المشي على الماء

لا تزال هذه البقعة من البلدة مأهولة بالكثير من كبار السن، بالرغم من انتقال العديد منهم إلى البنايات الشاهقة على الجانب الآخر من المنتزه. وكان لدى السيد لوهيد عدد من الأصدقاء، أو إن شئنا الدقة، عدد من المعارف الذين كان يقابلهم يوميًّا أو نحوًا من ذلك في طريقه إلى وسط البلدة أو عند محطة الحافلات أو على كورنيش البحر. في بعض الأحيان كان يلعب معهم الورق في غرفهم أو شققهم. كان عضوًا في نادي البولينج وفي نادٍ كان يجلب أفلام الرحلات ويعرضها في قاعة بوسط البلدة خلال فصل الشتاء. وقد انضم لهذه الأندية ليس رغبة منه في الانفتاح الاجتماعي بقدر ما كان إجراءً احترازيًّا للتغلب على ميوله الطبيعية التي ظن أنها ربما تقوده إلى العزلة المفضية إلى نوع من الرهبنة. إبان سنوات عمله في الصيدلية تعلم كيف يجتاز كل أنواع المحادثات مع كل أنواع البشر، والمرور عبرها بدماثة خلق مع احتفاظه بأفكاره الخاصة لنفسه. وفعل الشيء نفسه مع زوجته. وكان هدفه من ذلك أن يعطي الناس ما يعتقدون أنهم يريدونه، فيما يحافظ هو على عزلته دون أن يقضَّ أحدهم عليه مضجعه. وباستثناء زوجته، لم يشك إلا قليل من الناس فيما كان يضمره. أما الآن وبعد أن كان غير مضطر لأن يعطي أي شخص أي شيء، بالطريقة اليومية العادية؛ فقد وضع نفسه في موقف يجعله مضطرًّا إلى ذلك من حين لآخر؛ إذ كان يؤمن بطريقة أو أخرى أن هذا خير له لا محالة. فلو تُرك الخيار بيده، من ذا الذي سيتحدث إليه؟ لن يكون أمامه سوى يوجين. وهذا من شأنه أن يمثل مصدر إزعاج ليوجين.

على كورنيش البحر سمع السيد لوهيد للمرة الأولى عما يطرحه يوجين.

«يقول إن بمقدوره المشي على الماء.»

كان السيد لوهيد متأكدًا أن يوجين لم يَقُل شيئًا كهذا.

«إنه يرى أن الأمر مرتبط كليةً بطريقة تفكيرك في وزن جسمك، وما من شيء لا يمكنك التحكم فيه إذا عزمت على ذلك. هذا ما يقوله.»

كان هذا الحديث يدور بين السيد كليفورد والسيد موري الجالسَيْن على المقعد الحجري يلتقطان أنفاسهما.

«العقل فوق المادة.»

وجَّها الدعوة للسيد لوهيد للجلوس معهما، لكنه بقي واقفًا. كان طويلًا ورفيعًا، وإذا حافظ على وتيرة معقولة من سرعة الحديث لا تنقطع أنفاسه.

قال لهما: «يتحدث يوجين كثيرًا عن هذا الشيء، ولكنه من باب التفكر وحسب.» لم يهتم لرأيهما في يوجين بالرغم من معرفته بأنه مبرَّر في جزء منه. واستطرد: «إنه ذكي جدًّا. إنه ليس معتوهًا أخرق.»

«سيتعين علينا أن ننتظر إثباتًا لتحديد قرارنا حيال ذلك.»

«واحد منا معتوه أخرق إما أنا أو هو، وإلا فهو يسوع المسيح.»

قال لوهيد بحذر وبنبرة متوجسة: «أي إثبات تنتظران؟»

«إنه ذاهب لإثبات المشي على الماء قبالة رصيف روس بوينت.»

قال السيد لوهيد إنه واثق من أن يوجين كان يمزح، ولكن السيد كليفورد والسيد موري أكدا له أنها ليست مزحة، بل مسألة جدية (السيد كليفورد والسيد موري كانا يضحكان قليلًا ويهزان رأسيهما بمرح وهما يقولان إنها مسألة جدية، بينما كان السيد لوهيد مقطَّب الجبين ومتحفظًا وهو يقول إنها مزحة). كانوا في يوم الجمعة، والوقت المحدد صبيحة يوم الأحد، في تمام الساعة العاشرة حتى يتمكن بعض الناس من الذهاب إلى الكنيسة بعد انتهاء عرض المشي بالنجاح أو الفشل. ولكن، وكما شكَّ السيد لوهيد، فلا السيد كليفورد ولا السيد موري قد سمعا فعلًا بتلك الترتيبات التي يجري إعدادها، وإنما سمعا بها من شخص آخر؛ لقد سمع السيد موري عنها وهو يلعب الورق مع الأصدقاء، أما السيد كليفورد فسمع عنها في غرفة القراءة البريطانية الإسرائيلية.

«الجميع يروِّجون للأمر في كل مكان.»

قال السيد لوهيد باقتضاب: «حسنًا، ولعل حديثهم عن الأمر سيتوقف أيضًا عندئذٍ؛ لأن يوجين ليس بأحمق، أو على أي حال ليس بتلك الحماقة.» ثم استأنف المشي، وعاد إلى المنزل عبر طريق مختصر غير الذي اعتاد أن يسلكه.

•••

طرق السيد لوهيد باب يوجين الذي كان في الجهة المقابلة من بابه عبر الردهة، فردَّ يوجين بصوت خفيض وإن حمل نبرة تحذيرية: «ادخل.»

فتح السيد لوهيد الباب، فلفحت وجهه رياح باردة قادمة من المحيط مباشرة إلى نافذة يوجين التي كانت مفتوحة تمامًا.

كان يوجين أمام النافذة، جالسًا على الأرضية الجرداء، عاقدًا ساقيه بطريقة تبدو غير طبيعية، قال بعد ذلك إنها طبيعية تمامًا بالنسبة له. لم يكن يرتدي سوى بنطلون من الجينز. تأمل السيد لوهيد نحول الجزء العلوي من جسم هذا الشاب ورقَّته. أي عمل يمكنه القيام به؟ وكم رطلًا يمكنه رفعه؟ يمكنه فعل كل تلك الحركات والالتواءات، وثني ومد جسمه في أشد الأوضاع إيلامًا، تلك الأوضاع التي كان يدَّعي أنها ممتعة، بالطبع. كان يفخر بذلك.

قال يوجين: «اجلس، فأنا في سبيلي إلى الخروج.»

قصد أنه في سبيله إلى الخروج من حالة التأمل التي ينهي بها تمارينه. في بعض الأحيان كان يجلس ويتأمل دون أن يكلف نفسه عناء غلق بابه. وحينما يمر أمامه السيد لوهيد، دائمًا ما كان يحوِّل عينيه بعيدًا حتى لا يرى التعبير المرتسم على وجه يوجين. سابح في عالم آخر! هل تلك هي الحالة التي يفترض أن يكون عليها؟ كان يبدو مشدوهًا ومروَّعًا في قرارة نفسه كما لو كان يشاهد شخصًا يمارس الحب.

وقد حدث هذا أيضًا.

ففي الطابق السفلي بالمنزل كان يعيش ثلاثة شبان، أسماؤهم: كالا وريكس وروفر. كان من الواضح أن اسم روفر قد أُطلق على سبيل المزاح على فتى نحيل وعليل الجسم في الثانية عشرة من عمره، وإن كان في بعض الأيام يبدو بوجه كهل في الخمسين من عمره. رآه السيد لوهيد نائمًا على سجاد الصالة، ككلب. لكن ريكس وكالا كانا اسمين غريبين أيضًا، يطلقان في العادة على حيوان وزهرة؛ فهل يُعقل أن يسميهم آباؤهم تلك الأسماء؟ فوجئ السيد لوهيد بوصولهم هنا دون آباء، دون أي خبرة بالمقاعد المرتفعة أو الدراجات ثلاثية العجلات أو العربات؛ بدوا وكأنهم نبتوا فجأة من جوف الأرض، ولا شك أن هذا كان ظنهم بأنفسهم.

ذات يوم، دخل البيت فوجد باب شقة الدور السفلي مفتوحًا، ويبدو أن أحدهم قد خرج منه مهرولًا للتو. وفي مؤخرة الردهة — في مكان مكشوف منها وليس تحت السلم — وجد خيال شخصين متشابكين معًا. كانا ريكس وكالا. كانت الفتاة ترتدي تنورة طويلة كالعادة وبدت راقدة على أربع وهي تصرخ وتقاوم وكأنها دُفعت دفعًا. كانت التنورة ملقاة لأعلى على وجهها، لتجعلها شبه مقيدة ومكتوفة بملابسها. لم يَرَ السيد لوهيد أكثر من جزء صغير من مؤخرة الفتاة البضة التي سرعان ما كان جسم الفتى الذي يعتليها يغطيه. ولعل ملاحظته لوجود السيد لوهيد هو ما تسبب في أن تندَّ عنه آهة — تنمُّ عن المتعة الممزوجة بالدهشة — والوقوع إلى الأمام بحيث انبطح هو والفتاة أرضًا وقد انفضَّ اتصالهما في الوقت الحاضر؛ بيد أنهما راحا يضحكان معًا بطريقة بدت للسيد لوهيد ليست خالية من الحياء وحسب، بل ومشبعة بالسخرية أيضًا. كان من الواضح أنه الطرف الذي تُوجَّه له السخرية؛ نظرًا لأنه شهد جماعهما وصُدم لرؤيته.

تمنى السيد لوهيد أن يخبرهما أنه لم يُصدم بذلك؛ فعندما كان صبيًّا يرتاد مدرسة كان يُطلق عليها «ستون سكول» بجادة فيفث لاين في كيلوب تاونشيب، كان واحدًا من جمهور المتفرجين الذين يدفعون أموالًا من أجل مشاهدة عرض أحد فتية آل بروير وأخته الصغرى. كان ذلك العرض يقام في مدخل مرحاض البنين، ذلك المكان الكريه. لم يكن الأمر محض محاكاة، وما من أحدٍ كان بحاجة إلى الاعتقاد بأنهما اخترعا هذا العمل.

ولكن إن لم يكن مصدومًا، فبِمَ كان يشعر إذن؟ كان قلبه يخفق بشدة، وشعر بالدماء تحتقن بشدة في رأسه، مما اضطره إلى الجلوس في غرفته. أخذت ضحكاتهما تتناهى إلى مسامعه بعض الوقت. تخيل أعضاءهما المشعرة يحتك أحدها بالآخر بقوة تؤدي لتورمها مع صدور أصوات بفعل احتكاك جسميهما، تنتهي بالضحك. كالحيوانات. كلا، تراجع عن تلك الفكرة؛ فالحيوانات تمارس حياتها الجنسية بوقار ودون محاولة جذب الانتباه. قال ليوجين إن ما يعترض عليه في هذا الجيل هو أنهم لا يستطيعون فعل شيء دون استعراض؛ لا يستطيعون زرع جزرة دون أن يهنئوا أنفسهم عليها.

على سبيل المثال، كان هناك متجر صغير في الطريق إلى وسط البلدة اعتاد زيارته؛ لأنه أحب منظر السلال المتراصة على طول الرصيف، مليئة بالخضراوات الممتلئة مع قليل من الطين الذي لا يزال عالقًا بها. ذكَّرته هذه الخضراوات بتلك التي كان يراها في المحلات عندما كان طفلًا، وفي قبو بيته. ولكن الشباب في المحل، بشعرهم الطويل الأشعث وعُصابات رءوسهم الهندية وأزيائهم المكونة من أردية مخططة وملابس تحتانية مثقوبة (هل كان ذلك سوى زي؟ ما من فلاح في كامل قواه العقلية، مهما كان فقره، يرضى أن يلبس شيئًا كهذا في المدينة)، ومناقشاتهم الساخنة حول أعمال البستنة والطعام؛ كل ذلك أزعجه كثيرًا، حتى إنه قرر الكفَّ عن الذهاب إليه. كانوا فخورين أكثر من اللازم بأنفسهم. ليسوا هم أول من خبز الخبز أو أول من زرع اللفت. كان الأمر مصطنعًا، بطريقة أو أخرى كان مصطنعًا على نحو يفوق محلات السوبر ماركت.

قال يوجين بعقلانية: «أعتقد أنهم مملون أكثر من كونهم مصطنعين. مثل المسيحيين الأوائل، فبالتأكيد كانوا مملين.»

«لن يستمروا طويلًا، ولسوف يئول عملهم في المنتجات الزراعية إلى الفشل.»

«ربما. ولكن بعض الناس يبنون حياتهم العملية على فلسفة معينة ويصيبون نجاحًا بالغًا؛ مثل الهوتريت والمينونايت.»

قال لوهيد: «هؤلاء لديهم عقلية مختلفة.» لم يكن غافلًا عن الصورة التي يبدو عليها: عجوز مشاكس عنيد.

والآن عندما خرج يوجين من حالة التأمل التي كان مستغرقًا بكامل حواسه فيها، وقف ومدد عضلات جسمه وسأل السيد لوهيد إن كان يحب شرب بعض الشاي، فأجابه السيد لوهيد بالموافقة. أوصل يوجين غلاية الشاي الكهربية وتنقل في الغرفة مرتبًا أغراضه. كانت غرفته مرتبة بدقة. كان ينام على مرتبة مفروشة على الأرض، ولكنه وضع الملاءات عليها وكانت نظيفة؛ فقد كان يأخذها إلى غرفة الغسيل. وكانت كتبه إما على رفوف خشبية مرفوعة على طوب أو مكدسة على الأرض والنوافذ. كان لديه مئات الكتب، وكلها تقريبًا ذات غلاف ورقي، وكانت المعلم الرئيسي في الغرفة. كثيرًا ما كان السيد لوهيد يحدق في عناوينها، مع شعور يمزج ما بين الرهبة والعبث. من هايدجر إلى كانط، وكان بالطبع يعرف من هو كانط مع أنه لم يقرأ له شيئًا من قبل، باستثناء ما قرأه عنه في «قصة الفلسفة». ولربما قرأ شيئًا ذات مرة عن هايدجر، لكنه لا يعرف الآن؛ فهو لم يلتحق بجامعة، ففي أيامه لم يكن المرء مضطرًّا للالتحاق بالجامعات لكي يصبح صيدلانيًّا، بل يكفيه التدرب مع مهني محترف، كما فعل هو مع عمه. لكنه في وقت لاحق انخرط فترة من الزمن في القراءة الجادة؛ بيد أنه لم يقرأ شيئًا كهذا؛ فقد عرف ما يكفي لأن يدرك الأسماء وحسب؛ مايستر إيكهارت، سيمون ويل، تلار دي شاردان، لورين إيزلي؛ الأسماء المعروفة، الأسماء اللامعة. المهم أن يوجين لم يكتفِ بجمع كل تلك الكتب وحسب، بل وخطط لقراءتها كلها يومًا ما. كلا! فقد قرأها يوجين، لقد قرأ فعليًّا كل ما يمكن قراءته حول الموضوعات الأكثر أهمية والأكثر إلحاحًا، من فلسفة وأديان وتصوف وعلم نفس وعلوم. كان يوجين في الثامنة والعشرين من عمره، ويمكن القول إنه قضى العشرين عامًا الأخيرة من حياته في القراءة، ونال درجات علمية وحصل على منح دراسية وفاز بجوائز، هزأ منها جميعها، أو على الأقل رفضها بنوع من الاعتذار. وقد عمل في حقل التدريس على فترات، ولكن لم يكن له عمل آخر ثابت على ما يبدو. وفي مرحة ما من حياته تعرض للانهيار في أزمة دامت طويلًا ربما يعتقد أنه لا يزال يتعافى منها حتى الآن. بلى فقد كان في حالة توحي بأنه شخص يمر بفترة نقاهة؛ فقد كان فاتر الحماس يتوخى التأني في كل حركاته وسكناته، حتى في طيشه. كن يصفف شعره تصفيفة «بايدج بوي» كما لو كان في العصور الوسطى. كان شعره ناعمًا زغبًا بنيًّا مائلًا للاحمرار، وعيناه لامعتين ماكرتين. كان شاربه صغيرًا، الأمر الذي جعله يبدو أصغر من سنه الحقيقية.

قال السيد لوهيد في لهجة حاول أن تبدو مازحة: «لقد سمعتُ ما يقال عن المشي على الماء.»

«أتحب العسل على الشاي؟» قالها يوجين وهو يضع منه مقدارًا كبيرًا في شاي السيد لوهيد.

قبل السيد لوهيد ملعقة دون تفكير، مع أنه يحب الشاي دون تحلية.

«لم أصدق ذلك.»

قال يوجين: «أوه، نعم.»

«لقد قلت إنك لست بتلك الحماقة.»

«لقد كنتَ مخطئًا.»

ابتسم كلاهما. كانت ابتسامة السيد لوهيد خفيفة لكنها مستبشرة ومحسوبة، فيما كانت ابتسامة يوجين صريحة ولطيفة. ولكن ماذا كانت تلك الصراحة؟ فهي لم تكن طبيعية بل مصطنعة؛ إذ إن يوجين الذي قرأ عن التاريخ العسكري والتصوف وعلم الفلك والأحياء، والذي يستطيع مناقشة الفن الهندي (الهنود الحمر وهنود آسيا) أو فن التسميم، يوجين الذي كان بمقدوره تكوين ثروة في أيام عروض الألغاز كما قال له السيد لوهيد ذات مرة (عندها ضحك يوجين قائلًا إنني أحمد الله لأنه منَّ عليَّ بأن جعل تلك الأيام تولي بغير رجعة)، يوجين في كل حركاته وسكناته وفي كل صروف الدهر وتقلباته التي مر بها كان يهدف إلى إنجاز مهمة محددة، مهمة لم يأتِ على ذكرها. أهي السبب وراء انهياره؟ معرفته المتفجرة؟ فهمه؟

قال السيد لوهيد: «حسنًا، لا أعلم إن كنت قد فهمت الأمر على نحو خاطئ؛ إذ إنني فهمت أن الموضوع هو المشي على الماء.»

«هو كذلك بالفعل.»

«وما الغرض من هذا؟»

«الغرض هو المشي على الماء، إن أمكن. هل تعتقد أنه ممكن؟»

لم يستطِع السيد لوهيد إيجاد إجابة.

«إنه ضرب من المزاح؟»

قال يوجين وهو لا يزال باسمًا: «قد يكون كذلك، ولكنه مزاح جاد.»

سرحت عينا السيد لوهيد نحو رف عليه نوعية أخرى من الكتب التي قرأها يوجين، والتي بدت له غير ذات صلة بالنوع الأول. كانت تلك الكتب من تأليف أصحاب النبوءات وعن نبوءاتهم، كانت كلها عن أجرام سماوية وتجارب نفسية وقوى خارقة للطبيعة وشتى أنواع الخدع والسحر، إن أردت أن تطلق عليه هذا الاسم. حتى السيد لوهيد استعار بعض تلك الكتب وغيرها من يوجين بيد أنه لم يتمكن من قراءتها؛ فقد حال التشكك بينها وبين عقله. ومستخدمًا كلمة من سنين شبابه، أخبر يوجين أن كل هذا يسبب له الحيرة. ولم يستطِع تصديق أن يوجين يأخذ الأمر على محمل الجد، حتى عندما سمع يوجين يؤكده له.

بعد فترة وجيزة من الحادث الذي وقع في صالة الطابق السفلي رجع السيد لوهيد ذات يوم إلى المنزل ليجد علامة مرسومة على بابه. كانت شيئًا أشبه بزهرة ذات بتلات حمراء رقيقة مرسومة بطريقة غير حِرَفية، وتتخللها بتلات سوداء مستدقة الطرف بطريقة خاطئة، وفي منتصف الزهرة دائرة حمراء وأخرى سوداء وثقب أسود بداخلهما. حينما لمس الطلاء وجد أنه لا يزال رطبًا، ولكن ليس رطبًا جدًّا؛ فلديهم هذه الأيام دهانات تجف بسرعة فائقة. دعا يوجين للخروج وإلقاء نظرة عليها.

قال يوجين: «هذا شيء بسيط، على الأقل شيء لا يدعو للقلق. أنا لا أعرف ماذا يعني، وربما كان مجرد شيء اختلقوه.»

استغرق السيد لوهيد دقيقة أو اثنتين ليستوعب معنى هذا.

فقال يوجين مفسرًا: «إنها ليست علامة.»

قال السيد لوهيد: «علامة!»

«كتعويذة مثلًا؛ فهناك فرق بين هذا وبين العلامة الحقيقية، تمامًا كالفرق بين اللغو الفارغ والتعويذة الحقيقية، مع أنهما قد يبدوان أشبه بلغو فارغ للجاهلين.»

قال السيد لوهيد مستجمعًا شتات نفسه: «لم يساورني القلق حيال كونها ﻋ … علامة. هل هذا ما تعنيه، ضرب من العلامات السحرية؟ غاية ما هنالك أنني استأت من تشويه منظر بابي. فما لهم هم والمجيء ها هنا؟ وما شأنهم والرسم على بابي؟»

«حسنًا، أظنهم اعتقدوا أنها مزحة، أو لعلهم فعلوها من باب التحدي؛ فأفعالهم صبيانية جدًّا، لا سيما ريكس وكالا، فسلوكياتهما صبيانية بشكل لا يصدق. أما روفر فتبدو سلوكياته صبيانية بعض الشيء، حيث يعتريه شيء من الغموض. ربما كانت تتلبسه روح عجوز.»

لم يكن السيد لوهيد مهتمًّا بسن الروح التي تتلبس روفر، كل ما كان مهتمًّا به هو إمكانية أن يكون لهذا الشيء؛ أي العلامة التي على الباب، معنًى حقيقيٌّ لشخص ليس بأحمق تمامًا، الأمر الذي استحوذ عليه تمامًا. فسأل بصوت يغلفه فضول شديد لا يمكن كبته: «هل … أكانت ستقلقك علامة على بابك؟ أتعتقد أن شيئًا كهذا يمكن أن يكون له تأثير حقيقي؟»

«مطلقًا.»

قال السيد لوهيد: «وهذا شيء يستحيل تقريبًا أن أصدِّقه.» ثم فكَّر وتنهَّد وأضاف بمزيد من الحزم: «يستحيل أن أصدِّقه.»

قال يوجين مؤمِّنًا على كلامه: «أجل، مستحيل.»

رأى السيد لوهيد أنه كان عليه أن يدرك حينها، كان عليه أن يدرك مدى هذا النوع من التفكير، ولن يفاجأ الآن.

كان يوجين يقول في ثقة: «إن العالم الذي نقبله — الواقع الخارجي، كما تعلم — ليس ثابتًا بالشكل الذي قيل لنا عنه؛ إذ إنه يستجيب لطرق كثيرة من طرق تحكُّمنا فيه تفوق استعدادنا لقبولها.» عند شرح شيء للسيد لوهيد غالبًا ما كان يستخدم تلك العبارات الرصينة الجزلة، أما عندما يتحدث إلى ثلاثي الطابق السفلي فكان يستخدم لغة بسيطة وجذابة وغامضة بما فيه الكفاية للتواصل معهم، بمستوى قريب من مستوى فهمهم. فواصل قائلًا: «وما يُسمى بالقوانين ليست قواعد نهائية؛ فالقانون الذي تفكر فيه يقول إن جسمًا كهذا» وربت على كتف السيد لوهيد، مستطردًا: «لا يمكن أن يتحرك على المياه؛ لأنه لا يمكنه أن يصل إلى حالة انعدام الوزن.»

لا يزال الأمر قابلًا لأن يكون مزحة.

«هل تعتقد أن أشخاصًا بعينهم مشوا على فحم ساخن ولم يحترق جلدهم؟»

«قرأت عنه.»

«إنه أمر شائع. هل رأيت صورًا؟ هل تصدِّقه؟»

«يبدو لي حقيقيًّا.»

«لكن أقدامهم من لحم ودم ومغطاة بجلد، ووفقًا لما نعرفه جميعًا من المفترض أن يحترق! والآن ألا ينبغي أن نعترف بأن العقل يمكن أن يعمل بطريقة أو بأخرى على التحكم في المادة إلى الحد الذي يعطِّل بعض القوانين؟»

«أود أن أراه يتحكم في قانون الجاذبية.»

«لقد فعلها، فعلها بالفعل. فهناك أناس قادرون على الارتفاع عن الأرض عدة بوصات دونما مساعدة من أي نوع.»

قال السيد لوهيد بقناعة تامة مع أنه حاول أن يبدو طيب المزاج: «حتى أرى بأم عيني هاتين سلة المهملات تلك وهي ترتفع وتطير فوق رأسي، فلن أصدق شيئًا من هذا القبيل.»

قال يوجين: «الطريق إلى عمواس.»

حتى الكتاب المقدس يعرفه! إنه الشخص الوحيد الذي لم يتجاوز الأربعين من عمره ويقرأ في الكتاب المقدس من بين كلِّ مَن قابلهم السيد لوهيد. هذا إذا استثنينا شهود يهوه.

«سلة المهملات لا تستطيع التحكم في نفسها، ومن ثم لا تستطيع تسخير الطاقة. ومع ذلك فإذا كان بإمكان شخص ما يجلس في مكانك الآن تسخير نوع معين من الطاقة …»

واصل نقاشه متحدثًا عن امرأة في روسيا تستطيع تحريك أثاث ثقيل في الغرفة دون أن تلمسه. كانت تقول إن طاقتها في ضفيرتها الشمسية.

قال السيد لوهيد: «ولكن ما الذي يجعلك تعتقد أن لديك تلك القوى؟ وأنك قادر على تسخير الطاقة أو تعطيل الجاذبية أو ما شابه؟»

«إذا أردت تعطيل أي شيء فسيكون ذلك لأضيق مساحة من الوقت، بضع ثوانٍ فقط. فما أنا إلا مبتدئ. ولكن سيكفي ذلك لأحفِّز الناس على التفكير. كما أنني مهتم أيضًا بترك الجسم؛ فلم أستطِع قطُّ ترك هذا الجسم.»

«ينبغي أن تتأكد من قدرتك على العودة.»

«باستطاعة الناس ذلك، لديهم القدرة على ذلك. يومًا ما قد يكون شيئًا نتعلمه، تمامًا مثل التزلج على الجليد. والآن لنفترض أنني خطوت على الماء ووضعت جسمي الظاهري — «هذا» الجسم — فغرق كالحجر، فثمة احتمال أن يطفو جسمي «الآخر»، لأتمكن من النظر في الماء ومشاهدة نفسي.»

قال السيد لوهيد: «تشاهد نفسك!» فضحك يوجين ولكن ليس بطريقة مطمئنة تمامًا.

إن ما أراد السيد لوهيد معرفته هو الغرض من وراء ذلك؛ فلا بد أن هناك غرضًا ما وراءه، كالسخرية أو لعبة لم يستطِع فهمها. لو أن كالا أو ريكس قالا كلامًا كهذا — بفرض أن بمقدورهما قول كلام مثله — لما شك في غرضهما. فالسذاجة حين تصدر عن شخص مثل يوجين توحي بأن في الأمر خدعة، ولو أنها مسيطرة عليه بالفعل فيه فلا بد أن في الأمر خدعة بطريقة أو أخرى.

«إذن، فالغرض من هذا هو إعطاء الناس هزة، إذا جاز التعبير؟ لتشكيكهم في حواسهم؟»

«ربما يؤدي الأمر إلى ذلك.»

«كيف أقحمت نفسك في هذا الموضوع؟»

«بدأ الأمر كمزحة؛ إذ كنت أتحدث مع السيدتين — الشقيقتين، كما تعرف — العمياء والأخرى، لا أعرف اسميهما …»

«أعرفهما.»

دأب يوجين على تجاذب أطراف الحديث مع العجائز، فهم يحبون حديثه؛ وكانوا ينظرون إليه كسفير لطيف من أرض الشباب الموحشة.

«كنا نناقش أشياء كهذه وقلت لهما إنها ممكنة الحدوث. والمشي على الماء حقيقة وقعت بالفعل. أعني مؤخرًا. وسألتاني إن كنت على استعداد لأن أجرب ذلك بنفسي، فقلت لهما نعم.»

قال لوهيد في تمعن ومكر: «لعل غرورك هو الذي حدا بك إلى قبول تلك المحاولة.»

«نعم، أعرف ذلك. ففي تلك الليلة حينما كنت أتأمل أخذت أفكر مليًّا في هذا السؤال: هل أفعل ذلك بدافع من غروري؟ وتبين لي أن تلك مسألة لا تهم في شيء. الداعي الذي يحدوني لفعله لا يهم في شيء. يجب أن أثق فيما غرس تلك الفكرة في ذهني، أيًّا كان. ربما كان فعلًا له غرض ما من ورائه. أعرف كيف يبدو ذلك. لكنني أهب نفسي فحسب وأجعلها رهن الاستخدام. وأخذ الموضوع يتطور بسرعة؛ فقد كنت أنوي فعل ذلك من أجل هاتين السيدتين فقط، ولكني لم أستطِع فعله مباشرة؛ لأنني كنت بحاجة إلى بعض الوقت لكي أستعد، وهكذا حددنا يوم الأحد، وها أنا الآن أسمع الناس في الشارع يحدثونني عنه. أناس لا أعرفهم إطلاقًا. لَكَمْ أنا مندهش!»

«ألا تزعجك فكرة أنك قد تجعل من نفسك أضحوكة أمام كل هؤلاء الناس؟»

هذا تعبير لا يعني شيئًا بالنسبة لي، فعلًا. «تجعل من نفسك أضحوكة!» كيف يتأتى لأي إنسان أن يفعل ذلك؟ كيف تجعل من نفسك أضحوكة؟ أظهر الأضحوكة، نعم، أخرج الأضحوكة، ولكن أليست الأضحوكة هي نفسك ذاتها؟ أليست موجودة معك طوال الوقت؟ أظهر نفسك. ما الذي يمكنك فعله خلاف ذلك؟

كان بمقدور السيد لوهيد أن يقول لا يزال في إمكانك الرجوع إلى عقلك، إن أمكن، ولكنه لم يفكر في ذلك حتى وقت لاحق. وحتى لو فكر فيها حينذاك؛ فقد فات أوان قولها.

•••

في صبيحة يوم الأحد وأمام باب غرفته وجد السيد لوهيد طائرًا ميتًا. كان مستعدًّا لأن يصدق أن قطًّا هو ما أحضره إلى هنا؛ فالقطط تأتي إلى المنزل وتطعمها كالا أو روفر، مخلِّفة رائحة برازها في ردهة الدور السفلي. أمسك بالطائر وحمله إلى الطابق السفلي ومنه إلى الفناء الخلفي. إنه طائر القيق الأزرق. أُعجب بألوانه غير المبهرجة، مع أن طيور القيق تلك لم تكن طيورًا محبوبة؛ فقد نشأ في مزرعة ولم يستطِع تجاوز مثل تلك الأحكام على كل أنواع الأحياء النباتية والحيوانية. تذكَّر إحدى زائرات المزرعة، سيدة ليست بالشابة، تصيح مُثنية على جمال حقل حافل بالخردل البري. كانت تعتمر نوعًا من القبعات البيج أو الوردية المتربة، والشيفون، إذا صحَّ أن يُطلق عليه شيفون، علاوة على أن الحماقة اللافتة للقبعة ممزوجة بحماقة سعادتها؛ كُل ذلك حُفر في ذهنه، وظل محفورًا حتى يومنا هذا. وبطبيعة الحال كانت مظاهر الكبار، وفي وقت لاحق كلماتهم، هي ما تعرفه مكمن الحماقة.

كان يعتزم دفن الطائر، لكنه لم يستطِع إيجاد شيء يحفر به حفرة هناك. كان باب القبو قد خُلع من مكانه، وعادة ما توجد هناك أدوات حفر، لكنه افترض أنها غير موجودة. كذلك كانت أرض الحديقة متحجِّرة كالإسمنت على أي حال، وكانت الأحجار والزجاج المكسور منتشرة في كل مكان. فما كان منه إلا أن وضع الطائر النافق في صندوق القمامة.

عاش السيد لوهيد في ذلك البيت اثني عشر عامًا، منذ أن باع صيدليته وجاء إلى هنا للعيش بالقرب من ابنته المتزوجة. ومع أن ابنته وعائلتها انتقلوا بعيدًا فإنه بقي حيث هو. وكان المنزل والفناء في حالة متهالكة حتى قبل الاثني عشر عامًا، مع أنه لم يكن أحدٌ يتوقع أن يكونا في الحالة التي أصبحا عليها اليوم. كان المكان ملكًا للآنسة موسجريف، التي كانت أسرتها واسعة الثراء. كانت حينذاك لا تزال تعيش في غرف الطابق السفلي حيث يعيش ريكس وكالا وروفر اليوم. بعد فترة وجيزة من انتقال السيد لوهيد اشترى منجلًا جزَّ به العشب الطويل في زوايا الفناء. كان يعتزم تهذيبه ليتحول إلى مرج جميل، بما يرضي الجميع. لكن بعد مرور وقت يسير على البدء في عمل ذلك سمع طرقًا عنيفًا على النافذة وصوتًا عاليًا، لا يشبه صوت السيدات، في الواقع صوت شخص مخمور، يدعوه للابتعاد.

«هذه أملاك الآنسة موسجريف!»

كانت تلك الآنسة موسجريف، المرأة المصابة بالجنون، لكن بطريقة مألوفة. في أيام عمله بالصيدلية تعامل مع سيدات مثلها يضعن أحمر الشفاه بطريقة مقززة ويعتمرن قبعات بنفس الطريقة، ويمارسن الاحتيال والتملق والكذب ويحصلن على الإهانات في المقابل عند صرف وصفاتهن الطبية. في الوقت الحالي كان قد مر على وفاة الآنسة موسجريف فترة طويلة، كما أنه افتقد مثل هذا الجنون المألوف، وتُرك مع الزمرة الحالية، التي لم يعد في مقدوره الحكم على ما إذا كانوا مجانين أم لا، ولم يكن ذلك في مقدوره مطلقًا، ولا حتى يوجين. الأهم من ذلك كله يوجين.

حاول الناس كثيرًا إقناعه بمغادرة هذا المكان؛ فما الذي يدعوه إلى البقاء فيه؟ كان يقول إنه لا يحب البنايات السكنية، ولا يحب الارتفاعات، ولا يريد أن يعرِّض نفسه لمنغصات الانتقال، وغيرها من الأسباب. ومهما كان ما تعلمه ها هنا فلم يندم على تعلمه إياه يومًا، فقد استمع إلى أقرانه وهم يتحدثون، وحسب أن أدمغتهم كانت ستتصدع مثل البيض لو عرفوا معشار ما يجب معرفته. وأخيرًا، فلم يندم على رؤيته فعلة ريكس وكالا، أو قراءته للصحيفة التي يبيعها روفر، وتوجيهه له ذات يوم دفعة على سبيل المزاح. كان يقرأ كل كلمة منها بالرغم من طباعتها غير الواضحة المؤذية لعينيه. سوء الطباعة والأخطاء الهجائية وبعض الرسومات المبقعة وربما البذيئة، علاوة على الاحتياجات الواردة في الإعلانات المبوبة ومقال افتتاحي يهاجم مجلس المدينة — الذي نعتوا أعضاءه بالممثلين القذرين والأغبياء — كل هذا أثار قلقه وهيَّج أعصابه؛ لكنه واصل القراءة، مع ترقُّب عجيب من أن تومض أمامه رسالة لا تلحظها العين من شدة سرعتها، على غرار بعض الإعلانات التجارية التي شاهدها على شاشات التليفزيون.

لكن كان عرض يوجين المزعوم هذا هو الشيء الوحيد الذي اعتزم عدم مشاهدته؛ فقد استاء منه كثيرًا وأصابه باضطراب بالغ. أعد إفطاره المكون كالمعتاد من شريحتين من الخبز المحمص البني والبيض المسلوق والشاي. لم يسمع يوجين، فافترض أنه خرج في وقت مبكر. وبينما كان يتناول طعامه تذكر الشعور الذي انتابه في الفناء الخلفي وهو يمسك الطائر ويفكر في السيدة المعتمرة قبعة من الشيفون وحقل الخردل ووالديه. كان يتذكر شيئًا آخر، مما سبقه، ويمكنه الآن أن يقول إنه كان يتذكر حلمه حينذاك. عرف أنه لا بد أن نفس الحلم قد راوده مرة أخرى الليلة الماضية، وبدا له أنه ليس أمامه خيار سوى الجلوس ومحاولة معرفة أي جزء منه يمكن استدعاؤه إلى الذهن.

كان مبتدأ هذا الحلم، الذي ظل يراوده من حين لآخر منذ منتصف العمر، حادثة حقيقية وقعت عندما كان طفلًا يعيش في المزرعة مع أخيه الأكبر والتر وشقيقته ماري التي ماتت بالدفتيريا وهي في الثامنة عشرة. في منتصف الليل سمع رنين الهاتف، ثلاث رنات طويلة. كان لكل عائلة على طول الطريق رقم خاص بها من عدد الرنات — كان عدد رناتهم التي لا يزال السيد لوهيد يتذكرها حتى الآن رنتين طويلتين واثنتين قصيرتين — ولكن الرنات الثلاث الطويلة كانت تمثل تنبيهًا عامًّا، إشارة لجميع من على الخط بالتقاط سماعات هواتفهم. كان والد السيد لوهيد يصيح في الهاتف، الذي كان في المطبخ الواقع تحت غرفة نوم الأولاد مباشرة. لم يكن مقتنعًا قطُّ بنظام الهاتف، وبدا وكأنه يعتمد على قوة صوته في نقل الأخبار والكلام مهما بعدت المسافة. مع صياحه استيقظ الجميع ونزلوا لرؤية والدهم ينتعل حذاءه الطويل ويلبس سترته — فقد كانوا في شهر مايو، في فصل الربيع، ولكن الجو كان باردًا بالليل — ومع أن السيد لوهيد لا يستطيع تذكُّر ما قيل، فإنه يعلم أن والده قال لهم شيئًا عن المكان الذي سيذهب إليه، وأن أخاه والتر طلب الإذن بالانضمام إليهم وحصل عليه، تمامًا كما طلب هو الإذن نفسه ولكنه قوبل بالرفض على أساس أنه صغير جدًّا ولا يمكنه مسايرتهم.

كانوا في طريقهم لمطاردة صبي مجنون، شاب في التاسعة عشرة أو العشرين من عمره يعيش في الجهة المقابلة من البلدة. لا يستطيع السيد لوهيد تذكر المعلومات التي ذكرها له والده حول هذا الصبي بخلاف اسمه (فرانك ماكرتر). كان فرانك ماكرتر أصغر أبناء عائلة فقيرة ولكنها كبيرة العدد وكريمة المحتد تدين بالمذهب الكاثوليكي. وقد أُبعد عن المنزل فترة من الزمن إثر سلسلة من النوبات المرضية ولكنه عاد معافًى، وعاش هناك بهدوء متوليًا رعاية والديه العجوزين، بعد مغادرة أشقائه وشقيقاته. لا يعتقد السيد لوهيد أن والده قد ذكر له في ذلك الحين أن سبب استدعاء كل الرجال لتعقب فرانك ماكرتر هو أنه، أي فرانك، في وقت مبكر من ذلك المساء، ربما قبل حلول الظلام (وقبل الحلب بالتأكيد؛ لأن خوار البقر المهتاج هو ما لفت انتباه جار يمر على الطريق)، قد قتل والده في الحظيرة، باستخدام مذراة ومجرفة، ثم قتل والدته في المطبخ مستخدمًا نفس المجرفة التي لا بد أنه قد جلبها من الحظيرة لهذا الغرض.

تلك هي الحقائق التي احتواها الحلم، بحسب ما يتذكر، دون أن يكشف عنها النقاب. في حال اليقظة كانت ذاكرته تختزن كل هذه المعلومات عن جريمة القتل والقتيلين، مع أنه لا يعرف متى ولا كيف أُعطيت له. أما في الحلم فلم يتسنَّ له قطُّ أن يفهم بوضوح السبب الداعي إلى حالة الاستنفار والضجة المثارة، كل ما عرفه أن عليه إيجاد حذائه الطويل والإسراع مع والده وشقيقه (إذا أسرع في الحلم، فلن يغادروا دون اصطحابه معهم). لم يعرف إلى أين هو ذاهب، وما كان له أن يعرف حتى يمضي في صحبتهما فترة من الزمن بحيث يكتشفون شيئًا هناك. ربما كان تعاقب الحلم في البداية سهلًا ومبهجًا، ولكنه غالبًا ما يتباطأ شيئًا فشيئًا بسبب قوًى خفية محيرة ومشتتة، ومن ثم يجد السيد لوهيد نفسه وحيدًا يقوم بأشياء على غرار تركيب وصفة طبية في صيدليته أو تناول العشاء مع زوجته. ثم مع شعور عميق بالندم وبعد فوات الأوان، مرورًا بالجيران الذين يوجهون له اللوم والتقريع دون أن يقدموا له يد المساعدة، ودائمًا في طقس ضبابي لا يفصح عن الكثير، يحاول العودة إلى حيث يجب أن يكون. لم يكمل الحلم حتى النهاية قط، أو لعله أكمله، ولكنه لا يتذكر، هذا هو الاحتمال الأكبر. في أول مرة رأى فيها الحلم كان أبواه وشقيقته ميتين، أما شقيقه فكان لا يزال على قيد الحياة، في وينيبيج، وقد فكَّر في مراسلته، يسأله عن فرانك ماكرتر وما إذا كانوا قد عثروا عليه في تلك الليلة أم لا. كانت هناك فجوة في ذاكرته عند تلك النقطة. لكنه لم يراسله قط، أو عندما راسله، لم يسأله هذا السؤال؛ لأنه نسي، وإذا تذكر، فربما شعر بأنه من الحماقة أن يسأله سؤالًا كهذا على أي حال، ثم توفي شقيقه.

دائمًا ما يترك هذا الحلم همًّا ثقيلًا على ذهنه، وقد افترض أن ذلك إنما يرجع إلى أنه لا يزال يحمل، لجزء من اليوم، ذكرى أناس ميتين، أبيه وأمه وأخيه وأخته، الذين لا يستطيع تذكر وجوههم بوضوح وهو في حال الاستيقاظ. كيف يصف تماسك وتعقيد وواقعية هذه الذكريات، إن كان لديه من يصفها له؟ بدا له أنه لا بد أن هناك مكانًا تنتقل فيه بحرية مطلقة دون قيد خارج عقله؛ كان من الصعب عليه أن يصدق أنه هو من ابتدعها. إنها تجربة مألوفة. تذكَّر أمه وهي جالسة إلى مائدة الإفطار قائلة في صوت مفعم بالدهشة أقرب إلى الشكوى: «لقد حلمتُ بجدتك! أوه، لقد كانت هي!»

ثمة شيء آخر دُفع إلى التفكير فيه دفعًا؛ وهو الفرق بين ذلك العهد والعصر الحالي. لقد كان فرقًا شاسعًا، ليس بمقدور أحدٍ الانتقال من عهد كهذا إلى عهد آخر، وكيف فعلها هو؟ كيف يمكن لرجل أن يعرف والد السيد لوهيد وأمه ويعرف الآن ريكس وكالا؟ خطر له — وهو ليس بالخاطر الجديد — أن ثمة ما يُقال على كل حال بشأن التعامل مع الأمور بالطريقة التي يبدو أن معظم من هم في سنِّه يتعاملون بها. ربما كان من المعقول أن يكفَّ عن الملاحظة، ليصدِّق بأن هذا العالم لا يزال هو نفس العالم الذي كانوا يعيشون فيه، مع بعض الانحرافات المروعة وإن كان يمكن علاجها، وعدم محاولة فهم كيف تَغيَّر تنظيم العالم بأكمله بهذا الشكل.

كان الحلم قد جعله على اتصال بعالم جعل العالم الذي يعيش فيه الآن مجرد نسخة عفوية؛ من حيث الملمس، إن جاز لنا القول، وفي الحدة، وفي التكوين. لا شك أن حواسه بالطبع قد أصيبت بالضعف، بيد أن هموم الحياة وأهميتها قد تلاشت بطريقة أو أخرى. أضحت المناسبات تُقام الآن على مساحات صغيرة وهي كلها لها نفس القدر من الأهمية أو لا أهمية لها. وخلال ركوبه الحافلة عبر شوارع المدينة أو حتى خلال الريف لم يكن السيد لوهيد يندهش كثيرًا لدى رؤيته أي شيء؛ كمسجد، مثلًا، أو دب أبيض. أيًّا كان ما يبدو أمام عينيك، فسوف يتبين لك أنه شيء آخر. فالفتيات في السوبر ماركت يرتدين تنانير مكسوة بالعشب لبيع الأناناس، كما رأى عاملًا في محطة الغاز، يمسح الزجاج الأمامي للسيارات، يرتدي على رأسه قبعة حمقاء بها أجراس. وتأخذ الدهشة تقل وتقل.

في بعض الأحيان في التسجيلات التي كانوا يشغلونها في الطابق السفلي كان يتناهى إلى سمعه مقطوعة موسيقية عذبة مألوفة وغير مزعجة. وكان يعلم ما سيحدث، حيث السخرية منها والتلوي حولها بحركات جنونية خالية من أي نوع من التقدير. كما كانت هناك نكات مماثلة في كل مكان، ولا بد أن الناس وجدوها مرضية.

•••

خرج رصيف روس بوينت من الخدمة منذ فترة طويلة؛ إذ انهار الرصيف واختفى كلية بفعل موجات المد والجزر حتى ابتلعه المحيط عن آخره. أقبل السيد لوهيد من عند منعطف كورنيش البحر — كان لزامًا عليه أن يأتي على كل حال؛ إذ ضاق صدره لدرجة تجعله غير قادر على البقاء بعيدًا — وهو يتوقع ألا يرى أحدًا هناك ويكتشف أن الأمر كله كان من بنات خياله هو، أو أنه مجرد خدعة متقنة حاكها الآخرون وانطلت عليه، وهذا هو الاحتمال الأكبر. ولكن سرعان ما تبين له أن الأمر ليس كذلك مطلقًا؛ فقد احتشد الناس، ولم يجد درجات للجلوس عليها، كانت هناك درجات شاغرة على بعد ربع ميل إلى الخلف وعلى مسافة قريبة إلى الأمام بعد روس بوينت، بيد أن السيد لوهيد سار إلى جنوب الضفة، متعلقًا بأجمات الوزال، دون التفكير في خطر كسر العظام حتى وقت لاحق. ثم أسرع على طول الشاطئ.

أول من رآهم من الناس كانوا يجرون بطول الرصيف ويقفزون من واحدة من قطع الخرسانة المتهدمة إلى أخرى؛ ريكس وكالا وروفر وعدد من أصدقائهم الذين يتعذر عليه تمييزهم. كانت كالا ملفوفة في ما بدا وكأنه — وقد كان فعلًا — غطاء فراش قديم من الشانيل، وكان نصف خصلاته الوردية والبنية باليًا. أخذوا يتواثبون حفاة الأقدام ويقفزون في الماء. كان هناك صبي على الشاطئ يعزف على الفلوت، أو آلة مثل الفلوت، نفس الآلة التي كانت لدى يوجين. كان يعزف بشكل جيد، على الرغم من رتابة عزفه. كانت الأختان العجوزان هناك، الأخت العمياء وعصاها البيضاء التي ترفعها حين تتحدث، وتشير بها إلى الماء؛ حيث تذكرك بموسى قبالة البحر الأحمر. كانت الأخرى تتحدث إليها شارحة لها. أما السيد كليفورد والسيد موري وعدد قليل آخر من الرجال كبار السن المتصفين بالرزانة والحصافة فقد أخذوا يتجاذبون أطراف الحديث، وجلسوا بمكان ليس بقريب للغاية. ربما كان إجمالي عددهم يبلغ نحو ستة وثلاثين شخصًا كلهم تجاوزوا الستين أو تحت الثلاثين. كان يوجين يجلس بعيدًا على الرصيف، وحده. رأى السيد لوهيد أنه ربما من الأفضل أن لو ارتدى يوجين لباسًا خاصًّا لهذه المناسبة، رداء من قماش متين، أو مئزرًا، إذا كان بمقدوره العثور على شيء كهذا، لكنه كان يرتدي سرواله الجينز المعتاد وقميصًا أبيض.

أخرج أحد العجائز ساعة من جيبه وصاح في تلقائية كما لو كان لا يوجه كلامه إلى شخص بعينه، قائلًا: «إنها الساعة العاشرة الآن.»

صاح ريكس الذي كان قد قفز في الماء ونصفه العلوي عارٍ تمامًا ومبتل حتى الفخذين: «الساعة العاشرة يا يوجين!»

كان يوجين يعطي الجميع ظهره، ثانيًا ركبتيه، واضعًا رأسه عليهما.

«يا إلهي، يا إلهي، يا إلهي.» قالها ريكس مرتلًا، وراميًا رأسه الأشعث إلى الوراء، وفاردًا ذراعيه عن آخرهما.

قالت فتاة: «ينبغي أن نغني.»

في نفس الوقت كان هناك سيدتان تعتمران قبعتين وتقفان أمام السيد لوهيد تتحدثان معًا:

«لم أتوقع حضور هذا العدد الكبير من الناس هنا.»

«لم آتِ إلى هنا لأسمع هذا الدنَس.»

بدأت الفتاة في الغناء وحدها، على أنغام مشغل موسيقى. دارت حول نفسها بعدم ثبات على الشاطئ، مغنية من دون كلام، ووشاحها الناعم ذو الألوان العديدة يرفرف حول رقبتها. بعد قليل نظرت السيدتان الواقفتان أمام السيد لوهيد إحداهما إلى الأخرى، تنحنحتا، وأومأتا برأسيهما، وشرعتا تغنيان بصوت مرتعش حلو يعلوه التواضع:

نحن هنا مجتمعون معًا تجمعنا نعمة الرب،
إنه يؤدب، ويعجل، حتى تعرفنا مشيئته …

صاح السيد موري بصوت صاخب: «هيا بنا نشاهد العرض من على الطريق!»

قالت الأخت العمياء: «ما الذي حدث؟ هل مشى على الماء؟»

وقف يوجين ومشى بعيدًا على الرصيف، ثم مشى دون تردد في الماء الذي غطى كعبيه، ثم ركبتيه، ثم فخذيه.

قال السيد موري: «إنه يمشي في الماء وليس عليه. اتلُ صلاتك أيها الفتى!»

جلس روفر القرفصاء على الحجارة وأخذ يدندن بصوت عالٍ: «أوم، أوم، أوم، أوم …»

قالت الأخت العمياء: «ماذا حدث؟ ماذا حدث؟» وتوقَّفت الفتاة التي كانت تغني فترة طويلة عن الغناء، ثم أخذت تصيح: «أوه، يوجين! يوجين!» بصوت حنون ينمُّ عن اليأس والإنكار:

وهكذا من البداية، نفوز في معركتنا حتى النهاية …

مشى يوجين حتى وصل الماء إلى وسطه، ثم إلى صدره، فهتف السيد لوهيد بصوت ظن أنه فقده: «يوجين، اخرج من هذه المياه!»

صاح السيد موري في الوقت نفسه: «انعدام الوزن! فكِّر في انعدام وزنك!»

أحنى يوجين رأسه وغاص تحت الماء.

أطلقت الفتاة المغنية صرخة مفعمة بالإثارة.

نزل السيد لوهيد إلى الرصيف وتجاوزه قليلًا، وقال لكالا، الملفوفة في غطاء الفراش كامرأة من الكتاب المقدس: «هل تعرفين إن كان بمقدوره السباحة؟»

صاح ريكس، ذلك المهرج: «اسبح! اسبح!» وهوى في الماء، في حين أخذت الأخت غير العمياء تدور حول نفسها صارخة: «لينقذه أحدكم! أنقذوه! لا تدعوه يغرق!»

ظهر يوجين متشبثًا بالجزء البارز من الرصيف. ثم وقف على قدميه والماء يقطر منه، كان يقف هناك محتفظًا بتوازنه وهو يزيح الشعر عن عينيه، في حين صرخت فتاة قائلة: «وحش البحر! وحش البحر!» فدوى تصفيق الرجال، بقيادة السيد موري، هازئين.

لم يتوقف مشغل الموسيقى خلال أيٍّ من هذه الحوادث.

قال السيد موري: «هذا ما أوصلنا إليه. المشي على الماء.»

قالت الأخت العمياء: «إياكم أن يقرِّعه أحدٌ؛ فقد بذل كل ما بوسعه.»

مشى يوجين نحوهم ببطء مبتسمًا، وقال: «أنا حتى لا أعرف السباحة.» قالها ملوحًا بيديه في الهواء بسرور. بدا كما لو أنه خرج منتصرًا. واستطرد: «لقد زحفت على امتداد الرصيف. كان بإمكاني الوقوف سريعًا ولكنني أحببت كوني تحت الماء.»

قال السيد لوهيد: «عد إلى المنزل وغير ملابسك إذا كنت لا تريد الإصابة بالتهاب رئوي.»

قالت إحدى السيدتين المنشدتين: «هل كان الأمر مجرد مزحة إذن؟» ومع أنها لم توجِّه حديثها إلى السيد لوهيد، فإنه استدار نحوها وقال لها بحدة: «ماذا كنتِ تحسبينه؟» نظرت السيدتان إحداهما إلى الأخرى، وضغطتا على شفاههما تعبيرًا عن امتعاضهما من فظاظته.

قال يوجين بصوت مرتفع قليلًا، ناظرًا حوله: «أنا آسف إذا لم يكن هذا ما كنتم تأملونه جميعًا. الخطأ خطئي وحدي؛ فأنا لم أصِلْ بعدُ إلى النقطة التي تمنيت الوصول إليها في التحكم بنفسي. ولكن إذا كان هذا قد خيَّب آمالكم فقد كان بالنسبة لي مثيرًا ورائعًا ولقد تعلمت منه شيئًا مهمًّا. أريد أن أشكركم.»

صفَّقت السيدات بلطف هذه المرة، وانضم إليهن بعض الشباب مصفقين بمبالغة أكثر. رأى السيد لوهيد أن الناس قد انقسموا إلى مجموعتين تجمعهما قواسم مشتركة أكثر مما يظنون. لم تكن أيٌّ من المجموعتين لتقرَّ بذلك، لكن ألَمْ تكن توقعاتهما تسير في نفس الاتجاه؟ وما الذي غذَّى مثل تلك التوقعات في نفوسهم؟ إنه اليأس، كان هو اليأس في الحقيقة، إلا أن الاعتزاز بالنفس يمنع المرء من الاعتراف به.

دون أن يتحدث إلى أي شخص ذهب السيد لوهيد وحده. سار على طول الشاطئ وارتقى الدرجات متسائلًا كيف استطاع النزول من الضفة دون أن يكسر ساقه — الأمر الذي كان كفيلًا بالقضاء عليه في سنِّه هذه — من أجل هذا الهراء. مشى مسافة ميل أو نحوه على طول البحر وصولًا إلى مقهى يعرفه يظل مفتوحًا أيام الأحد. جلس فترة طويلة يرتشف فنجانًا من القهوة ثم رجع سيرًا على الأقدام. تناهى إلى سمعه صوت الموسيقى القادمة من النوافذ المفتوحة بالطابق السفلي في المنزل، من نوافذ الآنسة موسجريف؛ نفس الموسيقى التي يشغِّلونها دائمًا. صعد إلى الطابق العلوي وطرق باب يوجين، مناديًا: «أردت فقط معرفة ما إذا كنتَ قد غيَّرت تلك الملابس المبللة!»

لكنه لم يَرُدَّ عليه. وبعد برهة فتح الباب الذي لا يغلقه يوجين أبدًا.

«يوجين؟»

لم يكن يوجين موجودًا في الغرفة ولا حتى ملابسه. رأى لوهيد الغرفة من قبل ويوجين ليس موجودًا بها، عندما أعاد له كتابًا كان قد استعاره منه. بيد أن منظرها لم يزعجه كما أزعجه الآن؛ فالنافذة مشرعة عن آخرها لأعلى لسبب ما، وعادة ما يغلقها يوجين قبل خروجه، خشية أن تبلل الأمطار كتبه أو تبعثرها الرياح، وكانت هناك رياح الآن بعثرت الأوراق من فوق أرفف الكتب وتناثرت على الأرض. بخلاف ذلك كان المكان مرتبًا. كانت البطانية والملاءة مطويتين في نهاية المرتبة، كما لو أنه ينوي ألا ينام عليها مجددًا.

طرق السيد لوهيد باب الطابق السفلي، فجاءته كالا.

«يوجين ليس في المنزل؛ هل تعرفين أين هو؟»

استدارت كالا، وصاحت في الغرفة المظلمة بسبب الستائر الحمراء والأرجوانية، والشراشف المصبوغة، المسدلة دائمًا: «هل رأى أحدكم يوجين؟»

«لقد توجه نحو ملعب الجولف. كان متوجهًا شرقًا.»

قال ريكس بود، متكئًا على كتف كالا: «ماذا تريد منه؟»

صاح أحدهم في الخلفية، قائلًا: «اسأليه إن كان أعجبه الرسم على بابه.»

«اسأليه إن كان أحب الحالة التي وجد عليها طائره.»

إذن، ليس القط هو من فعلها. ابتسمت له كالا. كان وجهها كبيرًا أبيض وجميلًا، وخداها بيضاوين تنتشر عليهما العديد من البثور الصغيرة الملتهبة.

قال لوهيد متجاهلًا ريكس: «شكرًا لك.»

قال صوت آخر في الخلفية، لعله روفر، فصوته له رنين كرنين المعدن: «ما الذي يريده من يوجين؟» على إثر هذا الصوت قفز إلى ذهن السيد لوهيد تخمينًا تظاهر على الفور وفيما بعد ذلك بأنه لم يطرأ عليه.

قالت كالا: «هل تريد تناول التين؟»

•••

أخذ كلامهم على محمل الجد، فليس أمامه شيء آخر يمكنه فعله. ذهب شرقًا، ماشيًا بمحاذاة البحر، مقتفيًا أثر الطريق الذي سلكه صباح هذا اليوم. تجاوز الرصيف، المهجور الآن، ثم تجاوز المقهى الذي شرب فيه قهوته، مواصلًا إلى ملعب الجولف. كان عصر هذا اليوم لطيفًا، وكان هناك الكثير من الناس يتمشون. في بعض الأحيان كان يخيَّل إليه أنه رأى يوجين. بدا أن نصف الشبان في العالم يرتدون الجينز والقمصان البيضاء، وأنهم قصار القامة نحاف الجسم طوال الشعر. وجد نفسه يتفرس وجوه الناس ويهم بأن يسألهم: «هل شاهدتم الشاب؟» ظن أنه قد يلتقي شخصًا كان على الرصيف صباح هذا اليوم. بحث عن السيد كليفورد أو السيد موري، ولكن كانت تلك المنطقة بعيدة جدًّا، بعيدة عن حيهما.

على الجانب الآخر من ملعب الجولف كانت هناك مساحة من الأجمات البرية بارتفاع قامة الرجل. كانت هناك صخور بارزة من الماء. لا شواطئ هنا. بدت المياه عميقة إلى حد ما. كان هناك رجل يقف على الصخور يمسك بخيط طائرة ورقية. كانت هناك قوارب صغيرة على المياه ذات أشرعة حمراء وزرقاء. هل يمكن أن يسقط رجل هنا دون أن يلاحظه أحدٌ؟ هل يمكن أن ينزلق رجل في هدوء دون إحداث أي ضجة، وينتهي أمره؟

في وقت سابق من اليوم، في الواقع بينما كان يجلس يرتشف قهوته في ذلك المقهى، جاءه خاطر، المشهد الذي اعتاد أن ينتهي به حلمه. كان مشهدًا واضحًا ومفصلًا استرجعه بسهولة من مكان ما، إما من الحلم أو من ذاكرته، رغم أنه لا يدرى كيف يمكن أن يأتي من ذاكرته.

كان يسير خلف أبيه وسط عشب طويل رمادي اللون. كان رماديًّا لأن الليل كان في سبيله لينجلي ويمكن رؤية كل شيء بوضوح، ولكن كانت الشمس لم تشرق بعد. بدوَا وكأنهما قد انفصلا عن باقي الرجال الباحثين عن الصبي. كانا بالقرب من نهر، وفي فترة وجيزة تسلقا إحدى ضفتيه وصولًا إلى طريق موحل يفضي إلى جسر على النهر، وبما أن السيد لوهيد كان طفلًا بطبيعة الحال في هذا المشهد، فقد أسرع الخطى لاجتياز الجسر، ولكن بعد نحو ثلث الطريق فوجئ أن الجسر غير آمن؛ إذ كانت بعض ألواح أرضيته مفقودة، وبدت عوارضه وكأنها قد سُحقت بطريقة أو أخرى، وكأنه جسر لعبة داس عليه أحدهم. نظر إلى الوراء مستغيثًا بأبيه، ولكنه لم يجده هناك؛ وكان هذا متوقعًا. عندئذٍ كان عليه أن ينظر إلى أسفل من خلال أرضية الجسر حيث أحد الألواح المفقودة، وفي المياه الضحلة للنهر الذي انساب بين الحجارة البيضاء رأى جثمان صبي ممدد فيها ووجهه لأسفل. بدا هذا المشهد في الحلم — إن كان هذا ما بدا عليه — مشهدًا طبيعيًّا للغاية.

ولكن في حال اليقظة بالطبع ليس بمقدوره أن يرى هذا المنظر بهذا الشكل العرضي. وسأل نفسه إذا كان ذلك الصبي هو فرانك ماكرتر؛ إذا كان هذا الشاب بعد أن قتل والديه قد ألقى بنفسه في النهر. لم يَعُد هناك سبيل لمعرفة ذلك في الوقت الحالي.

ذات مرة عانى مما قال الطبيب في وقت لاحق إنها سكتة دماغية خفيفة، وفي تلك الحالة كان يرى خطًّا أبيض متعرجًا مبهرًا يتراقص في زاوية رؤيته ثمانٍ وأربعين ساعة أو نحو ذلك، ثم يختفي. لم يكن هناك أي ضرر، ولم تكن مثل هذه الأمور غير مألوفة على حد قول الطبيب. وها هو الآن الحلم، أو نهاية للحلم، يواصل فعل الشيء نفسه في ذهنه. كان يتوقع أن يختفي من حياته بعد فترة من الوقت. وثمة شيء آخر يأمل أن يبتعد عنه عندما يئوب إلى نفسه، وهي تلك المخاوف أو الأفكار الغريبة عن نزول يوجين في الماء؛ فالانتحار لن يكون الكلمة التي يصف بها تلك الفعلة، ليس يوجين؛ ولا شك أنه كان سيجد طريقة متكلفة ومراوغة لوصفه؛ ولربما لم يكن عرض هذا الصباح سوى بروفة أو محاكاة عملية له.

كان مرهقًا للغاية، وأخيرًا وجد مقعدًا خاليًا فجلس هناك فترة طويلة، متسائلًا إن كان بمقدوره استجماع قواه للعودة إلى المنزل ماشيًا.

•••

قال لكالا: «باب يوجين مفتوح ونافذته مشرعة عن آخرها.» كان الصمت يغلف الغرفة من خلفها هذه المرة؛ فابتسمت له كما فعلت من قبل. فكَّر في النظر إلى عينيها، ولكنهما كانا عاديين حسبما رأى. كان مرهقًا للغاية ويشعر بدوار شديد، حتى إنه اضطر إلى التشبث بقائم السلم.

قالت كالا: «دائمًا ما يترك باب غرفته مفتوحًا.»

قال السيد لوهيد مرتجفًا: «لديَّ من الأسباب ما يثير قلقي عليه. أعتقد أنه علينا إبلاغ السلطات.»

قالت كالا بصوت خفيض يكسوه الرعب: «الشرطة؟ أوه، لا يمكنك فعل ذلك. لا يمكنك فعل ذلك أبدًا.»

«أعتقد أن خطبًا ألمَّ به.»

«لعله غادر البلدة.»

«لو فعلها، لما ترك كل متعلقاته.»

«لعله فعلها. لعله غادر وحسب؛ ربما فكَّر فجأة في الرحيل كما تعلم، ومن ثم رحل.»

«أعتقد أن عقله كان مشوشًا. أحسب أنه ربما فكَّر في … لعله ذهب إلى الماء مرة أخرى.»

قالت كالا: «هل تظن ذلك؟» كان يتوقع أن تُفاجَأ، أن تصيح معترضة على ذلك، أو حتى أن تجعلها تلك الفكرة تبتسم، ولكنها بدلًا من ذلك بدت وكأنها تترك الاحتمالية تتطور ببطء وعلى مهل في رأسها. «هل تظن أنه قد يفعلها؟»

«لا أدري. أعتقد أنه كان مضطربًا. أعتقد ذلك، لكنني أجد صعوبة في الحكم بما إذا كان أحدكم مضطربًا أم لا.»

قالت كالا: «إنه ليس واحدًا منا؛ فهو أكبر سنًّا إلى حد ما.»

وأردفت: «لكنه ربما أراد أن يفعل ذلك.» ثم سكتت لدقيقة لتقول: «إن رغبته في فعل ذلك شيء آخر تمامًا؛ فإذا كان هذا هو ما ينوي القيام به، فما لأحدٍ أن يمنعه، أليس كذلك؟ أو يشعر بالحزن عليه؛ فأنا لم أكُن لأشعر بالحزن على أي شخص.»

استدار السيد لوهيد مبتعدًا، وقالت كالا بلهجة مقنعة: «والآن طاب مساؤك. أنا آسفة إذا ساءك ما وجدته على بابك.»

وللمرة الأولى في حياته ظن السيد لوهيد أنه قد لا يستطيع ارتقاء درجات السلم. شك حتى في قدرته على ذلك. ربما عليه الذهاب إلى بناية سكنية، مثل بقيتهم، إذا أراد أن يبقى على قيد الحياة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤