ولقد أكون لهنَّ صاحب لذة
حتى تغير حالهن وحالي

أما مذهبه في الحياة فيعلنه في قصيدته معتذرًا لتخلفه عن أداء فريضة الحج في معية أميره؛ إذ يقول:

ولا بِتُّ إلا كابن مريم مشفقًا
على حُسَّدي مستغفرًا لعداتي
ولا حملت نفس هوى لبلادها
كنفسي وفي فعلي وفي نفثاتي
وإني ولا منٌّ عليك بطاعة
أُجل وأُغلي في الفروض زكاتي
أبالغ فيها وهي عدل ورحمة
ويتركها النساك في الخلوات

ولكن النساك يا سيدي لا يحوزون مالًا فيزكوه، وإن تمولوا فما هم بنساك … ونهر شوقي هادئ غير عجاج حتى في أحرج أزمات الدفاع؛ فهذا اللورد كرومر يخطب شاتمًا مصر والمصريين بضع ساعات يشرب في خلالها زهاء خمسة أباريق من الماء المثلوج، فيرد شوقي على أدق قضايا خطاب اللورد بقوله:

من سب دين محمد فمحمد
متمكن عند الإله رسولا

ألا ترى مثلي أن أحمد شوقي في هذا الموقف هو الإنكليزي طبعًا، لا اللورد كرومر؟! …

أما ملخص شوقي الوجداني، فهو عندي على هذا الترتيب: تركي مصري مسلم شرقي، وفي كل زاوية من هذه الزوايا الأربع متسع من الوعي ينفسح ليدخله الآخرون عند الضرورة …

وشاء شوقي أن يكون كالشعراء العالميين الكبار، فنظم المسرحيات والأساطير والخرافات كلافونتين وهيغو وراسين، أراد أن يكون له شعر في كل فن ومطلب فما ترك شيئًا، فسار في جادَّة قدماء الشرق والغرب ولم ينسَ أحدًا حتى الزمخشري.

لقد نظم شعراء كثيرون قبل شوقي مسرحيات ولكنه وُفِّق أكثر منهم. لم يُوفَّق التوفيق كله؛ لأن رواياته غنائية أكثر منها تمثيلية، فهو ينظر إلى الشعر قبل الفن التمثيلي، فظهرت شخصيته في كل مسرحياته، فكانت صورًا بيانية يتعمدها الشاعر، وأفكارًا فلسفية اجتماعية يتعمد نظمها ولا يبالي بقائليها، فلا يهمه إن صح أن تُقال بلسان هذا أو بلسان غيره، والمحادثة وخصوصًا المناجاة تطول جدًّا، فتُسمَع كقطع شعرية رائعة تزيِّنها ديباجة بحترية أندلسية ذات ألفاظ منتقاة لا تنافر بينها، ورنة موسيقية تطرب لها، فكأن الجيِّد من شعر شوقي في هذه الروايات، موقع إيقاعًا.

كأني بشوقي يؤلِّف هذه المسرحيات وعبد الوهاب ملء خاطره، كأنه كان يتخيله ويتخيل غيره من بلابل النيل يغنونها فيسير مرخيًا زمام قريحته، ضاربًا بشكيمة الفن عرض الحائط. إن لغة الشعر — وخصوصًا العربي منه — لا تصلح للتمثيل، فكيف بها حين ينظمها شاعر كشوقي لا يعنيه إلا الشعر؟! ينظمه بلسان هذا وتلك فتبدو في وجوه رجال العصور الأولى سمات ناس القرن العشرين؛ فيضطرب الفن لظهورهم في ذاك الشذوذ الخلقي، فلولا وثبات رائعة فاق بها شوقي شعراء جيله ودنا بها من كبار القدماء لما كان ذلك «الرأس» الذي نختم به المدرسة القديمة. إن خط الشعر القديم المصقول قد خُتِم بشوقي الذي أعاد عهد الديباجة البحترية، فظلع وراءه رهط من أصحابنا «المؤجل دفنهم».

وبعد كل ما قلت فلست أزعم أنني درست أحمد شوقي درسًا أشتهيه؛ ولهذا سبب يعنيني أكثر مما يعني القارئ العزيز، فليظن خيرًا ولا يسأل عن الخبر.

أما الشعر الجديد، ومنبعه هذا الجَبَل، فجبران أول من شق الطريق إليه وعبَّدها، فهو زعيم المدرسة الرمزية الرومنطيقية، وأتباعه منتشرون في كل قطر من الأقطار العربية حتى الحجازي واليمني منها. لا جدال في أن اتجاهات الذين تأثروا به قد اختلفت، وتفاوتوا في الإبداع، ونهجوا في الشعر نهجًا جديدًا لا نستطيع الآن تقدير مداه ومصيره.

والإنصاف الأدبي يقضي علينا أن نقر بما لخليل مطران من عمل بدائي في هذا التطور، كان مطران في عهد تقديس القديم حرَّ التفكير، عميق التحليل، طريف التصوير، كما كان محافظًا كصاحبيه — شوقي وحافظ — فحبس قريحته مثلهما في قلعة القافية وحصن العروض، وقيَّد نفسه بأغلال التعابير الموروثة؛ فكان رجلًا جديدًا في ملابس قديمة، تطور تطورًا رصينًا لا طفرة فيه ولا جموح، فوضع في بنية الشعر الحديث زاوية يُذكَر بها.

أما أسباب ذهاب الشعر العربي في بنيَّات الطريق، زهاء عشرين قرنًا، فأهمُّها ما أحدثك عنه خاتمًا به هذا الكتاب، ولعل فيه عبرة وعظة للناشئين.

الشعر بين الناقد والمعلم

لم يَفتِنْ الشعرُ أمةً كما فَتَنَ العربَ؛ فكل ذي شفة ولسان قال شعرًا، حتى ابن خلدون فإنه راود ربة الشعر عن نفسها، فاستبقا الباب ولم يقد لها قميصًا …

خبَّرنا مؤرخو الأدب أن بيت الشيخ زهير كان محشوًّا شعراء، وأن وُلْدَ العمِّ جرير كلهم قالوا الشعر. كان هؤلاء قطيعًا يقارب المائة، كما بشرنا جرير بهذا النبأ العظيم حين قال لمعاوية بن هشام:

ماذا ترى في عيال قد برمت بهم
لم تحصِ عدتهم إلا بعدَّاد
كانوا ثمانين أو زادوا ثمانية
لولا رجاؤك قد قتَّلت أولادي

كان في كل بيت من الشِّعْر «فبركة» شِعْر، اللهم زد وبارك! والسوق تبرد متى غمرتها البضاعة، ومثل هذا النظم الذي لم يعجز عنه ناطق بالضاد يفسد الأدب والذرية.

عندي للشعراء الأفذاذ بَرْدٌ وسلام لا صواعق من معدات جرير، فلولا الشاعر لماتت الآلهة! لولا عمر ما خطرت الثريا ببال، ولولا المتنبي ما دار ذكر أبي البيضاء على لسان، ولكن الشاعر العظيم — كما يقول رينان الفيلسوف الفرنسي — يكلِّف الطبيعة من المواد الأولية ما لا تكلفه أعظم الحروب، فلا بد من استهلاك ثلاثين أو أربعين مليونًا من شعوبنا الكثيفة الجماجم ليكون لنا شاعر من الطراز الأول. هذا على قوله، أما أنا فذمتي بريئة من هذه المعصرة أو هذا المكبس.

كان لنا في ذلك الزمان شاعر من الوارد الريناني، ويكون لنا أيضًا إن اتكلنا على الله؛ فلا خوف إذن من انقراض هذا النسل الطاهر! ولكن ما الذي جمَّد أدبنا وصيَّره جليدًا؟ بل ما الذي أبقى في أنفه الخزامة؟ إنه النقد العقيم.

لست أُعنِّف نقادنا القدماء جميعًا، ففيهم المبدع والمصيب، وفيهم التابع والجمَّاع، وخاتمة هؤلاء علَّامتنا الجليل ابن خلدون، لا ننكر أن لهذا المفكر العظيم أوليَّة يقر له بها الشرق والغرب، أما في نقد الشعر وصناعته فكان عبدًا للقدماء، يأخذ عنهم ولا يفكِّر. كان للشعراء نافذة يأتيهم منها النور والهواء فسدَّها عنهم هذا الفاضل، وقتل الشعر صبرًا؛ قال سامحه الله:

كان شيوخنا، رحمهم الله، يعيبون شعر أبي بكر بن خفاجة شاعر الأندلس لكثرة معانيه، وازدحامها في البيت الواحد، كما كانوا يعيبون شعر المتنبي والمعري بعدم النسج على الأساليب العربية، فكان شعرهما كلامًا منظومًا نازلًا عن طبقة الشعر (المقدمة ص٥٧٥).

إن إمامنا عبد الرحمن قَاسَ الفن بالباع والذراع، وتخيَّله كالهنداز والقالب، فحبس الشعراء في صيرة أحاطها بالقندول، فقعدوا يجترُّون قديمهم كالمعزى في القيلولة. لم يخرجوا إلا مزاود وقربًا وأجربة متكرِّشة هريئة، ثم توغَّل في مفاوز الإرشاد الفني حتى جعل للنظم مواقيت كالصلوات، ووصف للشعراء صفة Régime يأخذون بها في أنفسهم، كما يفعل أطباء اليوم للمصابين بالسُّكَّر والزلال والضغط … وهو لولا يأتي على ذكر المآكل لحظر البصل؛ لأنه يُعمِي القلب، وأشار بالصعتر؛ لأنه يفتح الذهن … وإليك رأيه في الزمان والمكان اللذين يهبط فيهما الوحي على الشعراء:

ثم لا بد له — أي الشاعر — من الخلوة واستجادة المكان المنظور فيه من المياه والأزهار، وكذا المسموع لاستثارة القريحة باستجماعها وتنشيطها بملاذ السرور. ثم مع هذا كله فشرطه أن يكون على جمام ونشاط، فذلك أجمع له وأنشط للقريحة أن تأتي بمثل ذلك المنوال الذي في حفظه. وخير الأوقات لذلك أوقات البكر عند الهبوب من النوم، وفراغ المعدة، ونشاط الفكر، وفي هؤلاء الجمام. وربما قالوا إن من بواعثه — أي الشعر — العشق والانتشاء، فإن استصعب عليه بعد هذا كله فليتركه إلى وقت آخر، ولا يكره نفسه عليه.

إذن فلا بد للشاعر — عند ابن خلدون — من طبل وزمر، وخمر ونهر، وبستان وعروس، وعندي أن من أُوتِيَ هذا كله يطلق عروس الشعر ثلاثًا …

ولم يقف ابن خلدون عند ذاك الحد، بل تعرَّض لبنيان بيت الشعر، فقال: «وليكن بناء البيت على القافية من أول صوغه ونسجه بعضها، ويبني الكلام عليها إلى آخره؛ لأنه إن غفل عن بناء البيت على القافية صعب عليه وضعها في محلها فربما تجيء نافرة قلقة» (المقدمة: ٥٧٤).

كأني بالأستاذ قد حسب الشاعر بناء والقافية زاوية، فلا بد إذن من وضع الزاوية أولًا ليستقيم المدماك، ويشد بعضه بعضًا.

كان النقد العربي في أوله — يوم كان كلمات جامعة — خيرًا من آخره، كان موكلًا بالذوق حتى جاء المتأخرون بشرائعهم، فصيَّروا الشاعر عبدًا لا ينفع؛ فالكلمات التي قالها الرواة والأعراب، أجمع وأنفع من كتب المتأخرين التي شدت الزيار على الشاعر واقتادته بخناق، لم يقل الرواة والأعراب للشاعر أنظم وقت كذا، ولم يتعرضوا لفراغ المعدة وامتلائها، أما أعلامنا المتأخرون كابن رشيق وابن خلدون، فامتد سلطانهم حتى علموه كيف يمدح، وكيف يهجو، وكيف يتغزل، بل قل كيف يبكي ويضحك … وهكذا وضع دستور شعر «غب الطلب».

اسمع نقد بدوي في ذلك الزمان. جاء في زهر الآداب، قال بعض الرواة: أفضنا في ذكر الأصمعي، فقال راويته أبو نصر: رحم الله الأصمعي، إنه معدن حكم، وبحر علم، غير أنه لم نَرَ مثل أعرابي وقف بيننا فسلم، وقال: أيكم الأصمعي؟ فقال: أنا ذاك. فقال: أتأذنون بالجلوس؟ فأذنا له وعجبنا من حسن أدبه مع جفاء الأعراب.

قال: يا أصمعي، أنت الذي يزعم هؤلاء النفر أنك أثقبهم معرفة بالشعر والعربية وحكايات الأعراب؟ قال الأصمعي: فيهم من هو أعلم، وفيهم من هو دوني. قال: أفلا تنشدني من شعر أهل الحضر حتى أقتدي به على شعراء أصحابنا؟ فأنشده شعرًا لرجل امتدح به مسلمة بن عبد الملك:

أمسلم أنت البحر إن جاء وارد
وليثٌ إذا ما الحرب طار عقابها
وأنت كسيف الهندواني إن غدت
حوادث من حرب يعب عبابها

قال: فتبسم الأعرابي وهز رأسه، فظننا أن ذلك لاستحسانه الشعر، ثم قال: يا أصمعي، هذا شعر مهلهل، خلق النسج، خطأه أكثر من صوابه، يغطي عيوبه حسن الروي ورواية المنشد. يشبِّهون الملك بالأسد، والأسد أبخر، شئيم المنظر، وربما طرده شرذمة من إمائنا، وتلاعب به صبياننا. ويشبهونه بالبحر والبحر صعب على من ركبه وعلى من شربه، وبالسيف والسيف ربما خان في الحقيقة ونبا عند الضريبة.

وروى صاحب الأغاني عن حماد: استنشدني جعفر بن أبي جعفر المنصور المعروف بابن الكردية لجرير، فأنشدته:

بان الخليط برامتين فودعوا

ولما انتهيت إلى قوله:

وتقول بوزع قد دببت على العصا
هلا هزئت بغيرنا يا بوزع؟!

قال لي: أَعِدْ هذا البيت. فأعدته، فقال: بوزع أي شيء هو؟ قلت: اسم امرأة. قال: امرأة اسمها بوزع! أنا بريء من الله ورسوله، ونفي من العباس بن عبد المطلب إن كانت بوزع إلا غولًا من الغيلان، تركتني والله يا هذا، لا أنام الليلة من فزع بوزع، يا غلمان قفاه! فصُفِعتُ والله حتى لم أدرِ أين أنا! ثم قال: جروا برجله. فجروا برجلي حتى خرجت من بين يديه مسحوبًا …

فما أسطعَ هاتيك الومضات النيِّرة! وما أقل خير تلك المجلدات الضخمة التي صنفوها بعدهم ليجعلوها أصولًا للفن! إن العلم لا يعمل شاعرًا؛ فمعلم التشريح يعرف المواد التي يتركب منها الجسم وقد يجدها، ولكنه لا يقدر على خلق بهلول واحد.

قال تولستوي: إن المدارس لا تعلم الفن؛ فالأساتذة يؤثرون شاعرًا يروضون تلاميذهم على نمطه وأسلوبه فيخرجونهم مقلدين. وهذا ما فعله نقادنا المتأخرون؛ فصيروا الشعر علمًا بأصول، وقالوا للشاعر: كن كالقدماء حذوك النعل بالنعل — هذا من تعابيرهم — فابتلونا بهذا السل الأدبي. إن الشاعر لا يعلم كيف ينظم ولا أين ومتى؛ فالشاعر الحق يقول شعرًا في جهنم، والشعرور يقرزم في الجنة تحت أجنحة الكاروبيم وعلى تهاليل الساروفيم.

هذه حقيقة يجب أن يعلمها شبابنا؛ فجذور المستقبل تمتد في الحاضر. اذكروا قول أبي العتاهية: روائح الجنة في الشباب، فانفحونا بروائحكم الطيبة لنتعلل.

قد تقولون هكذا تعلَّمنا وبهذا نحمل الشهادات العالية، وأنا أقول لكم ليست الشهادة — مهما كبرت — غير مفتاح باب الثقافة والفن. إن لم تفكروا وتريدوا تبقوا خارجًا كعذارى الإنجيل الجاهلات، وإذا كان سلاحكم هذه الدروس التي تستظهرونها فالغد مظلم قاتم. إن تقديس القديم طبع في الشيوخ؛ فأين ثورات الشباب؟! دعوا الدراسات والمذكرات للخمسين والستين، أما العشرون والثلاثون فللخلق والإبداع.

قد درستم — ولا ريب — فصل الإرادة درسًا عميقًا وحفظتموه كالماء الجاري، ولولا ذلك ما صرتم فلاسفة … أفما علمكم علم النفس أن كل بديع وجديد من فعل الإرادة؟! يريد المرء فيخلق نماذج جديدة، فلماذا لا تريدون؟! الإرادة تصيِّر الفعل الآلي والعادي فعلًا تأمليًّا مقصودًا، فتفرغه في قالب جديد طريف، فأريدوا وتأملوا. الإرادة، كما علموكم، تسيِّر الحركات والتصورات كما يقتضي الزمن والأحوال، فلماذا لا تقرءون في كتب الحياة؟! لماذا لا تستوحون الظروف والأحوال بدلًا من تدارس مواضيع مبتذلة أورثتكم إياها المدارس؟! دعوا «العادة» العمياء فهي بنت المدرسة وأم كل مبتذل. طيروا بأجنحة الإرادة إلى الآفاق البعيدة، أريدوا تخلقوا الطريف الجديد. لم يفسد الشعر العربي إلا نسج نوابغه على منوال واحد، لا تقولوا: نبني كما كانت أوائلنا تبني … إننا نتوقع كل ساعة أن نُدعَى إلى مآدبكم الحافلة بالطيبات، فأعدوا لنا كل شهي.

إن أذكى ما خلق الله هاتيك الجدة التي يسمونها حواء، كانت — نفعنا الله بدهائها — من ذوات الإرادة الفولاذية، فعقدت ألف صلة وصلة مع المخلوقات الفردوسية، قبل أن يزول عن الشيخ آدم خطر العملية الجراحية الأولى … يوم استلت ضلع من أضلاعه وسد مكانها بلحم، أيقظت إرادة حواء الجنة الغافية. ولو لم «ترد» تلك النبيهة لظل الإنسان في الفردوس تكلة حكلة، وعاش الأبناء والأحفاد آكلين شاربين، ولم يدركوا سرًّا واحدًا من الأسرار التي خبأها الله في أحشاء أمهم، إن نقطة من عرق الجبين الإنساني خلقت ألف فردوس، وستخلق كل يوم ما دام الإنسان مريدًا.

قد حان للوثنية الأدبية أن تتوارى، فالفن لا يعرف غير إله واحد هو الجمال؛ فابحثوا عنه. إذا كان يُستطاع تبديل حياة النبات بتبديل الأضواء والأنوار، أفلا يستطيع مصباح أديسون أن يبدِّل شعرنا المعمول على ضوء مصباح امرئ القيس ذي الذبال المفتل؟!

لقد عشنا عشرين قرنًا وعيوننا في ظهورنا فلننظر إلى الأمام، إن ثقافتنا لفي خطر، وستهوي إذا لم تتداركها يد جبارة فتنتزعها من فم اللجة التي تجذبها إليها، ومن لها غير سواعد الشباب؟!

أريدوا، أيها الشباب، تفلحوا. لا يتبع بعضكم بعضًا فتشيخوا قبل الأوان.

تشرين الثاني سنة ١٩٤٥

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤