مهمة … فوق سفينة شراعية!

شرح رقم «صفر» ما يقصده قائلًا: كما أخبرتكم فإن لهؤلاء القراصنة عيونًا في أماكن عديدة، وأية محاولة لتعقُّبِهم أو اصطيادهم ستفشل بسبب الإنذار المبكر الذي يحصلون عليه، ومن هنا كان من الضروري نَصْبُ فخٍّ للقراصنة، ليسعَوا هم خلفكم بدلًا من العكس.

ابتسمَت «إلهام» وقالت: ألهذا السبب تُقرِّر قيامَ رحلة عبور المحيط الهندي بالسفينة الشراعية «ابن ماجد»؟

أجاب رقم «صفر» بسرعة: إنكِ شديدةُ الملاحظة … والذكاء أيضًا يا «إلهام» … ولا بد أن الشياطين جميعًا قد لاحظوا الأخبارَ المتتالية التي نشرَتها الجرائد والمجلات … بل وبعض أجهزة التليفزيون عن رحلة لقَطْع المحيط الهندي وصولًا إلى الدار البيضاء في المغرب عبرَ طريقِ رأس الرجاء الصالح بواسطة سفينة شراعية صغيرة مما يمثِّل مغامرةً كبيرة لأصحاب هذه المحاولة … ولا بد أن القراصنة التقطوا تلك الأخبارَ واستعدوا لاصطياد السفينة الشراعية التي ستُبحرون أنتم بها.

عثمان: وهل ستحمل هذه السفينةُ الشراعية حمولةً ثمينة تُغري القراصنة بمهاجمتها؟

رقم «صفر»: سوف تكونون أنتم حمولة السفينة الثمينة.

وساد صمتٌ … مصحوبٌ بقليل من الدهشة … وفسَّر رقم «صفر» حديثه قائلًا: إن الإعلان المتكرر عن هذه الرحلة في الأسابيع الماضية قام بالتركيز على أصحاب الحمولة، وهم مجموعة من الشبان العرب المغامرين، وإن بعضهم من أبناء الأمراء وكبار المسئولين في الوطن العربي، كما أن بعضهم الآخر من أبناء أصحاب الملايين … وهكذا كما ترَون فإن حمولة السفينة الثمينة ستكون هي أنتم … فلا بد أن القراصنة سيُخطِّطون لاختطافكم لمبادلتكم بعد ذلك بعشرات الملايين من الجنيهات.

وساد الصمتُ … وتلاقَت أعينُ الشياطين … فقد كانت فكرةً رائعة ومؤكدة النجاح.

قال رقم «صفر»: إن سفينتكم بها إمكانيات قليلة … فليس بها أجهزة إرسال واستقبال ظاهرة … ولا أجهزة قياس سرعة أو حتى بوصلة … إنها أشبه برحلة بدائية كالتي كان يقوم بها البحارة العرب منذ مئات الأعوام، لا تعتمد إلا على خبرة البحارة ورصدهم للنجوم … لتحديد مواقعهم واعتمادهم على سرعة الرياح والموج في تسيير السفينة وطعامهم هو السمك الذي يصيدونه … فكلُّ شيء بهذه الرحلة يبدو بدائيًّا تمامًا … غير أن هناك مخزنًا للأسلحة يوجد في قاع السفينة ويصعب اكتشافه، وعليكم ألَّا تلجئوا إليه إلا عند الضرورة، وأيضًا فإن السفينة تخلو من أجهزة اللاسلكي لئلا تلتقطَ العصابةُ أيةَ رسائل تحاولون إرسالها أو استقبالها … فلديهم محطةٌ لاسلكية ذات قوة التقاط عالية … ومن هنا فأنتم مضطرون في رحلتكم للانقطاع عن العالم بأي وسيلة اتصال، وتذكَّروا أن مهمَّتَكم ليست القبض على سفينة القراصنة ببحَّاراتها فقط … بل والوصول إلى محطة الإرسال والاستقبال الخاصة بهم … وتدميرها.

ومرَّت لحظةٌ من الصمت، وظهر الحماس فوق وجوه الشياطين وهم يتساءلون، تُرَى مَن منهم سيقع عليه الاختيار ليكون ضمنَ أفرادِ الرحلة؟

وجاء صوتُ رقم «صفر» من مكانه المعتم يقول: سوف يكون طاقم الرحلة مكوَّنًا من ستة أفراد، هم «أحمد» و«عثمان» و«إلهام» و«مصباح» و«خالد» و«قيس» هل هناك أية أسئلة؟

ولم ينطق أحدُ الشياطين بشيء … فنهض رقم «صفر» وهو يقول: ستبدأ رحلتُكم غدًا في الصباح الباكر من ميناء «عدن» اليمني المطل على خليج عدن ومنه تبدءون مهمَّتَكم، وفقكم الله!

وغادر رقم «صفر» القاعة، ثم تَبِعه الشياطين في صمت، والمهمة القادمة تشغل عقولهم … وفي الموعد المحدد وقف الشياطين الستة فوق حاجز سفينتهم الشراعية الصغيرة وهم يلوِّحون للصحفيِّين والمصورين الذين جاءوا لتصويرهم وأخْذ الأحاديث الصحفية منهم.

ومع أول خيوط الشمس أفردَت السفينة «ابن ماجد» أشرعتَها، ثم انطلقَت صوْبَ الخليج كبجعةٍ رشيقة تمتطي ظهرَ الماء.

كانت حركةُ الموج وسرعة الرياح مناسبة، فاتَّجهَت السفينة الشراعية شرقًا صوبَ المحيط … وظهرَت بعضُ الطيور البحرية التي حلَّقَت فوق أشرعة السفينة وهي تُطلق صيحاتِها، كأنها تؤدِّي مراسم الوداع الأخيرة.

وقالَت «إلهام» ضاحكة: هذه أعجب رحلة بحرية … في نهاية القرن العشرين ونقود سفينة شراعية في قلب المحيط بلا جهاز لاسلكي على الأقل.

عثمان: لقد جاب البحارة العرب المحيطات والبحار بدون لاسلكي.

إلهام: ألهذا سمَّى رقم «صفر» سفينتَنا «ابن ماجد»؟

أحمد: إنه أشهرُ بحَّار عربي؛ فقد كان عنده علمٌ بأغلب بحار الدنيا ومحيطاتها، خاصة المحيط الهندي، وكان يعرف مسالكَه مثل راحة يده … بل وقاد سفينة البحَّار البرتغالي «فاسكو دي جاما» من سواحل أفريقيا إلى الهند، وكتَب أكثر من ١٩ كتابًا عن البحر، وأيضًا فهو أولُ مَن قسَّم البوصلة البحرية إلى ٣٢ درجة، وقد كان أعظم بحَّار في العالم في عصره؛ ولذلك سُمي ﺑ «أسد البحار» بسبب شجاعته وجرأته … وأرجو أن يكون إطلاقُنا اسمَه على سفينتنا فألًا حسنًا لنا.

تساءل «خالد»: هل تظنون أن القراصنة قد انخدعوا بمظهرنا وبحقيقة هذه الرحلة؟

أحمد: وحتى لو لم ينخدعوا فأظن أنهم سيهاجمون سفينتَنا، خاصة وهي تبدو ظاهريًّا كأنها سفينة شراعية تجوب البحار منذ مائتي أو ثلاثمائة عام … وفي كلتا الحالتَين سنتعرض لهجومهم.

تنهَّدَت «إلهام» قائلةً: إن رقم «صفر» يحقق دائمًا أحلامًا عزيزة … فمنذ طفولتي وأنا أتمنَّى لو عبرتُ المحيط بسفينة شراعية وقودها الرياح وبوصلتها النجوم.

أحمد: يبدو أن «إلهام» أصبحَت شاعرة.

عثمان: سوف تُفيق حالًا من أحلامها عندما تبرز سفينةُ القراصنة أمامنا بِصاريها الذي يُرفرف عليه علَمٌ به جمجمةٌ وعظمتان متقاطعتان.

انفجر الجميعُ ضاحكين، وانصرفوا إلى أعمالهم الضرورية داخل السفينة، فأمسك «أحمد» بدفَّةِ السفينة ليُوجِّهَها للخروج من الخليج، على حين أخذ «عثمان» يقفز فوق صاري السفينة الكبير كالبهلوان ليقومَ بفردِ الأشرعة إلى نهايتها، وانهمك «خالد» و«قيس» في صيد السمك بالصنارة من مؤخرة السفينة على حين شرعَت «إلهام» تُدوِّن ملاحظاتِها في دقة كبيرة … أما «مصباح» فكان في قاع السفينة يطمئن إلى نوعية الأسلحة المخفاة بمهارة.

كانت السفينة تبدو ظاهريًّا، كما أُعلن عنها ووصفوها … وعندما حان وقتُ الظهر اجتمع الشياطين الستة للغذاء، وكان الطعام سمكًا مشويًّا مما صاده «خالد» و«قيس» وقامَت «إلهام» بتنظيفه وشَيِّه.

وفي المساء أقاموا حفلًا صغيرًا … وكان ﻟ «إلهام» صوت عذب، فأخذَت تغنِّي أغنية رقيقة، على حين انهمك «عثمان» في العزف على الجيتار … وانهمك بقيةُ الشياطين في التصفيق والتشجيع فوق سطح السفينة.

ومن أعلى حلَّقَت طائرةُ هليوكبتر كان يبدو أنها تخصُّ حرسَ السواحل لإحدى الدول العربية الخليجية، فلوَّح الشياطين لها، فأطلق قائدُها أضواءَه الكاشفة نحوهم، ودار حولهم مرتين كأنه يُلقي إليهم بالتحية ثم انطلق مبتعدًا.

ومن بعيد، وفي الظلام ظهرَت البواخر العملاقة القادمة من المحيط الهندي والمتجهة إلى خليج عدن … وظهرَت أضواؤها على البعد كأنها نجوم صغيرة تسبح فوق الماء … وطول الليل تبادل الشياطين قيادة السفينة … وقرابة الفجر كانت «إلهام» هي المسئولة عن قيادة الدفة … وأحسَّت بالنوم يتسلَّل إلى جفنَيها … وفجأةً استيقظَت فزعةً على صوت «أحمد» وهو يصرخ فيها: انتبهي يا «إلهام»!

وفتحَت «إلهام» عينَيها فزعةً، فشاهدَت باخرة ضخمة من ناقلات البترول وهي تتجه إلى سفينة الشياطين التي بدَت بجوارها أشبهَ بلعبة أطفال.

وشلَّت «إلهام» في مكانها وهي تشاهد ذلك الجبل الهائل يتجه نحوهم ويوشك أن يصطدمَ بسفينتهم ويمزِّقَها إلى حطام متناثر.

وقفز «أحمد» إلى دفة القيادة وقد أدرك الخطر الرهيب الذي يتعرضون له، وأدار الدفة إلى أقصاها بكل سرعة محاولًا الابتعاد عن ناقلة البترول الرهيبة ولكنَّ تصرفَه جاء متأخرًا … متأخرًا جدًّا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤