مقدمة
«الأدب التمثيلي» باب، لم يُفتح في اللغة العربية إلا في العصر الحاضر! … وقد تردد «الأدب العربي» في قبول هذا اللون الغريب عليه! … فتركه زمنًا خارج جدرانه، يسمع بأمره من أفواه النظارة، دون أن يحفل بالالتفات إليه، أو الخوض فيه!
لقد جَدَّ منذ نحو قرن في بعض البلاد العربية، ﮐ «سوريا» و«لبنان» و«مصر»، نوع من المسارح، يمتزج فيه الجد بالهزل، والتمثيل بالغناء! … وقد نُقلت إليه بعض قصص الغرب، نقلًا تامًّا وغير تام؛ تُعرض في ثوبها الأصيل، أو في ثوب يناسب الشرق؛ أحيانًا في لغة فصحى، وأحيانًا في لغة تلائم أفهام العامة!
وكان المنبع الذي يستقي منه المسرح، في ذلك الوقت، هو الأدب الفرنسي، والأدب الإنجليزي؛ فرأينا «البخيل» ﻟ «موليير» تُعرض بالزجل، ورأينا «روميو وجوليت» ﻟ «شكسبير» تُعرض بالألحان!
كان مبدأ المسرح العربي في الشرق — كما هو معروف — «مارون النقاش»، ثم تبعه خلفاؤه: «القرداحي» و«أبو خليل القباني» … إلخ! … إلى أن حمل لواءه «الشيخ سلامة حجازي» … وولَّى هو الآخر، وورِثه — برواياته وألحانه — «أسرة عكاشة» فمضَوا في خطته … ولكن الثورة المصرية، وانبثاق الروح القومية، دفعَتهم إلى الالتفات نحو تمصير رواياتهم! … في ذلك الوقت بدأ كاتب هذه السطور حياته المسرحية؛ مؤلفًا لتلك الفرقة بعض الروايات، على النحو الذي كان العمل عليه جاريًا في تلك الأيام!
كل هذا كان يحدث دون أن يطمع أحد من كتَّاب المسرح في أن يسمى عمله أدبًا! … ودون أن يلتفت الأدب العربي إلى اعتبار هذا النوع من الكتابة أدبًا: من قريب أو بعيد! … ودفع شوقي، بعدئذٍ برواياته إلى المسرح؛ فكان لها نجاح عند النظارة! ولكنه لم يفكر، هو أيضًا، في طبعها قبل التمثيل! … ولم يُقدِّر لها وجودًا مجيدًا، بعيدًا عن أنوار المسرح! … فالقصيدة التي كان يدفع بها إلى الصحف السيارة، أو إلى المطبعة ضمن ديوان؛ كانت وحدها المعدة، في رأيه، للدخول ظافرة، إلى قصر الأدب، تعنو لها رءوس الأدباء! … فالحاجز إذَن بين عالم المسرح، وعالم الأدب؛ كان من الأمور التي تُحير العقول وتحتاج في تفسيرها إلى تعليل!
ورحل كاتب هذه السطور إلى أوروبا في تلك الأثناء … وهناك انكشف له السرُّ العلة! … إن عالم المسرح في أوروبا وعالم الأدب مندمجان متداخلان، لا فاصل بينهما ولا حاجز؛ والسبب في ذلك واضح هو أن القصة التمثيلية فرع من الأدب، تُدرَّس في المعاهد والجامعات، على أنها أدب، قبل أن يُدفع بها إلى المسرح؛ فقد ورثت أوروبا هذا الأدب عن الإغريق، وبحثته ودرسته، وعلى أساسه بنَت ونسجَت! … فهو جزء من آدابها القومية نشأ وترعرع على مرِّ القرون، مُثِّل، أو لم يُمثَّل؛ فهو كائن بذاته، شأنه شأن علوم المنطق، والرياضة، والفلسفة، التي انحدرت إليها من عهد اليونان؛ لذلك لم يجَد كاتب هذه السطور بُدًّا من أن يبدأ من البداية، وأن يرجع إلى المنبع، عندما أراد دراسة الأدب المسرحي!
لقد كان يظن الأمر هيِّنًا، والطريق ميسرًا، يبدأ من حيث شاء، ويتوفر على هذا الأدب المسرحي الحديث، الذي لا يكلِّف في درسه عناءً ولا يحمل في فهمه مشقة … قالوا له هناك: إذا كنت جادًّا فعُد إلى الإغريق! … وعاد إلى «أشيل» و«سوفوكل» و«إيروبيد» و«أرستوفان»! … وهنا أدرك: لماذا يحتفل الأدب العربي بالقصيدة، ولا يعترف بالرواية التمثيلية، حتى وإن كانت شعرًا؟! … لأن القصيدة هي ميراثه منذ القدم، كما أن الشعر التمثيلي هو ميراث الأدب الغربي منذ القدم!
ما من شيء أقوى من الميراث! … إذا كانت للخلود يدٌ فإن الميراث يده التي ينقل بها الكائنات، من زمان إلى زمان! … ما طبائع الأفراد، وخصائص الشعوب، ومقومات الأمم؛ إلا ميراث صفات وسمات، تنحدر من جيل إلى جيل! … وإن ما يسمونه العراقة في شعب، ليس إلا فضائله المتوارثة، من أعماق الحقب، وإن الأصالة في الأشياء والأحياء، هي ذلك الاحتفاظ المتصل بالمزايا الموروثة، كابرًا عن كابر، وحلقة بعد حلقة! … هكذا يُقال في شعب، أو رجل، أو جواد! وكذلك يُقال في فن، أو علم، أو أدب! … عراقة الأدب هي طابعه المحفوظ المنحدر إلينا من بعيد!
لقد أرادت أمريكا أن تختزل الطريق في فن الموسيقى: فابتدَعت ذلك النوع، من موسيقى الزنوج، المسمى ﺑ «الجاز»، فأخفقت في حمل العالم المثقف، على تبجيل هذه الموسيقى، التي لا أصل لها يُوقَّر، ولا نسب يُحترَم، ولو لم تكن لغتها هي الإنجليزية، لكان لأدبها أيضًا هذا المصير! … لكن الأدب الأمريكي ما استطاع أن يكون أدبًا إلا لارتكازه على التراث المعترَف به من الأدب الإنجليزي! … فما هو في حقيقة الأمر إلا غصن حديث النَّبت، في دوحة الآداب السكسونية!
الأدب العربي إذَن كغيره من الآداب العريقة، لا يقبل العبث بدمه وطابعه، دون بحث وتمحيص، وحذر واحتياط! … وهو، عندما وقف في القرن الأخير، هذا الموقف الحذر من المسرح؛ لم يكن في ذلك ملومًا ولا كان متجنِّيًا؛ فإن الطريقة التي ظهر بها المسرح، في الشرق العربي، لم تكن على أساس، يمكن تسويغه في نظر ذلك الأدب العريق … ولو أنه قام فينا — منذ قرن أو قرنين — أديب ينادي متسائلًا: «أيها الأدب العربي! … لقد كان بينك من قديم وبين الفكر الإغريقي وشائجُ وصلات … لقد نظرتُ فيه وأخذتُ مما عنده من علوم وفلسفة، ولكنك أشحتَ بوجهك عما عنده من شعر! … إلامَ هذه القطيعة؟ … ومتى يتم الصلح بينك وبين الشِّعر الإغريقي؟ … انظر فيه قليلًا، واسمح بنقله وبحثه، فربما وجدت عنده ما يدعم تراثك، وينمِّي للأجيال القادمة ميراثك!»
هذا الصوت لم يرتفع في القرون الماضية، وظلت القطيعة بذلك قائمة بين الأدب العربي والأدب الإغريقي … وباستمرار هذه القطيعة تعذر على المسرح أن يقوم على أساس وطيد، وأن يجد مكانًا لدينا، في أورقة: الأدب، والفكر، والثقافة!
لا بُدَّ إذَن من الصلح بين الأدبين، إذا أردنا من الأدب العربي أن يُقرَّ، في تاريخه العريق، هذا القالب التمثيلي من الشِّعر أو النثر إقرارًا، له قيمة وبقاء … ولكن … كيف يكون الصلح؟
لا بُدَّ، قبل كل شيء من أن نعرف أسباب النفور؛ لنسعى بعدئذٍ في التوفيق، ونأتي بوسائل الوفاق.
قبل كل شيء ينبغي لنا أن نتساءل: على من تقعُ تبعة الإحجام عن نقل الشعر الإغريقي إلى اللغة العربية؟ … وهذا السؤال يجرنا إلى البحث في طريقة نقل التراث الإغريقي وموجباته وموحياته!
المعروف أنه عقب فتوح «الإسكندر» تغلغل الروح اليوناني في «آسيا»، وكانت «سوريا» و«ما بين البحرين»، أي «دجلة والفرات»، من أهم المناطق التي خضعت لنفوذ الحضارة الإغريقية! … هناك في صوامع نُسَّاك السوريين، المنتشرة في تلك البقاع، نشطت على مدى القرون حركة ترجمة واسعة، للمؤلفات الفلسفية والعلمية من اللغة اليونانية إلى اللغة السريانية! … من هذه الترجمات السريانية، جاء العرب بعدئذٍ، ونهلوا، ونقلوا!
إذا كان هذا القول صحيحًا فإن على العرب أن يقولوا إنهم نقلوا ما وجدوا! … ولم يكن الشعر من بين ما عُني به أولئك الرهبان! … ولكن الذي حدث، هو أن كثيرين من العرب تعلّموا بعد ذلك اليونانية، واستطاعوا أن ينقلوا عنها مباشرة!
وكان مما نُقل منها إلى العربية كتاب الشعر أو «البويطيقا» ﻟ «أرسطو»! … وفيه تعريف ﺑ «التراجيديا» و«الكوميديا» وما إليهما من فنون الشعر التمثيلي! … وجاء «ابن رشد»، فدلَّنا — بتعليقاته المشهورة على كتاب «البويطيقا» — أن العرب ما أرادوا عامدين أن يُوصِدوا الذهن، دون العلم بفن الشعر عند الإغريق! … كيف إذَن لم يدفعهم الفضول، بعدئذٍ، إلى نقل بعض ألوان «التراجيديا» أو «الكوميديا» إلى العربية؟
من المفهوم أن يقعدوا عن نقل شعر غنائي؛ مثل شعر «بندار» أو «أنا كريون». ففي الشعر العربي الجاهلي أو العباسي ما يضاهي ذلك اللون … ولكن لماذا — وهم على ما نعرف من حب الاطلاع — لم يُقدِموا على ترجمة مآسي شعراء الإغريق؟! … الجواب عن ذلك يقتضي أولًا: أن نعرف ما هي «المأساة» … وكيف نشأت في اليونان! … لم يبقَ شكٌّ اليوم في أن «التراجيديا» قد نتجت عن عبادة «باكوس»، إله الخمر المعروف عند الإغريق باسم «ديونيزوس»؛ ففي كل ربيع كانت تُقام لهذا الإله حفلات دينية، صاخبة بالنشوة، فياضة بالمرح! … يرقص الناس فيها ويغنون، حول تمثال إله الخمر، وهم متنكرون في جلود الماعز، وأوراق الشجر! … وكان هذا الرقص والغناء في مبدأ الأمر مرتجلًا … فإذا مرَّ الزمن بعد ذلك، يهذب من شأنهما … وإذا الناس يضعون، هذا الرقص، وهذا الغناء، على أسس من الإعداد والتنسيق، ويؤدونهما طبقًا لقواعد محددة الأركان … وما لبث ذلك الغناء أن امتزج به نوع من التنويه بأعمال ذلك الإله على صورة سرد، يُلقَى مُشيدًا: بفتوحاته، ومغامراته، ورحلاته العجيبة! … ثم تطور الأمر، بجوقة الراقصين من الناس، إلى أن صاروا ينوِّعون في ثياب تنكُّرهم، ويمثِّلون ألوانًا أخرى من «الشخصيات» غير الماعز والحيوانات! … وتطور السرد أيضًا فصار يُعنَى بأشياء أخرى، لا صلة لها بحياة الإله، الذي يحتفلون بأعياده، حتى ضجَّ الرجعيون والمحافظون من الشيوخ لهذه البدعة؛ فقالوا: «ما في هذا شيء ﻟ «باكوس»!» وصارت هذه الجملة بعد ذلك مثلًا في اللغة اليونانية!
ولكن من هذه البدعة التي أثارت النقد والغضب، خرج الفن المسرحي! … فلم يمضِ قليل حتى ظهر رجل يدعى «تسبيس» قادَه تفكيره إلى أن يؤلف ما ينبغي أن يوضَع على لسان الجوقة المنشدة، وعلى لسان ممثل واحد، يحاور الجوقة وتحاوره … وجعل لهذا الممثل أقنعة وملابس مختلفة، فاستطاع بذلك أن يتقمص بمفرده شخصيات عدة!
على هذا النحو، انتقل الأمر من مرحلة السرد، إلى مرحلة الحوار والحركة! … وهنا وُلدت التمثيلية، ووجدت «التراجيديا» … وجاء بعد «تسبيس» شاعر يدعى «فرينيكوس»، سار خطوة أخرى بهذا الفن؛ فقد قيل: إنه أول من أدخل شخصيات النساء في التمثيل! … وإنه جعل الجوقة، تنقسم قسمين، يستطيع أحدهما أن يحاور الممثل بلهجة الرضا عن أعماله، بينما الآخر يحاوره بلهجة السخط والنقد، كما لو كانت الجوقة بقسميها الناس في المجتمع، بينهم المؤيد لما يرى من أعمال، وبينهم المعارض!
ويذكر لنا التاريخ أيضًا، شاعرين معاصرين لذلك الشاعر، هما: «كيريلوس» و«براتيناس»، قام كل منهما بنصيب في تحسين هذا اللون من الفن! … أولئك جميعًا، كانوا هم المُمهدين لظهور أساتذة «التراجيديا» العظام: «إشيلوس» و«سوفوكلس» و«إيروبيدس»!
تلك إشارة سريعة إلى نشأة الشعر التمثيلي في اليونان … منها نرى أن عبادة «باكوس» هي أم «التراجيديا»! … لقد انسكب هذا الفن لنا إذَن؛ كما ينسكب الخمر … من دنَّ الدين! … هكذا مضى شعراء «التراجيديا» العظام، ينسجون آثارهم الخالدة من أساطيرهم الدينية: من «الميثولوجيا»، ويودعونها روح الصراع بين الإنسان والقوى الإلهية … أتُرى هذه الصبغة الدينية هي التي صدت العرب عن اعتناق هذا الفن؟
هذا رأي جماعة من الباحثين؛ فهم يزعمون أن الإسلام هو الذي حال دون اقتباس هذا الفن الوثني! … إني لست من هذا الرأي؛ فالإسلام لم يكن قط عسيرًا على فن من الفنون؛ فقد سمح للناقلين أن يترجموا كثيرًا من الآثار، التي أنتجها الوثنيون: فهذا كتاب «كليلة ودمنة» الذي نقله «ابن المقفع» عن «اللغة الفهلوية»، وهذا كتاب «الشاهنامة للفردوسي» الذي نقله «البنداري» عن «الفرس» في عهدهم الوثني! … كما أن الإسلام لم يَحُل دون ذيوع خمريات «أبي نواس»، ولا دون نحت التماثيل في قصور الخلفاء، ولا دوَّن براعة التصوير في «المنياتور» الفارسي، كما أنه لم يَحُل دون نقل كثير من المؤلفات اليونانية، التي جاء فيها ذكر لتقاليد وثنية … كلا، ليست صفة الوثنية في ذاتها، هي التي صرفت العرب عن الشعر التمثيلي! … ما الذي حجَّمهم إذَن؟ … أتُراها صعوبة فهم ذلك القصص الشعري، وكله يدور حول أساطير، لا سبيل إلى فهمها إلا بشرح طويل، يذهب بلذة المتتبع لها، ويقضي على مُتعة الراغب في تذوقها؟ … ربما كان في هذا التعليل شيء من الصواب؛ فلقد أدهشتني عبارة للناقد «فرانسسك سارسي» ينصح بها النظارة، عندما مُثِّلت «أوديب الملك» على مسرح «الكوميدي فرانسيز» في عام ١٨٨١م، وهي المأساة التي اعتبرها أنا من أقل مآسي اليونان غرقًا في «الميثولوجيا الدينية»! … وأكثرها وضوحًا ونقاءً، وأقربها إلى النفس في إنسانيتها المجردة!
قال الناقد: «أنصح للنظارة — لا سيما النساء منهم — أن يفتحوا كتابًا أو معجمًا في «الميثولوجيا الإغريقية»، يطالِعون فيه — قبل مشاهدة تمثيل الرواية — ملخص أسطورة «أوديب»؛ فإن هذا يجنبهم سأم التَّوهَ والضلال، في ظلمات الفصل الأول.»
هذه النصيحة تساق إلى من؟ … إلى جمهور أمة أقامت ثقافتها على أساس «التراث الإغريقي» … جمهور قد عرف أكثره مقاعد الدرس؛ حيث لُقن — ولا شك فيما لُقن — آداب اليونان؛ بمآسيها، وملاهيها! … إذا كان مثل ذلك الجمهور — في مثل ذلك العصر الحديث — لم يزل في حاجة إلى ملخص أو معجم لمتابعة «مأساة أوديب»، فما بالنا بالقارئ العربي، في العهد العباسي أو الفاطمي؟!
لكن، على الرغم من وجاهة هذا التعليل، فإني لا أعتقد أن هذا أيضًا، يحول دون نقل بعض آثار هذا الفن؛ فإن كتاب «الجمهورية» ﻟ «أفلاطون»، قد تُرجم إلى العربية، وما أشك أن فيه من الأفكار، حول تلك المدينة المثالية، ما يشقُّ على العقلية الإسلامية أن تسيغه، ولكن ذلك لم يمنع من نقله، بل إن هذه الصعوبة بالذات قد دفعت «الفارابي» إلى أن يتناول «جمهورية أفلاطون» فيُضفي عليها ثوبًا جديدًا من خواطره، ويصبَّها في قالب عقليته الفلسفية الإسلامية!
مثل هذا كان يصح أن يحدث «للتراجيديا الإغريقية» … كان في الإمكان أن تنقل مأساة مثل «أوديب» ثم يتناولها بعدئذٍ شاعر أو ناثر، فيُطوِّح عنها ما يشقُّ فهمه، من الإشارات الميثولوجية، ويجرِّدها مما يغلفها من العقائد الوثنية، ويبرزها واضحة جلية في بدنها الإنساني العاري! … أو يلقي عليها ثوبًا شفافًا من العقيدة الإسلامية، أو التفكير العربي!
لماذا لم يتم ذلك؟ … لأن هنالك سببًا آخر، ولا ريب، هو الذي صدَّ العرب عن اقتباس المسرح الإغريقي! … لعل السبب هو أن «التراجيديا الإغريقية» ما كانت — حتى ذلك الحين — تُعتبَر أدبًا مُعَدًّا للقراءة! … إنها لم تكن وقتئذٍ شيئًا مما يُقرأ مستقلًّا، كما تُقرأ «جمهورية أفلاطون»، فقد كانت تُكتب، لا للمطالعة، بل للتمثيل! … وكان المؤلف يعرف أن عمله سيعرض على الناس، ممثلًا في مسرح، فكان يجرد نصوصه وحواره من الشروح، والملاحظات، والمعلومات اللازمة، للإحاطة بجو القصة — اعتمادًا منه على أن المشاهد، سوف يدركها ببصره، قائمة مائلة عند الإخراج … وفي الحق لقد بلغ المسرح الإغريقي حدًّا من الدقة والتعقيد، في آلاته وأدواته، يثير الدهش! … فكان فيه من الآلات، التي تتحرك، وتدور حول نفسها، ومن الحيل والوسائل المسرحية — ما مكن أولئك القوم من إخراج «بروميئيوس المقيد»، للشاعر «إشيل» بما فيها من عرائس البحر، وهي تخطر خلال السحب والمحيط، وهو قادم ممتطيًا ظهر ذلك الحيوان الخرافي، الذي له رأس نسر، وجسم جواد!
لعل هذا مما جعل المترجم العربي، يقف حائرًا أمام «التراجيديا»! … فهو يقلب بصره في نصوص صماء، يحاول أن يُقيِّمها في ذهنه، نابضة متحركة، بأشخاصها وأجوائها، وأمكنتها، وأزمنتها؛ فلا يسعفه ذلك الذهن؛ لأنه لم يرَ لهذا الفن مثيلًا في بلاده … إن «الجوقة»، عند الإغريق، هي التي خلقت التمثيل! … والممثل «تسبيس» هو الذي خلق التمثيلية! … لم تَخلق الرواية المسرح، ولكن المسرح هو الذي خلق الرواية! … وما دام المترجم العربي قد أيقن أنه أمام عمل، لم يُجعَل للقراءة. ففيمَ ترجمته إذَن؟
لعل هذا هو علة الإحجام عن نقل الشعر التمثيلي اليوناني، إلى اللغة العربية! … لقد كانت حركة ترجمة الآثار الإغريقية، مقصودًا بها حصول النفع، لا مجرد حب الاطلاع، أو مجرد الفضول! … وقد انتقى النفع في هذه الحالة؛ لما في «التراجيديا» من معانٍ ومرامٍ — لا تبلغ ولا تنال، بالمطالعة وحدها — كان لا بُدَّ لإبرازها من أداة التمثيل، وهي شيء غير موجود ولا مألوف!
على أن السؤال، الذي يجب أن يلقى بعدئذٍ هو: لماذا لم يكن التمثيل في الحضارة العربية ولم يُعرَف؟
لقد كان للعرب هم أيضًا عهدهم الوثني، وكان من شعرائهم في ذلك العهد، من قيل: إنه ذهب إلى بلاد «قيصر»؛ مثل «امرئ القيس»! … هناك رأي، ولا ريب، مسارح الرومان، قائمة شامخة، وقد ورثوا هذا الفن عن اليونان … أمَا استطاعت رؤية المسرح أن توحي إلى الشاعر العربي الوثني بفكرة اجتلابه، أو نقله، أو اقتباسه؟
نقله إلى أين؟ … هنا المشكلة! … إن الوطن الذي يَنقل إليه هذا الفنَّ الشاعرُ العربي الوثني — لو أراد — ليس سوى صحراء واسعة كالبحر، تسعى فيها الإبل كالسفن، هائمة برَكبها من جزيرة إلى جزيرة، هي واحات متناثرة، تنفجر بالماء اليوم وتونِع بالنبت؛ ليغيض نبعها في الغد، وتذبل خضراؤها … وطن متنقل على ظهور القوافل، يجري هنا وهناك، خلف قطرة غمام! … وطن يهتز فوق الإبل في سيرها الطويل، اهتزازًا متصلًا، منغَّمًا متزنًا، يغري الرَّكب بالغناء! من ها هنا وُلد الشعر العربي؛ نشأ من الحُداء، عندما رفع المُمسك بزمام الجمل الأول عَقيرته مُنشدًا، على وقع تلك الموسيقى الخفية الخافتة، المنبعثة من وطء أخفاف الجِمال على الرمال!
كل شيء إذَن، في هذا الوطن المتحرك، كان يباعد بينه وبين المسرح؛ لأن المسرح يتطلب أول ما يتطلب: الاستقرار!
افتقار العرب إلى عاطفة الاستقرار، هو في رأيي السبب الحقيقي لإغفالهم الشعر التمثيلي، الذي يحتاج إلى المسرح؛ فإن مسرح «باكوس» الذي كشفَت عن آثاره أعمالُ الحفر في العصر الحديث كان بناء متينًا راسخًا، مؤسسة مِلكًا للدولة … ومن يطَّلع على ضخامة ذلك البناء في آثاره أو رسومه، وما كان يتَّسع له من آلاف المشاهدين يحكم من الفور بأن هذا أمر لا بُدَّ له من مدنية مستقرة، وحياة اجتماعية موحدة مكتَّلة! … ولكن، أمَا من حق باحثٍ أن يعترض قائلًا: لقد عرف العرب في الدولة الأموية، والدولة العباسية، وما بعدهما تلك المدنية المستقرة، وذلك المجتمع الموحد المتكتل؛ فما بال العرب في تلك العهود قد انصرفوا عن تشييد المسرح، وهم على ذلك قادرون، بينما رأيناهم يمرُّون بالحضارات المختلفة، فيقتبسون من فن عمارتها، ما أقاموا به فنًّا للعمارة رائعًا، يحمل طابعهم الجديد؟!
الجواب عن ذلك بسيط، هو: أن العرب، في الدولة الأموية وما بعدها، ظلوا يعتبرون شعر البداوة والصحراء، مثلَهم الأعلى، الذي يُحتذى، وينظرون إلى الشعر الجاهلي نظرتهم إلى النموذج الأكمل، الذي يُتَّبع! … فهم قد أحسُّوا فقرهم في العمارة ولم يُحسوا قط فقرهم في الشعر! … وهم عندما أرادوا أن ينقلوا عن غيرهم وينهلوا، ذهبوا كل مذهب، ونظروا في كل فن إلا فن الشعر الذي اعتقدوا أنهم بلغوا فيه الغاية منذ القدم! … وهكذا نرى أنفسنا أمام دائرة مفرغة، تدور بأسباب، تحُول كلها دون اقتراب العرب من التمثيل!
لكن، أكان من الضروري للأدب العربي أن تولد فيه «التراجيديا»؟ … وهل كانت «التراجيديا» لونًا لازمًا لتطور الأدب العربي، واكتمال شخصيته؟!
من يطَّلع على مقدمة «كرومويل» المشهورة ﻟ «فكتور هوجو» يجد بعض الجواب:
إنه يقسِّم تاريخ البشرية إلى ثلاثة عهود: «العهد الفطري» هو في رأيه عهد «الشعر الغنائي»، وعنه يقول: في العهود الفطرية يُنشد الإنسان كأنه يتنفس؛ فهو في عهد فتوته صداح بالغناء … إلخ … ثم يأتي «العهد القديم» وهو «عهد الملحمة»؛ فقد تطورت القبيلة وصارت أمة، وحلَّت غريزة المجتمع محل غريزة التنقل! … تكونت الأمم وعظُم شأنها واحتكَّ بعضها ببعض، وتصادمت فتحاربت … هنا ينهض الشعر؛ ليروي ما وقع من أحداث، ويقصُّ ما جرى للشعوب، وما حلَّ بالإمبراطوريات! … وأخيرًا يأتي العهد الحديث وهو عهد التمثيلية، وهي في نظره «الشعر الكامل»؛ لأنها تحوي في جوفها كل الأنواع، فيها بعض من الغناء وبعض من الملاحم!
ولنصغِ إليه، وهو يلخص فكرته، بقوله إن المجتمع البشري يدرج ويشبُّ متغنِّيًا بأحلامه، ثم يأخذ بعدئذٍ في سرد أعماله، ثم يعمد آخر الأمر إلى تصوُّر أفكاره!
ويدعونا «هوجو» إلى امتحان مذهبه في كل أدب من الآداب على حدة، مؤكِّدًا لنا أنَّا واجدون فيها كلها مصداقًا لهذا التقسيم؛ فشعراء الغناء عنده يسبقون دائمًا شعراء الملاحم، وشعراء الملاحم يسبقون شعراء التمثيل!
أترى هذا المذهب صالحًا للتطبيق على الأدب العربي؟
في رأيي أنه يصلح، لو تغاضينا عن «القوالب»، وانتصرنا في بحثنا على «الأغراض»! … ما من شك في أن الشعر العربي قد تغنَّي بالأحلام، ووصف الحروب، وصوَّر الأفكار دون أن يغير في طريقته، أو يخرج عن قالبه، أو ينحرف عن أوضاعه! … وسلك في هذا السبيل عين الترتيب الذي أورده «هوجو»؛ ففي العصر العباسي وحده، نجِد «البحتري» قبل «المتنبي»، و«المتنبي» قبل «أبي العلاء»! … ولو غرس هؤلاء الشعراء في أرض اليونان، لكان «البحتري» «صنَّاجة العرب» هو «بندار»، ولكان «المتنبي»، الذي دوَّى في آذاننا، على مدى الأجيال بصليل السيوف هو «هومير»، ولكان «أبو العلا»، الذي صور لنا التفكير في الإنسان ومصيره والملأ الأعلى، هو «إشيل»! … فالتطور إذَن من حيث «الموضوع» قد تم … ولكن التطور — من حيث الشكل — حالت دون إتمامه تلك الظروف، التي لابسَت نشأة الدولة العربية! … ظروف — كما رأينا — لا تنافي عقلية العرب، ولا تعارض طبيعتهم الفنية، ولكنها استطاعت على كل حال، في تلك المرحلة من تاريخهم، أن تُقصيهم على رغمهم، عن هذا الفن من فنون الأدب!
ليست هنالك إذَن خصومة أصيلة بين اللغة العربية والأدب التمثيلي … إما هو نوع من التباعد المؤقت، مرجعه الافتقار إلى الأداة … شأن العرب هنا شأنهم يوم كانوا لا يعرفون من المطايا غير الإبل … لو أن الظروف شاءت أن تحرمهم الجواد، لظلُّوا حتى الساعة لا يعرفون ركوبه! … ولكن ما إن دخل الجواد الصحراء حتى غدا العرب فرسانه! … حذِقوا فنون تربيته، وفنون الحديث عنه … فإذا سئل اليوم عن الجواد الأصيل، في أرجاء العالم قيل: هو الجواد العربي، وإذا أريد وصف رائع لخصال الخيل؛ فلن يكون إلا في الشعر العربي!
كل الأمر إذَن في «الأداة»! … وكما أن العرب في عهد الإبل كان لسان حالهم يقول: «أعطونا الجواد ونحن نركب!»؛ فإنهم كذلك قد يقولون: «أعطونا المسرح ونحن نكتب!»
وما من ريب في أن العالم اليوم قد تغيَّر … وأصبح المسرح — بمعناه الواسع — ضرورة من ضرورات الحياة الحاضرة، ليس وقفًا على طبقة دون طبقة؛ فهو الغذاء اليومي لأذهان الناس، يختلف رسمه باختلاف ثقافاتهم، ولكنه في آخر الأمر هو أداة الفن الشائعة، في مشارق الأرض ومغاربها، وأعني بالمسرح هنا كل فنٍّ يرمي إلى تصوير الأشياء والأشخاص والأفكار على: خشبة، أو شاشة، أو موجة، أو صفحة؛ بأن يقيمها حية، تتحدث، وتتحاور، وتبرز مكنون سرها وفكرها، أمام الناظر، أو السامع، أو القارئ! …
هذا الأسلوب العالمي في عرض الأفكار عرضًا حيًّا — في صورة «تمثيل» — لم يَعُد إلى تجاهله من سبيل! … وحيثما ذهبنا اليوم في بلاد «الضاد» وجدنا دُورًا شاهقة سامقة مزخرفة، هي أفخم دُور مُدننا بناءً، تلك هي «المسارح»!
وجد لدينا «المسرح» إذَن، أي «الأداة» … وأصبح في حياتنا العربية من حاجاتنا الضرورية؛ كالخبز والماء … وفي كل يوم تتسع رقعة العمل أمام هذه «الأداة» التي تسمى «التمثيل»، حتى أمست — بعد انتشار «الإذاعة» — غذاء يوميًّا يدخل كل بيت! كل هذا كان يجب أن يبلغ أسماع الأدب العربي العريق … وأن يحمله على الالتفات إلى هذا الفن وإقرار أسسه بين مناهجه وأبوابه … وأغلب ظني أن الأدب العربي توَّاق إلى ذلك؛ فما هو بالأدب الميت، ولا بالأدب الجامد!
ولكن ما الوسيلة؟ … إنه لا يستطيع أيضًا أن يفتح في هيكله النبيل بابًا، ويقرَّ فيه فنًّا على غير دعائم؛ فما هو بالأدب العابث ولا بالأدب الدخيل! … أولئك الذين حافظوا على الأنساب في الآدميين والجياد، لا ينبغي أن نفجعهم في عراقة أدبهم، في زمن أخير من الأزمان! … لا بُدَّ إذَن من إيجاد حلقة نسب مفقودة، نرجع إليها؛ لنُحكِم رباط الأدب بالفن التمثيلي! هذه الحلقة لا يمكن أن تكون سوى: «الأدب الإغريقي»!
لهذا كله يتحتم الصلح بين الأدبين العريقين.
وهنا نقترب من المسألة الكبرى: ما هي طريقة الصلح؟ … أيكفي لها العكوف، بعناية واحتفال، على الأدب التمثيلي اليوناني، ننقله كله إلى لغتنا العربية؟ … هذا أمر لا بُدَّ منه بالبداهة … ولقد تم من ذلك شيء كثير، بل كلنا شاهدٌ على المسرح العربي «أوديب الملك» ﻟ «سوفوكل» تمثل منذ أكثر من ثلث قرن!
على أن مجرد نقل الأدب التمثيلي الإغريقي إلى اللغة العربية، لا يوصلنا إلى إقرار أدب تمثيلي عربي … كما أن مجرد نقل الفلسفة الإغريقية، ما كان يوصل إلى إيجاد الفلسفة العربية أو الإسلامية.
ما الترجمة إلا آلة يجب أن تحملنا إلى غاية أبعد!
هذه الغاية هي الاعتراف من المنبع، ثم إساغته، وهضمه، وتمثيله؛ لنخرجه للناس مرة أخرى، مصبوغًا بلون تفكيرنا مطبوعًا بطبائع عقائدنا! … هكذا فعل فلاسفة العرب، عندما تناولوا آثار «أفلاطون» و«أرسطو»!
كذلك يجب أن نفعل في «التراجيديا» اليونانية، نتوفر على دراستها بصبر وجلد، ثم ننظر إليها بعدئذٍ بعيون عربية.
وخلفَنا طريق مماثل قد سُلك في تاريخ الآداب الفرنسية … فقد عاد شعراء المآسي فيها إلى الآثار اليونانية القديمة، إلى آثار «إشيل» و«سوفوكل» و«إيروبيد»؛ فاغترفوا منها ونقلوا، دون أن يغيروا في الموضوع، أو الأشخاص، أو الحوادث، ولكن أسبغوا على تلك الآثار كلَّ روحهم الفرنسي!
تلك هي وسيلة الصلح، بل عملية «التزاوج» بين روحين، وأدبين!
ذلك التزاوج الذي حدث بين الفلسفة اليونانية والفكر العربي وهذا التزاوج يجب أن يحدث نظيره، بين الأدب اليوناني والأدب العربي، فيما يتعلق «بالتراجيديا» … إذا تم ذلك على أي نحو من الأنحاء بالشعر أو بالنثر، فما إخال الأدب العربي إلا معترفًا بهذا الباب الجديد القديم، متغاضيًا عن الزمن الذي حدث ذلك فيه! … فما الزمن في تاريخ الأدب الطويل بذي بال، ما دامت الحلقات فيه وثيقة الاتصال، منطقية الارتباط، معقولة الخطوات.
ولقد كان من رأيي دائمًا أن الأدب العربي الحديث ليس إلا استمرارًا لحركة التجديد، التي قام بها «الجاحظ» في القرن الثالث الهجري وعلى الرغم من انتكاسه أحيانًا، ووقوعه في الانحطاط والتقليد في فترات تخللت هذا الزمن الطويل، وعلى الرغم مما قيل عن تأثره الأعمى بالأدب الغربي في العهد الأخير؛ فهذا التأثر الذي لاحظه بعض السطحيين من المستشرقين، ما تعدَّى الشكل، والمظهر، واللباس! … وهو أمر طبيعي في تاريخ آداب كل الأمم. فإن الرداء الخارجي مِلكٌ مشاع للحضارة القائمة في أي عصر من العصور، ولكن الاختلاف يكون في الجوهر والطابع، والإحساس! وما فقد الأدب العربي قط روحه وتفكيره وإحساسه على مدى الأحقاب، سواء وقف أو سار، جمُد أو تطوَّر!
هكذا دُفعت دفعًا إلى دراسة الأدب التمثيلي عند اليونان! … ما نظرتُ فيه، نظرة باحث فرنسي أو أوروبي، بل نظرة باحث عربي شرقي! … والنظرتان مختلفتان جدًّا — كما اتضح لي فيها بعد — فإنه على الرغم من ملابسي الأوربية، التي كنت أذهب بها إلى «الكوميدي فرانسيز» أشاهد «أوديب» ﻟ «سوفوكل» يمثِّلها «ألبير لامبير» … وعلى الرغم من ذلك الروح الفرنسي، الذي كان يشعُّ من مآسي «كورني» و«راسين»؛ فإن شيئًا في أعماق نفسي كان يدنيني من روح «التراجيديا» كما أَحسها الإغريق!
وما هي روح «التراجيديا» عند الإغريق؟ … هي أنها تنبع من شعور ديني! … كل جوهر «التراجيديا» هو أنها صراع، ظاهر أو خفي، بين الإنسان والقوى الإلهية المسيطرة على الكون! … صراع الإنسان مع شيء أكثر من الإنسان، وفوق الإنسان! … أساس «التراجيديا» الحقيقية في نظري، هو إحساس الإنسان أنه ليس وحده في الكون، وهذا ما أعنيه بلفظ «الشعور الديني»! … مهما يكُن «شكل» التمثيلية، وإطارها، وأسلوبها، والأثر الذي تحدثه في النفس؛ فإن هذا كله لا يسوغ في رأيي، وصفها ﺑ «التراجيديا» ما دامت لا تقوم على هذا «الشعور الديني»! … هذا العنصر الإلهي في روح «التراجيديا»، لم يحتفظ بحرارته وتألقه على مدى العصور؛ فمنذ العصر اللاتيني تجِد الشعراء يتناولون بالتقليد الدقيق «التراجيديا» الإغريقية، في كل مظاهرها الخارجية، دون أن يحتفظوا كثيرًا بالجوهر، وجاء عصر النهضة فأوغل في هذا السبيل، ولم يعُد الشعراء يفرقون بين المأساة والبشاعة؛ فكلما كدَّسوا الرعب، وكتَّلوا الهول حسبوا أنهم يصنعون مأساة، تُضارع المآسي اليونانية، حتى أتى القرن السابع عشر؛ فإذا نحن أمام «التراجيديا»، وقد أمسَت صراعًا بين الإنسان ونفسه؛ فهي مع «كورني» قائمة على حوادث التاريخ، ولنصغِ إلى العلامة «برونتيير» وهو يقول محبِّذًا:
«أوَليس التاريخ هو مشهد صراع بين إرادة وإرادة، إنه لمن الطبيعي أن يغدو التاريخ ملهمًا لمسرح، يقوم بأكمله على الإيمان بسلطان الإرادة.»
أما مع «راسين» فقد أصبحت «التراجيديا» صراعًا بين عاطفة وعاطفة، وإذا «الحب» مع ما يتبعه من غيرة، وحسد، وحقد وبغضاء — هو المجال الذي يتحرك فيه شعوره وتفكيره، وكلاهما — فضلًا عن ذلك — غلف مآسيه بالروح الفرنسي، فالشاعر كورني «فَرنسَ» التاريخ، إلى حدٍّ جعل «نابليون» فيما بعد يفضِّله على جميع الشعراء؛ فقد كان يقول عنه: «هذا الرجل قد استشف معنى «السياسة»! … ولو أنه كوَّن تكوينًا عمليًّا لكان رجل دولة، إن حكم الدولة قد حل عند الشعراء المحدثين محل حكم القدر عند الأقدمين! … وإن «كورني» هو الوحيد، من بين الشعراء الفرنسيين، الذي أحس هذه الحقيقة!»
ويبدو أن إعجاب «نابليون» بهذه النزعة عند «كورني» حمله على التنويه بها كثيرًا، وعلى إظهار الأسف أن «كورني» لم يعِش في عهده، وإلا كما قال: «كنت جعلته أميرًا، بل كنت عينته وزيرًا أول!»
ولم يجد «نابليون» ما يفعله من أجل «كورني» هذا إلا أن يبحث عن أحفاده، فما وجد منهم غير امرأتين، أمرَ بأن يجري عليهما معاش سنوي، قدره ثلاثمائة من الفرنكات!
في هذا العصر بالذات لم يكن من الميسور، فيما يبدو، أن يتذوق الشعب المآسي الإغريقية على وضعها الصحيح، ولا أن ينفذ، حتى خاصتهم، إلى روحها؛ فقد تمنى «نابليون» أن يرى «أوديب» ﻟ «سوفوكل» ممثَّلة على المسرح، فوجد معارضة شديدة من ممثل فرنسا الأول، في ذلك العصر، «تالما» العظيم! … لكن «نابليون» شرح وجهة نظره قائلًا:
«إني ما أردتُ، بهذه الرغبة، أن أصحح وضعنا المسرحي الحديث، ولا أن أدخِل عليه بدعة من البدع ولكن أردت أن أشاهد هذا الأثر الذي يمكن أن يُحدِثه الفن القديم، في مشاعرنا وظروفنا الحديثة! … وإني لموقن أن تنفيذ ذلك الأمر كفيلٌ أن يبعث في النفس سرورًا، وإن كنت أتساءل — مع ذلك — عن الموقع الذي تقعه من أذواقنا مشاهد «الجوقة» والمنشدين، على الوضع الذي عرفه الإغريق؟!»
ذلك ما كان من أمر «كورني»، أما ما كان من أمر «راسين»؛ فإنه ما زاد على أن صور الحالة النفسية لعصره؛ عارضًا إياها على المسرح، في ذلك الإطار، الذي أطلق عليه اسم «التراجيدي»!
تبدَّد إذَن على مر العصور، وتبخر في رياح الزمن ذلك «الشعر الديني» الذي جعل من المأساة الأولى صراعًا، بين الإنسان وبين ما هو أكثر من الإنسان! … لعل هذا من بوادر النهضة العلمية في ذلك القرن!
مهما يكن من أمر الباعث؛ فإن الشعراء والناس قد تَغير إيمانهم فأمسَوا يعتقدون أنَّ لا شيء غير الإنسان في هذا الكون بدولته، وحكومته، وساسته، وسلطته!
بانطفاء هذا الشعور الديني لا أمل في رأيي لقيام «التراجيديا»، ولعل هذا هو السبب في موت «التراجيديا» في عصرنا الحاضر! … ما من شاعر واحد في العالم اليوم استطاع أن يؤلف «تراجيديا» واحدة لها قيمة وبقاء، إلى جانب ما سلف من المآسي، ذلك أنه ما من مفكر اليوم في العالم الغربي يؤمن حقًّا بوجود إله آخر غير الإنسان نفسه!
لقد كان آخر العهود ﺑ «التراجيديا»، كما يجب أن تفهم، هو القرن السابع عشر؛ فإنه على الرغم مما ذكرنا عن «كورني» و«راسين» فقد كانت لهما على الأقل من الإيمان الديني بقية، هي التي استطاعت أن تُلقي في أعمالهم تلك الجمرة من الحرارة العلوية، وإن صلة «راسين» بطائفة «الجانسنست» الدينية، والشروح التي فسَّر بها النقاد بعض مآسيه، وخصوصًا «فيدر» على ضوء تعاليم تلك الطائفة؛ لمن الأمور التي أفاض فيها تاريخ الأدب!
وما من حاجة فيما أظن إلى الحديث عن مآسي «فولتير»! … فهذا الساخر المتشكك، ما كان في قلبه إيمان بغير عقله، وما كان يرتد بنظره إلى الإغريق، بقدر ما كان ينظر إلى «شكسبير»! … إن «فولتير» ليس إلا الممهد للعقلية الفنية الحديثة، والنموذج الأول للمفكر الغربي، والمؤلف الأوربي، في وضعه الحالي!
في هذا الجو، من القرن الحاضر، الخابي من سماته ذلك الشعور الديني بمعناه الغابر كنت أقرأ وأشاهد «التراجيديا» وأدرك بحاسة خفية جوهرها الحقيقي!
ما السر؟
ما من سرٍّ عجيب على الإطلاق؛ كل ما في الأمر أني شرقي عربي، لم أزل محتفظًا بقدر من إحساسي الديني الأول، لم أجتز ما اجتازته العقلية الأوربية، من تلك الفترات التي سبق ذكرها، موقفي أمام «التراجيديا» الإغريقية، موقفُ مفكر عربي، في القرن الثالث الهجري.
بهذا الإحساس عدتُ إلى مصر، ولم يمضِ قليل حتى كتبتُ قصة «أهل الكهف»، كان ذلك في عام ١٩٢٨م، وكان «جوق عكاشة» قد اختفى نهائيًّا من الوجود، فلم يقُم في ذهني خيال مسرحٍ بعينه، ولا ممثل بالذات، ولم أجد ما أبثُّه عملي غير الورق، وعندما يُعوِزُ الكاتبَ مسرح، يُنهض عليه أفكاره؛ فإنه يقيم في الحال مسرحه بين دفتي كتاب! … كان الذي قصدته من وضع «أهل الكهف»، هو إدخال عنصر «التراجيديا» في موضوع عربي إسلامي، «التراجيديا» بمعناها الإغريقي القديم الذي احتفظت به: الصراع بين الإنسان، وبين قوة خفية هي فوق الإنسان، وحرصت على أن يكون منبعي، لا أساطير اليونان بل «القرآن»؛ فإن المقصود عندي لم يكن مجرد أخذ قصة من الكتاب الكريم، ووضعها في قالب تمثيلي، بل كان الهدف هو النظر إلى أساطيرنا الإسلامية بعين «التراجيديا» الإغريقية، هو إحداث هذا «التزاوج» بين العقليتين الأدبيتين، ولم أشأ أن أصدِّر هذا العمل، عند نشره، بمقدمة حتى لا أكون أنا الموجِّه لتفكير القارئ، واللافت لنظر الغير؛ فقد كان الذي يعنيني هو أن أرى كيف يقع هذا العمل من نفوس قارئيه، بعيدًا عن أي توجيه أو إيحاء! … ومهما يكُن من أمر التفسيرات التي تناولت ذلك الكتاب؛ فإن الذي استقر في ضمائر أهل الأدب يومئذٍ هو أن شيئًا ما على أساس ما قد وُضع، ولم يشذَّ أحد من الأدباء عن اعتبار هذا العمل لونًا من الأدب العربي، مُثِّل أو لم يُمثَّل!
بهذا تحقق ذلك الغرض الذي أشرت إليه في مطلع هذه المقدمة وهو أن الأدب العربي استطاع أن يقبل هذا «الأدب التمثيلي» منفصلًا عن المسرح … وهي نتيجة عجيبة؛ فقد كان لشوقي — كما أسلفت — روايات يعرفها المسرح أولًا، قبل أن يعرفها الأدب في كتاب يقرأ … على أن من الميسور أن يلاحظ باحث أن «شوقي»، في رواياته التمثيلية لا صلة له على الإطلاق بالإغريق فهو يمضي فيها على نهج شعراء المآسي الفرنسيين. ناسجًا موضوعاتها — هو أيضًا — حول «التاريخ» و«الحب» كل في «مصرع كليوبترا» و«مجنون ليلى»، ولا جدال في أن الصراع بين عاطفة وعاطفة، أو بين إرادة وإرادة، أيسر أنواع الصراع إخراجًا أمام النظارة.
من ذلك تتبين الصعوبة في أن نُبرز روايات يدور فيها الصراع بين فكرة وفكرة على مسرح آخر، غير مسرح الذهن، ولكن هذا المسرح الذهني لا بُدَّ منه، ما دامت هنالك موضوعات، لا محيص من إبرازها، تقوم على أفكار مجردة وأشخاص غير مجسدة، فالصراع بين الإنسان وبين القوى الخفية التي هي أكثر من الإنسان؛ مثل «الزمن». أو «الحقيقة». أو «المكان» … إلخ، لا يمكن تجسيده حتى يلائم المسرح المادي؛ إلا إذا لجأنا إلى طريقة التجسيد الوثنية التي لجأ إليها «إشيل» مثلًا عندما جعل «القوة» و«البحر» أشخاصًا قائمة تتكلم، وهو أمر لا أظن العقلية العربية الإسلامية تستسيغه. وهي التي جردَت «الله» من كل تجسيد. وأجبرت ذهنها على قبوله؛ متمثلًا في «الفكرة» وحدها عارية منزهة عن كل غلاف كثيف خارجي.
على أن «إشيل» نفسه، على الرغم من تجسيده للقوى الخفية، قد حشره النقاد في زمرة المؤلفين، الذين يُقرءون في مقعد، خيرًا مما يُعرضون على مسرح … وتلك مسألة قد أثيرت. فيما يتعلق ﺑ «شكسبير» أيضًا … وهو إغراق في التعنت فيما أعتقد. فلقد قرأت لناقد يُدعى «بولنجيه» بحثًا، فيما يسمِّيه «المسرح في مقعد». أعرب فيه عن دهشته لما في روايات «شكسبير» من روح الكتاب أكثر مما فيها من روح المسرح! … كان من هذا الرأي الغريب أيضًا «ريمي دي جرمون». الذي قال: «ما من رواية ﻟ «شكسبير» إلا وقد خيبت ظني عند التمثيل!»
أمام هذه الآراء قام الناقد «تيبوديه» يقسم المؤلفين المسرحيين إلى فئتين: فئة تتخذ الحياة الإنسانية في ذاتها موضوع حركتها ونشاطها. وفئة تجعل من تلك الحياة نغمة فكرية. تلعب بها! … فئة تصور «حركة الآدميين» في الحياة. وفئة تصور «تفكير الآدميين» في الحياة! … والفئة الأولى في رأيه، هي التي يسهل عرضها على «المسرح المادي» وهو يدخل فيها «شكسبير». على الرغم من أنغامه الفكرية في بعض رواياته … أما من الإغريق فهو يدخل فيها «سوفوكل» و«إيروبيد». بينما الفئة الثانية يدخل فيها «إشيل».
نخرج من كل هذا على أن موضوع المسرحية هو الذي يحدد دائمًا نوع المسرح؛ فإذا قامت الرواية على «حركة الآدميين» كان مكانها «المسرح المادي»، وإذا قامت على «حركة الفكر» كان مكانها «المسرح الذهني».
وهنا يبدو سؤال: أليس من الممكن أن نعرض على «المسرح المادي» أمام النظارة، «تراجيديا إغريقية» مدثرة في غلالة من «العقلية العربية»، يبدو فيها الصراع بين الإنسان والقوى العليا الخفية، دون أن يتجرد الفكر فيها إلى حد يلحقها بالنوع الذهني من المسرحيات؟
للإجابة عن هذا السؤال عكفتُ وقتًا، ليس بالقصير، على دراسة «سوفوكل»، وانتهيتُ إلى انتخاب «أوديب» موضوعًا لاختباري!
لماذا اخترتُ «أوديب» بالذات؟ لأمرٍ قد يبدو عجيبًا؛ ذلك أني قد تأملتها طويلًا، فأبصرت فيها شيئًا لم يخطر قط على بال «سوفوكل»!
أبصرتُ فيها صراعًا ليس بين الإنسان والقدَر؛ كما رأى الإغريق، ومن جاء بعدهم إلى يومنا هذا، بل أبصرت عين الصراع الخفي الذي قام في مسرحية «أهل الكهف»!
هذا الصراع لم يكن فقط بين الإنسان والزمن، كما اعتاد قرَّاؤها أن يرَوا، بل هي حرب أخرى خفية قلَّ من التفت إليها … حزب بين «الواقع» وبين «الحقيقة»، بين «واقع» رجل؛ مثل «مشلينيا» عاد من الكهف، فوجد «بريسكا»، فأحبها وأحبته! … وكان كل شيء مهيأً يدعوهما إلى حياة من الرغد والهناء؛ فإذا حائل يقف بينهما، وبين هذا «الواقع» الجميل! … تلك هي «الحقيقة»! … حقيقة هذا الرجل «مشلينيا»، الذي اتضح ﻟ «بريسكا» أنه كان خطيبًا لجدتها! … لقد جاهد المُحبان؛ كي ينسيا هذه «الحقيقة»، التي قامت تفسد عليهما «الواقع»! ولكنهما عجزا بواقعهما الملموس عن دفع هذا الشيء الغامض غير الملموس الذي يسمَّى «الحقيقة»!
«أوديب» و«جوكاستا» ليسا، هما أيضًا، سوى «مشلينيا»، و«بريسكا». لقد تحابا، أيضًا؛ فأفسد ما بينهما علمهما بحقيقة أحدهما، بالنسبة إلى الآخر! … إن أقوى خصم للإنسان دائمًا هو: شبح! … شبح يطلق عليه اسم «الحقيقة»، هذا هو باعثي على اختيار «أوديب» بالذات … لي فيها نظرتي وفكرتي، ولكن بقي التنفيذ … على أي وجهٍ من الوجوه أتناول هذه «التراجيديا»؟
هنا وقعت في الحيرة زمنًا، فأنا أعرف الجهد، الذي أمضَّ مَن سبقني في تناولها من الشعراء والمؤلفين، على مدى القرون! … فإذا تذكرتُ تصور «سنيكا» في «أوديب»، وإخفاق «كورني» في «أوديب» وضآلة «فولتير» بالقياس إلى «سوفوكل» في «أوديب»؛ أصابني دوار. فإذا تركت أولئك العباقرة من الشعراء، والتفت إلى من تناول «أوديب» من الناثرين المعاصرين، وما تعرضوا له من خيبة أو سقوط؛ نالني جزع، فقعدتُ حينًا يائسًا متكاسلًا، مؤجلًا إنجاز هذا العمل، حتى نهضتُ أخيرًا أشجع نفسي؛ فلأعمل وأخطئ خيرًا من أن أجزع وأقعد، ولتكن لي في أولئك المخفقين أسوة؛ فلأخفق مثلهم؛ فهم على كل حال قد أدوا واجبهم، وإن لهم الحمد مع ذلك؛ لأنهم تشجعوا وأقدموا وأخطأوا، واستطعت أنا الانتفاع من أخطائهم، لأتجنبها وأولِّي وجهي شطر ناحية أخرى، ربما كان فيها أيضًا نوع آخر من الخطأ … فليكن! … إن أخطاء الفنانين والأدباء لها أحيانًا من الفائدة ما يسمو على الصواب!
عرفت من الشعراء الأحياء — ممن تناولوا «أوديب» — الشاعر الإنجليزي «بيتس» والشاعر الألماني «هوفمانشتال»، والاثنان ما زادا شيئًا على مأساة «سوفوكلس».
ثم عرفت من الناثرين ثلاثة من الفرنسيين المعاصرين — تناولوا كلهم «أوديب» عن «سوفوكل»— أولهم: «سان جورج دي بوهلييه»، والثاني «جان كوكتو»، والثالث «أندريه جيد»!
أما «دي بوهلييه» فقد قطع قصة «أوديب» ووزعها على مناظر عديدة، ناهجًا في ذلك منهج «شكسبير» في مسرحياته، فما إن عرضت على المسرح حتى قال فيها الناقد «لوسيان دوبيش»:
«بينما نجد — عند «سوفوكل» — أن «أوديب» مشغول بالحادثة التي يحركها ويعيش فيها، فلا وقت عنده للتأمل في مصيره؛ نجد «دي بوهلييه» يتركه وحده طويلًا، يناجي شكوكه وندمه ويقظة ضميره؛ مثل «هاملت»، أو «ليدي مكبث». من العبث أن نذكر «دي بوهلييه» أنَّ لا شيء يفوق في مأساة «سوفوكل» الخالدة … تلك القوة الدرامية الكبرى، المنبعثة من ذلك التكتيل للحركة، والتكديس للحوادث، في تلك الوحدة الوثيقة، والحيز الضيق! … إلخ».
لقد انتفعتُ حقًّا بهذا الخطأ؛ فقد كان خطر لي، أنا أيضًا، أن أضع قصة «أوديب» في مناظر عدة، كما فعلت في «شهر زاد»، وفي «سليمان الحكيم»، فوقاني الله شر هذا العمل، برؤيتي التجربة تخفق على يد «دي بوهلييه»! … أما «جان كوكتو» فقد وضع «أوديب» في مسرحية متعددة المناظر أيضًا، سمَّاها الآلة الجهنمية»، وعرضها على المسرح، ولم أشاهدها تمثَّل، ولم أقرأ لها نقدًا، ولكني أدركت من قراءتها، مطبوعة في كتاب، أن «كوكتو» فقد تأثر النظرية الإغريقية في أوديب تأثرًا سطحيًّا، ولكنه تأثر ﺑ «شكسبير» هو الآخر تأثرًا فنيًّا، فجعل روح والد «أوديب»، تظهر على الجدران كما ظهرت روح والد «هملت»! … عجبًا لكل هذا التأثر في «أوديب» بطريقة «شكسبير»، دون التأثر بطريقة «سوفوكل» وهو قمة «الفن التراجيدي» المركز، بلا مراء!
ويأتي بعد ذلك «أندرية جيد» بقصته «أوديب»، وقد نحا فيها نحو «سوفوكل» ولكنه جعلنا نشعر، نحو «أوديب» بجلال لا ينبعث من صلة الإنسان، بما هو أكثر من الإنسان؛ بقدر ما ينبعث من صلة الإنسان بذاته.
لقد استطاع «أندريه جيد» أن يجعل من إيمانه بالإنسان مادة خشوع، تحل في النفس محل ذلك الخشوع للقوى الخفية العليا! … إنه يلخص لنا، بصدق وإخلاص، كل عقيدة الأوروبي اليوم، أنَّ لا شيء في الكون غير الإنسان، ولا قيمة في الكون لغير الإنسان، وليس «أندريه جيد» وحده هو المسئول عن هذه العقيدة؛ فهي موجودة قبله، بنحو قرن من الزمان، منذ رأى «بالانش»، في شخصية «بروميثيوس» ﻟ «إشيل»: «الإنسان يكون نفسه بنفسه»، بل لقد رأى «إدوار شوريه في أوديب ما رآه «أندريه جيد»؛ فقد قال شوريه في كتابه «التطور الإلهي من «أبي الهول» إلى «المسيح»، الصادر في عام ١٩١٢م ما نصه:
«أوديب» ليس ملهمًا، ولا متطلعًا إلى الأسرار، إنه الإنسان القوي المتكبر، الذي يُلقي بنفسه في خضم الحياة بكل ما في رغباته من نشاط، إرادة المتعة والقوة هي كل ما يسيطر عليه، وبهذه الغريزة الخالصة استطاع أن يحل لغز «أبي الهول» أو «الطبيعة»، الذي يلقيه على كل إنسان عند عتبة الوجود؛ فقد أدرك أن كلمة اللغز هي الإنسان ذاته! …»
هذا نص فكرة «شوريه»، وهذا ما رآه «جيد» أيضًا في «أوديب»، التي أعتقد أنه لخص بها كل العقلية الأوروبية اليوم … تلك العقلية، التي نستطيع أن نصعد بها راجعين إلى أيام «فولتير»؛ فهو الذي بدأ يدكُّ حصن الإيمان من القلوب، بما كان يقذف به الذات العلية من أنواع السخرية، وإن كان قد تسامح أحيانًا، فترك فكرة «الله» تعيش دون أن يتناولها بالإنكار الصريح، حتى جاء «رينان» في القرن التاسع عشر؛ فجعل يشكك الناس فيما سماه الأفكار العتيقة عن «الله» قائلًا: «إن الناس يعيشون على أنفاس عطر، ينبعث من إناء فارغ!»
واجتاح «نيتشه» بعدئذٍ العقول والنفوس، بآرائه التي أنكر بها صراحة وجود أي عالم خفي، أو أي سلطان إلهي، مؤكِّدًا أنه لا يوجد شيء فوق الإنسان! وأن إرادة القوة فيه هي كل فضيلته وكل فردوسه، معلنًا: «لقد حل الإنسان الأعلى اليوم محل الإله، إن الإله قد مات!» على أثر ذلك تصدعت العقيدة الدينية في النفوس، فما عاد أحد يؤمن بشيء غير الإنسان! … ذلك هو إيمان أوروبا اليوم، الذي لخَّصه «جيد» أبرع تلخيص في قصة «أوديب» وقد انتهى منه إلى انتصار الإنسان، حتى في محنته، على كل القوى الظاهرة والخفية؛ هكذا يرى الفكر الأوروبي المعاصر «الإنسان» وحده فقط في هذا الكون. وهو أمر، وإن أدركه عقلي، المتابع لتطورات العقل البشري؛ فلا يؤمن به قلبي الشرقي الديني! … لقد رأيت أنا أيضًا، في قصة «أوديب» تحديًا من الإنسان للإله، أو القوى الخفية، ولقد أظهرتُ هذا التحدي على نحو أبرز، ولكني أبرزتُ كذلك؛ في عين الوقت، عواقب هذا التطاول؛ لأني ما شعرت قط يومًا أن الإنسان وحده، في هذا الكون!
هذا الشعور هو أساس عملي كله، ومن يطالع الثلاثين كتابًا، التي نشرتها دفعة واحدة، ربما أحس هذه الفكرة، تخيم عليها كلها؛ كما تخيم على مؤلفات «جيد»، فكرة الإنسان الوحيد في الكون، وربما استطاع القارئ المنقطع، أو الناقد المتخصص، أن يرى هذه الفكرة، أو هذا الشعور في أردية، وحنايا، واتجاهات، لم تخطر لي على بال!
إن القارئ أو الناقد، الذي يتتبع فكرة أو اتجاهًا، في مؤلفات كاتب، لم يعرف بعد في آدابنا العربية الحديثة؛ فالنقد الأدبي هنا لم يزل في طور النقد الصحفي الذي يتناول الكتاب، منفصلًا عن هيكل آثار المؤلف، وما من ريب في أنه سيعقُب هذه المرحلة طور أرقى، هو طور «النقد الإنشائي»، الذي يعكُف فيه الناقد على مجموع أعمال مؤلف بعينه؛ ليستخرج منها فكرة، وينشئ مذهبًا!
إن شعوري بأن «الشرقي» يعيش دائمًا في «عالمين»، على النحو الذي ذكرته في «عصفور من الشرق»، هو الحصن الأخير الذي بقي لنا؛ لنعتصم فيه صد تفكير «الغربي» الذي يعيش في «عالم واحد» هو عالم الإنسان وحده، وشعوري هذا ليس سوى امتداد لشعور فلاسفة الإسلام!
إن التجديد الجوهري، الذي جاءت به الفلسفة الإسلامية، وأثَّرت به على أوروبا، في القرن الثالث عشر الميلادي؛ ليس في أنها تفلت آثار «أفلاطون» و«أرسطو»، ولا في أنها شرحتها وحدها وفسرتها؛ بل في أنها اطلعت بعدئذٍ على تفكير «مدرسة الإسكندرية»، وعلى «الأفلاطونية الجديدة»، وما اصطبغت به تلك الأفكار من روح ديني في «عهد المسيحية» الأول، ثم تناولت كل ذلك ومزجته — على الرغم من صعوبة المزج — ومزجت منطق «أرسطو» بالروح الديني، لا كما تلقته من «مدرسة الإسكندرية» بل كما طبعته بالطابع الإسلامي، بذلك عرفت أوروبا ما سمته «الفلسفة العربية» أو «الإسلامية» أي ذلك المذهب العجيب، الذي يقوم على عمودين، ما كان أحد يظن أنهما يقومان جنبًا إلى جنب: «العقل» و«العقيدة الدينية».
ليس غريبًا على مثلي إذَن أن يحتفظ بآثار تلك الفلسفة، وأن يراها تتمشى في دمه على الرغم منه؛ فإن اتصالنا بالحضارة الأوروبية كفيلٌ أن يفيدنا، في اجتلاب القوالب، وتجديد الثياب ولكنه غير قدير على اقتلاع الروح، ولا محو الطابع!
فأنا أتحرك دائمًا في عالمين، وأقيم تفكيري على عمودين، ولا أرى الإنسان وحده في هذا الكون! … إني أومن ببشرية الإنسان، وأرى عظمته في أنه بشر، بشر له ضعفه ونقصه، وعجزه وأخطاؤه؛ ولكنه بشر، يوحى إليه من أعلى!
هذا هو وجه الخلاف بيني وبين «أندريه جيد»، ومن سبقوه ممن ألَّهوا الإنسان، وجعلوه في عالم واحد، ربًّا لنفسه وللكون، حاكمًا بأمره، لا يسيطر عليه غير إرادته وعقله!
ولقد كان «جيد» مخلصًا في إجلاله للإنسان، وقد وضع «أوديب» في إطار من التقديس لكبرياء الإنسان ذهب فيه إلى حد الإيمان بهذا الصلف، والتمجيد لهذا التطاول؛ إطارٌ جليل، هز نفسي، وأمتع ذهني، وليس إلى إنكار ذلك من سبيل!
على أن الجلال الذي أحاط به «أندريه جيد» قصته لم يمنعني من رفض طريقته في الأداء؛ فهو جلال فكري محض، يُمتِّع أمثالي من محبي «الفكر المجرد» ولا يرى فيه بأسًا أولئك المتذوقون لآثار «المسرح الذهني»، ولو أنني تناولت «أوديب» — منذ عشر سنوات — لجردتها أنا أيضًا من كل شيء؛ إلا مما أردت أن أصبَّ فيها من آراء، هكذا فعلت في عام ١٩٣٩م بقصة «مشكلة الحكم»، التي وضعتها على أساس «أرستوفان»، ثم في قصة «بجماليون»!
ولكني اليوم أريد أن أُلقي بالًا إلى عناصر التمثيلية، من حيث هي شيء، يعرض على النظارة … لقد تساءلت أمام قصة «أندرية جيد»: لماذا لم يحتفظ لمأساة «أوديب» بجلالها المسرحي! … لكأنه قد استلَّ عامدًا كل ما فيها، من قيمة درامية، بلا موجب أحيانًا، فهذا التحقيق الذي قام به «أوديب» للكشف عن الحقيقة، هذا التحقيق الذي رأيت فيه — أنا المحقق القديم — غاية البراعة في إدارة دفته، ومناقشة شهوده، ورأى فيه النظارة على مدى القرون مشهدًا مسرحيًّا من أشد المشاهد تأثيرًا على النفس، وتعليقًا للأنفاس! … لماذا اختزله «جيد» هذا الاختزال، واقتضبه وطواه؛ كما يُطوى اللغو من الكلام، ومضى بفكرته يسير بها إلى العقل صعدًا، دون سند من المواقف المثيرة؟!
من الخطأ إذَن أن نسمِّي قصة «جيد» مأساة، أنه ما قصد قط أن يعرض علينا «تراجيديا» في جمالها الفني، وجلالها العاطفي، ماذا يمكن أن نسمِّي عمله هذا إذَن؟
أغلب ظني أنه «تعليقات فكرية» على «أوديب» ﻟ «سوفوكل» أو أنه «تراجيديا ذهنية»، نُزعت منها كل عناصر «التراجيديا المسرحية»!
لذلك حرصت كل الحرص على أن أحتفظ لمأساة «أوديب» بكل قوتها الدرامية، ومواقفها التمثيلية، وكان عنائي كله في أن أعفي كل أثر لتفكير، يظهر في الحوار؛ حتى لا يطغى على الموقف أو يضعف من الحركة، كان جهدي هو أن أخفي الفكرة في تلابيب الحركة، وأن أطوي اللب في أعطاف الموقف، على أني صادفت من الصعاب ما لا أعتقد أني اجتزته؛ فلقد تذكرت نصح «سارسي» لنظارة «الكوميدي فرانسيز» أن يرجعوا قبل الحفلة إلى معجم في «الميثولوجيا الإغريقية»! … لا بُدَّ لي إذَن من أن ألخص ما جرى ﻟ «أوديب»، قبل بدء المأساة وأن أجرد القصة من بعض المعتقدات الخرافية التي تأباها العقلية العربية أو الإسلامية، وأن أخرج على قاعدة الوحدة في الزمان والمكان، التي تخضع لها «التراجيديا اليونانية»، خرجت على هذه القاعدة مرغمًا، وكان بودي لو احتفظت بها، ولكني رأيت جو الأسرة — في حياة «أوديب» — أمرًا لا ينبغي إغفاله؛ لأن على محوره تدور الفكرة، التي من أجلها تحيزت هذه المأساة بالذات، وجو الأسرة — عند «أوديب» — لا يمكن أن يجعل خارج البيت. حقًّا إن حوادث «التراجيديا الإغريقية» تقع دائمًا في ميدان عام، أو في الهواء الطلق؛ لأن روح الحياة اليونانية القديمة كان يتطلب، كما يقول «أوتوموللر»:
إخراج الحركة المسرحية من داخل المنازل إلى الخارج، فكل هامٍّ من الأحداث وكل عظيمٍ من الأمر؛ إنما كان يقع عند اليونان في مكان عام، وما كانت العلاقات الاجتماعية بين الناس، تنشأ في البيوت، بل في الأسواق والطرقات، مما اضطر شعراء الإغريق إلى ملاحظة تلك التقاليد في حياة الإغريق، عندما كانوا ينشئون آثارهم التمثيلية!
على أني فكرت — رغم ذلك — في إمكان المحافظة على هذه القاعدة، في هذه القصة، ولو أصرَّ على ذلك مخرج مسرحي، أُعطِي من سعة الحيلة، ما يمكِّنه من إظهار البيت وجو الميدان في آنٍ دون حاجة إلى تغيير في المناظر، أو خروج على قاعدة الوحدة في الزمان والمكان!
وبعدُ … فإني لست أدري ما صنعت بهذه «التراجيديا»؟ … هل أحسنت بإقدامي هذا، أو أسأت؟
وهل يسيغها الأدب العربي على هذا الوضع؟
لقد حاولت … وهذا كل ما أملك!