مقتل الأمين

أظهر سعدون الأسف للأمين، ثم رفع حاجبَيه، وقال: «حسنًا فعلت، وما في الأمان عار لا سيما أنك ستكون في أمان أخيك، والدم لا يتغير ولا يخون، ولكن …» وسكت.

وكان الأمين يُصغي لكلام سعدون وبيده تفاحة يُقشرها، فلما رآه توقف قال: «ولكن ماذا؟»

قال: «لا أدري الحكمة في الاتصال بهرثمة دون طاهر، وهو صاحب الجند المحاصِر لهذا الشطر من بغداد.»

فتنهد الأمين ورمى التفاحة من يده وقال: «لا، لا أتصل بطاهر؛ فإني أتطيَّر منه وأكرهه، وقد رأيت في منامي كأني واقف على حائطٍ من آجُرٍّ شاهق عريض الأساس لم أرَ مثله في الطول والعرض، وعليَّ سوادي ومنطقتي وسيفي، وكان طاهر عند أساس الحائط فما زال يضربه حتى سقط وسقطت قلنسوتي عن رأسي فتشاءمت منه. أما هرثمة فإنه من موالينا وهو بمثابة الأب لي.»

فرقص قلب سعدون طربًا لهذه البشرى وقال: «الأمر لمولانا.»

وفيما هما في الحديث جاء الغلام يقول: «إن رسول أمير المؤمنين بالباب.»

فقال الأمين: «يدخل حالًا.»

فدخل الرجل متخفيًا بثياب التجار، فوقف الأمين وقال له: «قل ما وراءك؟»

قال: «أأقول كل شيء؟» قال: «قل ولا تخشَ شيئًا.»

قال: «لقيتُ هرثمة وعرضت عليه ما أمرتني به فقال: «السمع والطاعة.» ولكنه يرى أن يكون نزول أمير المؤمنين عنده في الليلة القادمة وليس في هذه الليلة و…»

وكان الأمين مقبلًا على سماع الرسول، فلما سمع قوله أشار إليه أن يقعد وقال: «وماذا بعد ذلك؟ قل ولا تَخَفْ، ما الذي بعثه على تأجيل الذهاب؟»

فقعد الرجل وقال: «لأنه على ثقةٍ من أن ذهاب أمير المؤمنين إليه يسوء طاهر بن الحسين، وهو قريب من هذا القصر، وإنما شدَّد الحصار رجاء أن يختار أمير المؤمنين الخروج بأمانه إليه فيفتخر بالفوز على يديه وله عيون مبثوثة في هذه الأطراف. وأخبرني هرثمة أنه شاهَد على الشاطئ أمرًا رابه؛ فهو حريص على حياة أمير المؤمنين.»

فأدرك الأمين أن طاهرًا يهدده فقال: «بل أذهب إلى هرثمة. ولا بد من الذهاب الليلة لأني أصبحت وحيدًا وقد تفرق عني الناس والموالي والحرس وغيرهم، ولا آمَنُ أن ينتهيَ الخبر إلى طاهر فيدخل عليَّ فيأخذني.»

ونهض وقد بان الانقباض في مُحيَّاه، وأَمَر فجيء إليه بثيابٍ بيض وطيلسان أسود فلبسها واعتمَّ بعمامةٍ خفيفة ثم أمر الغلام أن يأتيَه بولديه، فوقف سعدون وسكت تهيُّبًا واحترامًا وقال للأمين: «أيأمر مولاي بخدمةٍ أقضيها، فإن نفسي فداؤه.»

قال: «لا تفارقني حتى أخرج، إني أرى وحشة.» ثم جاءوه بولديه فضمَّهما إليه وودَّعهما وبكى وقال: «أستودعكما الله عز وجل.» ومسح عينيه بكُمه ومشى إلى بغلةٍ أعدوها له فركبها، وسعدون واقف إلى جانبه، فأشار إليه مودعًا فقبَّل سعدون ركابه وقال: «سِرْ في حراسة الله.» فأوصاه بأهله خيرًا وخرج راكبًا إلى الشاطئ، وكانت حراقة هرثمة في انتظاره هناك فنزل فيها فحوَّل رُبَّانها الدفة نحو الشاطئ. وكان في الحراقة هرثمة نفسه وجماعة من رجاله. فلما دخل الأمين قاموا له وجثا هرثمة على ركبتَيه واعتذر إليه من نقرسٍ في رجله، واحتضنه وضمَّه إليه وجعله في حِجره ليؤنسه. وكانت ليلة باردة — لأنه خرج في مساء الأحد لخمسٍ بقين من المحرم سنة ١٩٨ﻫ، وهي توافق ٢٨ سبتمبر سنة ٨٦٣ — وأمر هرثمة النوتية أن يسرعوا في التجذيف فقد شاهد حركة على الشاطئ. وإذا بزوارق لطاهر كانت راسيةً هناك قد أسرعت إلى حراقة هرثمة ونقَّبوها ورمَوا فيها بالآجر والنشاب فدخل الماء إلى الحراقة فغرقت وسقط هرثمة والأمين إلى الماء فشقَّ الأمين ثيابه وخرج إلى الشاطئ ونجا هو وهرثمة، فأركبوا الأمين حمارًا وساروا به يطلبون مخبأً وهم لا يُصدِّقون أنهم نجَوا.

•••

كان سلمان بعد ذهاب الأمين قد جعل همَّه أن يقتله؛ لأن في بقائه على قيد الحياة ما يجعل سبيلًا إلى الصلح مع أخيه فلا يستفيد الفرس شيئًا. فنزع عنه ثياب التنجيم وسبق الأمين إلى الشاطئ، وأخبر رجال طاهر بأن الأمين خارجٌ الساعة إلى حراقة هرثمة فترقبوا قدومه، ولما رأَوا الحراقة تتحرك أغرقوها كما تقدم، وكان سلمان معهم فنزل في جملة من نزل للبحث عن الأمين فرافق الذين فرُّوا به إلى المكان الذي خبَّئُوه فيه ثم رجع إلى بهزاد.

وكان بهزاد منذ وصوله إلى بغداد يُحرِّض رجال الشيعة على الأخذ بناصر إخوانهم وفيهم جماعة الخرمية، ولكنه لم يظهر لطاهر، ولم يعلم طاهر به، على أنه كان يغتنم الفرص لمساعدة الجند كما فعل في واقعة الري، وكان نفوذه على الخرمية ببغداد عونًا كبيرًا لرجال المأمون حتى تضعضعت أحزاب الأمين وضعف أمره واضطُرَّ للتسليم. ولم يكن بهزاد يرى أن يأخذ الأمين أسيرًا، وإنما كان همُّه أن يلتقيَ به في ساحة قتال ويبارزه ويقتله بخنجره ليُتم وعده لأمه فيرجع إليها برأسه ظافرًا غانمًا. وكان في أثناء إقامته ببغداد أو ضواحيها يجتمع بسلمان ويسأله عن ميمونة، فيُطمئنه هذا لئلا يشغله داعي الغرام عن إتمام مشروعه. وإتمام هذا المشروع يهمُّ سلمان كما يهمُّ بهزاد، ولكن غرضه ومطمح أمله في خراسان وليس في بغداد.

قضى بهزاد مدة طويلة على هذه الحال حتى اشتدَّ الحصار وبلغه حديث الناس عن الأمين، فتوقَّع قُرب استسلامه. وفيما هو ذات ليلةٍ في منزل أحد الخرمية بالكرخ وقد انتصف الليل ونزع ثيابه وعلَّق سلاحه فوق رأسه ونام، جاءه أحد الغلمان يُنبئه بقدوم سلمان، فعلم أنه لا يأتيه في مثل ذلك الوقت إلا لأمرٍ مهم، فنهض وأمر بإدخاله، فدخل سلمان وعليه ثياب لا هي لرئيس المنجمين ولا للخادم سلمان، ودلائل التعب بادية في وجهه، فصاح فيه: «ما وراءك يا سلمان.»

قال: «أبشر بالنصر.»

قال: «إني مستبشر به وواثق من الحصول عليه، ولكن ماذا حدث؟»

فقصَّ عليه الحديث كله إلى أن قال: «فالأمين الآن مختبئ في بيتٍ لبعض الناس على الجانب الشرقي، وقد تركته عريان وليس عليه من الثياب إلا السراويل والعمامة وعلى كتفيه خرقة خَلَقة، ومعه أحمد بن سلام صاحب المظالم لأنه لقيه في فراره عَرَضًا. وسمعت الأمين يسأله عن اسمه، فلما عرفه استأنس به وقال له: «ضُمَّني إليك فإني أجد وحشةً شديدة.» فضمَّه إليه وكانت عنده مبطنة ألقاها عليه، ثم سمعته يقول له: «يا أحمد ما فعل أخي؟» فقال له: «هو حي.» فقال: «قبَّح الله بريدهم، كان يقول قد مات.» وأنا واثق بعلمه أنه حي، ولكنه ما قال هذا إلا استرضاءً واعتذارًا. فأجابه ابن سلام: «قبَّح الله وزراءك.» وسمعته يقول: «وما تراهم يصنعون بي، أيقتلونني أم يَفون لي بأمانهم؟» فقال له: «بل يَفون لك.» وقد كذب فأله.» وتنحنح سلمان، فأدرك بهزاد غرضه من ذلك فقال: «ماذا تعني يا سلمان؟ أترى أن ننكث عهد الأمان؟»

قال: «وهل تريد أن يبقى هذا الرجل حيًّا؟ فإذا حُمل إلى أخيه وقع الصلح فيذهب سعينا عبثًا؟ لماذا حملت هذا الخنجر معك من خراسان؟ ألم تذكر أنك نذرت أن تنتقم به لأبي مسلم وجعفر؟ فكيف تنتقم لهما؟ ها قد سنحت لك الفرصة والرجل في قبضة يدنا وفي قتله ختام فوزنا. أنتركه يُفلت منا؟»

قال بهزاد: «أنت تعلم أني أول ناقمٍ على هذه الدولة، وقد كرَّستُ حياتي لمناهضتها ونجحت في مسعاي والحمد لله. وأقصى رغبتي أن أقتل هذا الخليفة بيدي وبخنجري لأُضيف رأسه إلى الرأسين اللذين تركتهما في مرو. نعم أريد أن أقتله في ساحة الوغى، أقتله متقلدًا سلاحه بالمبارزة وليس غدرًا وخلسة وهو أعزل خائف دخل في أماننا. أننكث ونحن إنما نقمنا على هذه الدولة لأنها نكثت العهود وغدرت ببعض رجالنا؟ والغادر تعود عاقبة غدره عليه.» قال ذلك وبانت الحماسة في عينيه. فتكدَّر سلمان من هذه الأريحية لأنه لم يكن يفهم مغزاها، وإنما هو رجل ماكر داهية يهمُّه تنفيذ مآربه لا يبالي ما يعترضه ولا يهمه ما يأتيه في سبيل ذلك من أساليب الكذب والمكر والغدر، لا يخاف ضميرًا ولا يرعى ذمامًا؛ ولذلك اختاره صاحب الأمر بخراسان للعمل الذي تقتضيه هذه الخصال، على خلاف بهزاد؛ فإنه رئيس شريف وكل أعماله تؤيِّد ما طُبع عليه من الأريحية وصدق اللهجة والبسالة.

فلما سمع سلمان إباءه لم يستغربه، ولكنه ندم على تكليفه ذلك وتظاهر بأنه اقتنع وقال: «صدقت يا بهزاد، بورك في بطنٍ حملك.» وتناعس فنام ونام بهزاد وهو يفكر فيما انتهت إليه هذه المهمة وما عساه أن يَنجم عنها. وبينا هو في رقاده في أواخر الليل إذ سمع خربشةً فاستيقظ وفتح عينيه فرأى شبحًا واقفًا بجانب فراشه وهو يتطاول إلى الحائط، فنهض والتفت ولم يذعره ذلك وقال: «من هذا؟»

فرأى شيئًا وقع من يد الرجل على الفراش فتوسَّمه فإذا هو خنجره والرجل سلمان، فقال: «ماذا تفعل يا سلمان؟»

قال: «لا أفعل شيئًا، وقد فعلت ما أريده، وهذا خنجرك خذه.»

فمدَّ يده إلى الخنجر فرأى عليه أثر الدم فقال: «ماذا فعلت؟ هل قتلتَ الرجل؟»

قال: «قتلناه لا أقامه الله، أكنتَ تريد أن يبقى عثرةً في طريقنا؟ لقد مات واسترحنا منه.»

فصاح به: «ويلك! قتلته؟ وبخنجري؟»

قال: «لأن خنجرك موجود لهذا الأمر كما قلت، فأحببت أن أتحمَّل أنا ذنب القتل وأترك لك فضل الإباء والنزاهة والأريحية وكبر النفس.» وهز رأسه استخفافًا وقال: «تريدون إنشاء دول لا نكث فيها ولا غدر، ولم نرَ صاحب دولةٍ استغنى عن ذلك، ولولا أن غدر أبو مسلم الخراساني ما غلب، والمنصور لو لم يغدر به لم تثبت دولته، والرشيد لو لم يغدر بجعفر لكان في خطرٍ على خلافته. بل ارجع إلى صدر الإسلام ترَ عليًّا وأبناءه لم يفشلوا في سياستهم إلا لأنهم توخَّوا الحق والوفاء وبالغوا في البُعد عن الغدر والدهاء. ولو لم يمكر معاوية ويغدر لما استطاع أن يُنشئ دولةً ولا أقام سلطانًا. وقد توارث العلويون حب الحق والتدقيق في الوفاء من عليٍّ فكان حظهم الفشل مثل حظه. ما أحوجنا نحن إلى الغدر الآن، على أني لم أكلفك ارتكاب هذه الجريمة فتحمَّلتُ الذنب وحدي.»

فأعجبه اعتذاره وقال: «ومع ذلك، فإن الغادر تعود عاقبة غدره عليه، والتاريخ أصدقُ شاهد.» وسكت وقد سرَّه التخلص من الأمين على يده ودون أن يتحمَّل وزر دمه فقال: «وكيف فعلتم؟ كيف قتلتموه؟ قبَّحكم الله!»

قال: «سرقتُ خنجرك وتزيَّيت بزي جند الفرس، وأسرعت إلى المكان الذي تركت الأمين فيه وقد مضى نصف الليل والظلام شديد، فلقيت ببابه بضعة رجالٍ من العجم وسيوفهم مسلولة، فاختلطت بهم ودخلت معهم على الأمين فوجدته قاعدًا، ولما رآنا نهض قائمًا وقد أخذ الرعب منه مأخذًا عظيمًا وقال: «إنا لله وإنا إليه راجعون، ذهبتْ واللهِ نفسي في سبيل الله، أمَا من مغيث أما من أحد من الأبناء؟» أما نحن فظَلِلْنا داخلين عليه وكان بيده وسادة تترَّس بها وهو يقول: «ويحكم! أنا ابن عم رسول الله، أنا ابن هارون، أنا أخو المأمون، اللهَ اللهَ في دمي!» فخِفتُ أن تدرك القومَ رأفةٌ فيفسد علينا أمرنا؛ فألححت على رجل أمامي كان سيفه مسلولًا بيده وقلت: «عليك به.» فضربه بالسيف على رأسه فرماه الأمين بالوسادة فتقدمتُ أنا وطعنته بهذا الخنجر في خاصرته فكانت القاضية فصاح: «قتلني، قتلني.» فدخل بقية القوم فذبحوه من قفاه وأخذوا رأسه ومضَوا به إلى طاهر وجئت أنا بالخنجر إليك. فإن كنتَ ترى أني أستوجب القصاص فاحكم عليَّ.»

قال: «يظهر أن الرجل كان مقتولًا لا محالة، ولكنك جعلت لخنجري أثرًا في القتل حتى يَصحَّ النذر. رحم الله الأمين، وهنيئًا لنا فقد انتهت مهمتنا.»

قال سلمان: «ونحن راجعون إلى خراسان غدًا إذا شئت.»

قال: «ولماذا هذه العجلة؟»

فقال وهو ينظر إليه شزرًا: «فرغتَ أنت من عملك وضمنت مستقبلك، وهذه ميمونة تحت أمرك لو مكثتما هنا أو في غير هنا فأنت مطمئن. أمَّا أنا فَلِي مأرب في خراسان لم أتوثَّق منه بعد؛ لذلك أحببت الرجوع.»

قال بهزاد: «وميمونة؟ ألا تخرجها من المكان الذي حبستها فيه؟»

فضحك وقال: «صدقت، هي في قصر المنصور، وفي الغد أحملها إليك مع جدتها. ألا يكفيك ذلك؟»

قال: «بلى، وإني شاكر لك معروفك، وقد آن لنا أن نكون كالإخوة؛ فأنت أخي وصديقي منذ الآن، وقد انقضى زمن الخدمة بانتهاء هذه المهمة.»

فأثنى سلمان عليه، وباتا بقية ذلك الليل ونهضا مبكرَين، فقال سلمان: «إني ذاهب لساعتي بلباس رئيس المنجمين حتى يسهل عليَّ الدخول إلى قصر المنصور لإحضار ميمونة، وأنت ماذا تفعل؟»

قال: «أسير في ظلك أو أنت تسير في ظلي حتى لا نُضيع فرصة.» قال: «حسنًا.»

•••

تزيَّا سلمان بزي رئيس المنجمين وركب بغلته، وركب بهزاد جواده وعليه القباء والقلنسوة والسراويل كأنه أحد كبراء الفرس. فمرَّا بأسواق الكرخ وقد لاح الفجر، وتحوَّلا من ناحية باب الكوفة فهالهما ما شاهداه من ازدحام الأقدام، واستغربا كثرة ما يتساقط عليهما من الحصى التي كان العيارون يرمونها من الأسوار. وقبل وصولهما إلى الباب رأيا جماعاتٍ من الناس وفيهم أهل الأسواق فضلًا عن الجند الخراساني يستبقون إلى البستان الذي كان طاهر مُعسكِرًا فيه، وإذا برأسٍ مرفوعٍ على قناةٍ فعلم سلمان أنه رأس الأمين جاء به طاهر وغرسه على برجٍ فوق حائط البستان. ولما رآه الناس سقط في أيديهم وهلعت قلوبهم، أو لعلهم فرحوا لانتهاء الحرب. ولما وقع نظر بهزاد على الرأس كبَّر واستعاذ بالله وقال: «سبحان الحي الباقي، اليوم سقطت دولة وقامت دولة أخرى. إذًا عرف الفضل بن سهل الانتفاع بهذا النصر.»

فقال سلمان: «ماذا ترى طاهرًا يفعل بهذا الرأس؟»

قال: «أظنه يرسله إلى المأمون في خراسان ومعه البردة والخاتم والقضيب، لتطمئن القلوب ويتحققوا النصر، ولينال طاهر جائزة كبيرة ويصبح المأمون الخليفة الوحيد.»

أما قصر المنصور فكان سلمان قد غادره بالأمس وأهله غافلون عما يجري في قصر الخلد، وكانت القهرمانة فريدة مشتغلة بشئونها فجاءها الحاجب يقول: «إن ابن الفضل بن الربيع بالباب يطلب أن يراكِ.» وكانت تعرف الفضل ومنزلته عند الأمين، فظنت ابنه قادمًا بأمرٍ مهم فأذنت في دخوله. وكان قد مضى عليه وقت طويل وهو مختفٍ مع أبيه، لكنهما لم يفارقا بغداد فكانا على بينةٍ مما يجري فيها، فلما علم في ذلك المساء أن الأمر قد استفحل ولا تلبث بغداد أن تسقط في أيدي الخراسانيين، وكان يراقب حركات ميمونة ويعرف أمرها، أخذ يسعى جهده في الحصول عليها حتى ذهب إلى زبيدة في صباح الأمس وأقنعها بأنه يستطيع أن يستعلم منها عن محل بهزاد ولمَّح أنه يحبها، فقالت: «إذا استطعت معرفة مكان الرجل فإنها لك.» فطلب منها أمرًا للقهرمانة أن تأذن في مقابلتها. ولما رأى اضطراب الحال أتى ببعض العيارين واستأجرهم لاختطاف ميمونة إذا لم تأذن القهرمانة بتسليمها وجاء إلى قصر المنصور.

فلما دخل على القهرمانة قابلتْه أحسن مقابلة، وسألته عما يريده فدفع إليها كتاب زبيدة، فتذكرت أن سعدون كان قد أوصاها بألا تأذن لأحد في إخراجها، فلم ترَ بأسًا من أن يقابلها ابن الفضل فدخلت عليها وأخبرتها أن ابن الفضل يريد مقابلتها، وكانت جدتها عبادة معها فقالت: «لا حاجة لنا به.»

فقالت: «ولكنه جاءني بأمرٍ من مولاتنا زبيدة.»

فلما سمعت عبادة ذلك الاسم اضطربت جوارحها وتشاءمت، وتوسَّلت إلى القهرمانة أن تردَّ عنهما هذا الشاب فلم تفعل.

فأقبل ابن الفضل على الغرفة وقد أُنيرت بها الشموع وجلست ميمونة بثوبها الأسود وقد تغيَّر لونها من توالي المصائب وأصابه شحوب زاده رِقة، فدخل وهو يبتسم ابتسامة الاستعطاف وفي وجهه أمارات الحب؛ فحالما رأته اقشعرَّ بدنها وظلت جالسة مُطرِقة فتقدَّم نحوها وحيَّاها وقال: «ألا تعرفينني يا ميمونة؟»

قالت بنفور وجفاء وهي تُحوِّل وجهها عنه: «كلا.»

قال: «ألا تعرفين شابًّا يهواكِ إلى حد التلف؟ ألا تعرفين ابن الفضل؟»

قالت: «سمعت بهذا الاسم وذِكره يؤلمني لأن أباه ألبسني هذا الثوب.»

فقال متلطفًا: «وأنا أتكفَّل أن أُعوضك منه ثوبًا أبيض ومن أيامك السود أيامًا بيضاء كالثلج!»

قالت وهي تنظر إليه شزرًا: «قد تعوَّدت السواد ولم أعد أشتهي سواه.»

قال: «البسي ما تشائين وافعلي ما تشتهين، ولكن تعطَّفي على فتًى يحبك حبًّا مبرحًا. إني أحبك يا ميمونة ومن سوء الطالع أنك لا تحبينني.» قال ذلك وجثا بين يديها وأراد لمس يدها فجذبتها منه كأن عقربًا همت بلدغها!

فوقف وقد شقَّ عليه جفاؤها وقال: «جئت يا ميمونة أتوسل إليكِ باسم الحب، فإذا لم تُشفقي على تذللي جئتكِ من سبيلٍ آخر.»

فقالت: «لا أعرف لك سبيلًا إليَّ، دعني وشأني وابحث عن سواي فإن النساء كثيرات.»

قال: «لم يقع اختياري على سواك، ويدلك على ذلك ثباتي في حبك رغم ما تُظهرين من النفور. ألم يأنِ أن تتعطفي؟»

فتحولت عنه وقالت: «دعني يا رجل.»

فنهض وقال مهددًا: «قلت لكِ إذا ظَلِلتِ على هذا الجفاء عاملتكِ بالقسوة ولو شقَّ عليَّ ذلك.»

قالت وهي لا تنظر إليه: «لا تستطيع شيئًا ونحن في قصر أمير المؤمنين.»

قال: «إني أستطيع حملك بالقوة؛ فإن معي فرقةً من الجند وبيدي أمر من أم الخليفة.»

وكانت جدتها جالسة تسمع ما يدور بينهما فصاحت قائلة: «كنتُ أحسبك شهمًا يؤثِّر فيك الكلام. أما كفاك ما سمعتَه؟ دع الفتاة وشأنها. ولو كنت مكانك وعلمت أنها لا تحبني لتركتها وشأنها.»

قال: «يشقُّ عليَّ أن أفشل بعد الصبر الطويل؛ فإني أريد الآن أن أُعلِمها من أنا وأن مثلي لا يُعامَل هكذا وفي بغداد مئات من بنات الأمراء والقواد يتمنَّين رضاي.» والتفت إلى ميمونة وقال: «ارجعي إلى صوابكِ وثقي بأني أنصح لكِ فلا تُلجئيني إلى القوة، إن فرقةً من العيارين في انتظار أمري خارجًا.»

فضاقت نفسها وتململت وصاحت: «ويلاه! أين الجند؟ أين الحرس؟» فنهضت جدتها وقالت لابن الفضل: «اكفِنا أيها الشاب شَرَّك ودعنا وشأننا. إذا كنت تعرف من نحن فاشْفَق علينا وكفانا ما قاسيناه من البلاء.»

وفيما هم في ذلك سمعوا جلبةً في الدار، فظنت ميمونة أن العيارين دخلوا للقبض عليها فصاحت: «ويلاه يا ربي! إذا لم يكن قد انتهى حبل مصائبي فخذ روحي.» وطفقت تبكي ولم تتمالك لاضطرابها ولهفتها أن صاحت: «أين سلمان؟ أين بهزاد؟ أواه ما أشقاني!» وكانت جدتها في أثناء ذلك واقفةً إلى جانبها تُهوِّن عليها والدموع تتساقط من عينيها.

أما ابن الفضل فعلم أن الضوضاء ليست من العيارين، فخرج ليرى سببها فسمع الخدم يقولون: «السيدة زبيدة أتت.»

فاستغرب الجميع مجيئها في تلك الساعة وقد مضى معظم الليل.

والسبب في مجيئها أنها بعد أن خرجت من قصر الخلد في ذلك المساء وهي على ما وصفنا من الخوف على ابنها، ذهبت إلى قصرها مُبلبَلة البال، وكأن قلبها دلها على الخطر القريب، فذهبت إلى الفراش ولم تنم. وبعد منتصف الليل أيقظتها قهرمانة قصرها فنهضت مذعورةً وسألت عن الخبر فقالت القهرمانة: «إن بعض شاكرية قصر الخلد يسأل عن أمير المؤمنين.»

فصاحت: «يسأل عن ابني؟ يسأل عنه هنا، أين هو؟ إني تركته في قصر الخلد منذ ساعتين! أين الشاكري؟»

فأدخلوه إليها فقالت: «أين أمير المؤمنين؟»

قال: «لا نعلم يا سيدتي، وقد بحثنا عنه في كل مظانِّه بالقصر فلم نجده ولا نعلم أين هو.»

فنهضت والتفَّت بمطرفها وركبت إلى قصر الخلد وفتَّشت عنه هناك فلم تجده؛ فخطر لها أنه قد يكون ذهب في أمرٍ وسيعود، فمكثت على مثل الجمر حتى كاد الفجر يلوح فحدَّثتْها نفسها أنه دخل مدينة المنصور للامتناع في قصرها، فركبت إلى هناك وسألت عنه القهرمانة فذكرتْ أنها لم تَرَه.»

فقالت زبيدة: «رأيت بالباب بعض العيارين، فمن أتى بهم إلى هنا؟»

قالت: «ابن الفضل، وقد جاءني بكتابٍ منك ليُكلم الجارية ميمونة.» فلما سمعت اسمها اشتدَّ غضبها وصاحت: «أين هي؟»

قالت: «هي في هذه الغرفة.» ولم تصبر زبيدة لتستقدمها إليها فتوجَّهت إلى الغرفة ودخلت فجأةً وقد أخذ الغضب منها مأخذًا عظيمًا، فلقيها ابن الفضل بالباب فتنحَّى، ودخلت فرأت ميمونة واقفة وجدتها عبادة إلى جانبها فلما رأت عبادة هناك لم تتمالك أن صاحت: «وأنتِ هنا أيضًا؟ تبًّا لكِ من عجوزٍ شقية. إنك سبب متاعبي وأصل بلائي، ما الذي جاء بكِ إلى هذا المكان؟»

فأطرقت عبادة وسكتت لأنها لم تجد وجهًا للكلام ولا عذرًا للمجيء؛ فوجَّهت زبيدة خطابها إلى ميمونة وقالت: «والآن ألم يَئِنْ لكِ أن تقولي لنا عن مكان ذلك الشقي الخائن الذي تُسمُّونه بهزاد، وقد علمت أنه في بغداد، وكل بلائنا منه؛ أين هو؟»

فقالت وصوتها يختنق من الخوف: «لا أعلم يا سيدتي؛ فأنا سجينة هنا لا يصل إليَّ خبر ولا أعرف من حوادث الدنيا شيئًا.»

قالت: «أتكذبين والعلاقة بينكِ وبينه على يد خادمٍ اسمه سلمان؟»

فقالت: «اسألي القهرمانة، إني لا أرى خادمًا ولا أميرًا، بالله أشفقي عليَّ يا سيدتي وكفاني ما أقاسيه.» وأغرقت في البكاء.

قالت: «أشفق عليكِ؟ لماذا؟ لو استطعت خنقك بيدي ما ترددت.» ثم التفتت إلى الخارج فرأت ابن الفضل واقفًا فصاحت به: «خذ هذه الجارية فقد ملَّكتك إياها، افعل بها ما تشاء، وهذه العجوز النحس سوف أذيقها ما تستحقه.»

فلما سمعت عبادة قولها جثت بين يديها وقالت: «افعلي بي ما تشائين، وارفُقي بهذه الفتاة فإنها بريئة من كل ذنب، قد تضرعتُ إليكِ في شأنها قبل الآن فردَدْتِني، والآن أتوسل إليكِ — وأنتِ والدة وتعرفين حُنُو الأمهات — أن تترفَّقي بهذه الفتاة. وأما أنا فلا آسَف على حياتي.»

فلما سمعتْها تذكر حُنُو الوالدات أحسَّت بشيءٍ أوهن عزمها، لعلمها بما يهدد ابنها من الخطر ولا سيما في تلك الساعة؛ فقد أضاعته ولا تعلم أحيٌّ هو أم ميت.، ولكنها تجلدت لئلا يَظهر الضعف عليها، فنهضت وتظاهرت بالغضب وقالت: «قلت لكِ إنه لا سبيل إلى خلاصها إلا إذا اعترفت بمكان بهزاد، وإلا فهي ملكٌ لابن الفضل.» وأشارت إليه أن يأخذها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤