وادي أوتاوا

أحيانًا أتذكر أمي وأنا في المتاجر متعددة الأقسام. لا أدري لماذا، فهي لم تصحبني إلى أي منها قط، ولكني أعتقد أنها كانت ستشعر بالرضاء والسعادة بسبب وفرة البضائع بها والصخب المعتدل الذي يميز هذه المتاجر. أتذكرها بالطبع عندما أرى شخصًا في الطريق يعاني من داء باركنسون، وأتذكرها أكثر وأكثر كلما نظرت في المرآة. ويحدث ذلك أيضًا في محطة قطارات يونيون ستيشن في تورونتو حيث كانت معي في أول مرة ذهبت فيها إلى هناك وكانت بصحبتنا أختي الصغيرة. كنا في فصل الصيف إبان الحرب، كنا ننتظر بين القطارات، حيث كنا متجهتَيْن مع أمي إلى بيتها القديم في وادي أوتاوا.

لم تكن ابنة عمها، التي كان من المخطط أن تلتقي بها ونحن ننتظر القطار التالي، في انتظارنا، وعلقت أمي وهي تجلس على مقعد جلدي في استراحة السيدات المكسوة بالألواح الخشبية: «هي بالتأكيد لم تتمكن من الحضور؛ لأنها تصنع شيئًا لا يمكنها تكليف شخص آخر بعمله.» كانت ابنة عمها تعمل سكرتيرة قانونية لشريك رئيسي بمكتب محاماة كانت أمي تصفه بمكتب المحاماة الرائد في المدينة. ذات مرة جاءت لزيارتنا وكانت ترتدي قبعة كبيرة سوداء وبدلة سوداء، وكانت شفتاها وأظافرها تشبه الياقوت، ولم يأتِ زوجها معها، لقد كان سكيرًا، وكانت أمي تخبرنا دائمًا أنه سكير بعدما كانت تخبرنا أنها حصلت على وظيفة هامة في مكتب المحاماة الرائد في المدينة. كانت ترى أن هذين الشيئين متلازمان دائمًا، على نحو لا يمكن فصمه. وبنفس الطريقة كانت أمي تخبرنا عن العائلة التي تمتلك كل شيء يمكن شراؤه بالمال ولكن ابنهم الوحيد كان مصابًا بالصرع، أو أن والدَيِ الشخصِ الوحيد الذي يتمتع بشهرة محدودة في مدينتنا — وهي عازفة بيانو تدعى ماري رينويك — يقولان إنهما على استعداد للتضحية بشهرة ابنتهما مقابل إنجاب طفل آخر. إنجاب طفل؟ في عالمها، لم يأتِ الحظ الحسن دون ثمن.

خرجت مع أختي من الاستراحة إلى المحطة التي كانت تشبه الشارع في متاجرها المضيئة وتشبه الكنيسة بسقفها المرتفع المقوس ونوافذها الضخمة عند كل طرف. كانت المحطة تهدر بأصوات القطارات وكانت الحوائط تزيد قوة الصوت، ويرتفع صوت يردد أسماء الأماكن لا يمكن فهم كل ما يقول. اشتريت مجلة أفلام واشترت أختي قطع الشوكولاتة بالنقود التي أعطتنا إياها أمي، وكنت سأقول لأختي: «أعطني قطعة شوكولاتة وإلا فلن أدلك على طريق العودة»، لكنها فعلت ذلك قبل أن أطلب، وهو ما حدث على الأرجح بسبب افتتانها بضخامة المكان أو تسليمها باعتمادها عليَّ.

بنهاية فترة بعد الظهيرة ركبنا القطار المتوجه إلى أوتاوا. كان الجنود يحيطون بنا في كل مكان، واضطرت أختي للجلوس على رجل أمي. ظل أحد هؤلاء الجنود يمزح معي، وكان يشبه بوب هوب بدرجة كبيرة، وسألني من أين جئت؟ وسألني: «هل بنوا الطابق الثاني من المتجر بعد؟» بنفس الطريقة الحادة والذكية التي كان سيسأل بها بوب هوب دون أن تداعب الابتسامة شفتيه. تخيلت أنه بالفعل هوب يسافر متنكرًا في زي جندي. ولكن توقفت عن التفكير في هذا الأمر، حيث إنه بعيدًا عن مدينتي يوجد كل المشاهير يروحون ويجيئون ويظهرون في أي مكان يريدونه.

التقتنا الخالة دودي في المحطة مساءً واصطحبتنا إلى منزلها على بعد أميال من المدينة. كانت صغيرة الجسم وحادة الملامح وتضحك في نهاية كل جملة تقولها. كانت تقود سيارتها مربعة السقف ذات الدرج.

«هل جاءت سموها لتراكِ؟»

كانت تشير إلى أختها، السكرتيرة القانونية. لم تكن الخالة دودي خالتنا في واقع الأمر، بل ابنة عم أمي وكانت على خلاف مع أختها.

فردت أمي بلهجة محايدة: «كلا، لم تأتِ ولكن بالتأكيد هي مشغولة.»

فقالت الخالة دودي: «بالتأكيد مشغولة في إزالة آثار فضلات الدواجن عن حذائها.» كانت تقود في سرعة فوق المطبات والحُفَر.

أشارت أمي إلى الظلام المحيط بنا على كلا الجانبين وقالت: «يا أطفال، يا أطفال، هذا هو وادي أوتاوا.»

•••

لم يكن هناك أي وادٍ؛ فقد بحثتُ عن جبال، أو حتى تلال، ولكن في الصباح لم يكن هناك سوى حقول شجيرات. وكانت الخالة دودي خارج النافذة تحمل سطل الحليب للعجل الصغير، الذي وضع رأسه في السطل بقوة، حتى إن اللبن انسكب منه، وكانت الخالة دودي تضحك وتوبخه وتضربه، في محاولة لجعله يبطئ، قائلة: «يا لكَ من فتى صغير جشع!»

كانت ترتدي زي حلب الأبقار، وكان يتكون من عدة طبقات وألوان. كان مهلهلًا وواسعًا مثل ملابس المرأة المتسولة في المسرحية التي عرضت في المدرسة، وتعتمر قبعة رجل دون قمتها، لا أدري ما الهدف منها.

لم تجعلني أمي أشكُّ قطُّ في أننا يمكن أن نكون على صلة قرابة بأشخاص يرتدون مثل تلك الملابس أو يطلقون على العجل كلمة فتى، وكانت دائمًا تقول: «أنا لن أسمح بهذه الألفاظ»، ولكن يبدو أنها تسامحت مع الخالة دودي، وقالت إنها تُعتبر في مقام أختها، وإنهما تربَّتا معًا (كانت السكرتيرة القانونية، برنيس، أكبر سنًّا وقد غادرت المنزل فيما مضى). ثم إن أمي كانت تقول إن الخالة دودي عاشت حياة مأساوية.

كان منزل الخالة دودي مجردًا من كل مظاهر الثراء، وكان أفقر بيت رأيته في حياتي. وبعد قطع كل هذه المسافة، أعتقد أن منزلنا كان باهر الأثاث ويتمتع بالفخامة بعد أن كنت أراه دائمًا فقيرًا؛ لأنه بعيد جدًّا خارج المدينة ولم تُتَح لنا المرافق والمياه الجارية، وبالطبع لم تكن لدينا لمسات من الفخامة الحقيقية، مثل الستائر المعدنية، ولكن منزلنا كان يحتوي على الكتب والبيانو وطقم جيد من الأطباق وسجادة واحدة ليست مصنوعة من القماش البالي. في الغرفة الأمامية بمنزل الخالة دودي كان هناك كرسي واحد مكتظ الحشو ورف مجلات مزدحم بالكامل بكمية من الأوراق القديمة من مدرسة الأحد. كانت الخالة دودي تعيش مع أبقارها، وكانت أرضها لا تستحق الزراعة. كل صباح، وبعد أن تنتهي من حلب الأبقار وفصل الألبان، تحمل أسطال اللبن في الجزء الخلفي من الشاحنة الصغيرة، وتقود سبعة أميال حتى مصنع الجبن. وكانت تشعر دائمًا بالخوف من مفتشي الحليب، الذين كان من الممكن أن يقرروا إعلان أن أبقارها تعاني من السل، لا لسبب سوى الحقد، والرغبة في إبعاد المزارعين الفقراء لمصلحة المزارع الكبرى، حيث تقول الخالة دودي إن أصحابها يدفعون لهم الكثير ليفعلوا ذلك.

كانت المأساة الأكبر في حياتها أن أحدهم هجرها، ودأبت على قول: «أتدرون، لقد هجرني أحدهم.» وقالت لنا أمي إننا لا ينبغي بحال من الأحوال أن نأتي على ذكر تلك المسألة أمامها أبدًا. في هذا الوقت كانت الخالة دودي في المطبخ تغسل أطباق الغداء، وكنت معها أقوم بتجفيفها وأختي تضعها في أماكنها بينما كانت أمي ترتاح قليلًا، وكانت الخالة دودي تقول بفخر إن أحدهم هجرها، كما لو أن شخصًا يقول لك: «أتدري؟ إنني أعاني من شلل الأطفال.» أو أحد تلك الأمراض المزمنة. ثم استطردت قائلة:

«لقد خبزوا لي كعكة الزواج، وكنت أرتدي فستان الزفاف.»

«هل كان من الساتان؟»

قالت الخالة دودي: «كلا، كان من صوف المرينوس الأحمر الداكن؛ لأن الزفاف كان في أواخر الخريف. حضر القس وكل شيء كان معدًّا. وأخذ والدي يذهب إلى الطريق للتأكد من قدومه، حتى حل الظلام، وقلت إنه وقت الخروج لحلب الأبقار! ثم خلعت الثوب ولم أرتَدِه قطُّ مرة أخرى، تبرعت به، كان ذلك الموقف سيثير بكاء الكثير من الفتيات، ولكني أنا ضحكت.»

فيما قالت أمي وهي تحكي نفس القصة: «عندما عدت إلى المنزل بعد ذلك بعامين، وكنت أقيم معها، اعتدت على الاستيقاظ على صوت بكائها ليلًا، كل ليلة»:

لقد كنت هناك
أنتظر في الكنيسة،
أنتظر في الكنيسة،
أنتظر في الكنيسة،
وعندما وجدته، تركني وحدي مسكينة،
أوه، لقد غرس في قلبي سكينًا.

هذا ما غنته لنا الخالة دودي، وهي تغسل الأطباق على مائدتها المستديرة المغطاة بمشمع بالٍ. كان مطبخها كبيرًا مثل المنزل، وله باب خلفي وباب أمامي، وكان هواء النسيم دائمًا فيه. وكان لديها مبرد صنعته بنفسها، لم أرَ مثله من قبل، وبه قطعة كبيرة من الثلج تحضرها من مستودع الثلج في عربة طفل من مسافة بعيدة. كان مستودع الثلج نفسه مميز الشكل، وهو عبارة عن مخبأ مسقوف يتم تجميع قطع الجليد فيه من البحيرة في فصل الشتاء للاحتفاظ بها في فصل الصيف في نشارة الخشب.

ثم قالت لنا: «بالطبع لم يكن هذا خطئي، ولا خطأ الكنيسة.»

•••

عبر الحقول وبعد مزرعة الخالة دودي وفي المزرعة التالية لها كان يعيش شقيق أمي، الخال جيمس وزوجته الخالة لينا وأبناؤهما الثمانية. كان ذلك المنزل حيث نشأت وترعرعت أمي. كان منزلًا أكبر وبه أثاث أكثر ولكنه ليس مطليًّا من الخارج، ولونه رمادي داكن، وأثاثه في الغالب عبارة عن أَسرَّة خشبية عالية، مزودة بوسائد من الريش وشبابيك منحوتة داكنة اللون، ووضعوا تحت الأسرَّة قدورًا لا يتم تفريغها كل يوم. زرنا المنزل ولم تأتِ الخالة دودي معنا؛ فقد كانت على خلاف مع الخالة لينا. والخالة لينا لم تكن اجتماعية؛ حيث لا تتحدث كثيرًا إلى أي شخص. وقد حكت لنا أمي والخالة دودي أنها كانت فتاة تبلغ من العمر ستة عشر عامًا، وكانت تعيش في منطقة غير مأهولة حين تزوجت الخال جيمس (وهو ما جعلنا نتساءل: كيف تعرَّف عليها الخال جيمس؟) في هذا الوقت كانا قد تزوجا منذ عشرة أعوام أو اثني عشر عامًا. كانت طويلة القامة ذات جسد نحيل من الأمام والخلف على الرغم من أنها كانت على وشك ولادة طفلها التاسع قبل الكريسماس، وكان وجهها مليئًا بالنمش الداكن وعيناها ملتهبتين قليلًا مثل عيون الحيوانات. وكان لجميع الأطفال نفس هذه العيون بدلًا من عيون الخال جيمس الزرقاء.

قالت الخالة دودي: «عند احتضار أمك سمعتها تقول: لا تلمس هذه المنشفة، استخدم مناشفك الخاصة؛ إذ كانت تعتقد عن جهل أن السرطان يمكن أن ينتقل مثل الحصبة بسبب استخدام الأدوات الشخصية للمريض.»

«لا يمكن أن أسامحها أبدًا.»

«ولم تكن تدع أيًّا من الأطفال يقترب منها. وقد اضطررت للذهاب وتغسيل أمك بنفسي؛ كنت شاهدة على كل شيء.»

«لا يمكن أن أسامحها أبدًا.»

كانت الخالة لينا قاسية طوال الوقت، وأُدرك الآن أن السبب هو الخوف. لم تترك أطفالها يسبحون في البحيرة خوفًا من أن يغرقوا، وكانت تقول إنها لن تسمح لهم بالتزلج في فصل الشتاء خوفًا من أن يتسبب التزحلق في كسر رقابهم، كما أنها لم تسمح لهم حتى بتعلم التزلج خوفًا من كسر أرجلهم أو إصابتهم بالشلل مدى الحياة. كانت تضربهم طوال الوقت خوفًا من أن يصبحوا كسالى أو كذابين عندما يكبرون، أو حمقى يحطمون الأشياء. وبالفعل لم يكونوا كسالى ولكنهم على أي حال كانوا يحطمون الأشياء؛ فقد كانوا دائمي الاندفاع وانتزاع الأشياء من الآخرين، وبالطبع كانوا جميعًا كذابين، وحتى الصغار كانوا يكذبون باستمرار بصورة غريزية؛ فقد كانوا يكذبون حتى عندما لم يكن ذلك ضروريًّا، يكذبون لمجرد الكذب، وربما كان ذلك يشعرهم بالسرور. كانوا دائمًا يقولون الكذب ويخلفون العهد، كانت لديهم أكثر مواهب الساسة قسوة. كانوا يعوون عندما يُضربون، كانت الكرامة تعتبر نوعًا من الرفاهية التي تجاهلوها منذ فترة طويلة، أو لم يفكروا فيها قط. إذا لم تعوِ للخالة لينا عندما تضربك فلن تتوقف أبدًا! فقد كانت ذراعاها قويتين كالرجال، وتعبير وجهها يحمل ضراوة لا قبل لهم بها. ولكن بعد خمس أو ثلاث دقائق، ينسى أبناؤها كل ذلك، ولكن بالنسبة لي يمكن لمثل هذا الإذلال أن يتسبب في حزني لأسابيع أو إلى الأبد.

احتفظ الخال جيمس باللهجة الأيرلندية التي فقدتها أمي وأوشكت الخالة دودي على فقدانها. كان صوته جميلًا عندما ينطق أسماء الأطفال، ماري أو رونالد أو روثي. كان ينطق الأسماء بحنان وارتياح حتى في توبيخه لهم، وكأن الأسماء أو الأطفال أنفسهم عبارة عن نكات تُحكى له. لكنه لم يحاول أن يمنع أمهم من ضربهم قط، أو حتى لم يُبدِ مجرد الاعتراض، كما لو أن الأمر لا يمتُّ له بصلة، كما لو أن الخالة لينا ليست لها صلة به.

قالت الخالة دودي إن أصغر طفل لديهم ينام في سرير الوالدين حتى يحل محله طفل جديد.

ثم استطردت: «اعتاد أن يأتي إليَّ مرارًا لزيارتي، حيث كنا نضحك كثيرًا، وكان يصطحب اثنين أو ثلاثة من الأطفال، لكنه توقف عن ذلك لسبب أعرفه؛ وهو أنهم يَشُون به عند أمهم، ثم توقف هو نفسه عن زيارتي، إنها هي من تفرض القوانين ولكنه يعاقبها بموجب قوانينها، أليس كذلك؟»

•••

لا تحصل الخالة دودي على صحيفة يومية، مكتفية بالصحيفة الأسبوعية التي تنشر في المدينة والتي حصلت عليها عندما أقلَّتنا.

فصاحت قائلة: «الصحيفة بها خبر عن ألِن دوراند.»

تعجبت أمي من ذلك قائلة: «ألِن دوراند، إنه رجل عالي المقام الآن من هولشتاين بألمانيا، وقد تزوج من غربية.»

«ماذا يقول الخبر؟»

«إنه عن حزب المحافظين. أراهن أنه يريد ترشيح نفسه، أراهن على ذلك.»

كانت أمي تجلس على الكرسي الهزاز خالعة حذاءها، وكانت تضحك وظهرها متكئ على عمود الشرفة، وهي تقطع الفاصوليا الصفراء لتعبِّئها.

علَّقت الخالة دودي، قائلة: «أتذكَّر عندما قدَّمنا له عصير الليمون.» ثم التفتت إليَّ لتواصل: «عندما كان مجرد صبي كندي فرنسي، يعمل هنا بضعة أسابيع في فصل الصيف.»

فصححت لها أمي: «اسمه فقط كان فرنسيًّا، لكنه لم يكن يتحدث الفرنسية.»

«لو رأيته الآن ما عرفته؛ فقد غيَّر ملته أيضًا، ويذهب إلى كنيسة سانت جون.»

«لطالما كان يتمتع بالذكاء.»

«بالتأكيد هو كذلك، ولكننا استملناه بعصير الليمون.»

استأنفت الخالة دودي: «هل تتصورين أكثر يوم سخونة في الصيف؟ كنت أبقى أنا وأمك في المنزل ولم نكُن نهتم لذلك كثيرًا، ولكن كان على ألِن أن يذهب إلى مخزن التبن، حيث كانوا يقومون بتخزين التبن. كان والدي يقوم بإحضاره من الحقول وكان ألِن يقوم بنشره حتى يجف، كما كان الخال جيمس يقدم المساعدة أيضًا.»

أكملت أمي: «جيمس كان ينتقي التبن، وكان والدك يقود السيارة ويرفع الأحمال عليها.»

فأردفت الخالة دودي بلهجة المتعاطف: «وكانوا يتركون ألِن في مخزن التبن، وما أدراك كيف يكون مخزن التبن في مثل ذلك اليوم، إنه كالجحيم على الأرض، لذلك كانت فكرة طيبة أن نقدم له بعض عصير الليمون. لقد نسيت أن أخبركم عن بذلة العمل في البداية.»

ثم أضافت: «لقد أحضر ألِن بذلة العمل لأصلحها في الوقت الذي كان فيه الرجال يتناولون العشاء، وكان يرتدي سروالًا قديمًا ثقيلًا، وقميصًا للعمل، كانا بالطبع يشعرانه باحترار شديد، فأعتقد أنه خلع قميصه داخل الحظيرة. لكنه كان يريد بذلة العمل؛ لأنه كما تعلمون سيشعر بالبرودة بسبب سخونة الدورة الدموية بعد خلع الثياب الثقيلة. لقد نسيت ما كان مثبتًا على هذه الملابس، ولكنها كانت أشياء صغيرة وقليلة. لا بد أنه كان يعاني في تلك السراويل القديمة عند ارتدائها، وهو ما اضطره لأن يطلب مني ذلك؛ لأنه كان خجولًا للغاية. كان في … كم كان يبلغ من العمر حينذاك؟»

أجابت أمي: «سبعة عشر عامًا.»

«ونحن الاثنتين كنا في الثامنة عشرة. وكان ذلك قبل ذهابك إلى نورمال بعام واحد. حسنًا، أخذت سرواله وقمت بإصلاحه، وهو شيء بسيط قمت به وأنت تقدمين العشاء لهم. وجلست في زاوية المطبخ إلى جانب ماكينة الخياطة عندما خطرت لي فكرة، هل تتذكرين؟ لقد تظاهرت أنني أناديك لتفردي معي الثياب، وقد رأيتِ ما أفعل، ولم تضحك إحدانا أو تختلس نظرة إلى الأخرى، أتذكرين؟»

«كلا.»

«لأن الفكرة التي خطرت لي هي أن أخيط السحابة!

وبعد وقت العصر بقليل، خرج معهم إلى العمل مرة أخرى، وجاءتنا فكرة عصير الليمون، فأعددنا ملء دلوين. ثم قمنا بإخراج أحدهما للرجال الذين يعملون في الحقل، ناديناهم ووضعنا الدلو تحت شجرة. وأخذنا الآخر وقدمناه له عند مخزن التبن، وقد استخدمنا كل الليمون الذي كان لدينا، ومع ذلك لم يكن العصير ثقيلًا بدرجة كافية، وأذكر أننا اضطررنا لوضع الخل عليه، وأتذكر أنه لم يلاحظ ذلك، فلم أرَ قطُّ أي شخص مثله بهذا القدر من العطش في حياتي، كان يشرب دون أن يحاول التذوق، وكنا نقف ونراقب، ولكن كيف نمنع أنفسنا من الضحك؟»

عقبت أمي: «لم أكن لأعرف لو كنت مكانه.»

واستأنفت الخالة دودي: «ثم أخذنا الدلو وتوجهنا إلى المنزل وانتظرنا حوالي ثانيتين قبل العودة مرة أخرى، واختبأنا في الصومعة، التي كانت مثل الفرن أيضًا، ولا أعرف كيف تحملنا ذلك، ولكننا اعتلينا أكياس الأعلاف ووجدت كلٌّ منا لنفسها فرجة أو ثقبًا أو شيئًا من هذا القبيل لتختلس النظر منه عليهم. كنا نعرف أن الرجال يبولون في زاوية الحظيرة دائمًا ويبولون أسفل المجرفة عندما يكونون في الطابق العلوي. أما في الإسطبل فأعتقد أنهم يبولون في القناة. وبعد قليل بدأ في السير في هذا الاتجاه وترك شوكته وأخذ يمشي متبخترًا، وكان العرق ينهمر على وجوهنا من فرط الحرارة، وكنا نضع أيدينا على فمنا حتى لا تفضحنا ضحكاتنا. أوه، كم كنا قساة عليه! كان الأمر سهلًا بالنسبة له في البداية، أليس كذلك؟ ثم عندما اكتشف الأمر زاد شعوره بالحاجة إلى التبول؛ وأخذ ينظر لأسفل متسائلًا عما يحدث. وسريعًا ما أخذ يجذب بذلته ويحاول نزعها بكل وسيلة ممكنة لتحرير نفسه. ولكنني خيطت السحابة خياطة قوية. وأتساءل متى اكتشف الأمر؟ متى عرف ما حدث؟»

«حقيقة أنا أعتقد أنه لم يكن غبيًّا قط.»

«لم يكن يومًا كذلك، لا بد أنه استنتج المكيدة برمتها، من عصير الليمون وغيره. الشيء الوحيد الذي أعتقد أنه لم يفكر فيه هو أن يتصور إقدامنا على الاختباء في الصومعة، وإلا فما كان ليفعل ما أقدم عليه بعدها.»

قالت أمي بحزم: «نعم ما كان ليفعل ذلك؟»

«لا أدري، لعله تجاوز مرحلة الاهتمام بالتصرف اللائق، أليس كذلك؟ لقد تجاوز هذه المرحلة وما حدث أنه مزق بذلته تمامًا، وتمكنَّا نحن من رؤية كل ذلك.»

«كان ظهره في اتجاهنا.»

«كلا، بل كان يقف قبالتنا، وعندما تبول رأينا كل شيء، ثم أولانا جانبه.»

«أنا لا أتذكر ذلك.»

«حسنًا، أنا أتذكر. فأنا لم أرَ الكثير من هذه المشاهد؛ لذلك لا أستطيع أن أنسى.»

صاحت أمي مستهجنة: «دودي!» ولكن يبدو أن أوان التحذير قد فات (فقد كانت أمي دائمًا تقول أنا لا أحب الاستماع إلى هذه الأحاديث).

«أوه! أنت لم تهربي، أليس كذلك؟ ألم تبقي عينك في الفرجة التي كنا ننظر منها؟»

نظرت أمي لي وللخالة دودي مع تعبير غير عادي على وجهها ينم عن العجز. لا أعتقد أنها ضحكت، ولكن بدا الأمر كما لو أنها قد استسلمت.

البداية بطيئة للغاية، وغالبًا ما تمر سنوات قبل أن يعلم المريض أو عائلته أنه أصبح من المعاقين. يظهر أنه يعاني من تصلب بالجسم يزيد ببطء، وتصاحبه ارتجافات بالرأس والأطراف. قد يكون هناك العديد من الأعراض مثل الارتعاش وتشنجات العضلات وحركات لاإرادية أخرى، كذلك فإن زيادة إفراز اللعاب والترويل من الأمور الشائعة عند الإصابة. علميًّا هذا المرض معروف باسم الشلل الرعاش، ويسمى أيضًا داء باركنسون. الشلل الرعاش يؤثر أولًا على ذراع أو ساق واحدة، ثم ينتقل إلى الطرف الثاني على نفس الجانب، وفي النهاية ينتقل إلى الأطراف بالجانب الآخر. ويبدأ الوجه في فقدان التعبيرات المعتادة ويتغير ببطء أو لا يتغير مطلقًا مع المرور بمختلف الحالات المزاجية. وهذا المرض عادة ما يصيب المسنين، في الغالب يكون الأشخاص في الستينيات والسبعينيات هم الأكثر عرضة له، ولم يتمَّ تسجيل حالات شفاء منه. ولكن تتوفر الأدوية التي تستخدم للسيطرة على الارتعاش وفرط اللعاب، وذلك مع أن فوائد هذه الأدوية لا تزال محدودة. [فيشباين، الموسوعة الطبية].

كانت أمي ستبلغ خلال ذلك الصيف واحدًا وأربعين أو اثنين وأربعين عامًا، وهو ما يقارب سنِّي حاليًّا.

كان ساعدها الأيمن فقط هو المصاب بالرعشة، ثم بدأت اليد بالاهتزاز أكثر من الذراع، وكان الإبهام لا يتوقف عن الاهتزاز. وعلى أي حال؛ فقد تمكنت من إخفاء أصابعها ومنع ذراعها من الارتجاف بتثبيتها بقوة إلى جسدها.

•••

شرب الخال جيمس شراب البورتر بعد العشاء، وسمح لي أن أذوقه، كان جعة داكنة اللون ومُرة. وكان هنا تناقض جديد. كانت أمي قد أخبرتنا قائلة: «قبل أن أتزوج أباكم طلبت من خالكم أن يعدني ألا يشرب مجددًا، وقد التزم بوعده بالفعل.» لكن الخال جيمس كان يشرب دون اعتذار.

ليلة السبت ذهبنا جميعًا إلى المدينة. ذهبت والدتي وأختي في سيارة الخالة دودي، وركبت أنا مع الخال جيمس والخالة لينا والأطفال. راح الأطفال يشكون مني، كنت أكبر بقليل من أكبرهم، وقد عاملوني كما لو كنت غنيمة، شخصًا يتنافسون من أجل كسب وده. وهكذا كنت في سيارتهم مربعة السقف مثل سيارة الخالة دودي. كنا في طريق العودة إلى البيت، وقد فتحنا النوافذ للحصول على الهواء المنعش، وبشكل غير متوقع بدأ الخال جيمس في الغناء.

كان صوته عذبًا بالطبع، عذبًا لكنَّه حزين، شجي. أستطيع أن أتذكر جيدًا لحن الأغنية التي كان يغنيها، وصوته يخرج من النوافذ السوداء، ولكني أستطيع أن أتذكر بضع كلمات من الأغنية، هنا وهناك، وذلك مع أنني كثيرًا ما حاولت أن أتذكر أكثر من ذلك؛ لأنني أحب الأغنية كثيرًا. فلا أتذكر سوى:

كنت أعتلي جبل كيليكيني …

أعتقد أن الأغنية كانت تبدأ بهذه الكلمات.

ثم تتناول كلمات مسجوعة وتتحدث عن اغتنام بعض البهجة من أشياء مختلفة، وأخيرًا المقطع الشعري الشجي:

ولكني أغتنم بهجتي من الخمر …

خيم الصمت على السيارة والخال جيمس يغني، وكان الأطفال لا يتشاجرون وإنما يهتزون مع حركة العربة، وبعضهم راح في النوم. كانت الخالة لينا تضع أصغرهم على رجليها، وكانت السيارة تسير على طريق كما لو أنها ستمضي في طريق لا ينتهي في ليلة مظلمة تمامًا مع أضواء ضعيفة على جانب الطريق. وكانت هناك أرانب تسير على الطريق وتتقافز أمامنا، ولكن لم يلحظ أحدٌ ذلك، ولم يقاطع أحدٌ الغناء والحزن الذي يتصبب منه.

ولكني أغتنم بهجتي من الخمر …

وصلنا إلى الكنيسة في وقت مبكر، بحيث تمكنا من أن نزور القبور. كانت سانت جون كنيسة مبنية بالخشب ومطلية باللون الأبيض على الطريق السريع والمقابر خلفها. توقفنا أمام شاهدي قبور كان مكتوبًا على أحدهما «الأم» والآخر «الأب»، وتحتهما بأحرف أصغر بكثير أسماء وتواريخ ميلاد ووفاة جدي وجدتي لوالدتي. كانا شاهدين صغيرين وليسا كبيرين، مثل حجارة الرصف المستخدمة لإحاطة العشب المجزوز. ذهبت باتجاه آخر لأرى أمورًا أكثر إثارة للاهتمام مثل رسوم الجرار والملائكة والكفوف المرفوعة بالدعاء.

وبعد ذلك بقليل وصلت أمي والخالة دودي.

علقت الخالة دودي وهي تلوح قائلة: «من الذي يحتاج كل هذه التفاهات؟»

وكانت أختي التي لا تزال تتعلم القراءة تحاول قراءة النقوش:
حتى طلوع الشمس.
لم يكن ميتًا بل راقدًا.
في سلام.

تساءلت أختي عن اللغة المكتوبة بها النقوش.

كانت الكتابة باللاتينية، هذا ما أكدته أمي.

وقالت الخالة دودي: «هناك الكثير من الناس يضعون هذه الأحجار وكل ذلك أمور مظهرية ولا يزالون يدفعون مقابلها حتى الآن. وبعضهم لا يزال يحاول الدفع مقابل المقبرة نفسها ولم يبدءوا في تجهيز الحجارة حتى الآن، انظروا إلى هذا على سبيل المثال.» وأشارت إلى حجر كبير من الجرانيت الأزرق الداكن على شكل مكعب مائل متزن على إحدى زواياه وكان عليه بقع بيضاء.

قالت أمي وهي مشدوهة: «كم هو متطور وحديث.»

«إنه شاهد قبر ديف ماكول. انظروا إلى حجمه! وأنا أعرف يقينًا أنهم قالوا لزوجته إن لم تسرع بالدفع مقابل المقبرة فسينبشون القبر ويلقون به على الطريق السريع.»

تساءلت أمي: «هل هو مسيحي؟»

«بعض الناس لا يستحقون المسيحية.»

شعرت بشيء ما ينزلق عن خصري وأدركت أن مطاط ملابسي الداخلية قد تمزق، إلا أنني وضعت يدي على جانبي قبل أن تسقط — إذ لم يكن لديَّ أرداف يمكنها حمل أي شيء — وقلت لأمي في همسة غاضبة: «كان يجب أن أستخدم دبوسًا.»

قالت أمي بصوتها الطبيعي أو بطبقة أعلى منه قليلًا: «لماذا تريدين دبوسًا؟» عادة لا يمكن الاعتماد على أمي في مثل هذه الظروف.

لم أُجِب، ولكني نظرت في وجهها في استعطاف امتزج بالتهديد.

ضحكت الخالة دودي وقالت: «أراهن أن ملابسها الداخلية على وشك السقوط.»

فردت أمي ولم تخفض صوتها: «هل الأمر كذلك بالفعل؟»

«نعم.»

قالت أمي: «حسنًا اخلعيها.»

فقالت الخالة دودي بصرامة: «ليس هنا، فهناك مرحاض للسيدات، خلف كنيسة سانت جون كان هناك مرحاضان خشبيان، كمراحيض المدارس.»

قلت لأمي: «إذا خلعتها فلن يكون هناك أي ملابس على جسدي.» كنت أشعر بالخزي؛ إذ لم أتصور أن أمشي في الكنيسة في ثوب علوي أزرق بدون ملابس داخلية، وأن أقف لأغني الترنيمات ثم أجلس، كل هذا وأنا دون ملابس داخلية، وأن أجلس على مقاعد الكنيسة الباردة دون ملابس داخلية.

كانت الخالة دودي تبحث في حقيبتها وتقول: «أتمنى لو كان لديَّ دبوس لكني لم أعثر على شيء. يمكنك أن تسرعي لخلعها ولن يدري أحدٌ بما جرى. يا لك من محظوظة! فليس هناك رياح.»

بيد أنني لم أتحرك من مكاني.

فقالت أمي بكثير من الشكوك: «حسنًا لديَّ دبوس واحد، ولكن لا أستطيع إخراجه؛ فقد تمزق حزام ردائي الداخلي هذا الصباح عندما كنت ارتدي ملابسي؛ ولذلك وضعت دبوسًا لأثبته؛ ولذلك لا يمكنني فكه.»

كانت أمي ترتدي ثوبًا رماديًّا منقوشًا بالزهور الصغيرة التي بدت كما لو أنها مطرزة عليه، وتحته رداء داخلي رمادي؛ لأن الثوب كان شفافًا يمكن أن تُرى من خلاله. كانت تعتمر قبعة ذات لون وردي كئيب مطابق للون بعض الزهور التي تلون بها الفستان، وكانت تلبس قفازات عليها نفس الزهور تقريبًا، وتنتعل حذاءً أبيض يكشف عن أصابع قدميها. كانت غالبًا ترتدي كل ذلك خصوصًا عندما تكون في كنيسة سانت جون. وكانت تتصور أنه سيكون صباحًا مشمسًا، مع صوت رنين الأجراس، تمامًا كما يحدث الآن. بالطبع كانت تخطط لذلك وتتصوره تمامًا، كما أخطط وأتصور في بعض الأحيان ما سوف أرتديه عندما أذهب إلى حفلة.

أردفت أمي: «لا أستطيع خلع الدبوس وإلا فسوف ينزلق ردائي الداخلي.»

ردت الخالة دودي: «الناس يتوافدون!»

«إما أن تذهبي إلى المرحاض وتخلعيه أو تذهبي وتجلسي في السيارة.»

اتجهت إلى السيارة، وكنت في منتصف الطريق إلى بوابة المقبرة عندما نادتني أمي، وقادتني إلى مرحاض السيدات، ودون أن تنطق بكلمة واحدة وضعت يدها داخل جيب ملابسها وأخرجت دبوسًا. أدرت ظهري ولم أقُل شكرًا؛ لأنني كنت غارقة في شعوري بسوء حظي ومتأكدة أن ما تفعله هو من حقي، وقامت بربط خاصرة ملابسي الداخلية. ثم قادتني أمي بعيدًا عن طريق المرحاض وحول جانب الكنيسة. كنا قد تأخرنا والجميع قد دلفوا. كان علينا أن ننتظر، فيما راحت الجوقة بقيادة القس يسيرون بالممر في وقع المراسم الدينية.

كل شيء مشرق وجميل،
جميع المخلوقات الكبير منها والصغير،
كل الأشياء الحكيمة والرائعة،
كلها جميعًا من صنع القدير.

عندما أخذ أفراد الجوقة أماكنهم واستدار القس لمواجهة الحضور، اتجهت أمي بجرأة وانضمت للخالة دودي وأختي على مقعد بالمقدمة، تمكنت من رؤية ثوبها الداخلي الرمادي وقد انزلق إلى أسفل نصف بوصة، وكان يظهر في جانب واحد بشكل غير أنيق.

بعد انتهاء العظة استدارت أمي وهي جالسة في المقعد لتتحدث إلى الناس الذين أرادوا معرفة اسمي واسم أختي ثم قالوا لأمي: «إنها تشبهك كثيرًا.» «ربما تلك الفتاة تشبهك أكثر منها.» «أرى أمك متى نظرت إلى هذه الفتاة.» وسألوها عن عمرنا وفي أي صف دراسي وإن كانت أختي تذهب إلى المدرسة، وسألوا أختي متى ستذهبين إلى المدرسة؟ فأجابت: «لن أذهب.» وهو ما جعل الجميع يضحك مرات عديدة (أختي كثيرًا ما تجعل الناس يضحكون دون قصد؛ فهي دائمًا ما تُشعر الجميع أنها تعاني من سوء الفهم، ولكن ما جعلها تعتقد هذه المرة أنها لن تذهب إلى المدرسة هو أن المدرسة الابتدائية القريبة من مكان سكننا يجري هدمها، ولم يخبرها أحدٌ أنها ستذهب إلى مدرسة المدينة على متن حافلة).

وقال اثنان أو ثلاثة أشخاص لي: «خمني من علَّمنا عندما ذهبنا إلى المدرسة؟ إنها أمك.»

وقال رجل آخر: «إنها لم تعلمني الكثير، ولكنها كانت أكثر مدرسة أنيقة رأيتها في حياتي.» وكانت تفوح منه رائحة العرق لدرجة أنها لم تُرِد مصافحته.

•••

«هل ظهر ردائي الداخلي؟»

«كيف ذلك؟ فقد كنتِ تجلسين على المقعد.»

«عندما كنت أسير في الممر، شعرت بذلك.»

«لم يَرَ أحدٌ شيئًا، الجميع كانوا منشغلين في الترانيم.»

«مع ذلك، يمكن أن يلاحظوا شيئًا.»

«شيءٌ واحد فقط يدهشني، لماذا لم يأتِ ألِن ليسلم علينا؟»

«هل كان هناك؟»

«ألم ترَيْه، كان يجلس على المقعد الغربي تحت النافذة التي تم وضعها من أجل الأب والأم.»

«لم أَرَه، هل كانت زوجته معه؟»

«نعم، لا بد أنكِ رأيتِها، كانت ملابسها بالكامل زرقاء وتعتمر قبعة مثل عجلة العربات التي تجرها الدواب، لقد كانت أنيقة جدًّا، ولكن لا يمكن مقارنتها بكِ اليوم.»

كانت الخالة دودي نفسها تعتمر قبعة زرقاء داكنة مصنوعة من القش مع بعض الزهور من القماش، وترتدي فستانًا مزررًا من الحرير الصناعي.

«ربما لم يعرفني، أو لم يرني.»

«كيف لم يركِ؟»

«حسنًا.»

«لقد بدا حسن المظهر يصلح لأعمال السياسة، كما أن طوله مناسب لذلك، فقليلًا ما نرى رجلًا قصيرًا يتم انتخابه لشئون السياسة.»

«ولكن ماذا عن ماكنزي كينج؟»

«أنا أقصد الانتخاب عندنا هنا، فنحن لم ننتخبه هنا.»

•••

«أصيبت أمك بسكتة دماغية خفيفة، وهي تنفي ذلك، ولكني رأيت الكثير جدًّا مثل حالتها.

لقد أصيبت بسكتة خفيفة، وفي يوم من الأيام ستصاب بسكتة تودي بحياتها، ومن ثم عليكِ أن تتعلمي أن تكوني أمًّا حينها.

مثلي، لما بدأ مرض أمي وأنا في العاشرة من عمري. لقد توفيت عندما كان عمري نحو خمسة عشر عامًا، ما بين ذلك عشت معها وقتًا عصيبًا! وكان جسدها كله متورمًا، كانت تعاني حالة استسقاء، حتى جاءوا ذات مرة وأخرجوها منها بكميات رهيبة.»

«ما الذي أخرجوه منها؟»

«السوائل.»

جلست في كرسيها حتى أصبحت غير قادرة على الجلوس أكثر من ذلك، وكان عليها أن تأوي إلى السرير. كان عليها أن ترقد طوال الوقت على جانبها الأيمن لتبعد ضغط السائل عن قلبها. يا لها من حياة! وظهرت بعد ذلك تقرحات الفراش. كانت تعيش في بؤس، حتى جاء يوم قالت لي فيه: دودي من فضلك ساعديني على الاستدارة إلى الجانب الآخر لبعض الوقت. كانت تحاول الاستراحة قليلًا، توسلت إليَّ، فقمت باحتضانها وأدرتها إلى الجانب الآخر. كانت ثقيلة الوزن، أدرتها إلى جانب القلب، وبعد ذلك بدقيقة ماتت.

«لماذا تبكين الآن؟ أنا لم أكُن أقصد قطُّ أن أحزنك! حسنًا أراكِ الآن طفلة كبيرة، ولا يشق عليكِ الاستماع لصروف الحياة.»

ضحكت الخالة دودي في وجهي لكي تخفف عني، ولأن وجهها كان أسمر نحيفًا كانت عيناها كبيرتين وحمراوين. كانت ترتدي وشاحًا حول رأسها في هذا اليوم، وكانت تبدو أشبه بامرأة غجرية، كانت تنظر في وجهي بخبث ولطف، بنظرة تهدد بالإفصاح عن المزيد من الأسرار ما لم أتمكن من تحمل ما تقوله.

•••

قلت وأنا متجهمة: «هل أصبتِ بسكتة دماغية؟»

«ماذا؟»

«قالت الخالة دودي إنك أصبتِ بسكتة دماغية.»

«لم يحدث ذلك، قلت لها ذلك، وقال الطبيب ذلك، ولكنها تعتقد أنها تعلم كل شيء، إنها تعتقد أنها تعرف أكثر من الطبيب.»

«هل ستصابين بسكتة دماغية؟»

ردت بهدوء: «كلا؛ أعاني من انخفاض ضغط الدم، وهذا هو عكس ما يؤدي إلى السكتات الدماغية.»

قلت لها: «إذن، أنت لن تمرضي أبدًا؟» شعرت بالارتياح كثيرًا؛ لأنها لا تعاني أعراض السكتات الدماغية، وهو ما يعني أنني يجب ألا أتعلم كيف أكون أمًّا، أغسل وأمسح وأطعمها وهي ترقد على السرير، مثلما كان على الخالة دودي أن تفعل مع أمها. لقد شعرت بالارتياح؛ لأنها فسرت لي الأمر وأقنعتني. وطوال فترة حياتها، وخلال كل التغيرات التي حدثت لها، وحتى بعد أن تلقيت تفسيرات طبية عن حالتها، كنت أشعر بداخلي أنها لا تشعر بالراحة، وكانت تفعل ذلك لغرض في نفسها، كنوع من الانتقام ولم يستطِع أحدٌ أن يفهم ذلك.

لم تردَّ عليَّ، ولكنها سارت قدمًا، كنا في طريقنا من منزل الخالة دودي إلى منزل الخال جيمس، كنا نتخذ مدقًّا يخترق مرعى الأبقار المحدب مما جعل الرحلة أقصر من اتخاذ الطريق.

تابعت بتهور وعناد: «هل ستتوقف ذراعك عن الاهتزاز؟»

ثم طلبت منها أن تستدير وتعدني بما أردت سماعه.

لكنها لم تفعل، وللمرة الأولى تجاوزتني مبتعدة، ومضت كما لو أنها لم تسمعني، وأخذت تسير أمامي وهيئتها المألوفة تتحول إلى هيئة غريبة. كانت تبتعد، وكل ما حدث في الواقع أنها استمرت في المشي في الطريق الذي اعتادت قطعه مع الخالة دودي عندما كانتا فتاتين ذهابًا وإيابًا. كان لا يزال موجودًا.

•••

ذات ليلة جلست أمي والخالة دودي في الشرفة وتغنتا بالشعر. ولكني نسيت كيف بدأ هذا، أظن إحداهما بدأت في تذكر مقطع شعري، ربما، والأخرى فعلت مثلها تمامًا. الخال جيمس كان يتكئ على الدرابزين، وكان يدخن. ولأننا كنا في زيارة، سمح لنفسه أن يأتي ليرانا.

غنت الخالة دودي بفرح:

كيف يمكن لرجل أن يموت ميتة أكرم
من أن يموت وهو يواجه الخوف
ورماد آبائه ومعابد الآلهة؟

وردت أمي:

طوال اليوم ضجيج المعركة يتصاعد.
يصدح بين الجبال إلى جانب بحر الشتاء.
لا دعوة لجنازة ولا احتفاء،
في الوقت الذي أسرعنا بالجثة للمقابر …
قطعنا شوطًا طويلًا
حتى وادي جزيرة أفلون
ولم يسقط المطر أو البرد أو أي ثلج …

كان صوت أمي يرتجف في تحرج، لذلك كنت سعيدة عندما قاطعتها الخالة دودي قائلة:

«يا للسماء! ألم تكن كلها حزينة، تلك السطور التي كانوا يحشون بها كتاب المطالعة؟»

قال الخال جيمس: «أنا لا أتذكر شيئًا من ذلك باستثناء» ثم تلا دون انقطاع:

على طول التلال التي يحيط بها الضباب
كانت الغابة القرمزية
وطوال اليوم يغني طائر أبو زريق
عبر أشجار الخريف.

ردت الخالة دودي: «بديع!» وانضمت لهما أمي، كانوا ينشدون كل ذلك معًا، ويضحك كلٌّ منهم على الآخرين:

تحلق فوق البرك وسط السديم،
أو تمضي فوق مصب النهر،
طوال يوم الخريف الطويل
إنها الطيور المهاجرة إلى الجنوب.

قالت الخالة دودي: «حتى عندما نفكر في الكلمات، نجد نغمًا شجيًّا حزينًا.»

•••

إن كنت سأؤلف قصة جيدة من كل هذا، فسأنهيها بأن أمي لم تردَّ عليَّ ومضت قدمًا عبر المرعى. ستكون نهاية تفي بالغرض. ولكني لم أتوقف عند هذه النهاية على ما أظن؛ لأنني أردت أن أعرف أكثر، وأتذكر أكثر من ذلك. أردت أن أتذكر كل ما يمكن تذكره. الآن أنظر إلى كل ما أقدمت عليه ليبدو لي مثل سلسلة من اللقطات، مثل اللقطات الضاربة إلى اللون البني التي كانت تلتقطها كاميرا والدي القديمة. في هذه اللقطات تظهر الخالة دودي والخال جيمس، بل والخالة لينا، وحتى أولادها، يظهرون في وضوح شديد (كل هؤلاء في عداد الأموات الآن باستثناء الأطفال الذين كبروا وأصبحوا يعملون حاليًّا في وظائف مرموقة، ولا يوجد بينهم — حسب علمي — مجرم أو متعاطٍ للمخدرات). المشكلة — والمشكلة الوحيدة — هي أمي؛ فهي بالطبع الوحيدة التي أحاول تذكرها طوال هذه الرحلة كلها. ولكن ما الغرض؟ كي أخلدها، كي أصفها، كي أحتفي بها، ثم كي أنساها، ولكن ذلك لم يُجدِ نفعًا، إنها تلوح قريبة جدًّا مني، تمامًا كما كانت تفعل دائمًا. تحضرني بقوة دائمًا، وتلقي بظلالها على أي شيء آخر. وحتى على الرغم من أنها بعيدة الآن، فهي أقرب لي من أي وقتٍ مضى. يمكنني أن أسترسل وأستخدم المهارات والحيل التي أملكها، ولكن ستكون النهاية نفسها دائمًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤