بين ميمونة وبهزاد

مشت ميمونة مع جدتها وبهزاد وسلمان، وهي سابحة في بحار من الهواجس تُراجع ما سمعته ورأته في الطاق، وكلما تصوَّرت مساعيَ حبيبها في نُصرة الفرس اختلج قلبها فرحًا، ثم يعترض فرحها ما تخلل أقواله من تلميحه بالذهاب إلى خراسان فتنقبض نفسها، وهي مع ذلك لا تعلم محلها من قلبه.

وقطعوا مسافة الطريق والظلام شامل وهم سكوت يمشون الهُوينَى، وكلٌّ منهم يفكر في أمره ويتشاغل بتحسُّس الطريق؛ لأن أكثرها وعر. وكلما اقتربوا من البلدة تطلعوا إلى ما عساه أن يكون من أمر أولئك الجند. فلما دخلوا الأسواق استأذن سلمان في المسير أمامهم ليستطلع حال المنزل، فمضى ثم عاد وقال: «لقد جلا الجند عن البيت بعد أن كسروا أبوابه ونهبوا ما فيه.»

فقال بهزاد: «لا يهمني مما في البيت إلا شيء واحد أرجو أن يكونوا قد أبقَوْه.»

فظنه سلمان يعني كتبه وأوراقه فقال: «إنهم أخذوا الكتب ومزقوا الأوراق.»

فقال: «وهذا لا يهمني.» وظل ماشيًا وهم يتبعونه حتى وصلوا إلى المنزل، فرأَوا الباب مكسورًا فدخلوا منه، وسبقهم سلمان إلى غرفةٍ يَعهد فيها مسرجة، فأضاء السراج وعاد ليضيء طريقهم، فرأَوا آثار النهب، وظل بهزاد يسير والصندوق بيده وهو يتفرَّس في الأرض، فمروا في باحةٍ كبيرة فيها كثير من الآثار الدالة على أن البيت بُني على أنقاض إيوان سابور، حيث كان المنصور يقيم قبل بناء بغداد، ثم استطرقوا من الباحة إلى باب البيت الداخلي فرأَوه مفتوحًا فدخلوا وبهزاد يُمعِن في إظهار عدم اكتراثه بما أصاب بيته من النهب. وبينما هم يسيرون في الدهليز رأَوا بهزاد تحوَّل عنهم إلى كوَّة في جداره الأيمن فتناول منها معولًا كان هناك فدفعه إلى سلمان وقال: «احتفظ بهذا.» وبدا البشر في مُحيَّاه ومشى لا يلتفت إلى شيء حتى دخل غرفة كبيرة في وسط المنزل، في أرضها بساط عليه تراب من أثر المشي وأوراق مبعثرة من أثر النهب، وعلى جوانبها وسائد، فأشار إلى عبادة وميمونة بالجلوس، وأمر سلمان أن يتبعه ودخلا من بابٍ في صدر الغرفة إلى حجرةٍ وأغلقا الباب وتركا السراج في الغرفة.

فلما خلت ميمونة إلى جدتها نظرت إليها فرأتها تلهث من التعب، والعرق قد بلل خمارها، وهي في حاجةٍ إلى الاستراحة؛ فتمنت أن تنام فتغتنم الفرصة لمحادثة بهزاد. فتشاغلت عنها ولم تخاطبها في شيء فرأتها تكبو وتتثاءب من النعاس فقالت لها: «توسَّدي يا سيدتي واستريحي.» ونهضت فأتتها بوسادتين فاستلقت عليهما وقالت: «إذا خرج بهزاد فأيقظيني.» فوعدتها بذلك.

•••

ولم تمضِ دقائق قليلة حتى نامت عبادة، وظلت ميمونة وحدها وكأنها في بحرٍ تتقاذفها أمواجه لاستغراقها في البحث عن سبب تنتحله لمخاطبة بهزاد. وفيما هي في ذلك فُتح باب الغرفة فأجفلت والتفتت فرأت بهزاد خارجًا وقد بدَّل ثيابه فالتفَّ برداءٍ خفيف واعتمَّ بعمامةٍ صغيرة، وخرج سلمان في أثره والمعول بيده فأشار إليه بالخروج بمعوله فخرج، وظل بهزاد واقفًا، فوقفت ميمونة احترامًا له وهي مطرقة حياءً وهيامًا، فألقى يده على كتفها وقال: «اجلسي يا ميمونة يا بقية البرامكة.»

فلما سمعتْه يذكرها بأهلها ويُظهر لأول مرةٍ أنه يعرف نسبها، خجلت وجلست وقد أُرتِجَ عليها؛ فبادر إلى وسادةٍ ثناها وأشار إليها أن تجلس عليها وقال: «اقعدي على هذه الوسادة يا ابنة جعفر.»

فازدادت ميمونة استغرابًا من هذا التصريح، وتجلدت حتى لا تضيع هذه الفرصة منها وقالت وهي مطرقة وقد تورَّدت وجنتاها: «أراك تخاطبني بكُنيةٍ جديدة؟»

فقال وهو يتناول وسادةً أخرى ليقعد عليها: «إني أخاطبكِ باسمكِ الحقيقي وإن كنتِ تحسبينني أجهله، رحم الله جعفرًا وأحياه.»

فرفعت بصرها إليه وقد أبرقت عيناها بما غشيهما من ماء الحب وقالت وصوتها يتقطع من شدة تأثُّرها وهي تحاول إخفاء ذلك بالابتسام: «هل ترجو قيامة الأموات في هذه الدنيا؟»

قال: «إن لم يَحيَ جسده فسيحيا بذكره. إن جعفرًا لم يمت يا ميمونة؛ لأن الرشيد قتل جسده ولا سلطان له على ما خلفه من الذِّكر الحميد!»

فقالت وقد انقبضت نفسها عند ذكر مقتل أبيها: «إني أشكر إحسانك ومجاملتك يا سيدي؛ فإنك طالما أحسنت إلينا وسترت فقرنا.» قالت ذلك وشرقت بدموعها.

فلما رآها تبكي تفطَّر قلبه وكاد يبوح بما في نفسه، ولكنه لم يكن يرى التصريح بحبه في ذلك الحين فغالطها وقال: «إن فضل جعفر وإحسانه شمل الملأ كافة، وما من مسلم أو غير مسلم إلا هو مدين له، فإذا وفَّينا بعض الدين فلا فضل لنا في ذلك.»

فلم يعجبها هذا الجواب؛ لأنها كانت تتوقع أن يقول كلمة غير هذه؛ كانت ترجو أن تسمع منه كلمة الحب، فخافت أن يكون ضميرها خانها فتنهَّدت وسكتت وأرسلت يدها إلى وجهها وأخذت تمسح عينيها بأناملها؛ فأمسك معصمها ورفع يدها عن وجهها وقال وصوته يكاد يختنق: «ما بالكِ تبكين؟»

فقالت وهي لا تزال مُطرقة وقد أحسَّت بمجرًى كهربائيٍّ يجري من يده إلى كل عروقها: «إني حزينة يا سيدي، دعني أُفرِّج كربتي!»

فقال: «وما سبب حزنك؟»

قالت: «أتسألني عن حزني وأنت تعلم سببه؟ وهل هناك أتعس من فتاةٍ يتيمة الأبوين، تخاف أن يعرفها الناس؟ إن انتسابي إلى جعفر بن يحيى وبقائي حيةً بين هؤلاء الأقوام من أكبر أسباب شقائي.» قالت ذلك وجذبت يدها من يده وغصَّت بِريقها.

فأخذ يدها بين يديه وهو يغالب حبه وقال: «معاذ الله أن تكوني تَعِسة.»

فحاولت إخراج يدها من بين يديه وهي تقول: «بل أنا تَعِسة، وكيف لا أكون كذلك وقد عرَفت الليلة أن …» وأمسكت عن الكلام ونظرت إليه فإذا هو يتفرَّس في عينيها ويتجاهل غرضها والهوى يكاد يشفُّ عن سريرته، ومخاطبة العيون أفصح من مخاطبة الألسن.

العينُ تُبدي الذي في قلب صاحبها
مِن الشناءة أو حُبٍّ إذا كانَا
إن البغيضَ له عينٌ يُصدِّقها
لا يستطيع لِمَا في القلبِ كِتمانَا
فالعينُ تَنطقُ والأفواه صامتة
حتى ترى مِن صميمِ القلب تِبيانَا

فأدركت ميمونة من تلك النظرة أن بهزاد يحبها، ولكنها أحبَّت أن تسمع ذلك من فيه فحوَّلت نظرها عنه إلى جدتها، وكانت قد استغرقت في النوم وقد علا صوت غطيطها، ثم أطرقت وسكتت، فابتدرها قائلًا: «أكملي حديثك، قولي ما هو الذي عرفتِه الليلة يا ميمونة؟»

قالت: «إن ذكره يؤلمني، دعني وشأني، لا أحب أن تهتم بي؛ فإنك في شغل شاغل عن مثلي بما أنت فيه من المطالب الخطيرة؛ فلا أريد أن أشغلك بما تُحدِّثني به نفسي من أحلام الصبا.»

فقال: «لَعلِّي مشتغل بمثل هذه الأحلام!»

فرفعت بصرها ونظرت إليه نظرة عتابٍ وهيام وابتسمت والدمع يترقرق في عينيها وقالت: «اعذرني يا سيدي على تطفُّلي وصغر نفسي. إني على يقينٍ من خيبة أملي، وحاشا لبهزاد القائد العظيم أن يقع فيما وقعتُ فيه، فإن اشتغاله بجمع الأحزاب لقلب الدول واستنهاض الأمم يُنزِّهه عن الالتفات لفتاةٍ مثلي. قد تقتضي مساعيه أن يدوس الجماجم ويقتل المئات، فهل يبالي قلب فتاةٍ يتيمةٍ مسكينةٍ مثلي؟» وكانت يدها لا تزال بين يديه فاجتذبتها وغطَّت بها وجهها وأخذت في البكاء.

فلما سمع قولها ورأى بكاءها غلب عليه الهيام ولكنه تجلد وقال: «وهل تريدين أن أُمسك عن السفر؟»

فتنهدت وقالت: «آه! حبذا ذلك، ولكن ما الفائدة لي من بقائك؟ سأكون سعيدة بإرجائك السفر ولكن …» وسكتت. فقال لها: «ولكن ماذا؟»

فعظم عليها صغر نفسها والْتجاؤها إلى الحيلة في استطلاع حبه، فغلبت عليها الأَنَفة ونقمت على نفسها، فاسترجعت رشدها وحدَّثتْها نفسها بأن تُجافيَه، فنهضت وهمت بالخروج فأمسكها بطرف ثوبها وقد استغرب نفورها فجأةً وجذبها نحوه وهو يقول معاتبًا: «إلى أين يا ميمونة؟»

فقالت وهي لا تلتفت إليه: «دعني يا بهزاد.» قالت ذلك وهي تحاول التملُّص منه.

فقال: «اقعدي يا ميمونة، لا سبيل إلى الذهاب الآن؛ فإنك غريبة هنا ولا منزل لك تلجئين إليه.»

فأثَّر قوله في نفسها وتذكرت مصائبها فوقفت وغطَّت عينيها بكفَّيها وأطلقت لنفسها عنان البكاء.

فرق لها قلبه وسكت وقد كاد يختنق، ووقع في حيرةٍ وهو يتجلد في كتمان إحساسه وقال: «كنتٍ تريدين أن تقولي شيئًا؛ فما هو؟»

فظلت واقفةً وهي تغالب عواطفها وتحاول كتمان هيامها ولا تجد إلى ذلك سبيلًا، وشعرت بأنها مغلوبة على أمرها فاصطكَّت ركبتاها ولم تَعُد تستطيع الوقوف، فقعدت وهي تتشاغل بمسح عينيها بطرف كُمِّها، ثم نظرت إلى عينيه فرأت فيهما شيئًا يكاد ينطق بمكنونات قلبه، فهمَّت بأن تُصرِّح بما ترجوه منه فغلب عليها الحياء، فإذا هو يبتسم لها وعيناه تبرقان وجدًا وهيامًا فبقيت ساكتة.

أما هو فاستأنف الكلام قائلًا: «قولي يا ميمونة … قولي.»

واختنق صوته، فنظرت إليه وقد احمرَّت عيناها وذبلت أجفانها فازدادتا سِحرًا وفتنةً وقالت: «أراك تبالغ في المجاملة، كفى يا سيدي، كفى استخفافًا بي. قل إنك لا يهمك أمري وهذا يكفيك مئونة الاهتمام بي!»

فقال: «بل أمرك يهمني كثيرًا؛ ألا يشعر قلبكِ بذلك؟ أراكِ تتجاهلين أكثر من تجاهلي أم أنتِ لا قلب لك؟» واخشوشن صوته.

فأبرقت أسرتها وحدَّقت في عينيه كأنها تستطلع حقيقة ما يعنيه، ثم ابتسمت والدمع يجول في عينيها، وتجلدت والحياء يغالبها وقالت: «أيهمك أمري كثيرًا؟ إذن قل إنك …» وسكتت ففهم مرادها وتظاهر بأنه لم يفهم فقال: «ماذا أقول يا ميمونة؟ قولي أنتِ أولًا!»

فقالت: «وهل تحتاج حالي إلى قول وهذه دموعي تقول عني، فقل أنت، قل بالله إنك تحبني، أو دعني وشأني!» قالت ذلك وحوَّلت وجهها عنه وهي تكاد تختنق من تضارب الحب والخجل وخوف الفشل.

فلم يعد بهزاد يستطيع إمساك هواه ولكنه فكَّر فيما هو فيه من مهام الأمور، فخاف أن يَحول التصريح دون مشروعه فقال: «إن ذلك لا يحتاج إلى تصريح؛ نعم إني أحبك!»

فلما سمعت تصريحه غلب عليها السرور حتى كادت تضحك فغصَّت بالضحك كما كانت تغصُّ بالبكاء، وتساقطت دموعها ولم تتمالك أن صاحت: «أنت تحبني يا بهزاد؟ تحبني؟ أحقيقة ما أسمعه أم وهْم؟ وهل أنا في يقظةٍ أم في منام؟ حبيبي بهزاد أنت تحبني؟»

فلما رأى لهفتها تذكر مَهامَّه، فبدا الاهتمام في وجهه وقال: «نعم إني …» وبلع ريقه وحك ذقنه وسكت.

فخافت أن يكون قد ندم على ما قاله، فنظرت إليه وقد امتزجت في عينيها ملامح الخوف والرجاء وقالت: «ما لك؟ أراك تتردد. ماذا جرى؟ ألا تحبني؟»

قال: «بل أحبك، ولكن …» قالت: «ولكن ماذا؟»

قال: «ولكن اسمحي لي أن أقول شيئًا آخر.»

قالت وقد بان الوجل في مُحيَّاها: «أما وقد قلتَ إنك تحبني فقل بعد ذلك ما شئت، ولكن لا، تمهَّل، لا تقل، أخاف أن تُهددني بالفراق!»

قال: «لا أهددك به، ولكنه شرط من شروط حبك.»

فنظرت إليه شزرًا وقلبها يختلج وفي عينيها أمارات العتاب وقالت بصوتٍ خافت: «أراك تشترط في الحب، وأنا أحبك بلا شرط.»

فأطرق خجلًا من توبيخها اللطيف ثم رفع بصره إليها وقال: «صدقتِ، لا خير في الحب إذا تقيَّد بشرط، ولكني أشترط أمرًا فيه نفع لك، فَأْذَني لي في ذكره وأطيعيني فيه.»

قالت: «إني أحببتك بلا شرط، ومن مقتضيات هذا الحب المطلق ألا أضع عائقًا في طريق حبك، فاشترط ما شئت.»

فقال: «لقد علمتِ الآن أني مسافر، فإذا سافرتُ فإنما أسافر في خدمتك. وقد تحسبين أنك عرفت أمري وسهُل عليك الحكم على مستقبلي؛ سمعتِ أني رسول من جماعة الخرمية، إني لم أكذب ولكنني أكثر من ذلك. وأقول والأسف ملء فؤادي لا أستطيع التمتع بهذا الحب إلا بعد الانتقام، فإذا بقيت حيًّا وعُدت ظافرًا فتلك هي السعادة؛ إذ أكون انتقمت لأبيك وللقتيل قبله، وإلا فلا حيلة لي في دفع الأقدار. ولا أجهل أن الشرط صعب عليكِ، بل هو ظُلمٌ مني، ولكن لا خيرة في الواقع.»

قال ذلك ونهض وهو يقول: «انهضي الآن إلى فراشك.»

فنهضت وقلبها يرقص طربًا، وإن كان قد ساءها خبر فراقه، ولكنها سُرَّت لسعيه في الانتقام لأبيها، وشُغل ذهنها بما قاله عن نفسه من أنه أكثر مما عرفت عنه، فقالت في نفسها: «من عساه أن يكون؟» ولكنها لم تجسر على سؤاله، فأطاعته وهمت بالذهاب إلى الفراش. فأشار بهزاد إلى حجرة وحمل المصباح بيده ومشى بين يديها وهي تتبعه وأفكارها تائهة، فدخلت الحجرة وفيها سرير عليه فراش من جلد فوقه وسادة وغطاء فقال: «هذا هو فراشك الليلة.» ورجع والمصباح في يده ولم تمضِ هنيهة حتى توارت أشعة ذلك المصباح عنها فنزعت الخمار ونامت.

•••

توسدت ميمونة الفراش واستولى السكوت على البيت وخيَّم الظلام، فلما خلت إلى نفسها تذكرت ما مرَّ بها منذ أن اختبأت في الإيوان إلى أن اطمأن قلبها ووثقت من محبة بهزاد، ثم تنبهت للصندوق الذي رأته بيد بهزاد فازدادت رغبتها في معرفة ما فيه.

فقضت ساعة أو ساعتين وهي تتقلب على الفراش وأجفانها لا تُغمض، وطال أرقها حتى ملت الوساد وحدَّثتْها نفسها أن تنهض فأقعدتها الظلمة.

وفيما هي على هذه الحال من الأرق والقلق وقد زادها السكوت وحشة، سمعت حركة وراء الحائط فأصغت فسمعت ضرب معول في الأرض فخفق قلبها وظنت أنها واهمة، ثم سمعت همسًا فنهضت مذعورة والتفتت إلى جدران الحجرة فرأت فوق سريرها نافذة صغيرة يبدو منها بصيص نورٍ ضعيف؛ فأخرجت رأسها من النافذة فرأت خلاءً بين البيت والسور على أرضه مصباح عرفت أنه مصباح بهزاد، ورأت رجلًا طويلًا قد حسر عن ساعديه وشمر عن ساقيه وكشف رأسه وبيده معول وأمامه حفرة وقد أخذ ينبش بمعوله، وأمامه رجل آخر عرفتْ أنه بهزاد، وتفرستْ في صاحب المعول فإذا هو سلمان؛ فازدادت دقات قلبها وارتعدت حتى كادت تسقط، فتجلدت وأسندت نفسها إلى النافذة وهي تحاول أن تختبئ لئلا يراها بهزاد. وتربصت فسمعت بهزاد يقول: «لا بد أن يكون هنا، احفر أيضًا.»

فقال سلمان: «أخاف أن تكون مخطئًا يا سيدي؛ فقد أخرجنا ترابًا كثيرًا ولم أجد أثرًا للجثة.»

فقال: «لا، لست مخطئًا؛ ألم يكن هنا إيوان سابور؟» قال: «بلى.»

قال: «قد أكد لي ذلك الشيخ الهرم أن المنصور كان يجلس في قاعة الإيوان حيث هذا البيت الآن، وأنهم دفنوا الجثة في بستان الإيوان، ولا يمكن أن يكون البستان في غير هذا الخلاء، وقد نبشنا كل بقعة منه ولم يبقَ غير هذه؛ فاحفر.»

قال: «ليت الشيخ كان معنا الليلة فيَهدينا إلى مكان الجثة.»

قال: «ألم أقل لك إنه مات؟ ولكنه والحمد لله بقي حيًّا حتى دلنا على المكان، وهو على ثقة من قوله لأنه عاش في عهد المنصور شابًّا وأصابه مما رأى جزع بقي أثره في ذهنه لم يَنسَه طول عمره. احفر، إننا على هدًى.»

فعاد سلمان إلى الضرب بمعوله وجرف التراب إلى الخارج وهو يقول: «إني لا أرى أثرًا للجثة يا مولاي.»

وكان بهزاد في أثناء ذلك يُحدق فيما يخرج من التراب، ثم انحنى وقبض على قطعةٍ من نسيجٍ نفض التراب عنها وقال: «أليست هذه قطعةً من ذلك البساط؟»

فأمسك سلمان عن الحفر وتناول النسيج وقد تهرَّأ وتقطَّع وقال: «بلى، بلى، إنها جزء منه.» وعاد إلى الحفر بِهمَّةٍ ونشاط وميمونة تنظر إليه وتستغرب حركاته.

وبعد أن حفر برهة تعب وتصبَّب العرق عن ساعديه ووجهه، فوقف وأسند يده على المعول وتنهَّد تنهُّدًا شديدًا، فابتدره بهزاد قائلًا: «لقد تعبتَ، ولكن لا بد لنا من إتمام عملنا في هذه الليلة، هات المعول.» ومد يده فتناول المعول وأخذ يحفر بسرعة ونشاط، ثم سمعت ميمونة صوت ارتطام المعول بجسمٍ صُلْب كأنه أصاب حجرًا، ورأت بهزاد توقَّف عن الحفر ومد يده فأخرج قطعة عظم مستطيلة وصاح: «هذه ساقه أو فخذه، أبشر يا سلمان.»

فتقدم سلمان ونزل إلى الحفرة بنفسه وجعل يجرف التراب ويبحث فيه حتى عثر على شيءٍ تناوله بين السبابة والإبهام ودفعه إلى بهزاد وقال: «هذا خاتم.»

فأخذ بهزاد الخاتم وتقدم إلى المصباح وتفرَّس فيه وقال: «إنه خاتمه بعينه.»

قال: «وكيف عرفت ذلك يا سيدي؟»

قال: «ألا تذكر أنه لما استقدمه المنصور من خراسان أوصى كاتبه بأنه إذا جاءه كتابه وعليه خاتمه كاملًا لا يعمل به، وإنما يعمل بالكتاب إذا كان عليه نصف الخاتم فقط؟» قال: «بلى.»

قال: «انظر، إن اسمه على الخاتم ممحوٌّ من أحد جانبيه؛ فهو خاتمه وهذه هي ساقه، فابحث عن الجمجمة.»

فأخذ سلمان يحفر بيده ويُخرج قطعًا من أقمشةٍ مُتهرِّئة أو من عظامٍ نخرة، وأخيرًا أخرج الجمجمة وناولها إلى بهزاد، فنفض التراب عنها وقد بدا البشر في وجهه يتخلله انقباض، ثم امتُقع لونه وقال: «هذا هو رأسه. هذا هو رأس المقتول ظلمًا! إن عثورنا عليه يساوي نصف الخلافة، وإذا انتقمنا له فقد نلنا الخلافة كلها.» وما تمالك أن قبَّله وأكبَّ سلمان عليه فقبَّله وأخذ يمسح التراب عنه بطرف ثوبه بلُطفٍ واحترام، وبهزاد واقف ينظر إلى الرأس وقد تغيرت سحنته وتجلى الغضب في عينيه، فابتدره سلمان وقال: «أهنئك يا سيدي بما توفقت إليه؛ فقد وقعت على ضالَّتك وكفى الآن. فإذا شئت رجعنا إلى المنزل، فقد كان هذا الليل شاقًّا عليك.» قال ذلك وتحوَّل إلى المصباح فحمله بإحدى يديه والجمجمة باليد الأخرى، ومشى بهزاد في أثره وقد تولاه السكوت والغضب كأنه أُصيب بجمود.

أما ميمونة فلما رأتهما يتحوَّلان إلى المنزل قعدت على فراشها وقد أنهكها التعب وازدادت هواجسها وتهيَّبت من الخروج إلى بهزاد في تلك الساعة للاستفهام عن سر ما شاهدتْه وصبرت نفسها إلى الصباح.

وقضت بقية ذلك الليل كأنها في بحرٍ هائج، ولم تُغمض عينها إلا قُبيل الفجر فغرقت في النوم ولم تستيقظ حتى أيقظتها جدتها، ففتحت عينيها فرأتها واقفةً عند رأسها تقول لها: «قومي يا ميمونة، إننا على أهبة المسير.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤