قل لي نعم أو لا

دائمًا ما أتخيلك ميتًا.

لقد قلت لي إنك أحببتني منذ سنوات مضت، منذ سنوات. وقلت لك إنني أحبك أيضًا، كنت واقعة في حبك حينذاك. كانت تلك مبالغة.

•••

في تلك الأيام كنت فتاة صغيرة، ولكن لم أكُن أدرك ذلك؛ لأن الأعراف كانت مختلفة آنذاك. فبينما ترسل فتيات هذه الأيام شعرهن إلى خصورهن، ويسافرن عبر أفغانستان، متنقلات في خفة وسلاسة — كما يبدو لي — بين عشاقهن العابرين المتنوعين والأبرياء، كان النعاس يغلبني وأنا أغسل الحفاضات، مرتدية روبًا قطنيًّا أحمر واجهته مبللة، وكنت أدفع عربة أطفال على طول الطريق المؤدي إلى المتجر (ومن كثرة اعتيادي على دفع العربة كنت أشعر من دونها بخفة مثيرة للقلق وبضرورة إعادة توزيع وزن جسمي فأميل إلى الخلف). كنت أقرأ وأروح في النوم على الأريكة في المساء. كانت أحوالنا نحن النساء في عصري يرثى لها لما نقوم به من عمل شاق، ونحن ذاتنا كنا نشعر بالرثاء لأنفسنا، ولكن، للحقيقة، لم يكن الأمر سيئًا دائمًا، بل كان في بعض الأحيان مريحًا؛ الأعمال المعتادة، والمكافآت الصغيرة من القهوة والسجائر، وتبادل الأحاديث المحبطة والفكاهية التي نحاول إضفاء الرسمية عليها مع نساء أخريات، وأحلام النوم المترفة.

في ذلك الحين كنا نعيش في مجتمع يُسمى الأكواخ، على حافة الحرم الجامعي، التي كانت في الحقيقة معسكرات للجيش تستخدم مأوًى للطلبة المتزوجين. أخذت أقرأ رواية «الجبل المسحور» طوال شتاء كامل؛ إذ كنت أروح في النوم فتقع الرواية على صدري. في بعض الأحيان كنت أقرأ بصوت لدوجلاس، عندما يكون مرهقًا للغاية بحيث لا يستطيع بذل مزيد من الجهد، وعندما أنهيت قراءة «الجبل المسحور» كنت أعتزم قراءة رواية «البحث عن الزمن المفقود». كنا نترنح وصولًا إلى السرير يحتضن كلٌّ منا الآخر يجمعنا الاشتياق إلى النوم، ولكني كنت أقوم عن الفراش من حين لآخر في وقت لاحق وأدخل الحمام لأضع العازل الأنثوي حتى لا يحدث حمل. ولو نظرت من النصف العلوي لنافذة الحمام خلال الفجوة في الستائر البلاستيكية لاستطعت رؤية الأنوار في نوافذ بعض حمامات المستعمرة الأخرى، ويمكنني تخيل الزوجات الأخريات وهن يؤدين نفس مهمتي في المساء ويضعن العازل الأنثوي. فالمخلوقات ذوات الاستخدام النهاري اللاتي لا تراهن بعيدات عن الرضع ومواقد الكيروسين وأحواض الغسيل يتحولن الآن إلى الاستخدام المسائي لهن بما يصاحبه من شعور — سرعان ما يخبو — بالذنب والتألق في الوقت ذاته. أتذكر في ذلك الزمن البعيد — من أربع أو خمس سنوات؛ إذ تبدو تلك الفترة مدة طويلة في الواقع بالنسبة لي — كيف أن الجنس كان يبدو لي مروعًا (كنا نقرأ أعمال لورانس، وكانت العديدات منا عذارى حتى سن العشرين). أما الآن فقد تقلصت تلك العلاقات إلى علاقات خاطفة رتيبة تحتضنها بشكل مناسب بما فيه الكفاية هذه المآوي ولا تخرج عنها. لم أشعر بشيء ملموس جدًّا في حياتي كما شعرت بالحرمان. وببساطة شعرت بالتغيير كما يشعر المرء بتضاؤل بهجة الكريسماس. ظننت أن مثل تلك التغييرات قد حدثت لأنني كبرت وصارت الأمور مملة بالنسبة لي. الكلمة التي دأبنا على استخدامها هي «ناضج»؛ حيث كنا نلتقي شخصًا كنا نعرفه منذ بضع سنوات مضت فنقول إن هذا الشخص قد نضج كثيرًا. لعلك تعرف كما يعرف الجميع الأوهام التي كنا نشترك فيها جميعًا في الخمسينيات؛ فمن السهل جدًّا أن تسخر منهم، وأن تقول إن من علامات النضج امتلاك غسالات أوتوماتيكية وكتمان السخط السياسي وإدمان إنجاب الأطفال واقتناء السيارات. سهل جدًّا ولكنه ليس الحقيقة كاملة؛ لأنه يتغافل عن شيء كان جذابًا، كما أعتقد، في منطقة ثقلنا وسيطرتنا: حبنا للحدود.

لم يكن للخيانة مكان في الأكواخ ولا في أي مكان آخر كنت أعرفه. كان يعيش كلٌّ منا بالقرب من الآخر، وكنا فقراء ومشغولين لأبعد الحدود. كان هناك قليل من ومضات الشهوة في الحفلات، وربما لم يكن بمقدورنا تحمل مصاريف الشرب بما يكفي لتطور الأمر. تقول إنك واقع في حبي فأردُّ عليك بأنني واقعة في حبك، ولكن الحقيقة مختلفة بالتأكيد. من المرجح أننا كنا نستشفُّ فكرة ما، من خلالنا، فكرة لم نفكر بها من قبل؛ نحَّيتَها أنت جانبًا أو لم أكتشفها أنا بعد.

تذكرت نفس اليوم الذي تذكرته أنت، عندما التقينا قبل عامين بشكل غير متوقع تمامًا في مدينة لم يكن أيٌّ منا يعيش فيها. تحدثنا عن الأمر بعدما شربنا الكثير من النبيذ على غدائنا المرتجل.

«ذات يوم ذهبنا للتمشية، واضطررت إلى رفع ذلك الشيء …»

«عربة أطفال، كانت فيها جوسلين حينذاك.»

«فوق الصخور والوحل كما أتذكر.»

في يوم مشمس، يوم جميل دافئ في فصل الربيع بشهر أبريل أو ربما مارس، ذهبت إلى الصيدلية في مركز التسوق بالحرم الجامعي مرتدية معطفي الشتوي الثقيل؛ لأنني لم أكُن أعتقد أنه يوم دافئ كما بدا في الظاهر، وما إن رأيتك حتى تمنيت لو أني رجعت إلى المنزل وصففت شعري من جديد بعناية أكبر وارتديت معطفي الرمادي الصوفي الأنيق. لم يكن بمقدوري خلع معطفي الشتوي الثقيل؛ لأنني كنت أرتدي حينذاك قميصًا سكبت عليه جوسلين عصير البرتقال.

أنا لا أعرفك جيدًا؛ فقد كنتَ تعيش في أقصى الجهة الأخرى من الأكواخ. كنتَ أكبر سنًّا من معظمنا، وقد عدت إلى الجامعة معيدًا، آتيًا من الحرب وعالم العمل الواقعي (وقد أخطأت إذ لم تبقَ هناك، فاستقلتَ وحصلت على وظيفة في مجلة بعد ذاك اليوم الذي تمشينا فيه). كانت زوجتك تستقل سيارتها كل صباح للتدريس في مدرسة الرقص. كانت صغيرة سمراء البشرة ذات طابع غجري وواثقة بنفسها إلى حدٍّ بعيد مقارنة بالزوجات الناعسات المشوشات المقيمات بالمنزل.

تجاذبنا أطراف الحديث أمام الصيدلية، وقلت إن الجو اليوم ألطف من أن نمضيه في العمل، وأنه يجدر بنا التمشية. لم نتوجَّه إلى الحرم بطرقه الواسعة المعبَّدة، بل ذهبنا إلى رقعة برية تكسوها الغابات جزئيًّا تطل على النهر؛ حيث دأب الطلاب — غير المتزوجين بالطبع — ممارسة الحب على عجل بالنهار وممارسته كاملًا بالليل. لم يكن هناك أحدٌ ذلك اليوم؛ فقد كنا لا نزال في وقت مبكر من العام، وكان سخاء الطقس مفاجأة للجميع، كما كنا في مكان يصعب المشي فيه بعربة أطفال، وكما قلت، كان عليك رفعها فوق الصخور والطرقات الموحلة. واضطررنا إلى أن يتمحور حديثنا حول صعوبات متشابهة. لم نَقُل شيئًا ذا أهمية، لم يلمس أينا الآخر، أخذ ضيقنا يزداد شيئًا فشيئًا بعدما تبين لنا أن مشيتنا تلك لن تسفر عما تظاهرنا بأننا نريد فعله — الاستمتاع بساعة من الصحبة البريئة في نهار يوم جميل — ولا عما كنا نريد فعله في الحقيقة. كان هذا النوع من التوتر جديدًا عليَّ في ذلك الحين، ولم يكن بمقدوري تقييم الموقف والاحتيال كما اعتدت لاحقًا مع غيرك من الرجال، ولم يكن بمقدوري حتى التيقن من أن الأمر يتجاوز حدودي الشخصية. ودَّعتك وأنا أشعر كما لو أنني تصرفت بطريقة خرقاء مملة في تلك المواعدة. في اليوم التالي أو الذي يليه عندما كنت أقرأ كالعادة على الأريكة، شعرت بخيالي يسرح بعيدًا وأنا أفكر فيك، وكانت تلك البداية، على ما أعتقد؛ إدراك المزيد مما لا يزال مخبأ لي؛ ومن ثم قلت لك: «لقد وقعت في الحب.»

هل تريد أن تعرف كيف تلقيت نبأ وفاتك؟ ذهبت إلى مطبخ الكلية لأعِدَّ لنفسي كوبًا من القهوة قبل فصل الساعة العاشرة، فدخلتْ عليَّ دودي تشارليز التي تخبز شيئًا دائمًا وأحضرت معها كعكة كرز متناسبة المكونات (الشيء الذي نجيده نحن جيل الخبرة، في خضم تلك الفانتازيا، هو أهمية التفصيل والتماسك؛ نعم، كعكة كرز متناسبة المكونات). كانت الكعكة ملفوفة في ورق شمعي ثم في ورقة جريدة، جريدة ذي جلوب آند ميل وليس الجريدة المحلية التي كنت قد قرأتها. كنت أنظر متكاسلة إلى تلك الجريدة التي مضى على تاريخ صدورها أسبوع كامل منتظرة غليان الماء، فرأيت عنوانًا مكتوبًا بخط صغير يقول: «وفاة صحفي معاصر للحرب». فكرت في عبارة «معاصر للحرب»؛ هل يُقصد بها شخص خاض حربًا بالفعل أم أنها مجرد صفة تفيد عمله الطويل؟ مع أنها في هذه الحالة قد تشتمل على كلا المعنيين حسبما أعتقد، بما أن العنوان يقول إن المتوفى كان مراسلًا صحفيًّا في زمن الحرب؛ ثم رأيت الاسم: إنه اسمك. ثم المدينة التي عشت ومت فيها، بسبب أزمة قلبية.

اعتدت حمل آخر رسالة لك في محفظتي أينما ذهبت، وعند وصول الرسالة التالية أستبدلها بها وأضع الرسالة القديمة في صندوق بخزانتي مع كافة الرسائل السابقة. وكنت أحب إخراج الرسالة الجديدة من محفظتي وقراءتها من حين لآخر، وأنا جالسة في المقهى مثلًا أو أثناء انتظاري في عيادة طبيب الأسنان، وبمضي الزمن لا أخرجها من محفظتي مطلقًا، بل وأكره منظرها وهي مطبَّقة وحوافها مثنية تذكِّرني بالأسابيع والشهور التي مرَّت وأنا أنتظر رسالتك الجديدة. ولكني أتركها هناك، لم أضعها في الصندوق. لم أجرؤ.

الآن وبعد أن درَّست لفصلي وتناولت الغداء مع زملائي وقابلت طلابي وفعلت كل ما هو مطلوب مني، عدت إلى البيت وأخرجت تلك الرسالة — الرسالة الأخيرة — من محفظتي، ووضعتها مع باقي الرسائل وأبعدت الصندوق بعيدًا عن ناظري. لقد فعلت ذلك عامدة ودونما شعور بالذنب تقريبًا؛ نظرًا لأنني فكرت في تلك الخطوة من قبل. أعد مشروبًا وأواصل حياتي.

كل يوم عندما أعود من التدريس أرى صندوق البريد، وحقيقة أشعر بنوع من السعادة نابع من عدم الانتظار؛ إذ ظل ذلك الصندوق الصغير محور حياتي مدة عامين، والآن فإن مجرد رؤيته كشيء عادي مرة أخرى — رؤيته كشيء لا يَعِد بشيء أو يخفي شيئًا ذا أهمية كبيرة — أشبه بالشعور باختفاء ألم مبرح. ما من أحدٍ يعرف أنني فقدت شيئًا، ما من أحدٍ يعرف ذلك الجزء من حياتي، إلا في العموم عن طريق القيل والقال؛ فعندما جئتَ أنت إلى هنا لم نكُن نرى الناس؛ لذا فأنا قادرة على مواصلة حياتي كما لو أن شيئًا لم يحدث، ولكن بعد فترة من الزمن أخبرت أحدهم، رجلًا يعمل معي اسمه جوس ماركس انفصل مؤخرًا عن زوجته ويصطحبني إلى الغداء ونظل نشرب حتى يحكي كلٌّ منا قصصه، وبعدها غالبًا ما نذهب إلى الفراش بدعوة مني. جوس رجل مشعر وحزين، أما أنا فمهتاجة، وهو ما فاجأني. منذ بضعة أيام دعاني على فنجان قهوة قائلًا: «قلقت عليك، وتساءلت إذا ما كان عليك زيارة … أحدهم.»

«تقصد طبيبًا نفسيًّا؟»

«حسنًا. لمجرد التحدث معه.»

«سأفكر في الأمر.»

ولكنني ضحكت عليه في سريرتي؛ لأنني كنت أضمر خطة أخرى. فبمجرد انتهاء الفصل الدراسي في أواخر أبريل كنت أعتزم زيارتك وزيارة المدينة التي مت فيها، والتي لم أزُرها قط؛ فهذا لم يكن واردًا على الإطلاق. كان التطلع إلى تلك الرحلة يبقيني سعيدة أيما سعادة. اشتريت نظارة شمسية على أحدث طراز وملابس جديدة متألقة.

الحب ليس شيئًا لا مناص منه؛ فالاختيار جزء منه. كل ما هنالك أنه من الصعب معرفة متى يقع الاختيار ولا متى يصبح لا رجعة فيه، حتى إن بدا حبًّا طائشًا. فما من إشارات تحذيرية تسبق ذلك. أتذكر جلوسي معك على الغداء وحينما قلت لي: «أحبك. أحبك الآن.» عندها تجاهلتك وأنا أنظر لنفسي في مرآة المطعم وشعرت بالإحراج منك. فكرت: يعلم الله لمَ تتصنع الشهامة؛ ولم آخذ كلامك على مجمل الجد، وفكرت في أنك في لحظة ما ستنظر إليَّ وترى أنك قلت هذا للمرأة الخطأ، لامرأة فقدت كل مقومات الجمال وباتت لا تصلح لتلك الصفات؛ فقد طرحت من ذهني منذ وقت طويل علاقات الحب والقصص العصيبة التي يمكن أن تتقاطع مع سير حياتي الطبيعي. أقلعت عن استخدام أصباغ الشعر السوداء ولم أعد أضع على وجهي خلطات شد البشرة مثل بياض البيض أو الشوفان المخلوط بالعسل أو كريمات الهرمونات، ولا أحمر الشفاه أو أي شيء من هذا القبيل.

ثم فهمت أنك كنت تعني ما قلته، وبدا لي أكثر من أي وقت سابق أنك مخطئ بالتأكيد.

فسألتك: «أأنت متأكد من أنك لا تقصد شخصًا آخر؟»

فأجبتَ: «لم تتدهور حالتي العقلية إلى هذا الحد.»

قبل هذا كنا نتحدث في سهولة، وقد سألت عن زوجتك.

«لم تعد تمارس الرقص بسبب عملية جراحية في ركبتها.»

«لا بد أن توقفها عن النشاط والحركة كان صعبًا عليها.»

«إنها مشغولة الآن؛ فلديها مكتبة.»

سألتَنِي عن دوجلاس وأخبرتُك أننا تطلَّقنا. أخبرتك أن الطفلين رحلا بعيدًا عني، كلاهما رحلا هذا العام وللمرة الأولى؛ فأخبرتني أنك ليس لديك أطفال. كنت أنا ثملة قليلًا حتى إنني أخبرتك كيف أن دوجلاس في العامين الأخيرين كان يكلم نفسه طوال الوقت، وأنني كنت أختبئ خلف الستائر وأشاهده يكلم نفسه ويقهقه ضاحكًا، ويلوي قسمات وجهه لصنع تعبيرات تنمُّ عن التقدير أو النفور وهو يجزِّز العشب. والأنكى من كل ذلك حديثه مع نفسه الذي ينهمك فيه بكل جوارحه أثناء حلاقة ذقنه، مع ما تفعله ماكينة الحلاقة الكهربية من حجب صوته والتشويش عليه. وقد أخبرتك أنني أدركت أخيرًا أنني لا أريد معرفة ما يقول.

أقلعت طائرتي في الساعة الرابعة والنصف، في حين اصطحبتني أنت بسيارتك من المدينة إلى المطار. لم أشعر بالحزن لفكرة تركك وعدم رؤيتك مرة أخرى، مع أنني كنت جد سعيدة بالركوب بجانبك في السيارة. كنا في شهر نوفمبر وسرعان ما أصبحت السماء ملبدة بالغيوم بعد الساعة الثالثة فأضأت مصابيح السيارة.

«أتعلمين، يمكنك استقلال الطائرة التالية.»

«لا أعلم.»

«يمكنك المجيء معي إلى الفندق والاتصال بالمطار لإلغاء الحجز، والحجز في الرحلة التالية.»

«لا أعرف. كلا، لا أعتقد أنني أستطيع فعل ذلك، فأنا متعبة للغاية.»

«أنا لا ألح عليك كثيرًا.»

«كلا.» كان كل منا يمسك يد الآخر طوال الطريق في السيارة. خلصت يدي وأومأت بإشارة تعني أنني متعبة من شيء آخر — تجربة مررت بها؟ — وأعدتها بيسر مرة أخرى. لم أكُن متأكدة أنا نفسي مما أعنيه، ولكنني توقعت أنك ستفهم، وكنتَ عند حسن ظني.

استدرنا بالسيارة متجهين إلى طريق سريع شمال المدينة؛ وحينما سلكنا طريقًا جانبيًّا منه اتجهنا غربًا. كانت خطوط الأفق بين الغيوم تتلون باللون الوردي الناري. بدت أضواء السيارات وكأنها تشكل نهرًا جاريًا، ميلًا بعد ميل. كان كل شيء أشبه برؤية العالم — رؤية غير ثابتة هادئة ومطمئنة تمامًا — الرؤية التي اعتدتها وأنا في حالة سكر. قلت لنفسي، ولمَ لا؟ جاءني خاطر يحثني على الثقة فيك، الطفو فوق اللحظة الحاضرة، الأمر الذي قد يمتد إلى ما لا نهاية. لم أكُن ثملة. كنت ثملة على الغداء، ولكن لم أَعُد كذلك.

«لمَ لا؟»

«لمَ لا، ماذا؟»

«لمَ لا نذهب إلى فندق ونتصل بالمطار لإلغاء الحجز والحجز في رحلة تالية؟»

قلت لي حينئذٍ: «هذا ما رجوته منك.»

هل تعتقد أن تلك هي لحظة الاختيار، لحظة أن رأيت السماء وأضواء السيارات؟ لم تبدُ لحظة جادة بأي حال من الأحوال. كان الفندق/النزل مبنيًّا بحجارة بيضاء، وكانت الجدران في الداخل كما في الخارج تمامًا، حتى إن الستائر والسجاجيد الموحية بالثراء والأثاث الثقيل المقلد ذا الطراز الإسباني كانت تبدو على نحو لا ذوق فيه ينم عن التنافر، وكأن الحجرات مآوٍ مؤقتة جرداء. كانت الصورة التي يمكننا رؤيتها ونحن بالسرير تظهر قوارب برتقالية، ومباني قاتمة وأخرى برتقالية تنعكس على صفحة الماء الزرقاء الداكنة. وحكيت لي قصة الرجل الذي اشتهر بالتخصص في رسم الصور للفنادق، فكان يرسم القوارب وطيور البشروش وصور العراة الذين لفحتهم الشمس، لا أكثر ولا أقل. وقلت لي إنه جنى الكثير من المال من ذلك العمل.

دوَّت الطائرات فوق رءوسنا في سماء المنطقة، في بعض الأحيان لم أستطِع سماع ما قلته، حتى عندما كان وجهك ملامسًا لوجهي، ولم أستطِع أن أطلب منك تكرار ما قلته؛ إذ كنت سأشعر بسخافة تلك الفكرة. وعلى أي حال فإن مثل تلك الأشياء غير قابل للتكرار في العادة. ولكن ماذا لو سألتني سؤالًا، ومع عدم سماعك جوابًا مني لم تقدر أن تعيد عليَّ السؤال؟ عذبني هذا الاحتمال كثيرًا في وقت لاحق، عندما أردت أن أعطيك كل الإجابات التي كنت تأملها.

ارتعشنا معًا في آنٍ واحد، واستطعنا السيطرة على أنفسنا بالكاد؛ إذ كان يغمرنا — نحن الاثنين — شعور بالامتنان والدهشة، طوفان من الحظ والسعادة غير المستحقة، غير المشروطة، وغير المصدقة تقريبًا. توقفت الدموع في أعيننا، هذا شيء لا يمكن إنكاره. نعم.

لو كنتَ رجلًا التقيته ذلك اليوم أو في ذلك الوقت من حياتي، أكنت سأحبك؟ ليس كثيرًا. لا أعتقد ذلك. ليس كثيرًا. لقد أحببتك لأنك تربطني بماضيَّ، بشبابي وأنا أدفع عربة الأطفال على طول طرقات الحرم الجامعي، وأنا بريئة دون أي جريرة اقترفتها. لو كان بمقدوري إذكاء شرارة الحب حينذاك وحملها معي الآن، لكنت بددت من حياتي أقل مما أعتقد، أقل كثيرًا مما أعتقد. إن حياتي لم تنهَر تمامًا، بل ضاعت بين السكك والدروب.

•••

ثم قررتُ الرحيل في الأول من مايو، وبذلك يكون أمامي ما يقرب من الشهرين دون أي مسئوليات قبل عودة الأطفال، وقبل بدء مدارس الصيف. وأطير إلى المدينة التي كنت أرسل منها رسائلي طوال هذا الوقت، رسائلي الفرحة، رسائلي الحافلة بالثرثرة والأسرار الخاصة، رسائلي القلقة والمتوسلة، التي كنت سأواصل إرسالها لو أنني لم أكُن لماحة بما يكفي لأن ألاحظ نبأ وفاتك.

إنها المدينة التي عشت أنت فيها، والتي وصفتها لي في تهكم وإن كان عن رضًا عنها في رسائلك. تلك المدينة التي تعج بالعجائز وبالسائحين الحيارى؛ كلا، بل العجائز، «مثلي»، على حد وصفك، مدعيًا كالعادة أنك أكبر من سنك الحقيقي. لطالما أحببتَ فعل ذلك، أي التظاهر بالإرهاق والكسل، وإظهار لامبالاتك. وقد رأيتُ أن إخبارك بالحقيقة فيه شيء من التصنع. الشيء الذي لم أستطِع تصديقه، الذي لم يكن لديَّ من الخيال ما يكفي لتصديقه، هو أن ذلك قد يكون حقيقيًّا؛ فقد أخبرتني ذات مرة أنك لا تهتم على الإطلاق بموتك في القريب العاجل أو امتداد العمر بك خمسًا وعشرين سنة قادمة. مجرد تجديف من عاشق ولهان. أخبرتني أنك لا تفكر في السعادة، وأن العالم كله لا يساوي عندك شيئًا. كنت أرى أن مثل تلك الآراء إنما تنمُّ عن غطرسة بينة، لا سيما وأنها تصدر عن رجل مسن مثلك وكأنك في ريعان شبابك، بيد أنني لم أكُن أرغب في إقلاق نفسي لفهم رجل كانت هذه التصريحات بالنسبة له حقيقة مؤكدة، رجل لديه قدر من الطاقة المستهلكة أو المنسية كليًّا. مع أنني قد توقفت عن صبغ شعري وحسبت أنني تعلمت أن أعيش بمستوى بسيط من التوقعات، إلا أنني كنت أؤمل فيك كثيرًا، آمالًا كبارًا. لقد رفضت رفضًا قاطعًا، وما زلت أرفض، أن أراك كما ترى نفسك فيما بدا لي.

كتبت لي ذات مرة، قائلًا:

كلما فكرت فيكِ شعرت أنك تغمرينني بفيض من الدفء والأحاسيس، ولما كنتُ إنسانًا كغيري من البشر فقد خشيت أن أغرق في أعماق فيضانك.

فكتبتُ ردًّا عليك أنني مجرد نُهَير صغير يمكنك خوضه بكل بسهولة. وعلى العموم أنت أدرى.

لكم حاولت أن أفتنك وأضللك، حتى ذلك الحين، سواء في رسائلي أو عندما التقينا معًا! أصبح نصفُ اهتماماتي في الحب منصبٌّ على كيفية إخفاء الحب، جعله غير ضار ومبهجًا. ويا لها من تمثيلية مهينة! أما أنت فكنت تبتسم بطريقة معينة، طريقة لطيفة: أعتقد أنك كنت خجلًا للغاية من أجلي.

وجدت بناية سكنية على مقربة من البحر، يرجع تاريخها إلى العشرينيات فيما أعتقد، مبنى مطلي بالجص الأصفر الكريمي، ذو نوافذ متهالكة، تعلو بابه ميدالية خالية من النقوش والكتابة ومخطوطة يصعب تفسير رموزها. كثير من العجائز، كما قلت لي، يمشون في ضوء البحر المتلألئ. خرجت إلى الشوارع ومشيت في كل مكان. لا أريد تجشم عناء الذهاب إلى المقبرة؛ فأنا لا أعرف في أي مقبرة أنت مدفون، على أي حال. مشيت على الأرصفة التي ربما مشيت أنت عليها ذات يوم وأخذت أنظر إلى الأشياء التي نظرت إليها بالتأكيد، والنوافذ التي ارتسم انعكاس صورتك عليها قد عكست صورتي كذلك عليها. إنها لعبة. أجد هذه المدينة مختلفة تمامًا عن المدن التي اعتدتها؛ فشوارعها شديدة الانحدار، وبيوتها المطلية بالجص الباهت، الكثير منها مسطحُ الأسطح ومبنيٌّ على ذلك الطراز الغريب الذي يشبه طراز محطات البنزين والمسمى قبل الحرب العالمية الثانية بالطراز «الحديث». أما نوافذ الزينة المستطيلة فهي من الطوب الزجاجي السميك. في بعض الأحيان تجد سقفًا مبنيًّا على الطراز الإسباني، أو بوابات أو أرضيات لا تتناسب مع ما حولها. الحدائق الشهيرة التي تمتاز بزهور الوَرْدِيَّة والأزالية والكوبية بألوانها الحمراء والبرتقالية والأرجوانية التي تبهر العيون، وزهور التيوليب الكبيرة مثل الكئوس تتباهى في جمال لانهائي. أما المحال التجارية فهي غريبة جدًّا بالنسبة لأي شخص قادم من مدينة صناعية أو جامعية، بالرغم من وجود الملابس المبهرجة بمراكز التسوق، غريبة لشخص اعتاد قدرًا من الاحتشام والمهنية: محال الآيس كريم المواكبة للقرن العشرين، وبضائع الغرب الجامح الرياضية، وأزياء هاواي الفضفاضة المزينة بأشجار النخيل، إضافة إلى مقاهي تيودور التي تزدان أسقفها بالجملونات المستدقة، والصنادل ذات السيور في متاجر أشبه بالكهوف تصدر منها أصوات مسجلة لضوضاء الغابة. إلى جانب محال السكاكر المصممة واجهتها على شكل قلاع صغيرة، وينتشر هذا الطراز التنكري ويتنوع إلى حد الضجر منه. ذات يوم ذهبت إلى السوبر ماركت لشراء بعض الخبز والبرتقال فوجدت موظف تحصيل النقدية فتاة ترتدي كيسًا من الخيش ووجهها ملطخ بالطين وطلاء أحمر، كما أنها تضع عظمة بلاستيكية مغروسة بشعرها. كانوا يسعون إلى ترويج الزبيب واللحم البقري الأسترالي، لكنها ابتسمت في وجهي ابتسامة إنسانية تشي بالضجر من بين الطين والطلاء، مما طمأنني بأن هناك شخصًا في أغلب هذه الأماكن يمكنه الشعور بذلك.

وجدت نفسي أبحث في تلك الشوارع عن بعض ذكرياتك؛ إذ بحثت ذات مرة عن إشارات في مقالاتك التي كتبتها للصحف والمجلات، في الكتب التي ألفتها بحرفية لخدمة قضايا الآخرين، وليس لشخصك. لكم كانت كتاباتك مسلية وحافلة بالمعلومات حيث كنت على قدر عظيم من المهارة أهَّلَك لتحظى بأسلوب بديع، إلا أنك تراجعت، حتى عن ذلك. سمعت نفسي أتساءل، أهذا كل ما هنالك؟ فيما كنت أنت تستغرق في الضحك وتقول: وهل هناك من مزيد؟ غير أنني لم أقتنع، فظللت وراءك، رغبة مني في أن تشفي ما يجول داخلك.

لو كان عليَّ أن أصفك، كما أراك في سريرتي، لقلت إنك عنيد، وحينئذٍ كنت ستسارع قائلًا بنفاذ صبر إنك كنت متساهلًا طوال حياتك. ولكن ليس هذا ما أعنيه؛ فما أقصده أنك عنيد، قاسٍ على نحو مبالغ فيه (جسمانيًّا وروحيًّا)، عفيف ولطيف، ولكنك لست شفوقًا. أود أن أؤكد على أنك تتمتع بشيء من الشهامة، وأتوقع منك — شأنك شأن الفرسان النبلاء — أن تنتهج سلوكيات عفى عليها الزمن تنمُّ عن التضحية بالنفس، وأيضًا عن سلوكيات وحشية مثيرة للإعجاب، تقوم بكلٍّ منهما بأسلوب ينم عن انتمائك لمنظمة سرية.

من ناحية أخرى، فإنك كنت ستصف نفسك بالأنيس، الفاسد، الأناني عادةً والمحب للمتع. كنت ستنظر إليَّ من فوق نظارتك كما لو كنت مدرسًا دمث الخلق متصلب الرأي أثار أسلوبي المتطرف حنقه. وسيكون علينا حينئذٍ أن ننظر إلى وقوعي في الحب، بالطريقة التي أحب بها، كما لو كان تهوُّرًا ستساعدني على الشفاء منه، اقتراحًا ستفرضه عليَّ بما لك من سلطة في مقال من المقالات.

بطبيعة الحال، كنت أعرف منذ البداية أن الحياة بتلك الطريقة أمر بالغ الخطورة؛ فالعلاقات قابلة للانهيار في أي لحظة، وقد انهارت بالفعل، وليس بمقدور أحدٍ كائنًا من كان أن يضع يده على مكمن الفشل، شئنا أم أبينا؛ وليس هناك أحدٌ أستطيع أن أشكو له وأبوح إليه. وكالعادة تصل النجدة في آخر لحظة: رسالتي الساخطة الموجزة المعبرة عن يأسي الشديد، ثم رددت عليَّ برسالة اعتذار مفعمة بروح الدعابة تفيض بالرقة إلى حد ما، تقول لي فيها ليس هناك أي خطر. كنت أقف على أرض صلبة طوال الوقت ما لم تتركني وحدي. كما لو أن هذه الحفرة التي وقعت فيها، والمتمثلة في غيابك الدائم، ليست سوى حلم أخوِّف نفسي به، أو في أسوأ الأحوال مكان لا أملك إلا أن أصرخ منه بصوت عالٍ بما يكفي طلبًا للمساعدة، مؤمنة بقدوم المساعدة، وتأتي المساعدة.

وجدت نفسي أقرأ مقالات في المجلات النسائية، تجارب سابقة مرت بها النساء. عندما أستعيد روحي المعنوية، أتخطى تلك القصص، أما عندما تنخفض معنوياتي، فإنني أقرؤها لعلي أجد فيها سلواي؛ لأن اكتشاف المرء أنه لا يحمل الكرب وحده أمر يبعث على الارتياح؛ فالمصيبة إذا عمت هانت. كما أن قصص النساء الأخريات تبين كيف أنهن استطعن التعافي وتقدم تشجيعًا لغيرهن. فهذه مارثا تي ظلت عشيقة لرجل مدة خمس سنوات، خدعها وسخر منها وأسرها، حيث تقول: لقد وقعت في حبه؛ لأنه بدا لي لطيفًا للغاية. وهذه إميلي آر التي لم يكن حبيبها متزوجًا كما ادعى. كثيرًا وأنا أتحدث إلى كلٍّ من الرجال والنساء أسمع نفسي أتابع هذا الموضوع بطريقة مضحكة تدعو للرثاء؛ كيف تبني النساء قصورًا على أساسات واهية تكاد لا تتحمل أكثر من عش صغير، وكيف أن النساء يخدعن أنفسهن ويعانين دون جدوى، ويضعن أنفسهن موضع استغلال بسبب الفراغ في حياتهن ولخلل ما فيهن، وإن كان خللًا غير معروف ويمكن علاجه في الوقت ذاته! وغير ذلك الكثير والكثير مما يعلمه الجميع في هذه الأيام وباتوا يحفظونه عن ظهر قلب كأغنية خفيفة، وفي الوقت نفسه صار قلبي مكسورًا كقلب تحكي أغنية عنه، ليظل قلبًا جافًّا ومشققًا مثل أرض قاحلة تنتشر بها الأخاديد. أبكي مع مارثا تي وإميلي آر وأتساءل ما الطرق التي استطاعتا اتباعها لعلاج آلامهما؛ هل عن طريق تعلم صنع المكرمية؟ أم بالتنفس العميق؟ ذات مرة قالت لي إحدى صديقاتي — صديقة بالطبع لا صديق — إنه بما أن الألم لا يلحق بالمرء إلا إذا نظر إلى الوراء في الماضي أو إلى الأمام في المستقبل فقد استطاعت القضاء على المشكلة برمتها عبر عيش كل لحظة بلحظتها؛ فكل لحظة، على حد قولها، مفعمة بالصمت المطبق. وقد جرَّبتُ هذه الطريقة، ولسوف أجرب أي شيء من شأنه أن يقلل من معاناتي تلك، ولكنني لا أفهم كيف تؤتي ثمارها.

اشتريت خريطة، واستطعت العثور على الشارع الذي تقطن فيه والمربع السكني الذي يقع به منزلك، ولم يكن ببعيد للغاية عن شقتي، حيث كان على بعد عشرة مربعات سكنية أو نحو ذلك سيرًا على الأقدام. لم أذهب هناك بعدُ، وإنما مشيت مسافة مربع أو مربعين في اتجاهه ثم عدت أدراجي. إنه منزل لم تكن لتريني إياه مطلقًا (الأماكن التي أعيش بها على العكس تمامًا؛ حيث أزينها وأجملها على أحسن وجه عند مجيئك لزيارتي) وها أنا الآن بمقدوري رؤية منزلك لو أردت. يمكنني أن أسير على الجهة المقابلة الأخرى من الشارع متجاوزة إياه وقلبي يخفق غير قادرة إلا على استراق النظر إليه مرة أو مرتين، ثم أصبحت أكثر جرأة فاستطعت المشي ببطء. الغسق هو وقتي المفضل للتسكع عن قرب من النوافذ المفتوحة، لاستراق السمع للموسيقى أو للأصوات. تخيل هذا حقيقيًّا، منزلًا حقيقيًّا، حيث يغسل الناس الأطباق ويغطون في النوم. وفي الليل، إن لم تسدل زوجتك الستائر، يمكنني التلصص على غرفتك. هل تلك الصور من اختيارك، أم من اختيارها؟ لا. كلاكما. لم يسبب لي ما اكتشفته سوى الألم المعتاد.

ذات مرة قرأت قصة، قصة واقعية، في مجلة — قد تكون واحدة من المجلات التي عملت بها — عن امرأة فقدت بنتيها الصغيرتين في حادث سيارة، وفي كل يوم عندما يقفل الأطفال الآخرون راجعين من المدرسة، كانت تخرج وتمشي على طول الشوارع كما لو أنها تتوقع مقابلة بنتيها. لكنها لم تذهب قطُّ إلى المدرسة، لم تنظر قطُّ في فصولهما الفارغة، لم تستطِع قطُّ أن تعرِّض نفسها لذلك.

ذهبتُ إلى مكتبة زوجتك، وهذا هو ما يمكنني القيام به. لم أكُن أعرف اسم المكتبة فبحثت عن المكتبات في دليل الهاتف، وأخيرًا وجدت مكتبة باسم «باربرا بوك مارت»، لا بد أن تلك هي مكتبتها. ومن اسمها توقعت شيئًا بسيطًا وعتيق الطراز، بيد أنني دهشت حينما وجدتها مكتبة كبيرة جدًّا، فاخرة، مزدحمة مثل سائر المكتبات الكبيرة. لم تكن هناك حلي وزخارف القرون الوسطى أو لمسات العصر التيودوري، لا زخارف من أي نوع؛ فهي أشبه بمشروع ثابت يعمل على مدار السنة، دون الحاجة إلى التأنق لجذب السياح.

عرفتها لحظة أن وقعت عليها عيناي، مع أنها تغيرت؛ إذ اكتسى شعرها باللون الرمادي، صار رماديًّا أكثر من شعري، وعقصتْهُ على هيئة كعكة. ملامحها أقل حدة عما كانت عليه، لا تضع مساحيق تجميل، شاحبة الجلد، غير أنها لا تزال تحتفظ بمسحة من الجمال والجاذبية، إلى جانب أسلوبها السريع المضحك سريع الانفعال. كانت ترتدي ثوبًا فضفاضًا أرجوانيًّا فاتحًا له أربطة موشاة بالتطريزات الهندية. كانت حركتها متصلبة، بعد أن كان عليها تعلم المشي من جديد عقب إزالة الغضروف في إحدى ركبتيها. لقد صارت أثقل وزنًا، كما قلت؛ إنها امرأة في منتصف العمر ممتلئة الجسم.

جاءت من مؤخرة المكتبة تحمل كتابين من الكتب الفنية الكبيرة، ثم ذهبت وراء مكتبها ووضعتهما على أحد الأرفف، وتحدثت إلى البائعة كما لو أنها تكمل محادثة كانت قد بدأتها في وقت سابق:

«حسنًا، أنا لا أعرف كيف … الفاتورة … هاتفيهم وأخبريهم أننا لا نتعامل هنا بتلك الطريقة … يجب أن نعيد البضاعة اللعينة كلها.»

ما زلت أتذكر صوتها، نفس الصوت الذي سمعته منذ زمن بعيد في حفل أو اثنين؛ صوت واضح مفعم بالتحدي يبدو لي أنه يستعيد مستواه الطبيعي عند وصولها لمستوى معين من الغضب، صوت يبرع في قول: «يا إلهي ما ظن هؤلاء البلهاء بي!» هب أنها تعرفت على صوتي أو على وجهي؟ أنا لا أعتقد ذلك. لا أحسبها من النوعية التي تتذكر شخصًا هامشيًّا في حياتها، ولطالما كانت هي في المركز، وليس لديها أي معلومات عني، أليس كذلك؟ لا أظنها تتوقع مجيئي هنا.

ومع ذلك فقد شعرت بأنني ملحوظة لها، كما شعرت بالذنب، وأني غريبة هنا؛ بيد أنني ظللت فترة طويلة أتجول في شتى أرجاء المكتبة دونما هدف واضح، ويا لها من مكتبة مخيفة! فهي زاخرة بكثير من الكتب. ويبدو أنني كنت دائمة التوقف أمام الكتب التي تخبر الناس بطرق مختلفة كيف يبلغون السعادة، أو السلام على أي حال. ليس لديك أدنى فكرة — حسنًا ربما كانت لديك فكرة — حول عدد الكتب الموجودة هنا من هذه النوعية. وأنا لا أستهجن ذلك، بل أعتقد أنه ينبغي عليَّ قراءتها كلها أو على الأقل قراءة بعض منها، ولكن كل ما يمكنني فعله هو التحديق بها في اندهاش. ثمة كتب أخرى عن السحر؛ فهناك مئات الكتب حول الساحرات والتعويذات والاستبصار والطقوس ومختلف أنواع الحيل والعجائب. كل تلك الكتب تبدو لي كتابًا واحدًا — كتب السعادة والسلام وكتب السحر والعجائب — فهي لا تبدو كتبًا مختلفة على الإطلاق، وهذا هو السبب في عدم اقترابي منها؛ فهي متراصة معًا في جميع أرجاء المكتبة كنهير رائع متنوع الألوان، أو نهر واسع، ولم يَعُد بمقدوري حقًّا فهم ما بداخلها تمامًا كما لا يمكنني التنفس تحت الماء.

دأبتُ على المجيء يومًا بعد يوم. اشتريت بعض الكتب ذات الأغلفة الورقية، بعد أن أتصفحها، كما يظنون، لساعات. ذات مرة تطلعتْ في وجهي وابتسمتْ، لكنها ليست سوى تلك الابتسامة العابرة التي تبتسمها لعملائها، فيما أسترق السمع لها وهي تتحدث مع البائعات، وتضحك، وتصنع المقالب إضافة إلى جديتها أيضًا وعدائيتها مع أحدهم على الهاتف، كذلك سمعتها وهي تطلب الشاي مع العسل، وتدَّعي الاستقامة ساخرة برفض الكعك. سمعتها وهي تستأسد على العملاء، بطريقة ساحرة أحيانًا. يمكنني أن أتصور نفسي صديقتها التي تبوح لها بأسرارها. أشعر بالخجل من هذا الخيال، أشعر بالحسد في حضورها، وبأنني انتصرت عليها انتصارًا عارضًا، كما أشعر بهذا الفضول اليائس التافه. لكم أشعر بالخجل من كل هذا عندما أتذكره.

كنت آتي في المساء؛ حيث تظل المكتبة مفتوحة حتى التاسعة مساءً، ولكنها لا تكون موجودة عادة. وذات مساء جئت فوجدتها هناك وحدها، لم يكن هناك غيرها. توجهَتْ إلى الغرفة الخلفية وعادت حاملة شيئًا، ثم قَدِمت نحوي مباشرة، قائلة:

«أعتقد أنني أعرف من تكونين.»

نظرتْ في وجهي مباشرة، فكان عليها أن ترفع ذقنها إلى أعلى نظرًا لأنها أقصر مني.

«لقد لاحظنا جميعًا كثرة ترددك على المكتبة. في البداية حسبتك سارقة، فنبهت الجميع على ضرورة الحذر منك ومراقبتك، ولكنك لست سارقة، أليس كذلك؟»

«بلى.»

أعطتني ما في يدها، كيسًا ورقيًّا بني اللون مليئًا بالأوراق.

«لقد مات.» قالتها وهي تبتسم لي كمعلمة تضبطك ترتكب خطأ بشعًا في المدرسة، ثم أضافت مفسرة: «ولذلك لم تتلقَّي منه أخبارًا مؤخرًا. توفي في مارس إثر إصابته بأزمة قلبية وهو جالس إلى مكتبه بالمنزل، ووجدته حينما رجعت إلى المنزل في وقت العشاء.»

لم يُمكِنِّي الرد عليها، ورأيت أنه لا ينبغي ذلك.

«هل ينبغي أن أقول آسفة وأنا أطلعك على هذا الخبر؟ لست آسفة؛ فما تشعرين به لا يهمني في شيء، لا يهمني مطلقًا، ولا أريد أن أراكِ هنا مجددًا! إلى اللقاء!»

غادرتُ المكتبة دون أن أرد عليها بكلمة واحدة. وفي شقتي فتحت الكيس وأخرجت الرسائل. كانت رسائل خارج مظاريفها. هذا ما اعتقدت أنني سأراه، عرفت أنني سأجد رسائلي. لا أريد قراءتها، خشيت قراءتها، اعتقدت أنني سأنحيها جانبًا، ولكنني لاحظت عندئذٍ أنه ليس خطي؛ فشرعت في قراءة الرسائل. تلك الرسائل لا تخصني، فأنا لم أكتبها. تصفحت كل واحدة منها بسرعة وأنا مرعوبة حتى وقعت عيني على التوقيع المذيَّلة به الرسائل: باتريشيا، بات، بي. فعاودت قراءتها بعناية رسالة تلو الأخرى:

حبيبي العزيز

لقد تركتني وأنا في قمة السعادة. ذهبت إلى المنتزه بصحبة سامانتا وكان يومًا جميلًا. أركبتها على الأرجوحة وراقبتها على المزلجة، وجال بخاطري أنني سأحب هذا المنتزه إلى الأبد؛ لأنني ذهبت هناك وأنا سعيدة وبعدما كنت معك.

قرة عيني

هل تذكر ذلك العجوز المجنون بالجوار؟ فقد جاء وأكل تلك الأشياء من على الشجرة الوردية في الحديقة، أقصد شجرة البرقوق المزروعة بغرض الزينة، لا بد أنه انجذب إلى ثمار البرقوق بألوانها البراقة، إنها صلبة كالحجر ولا يمكن لأحدٍ أكلها. أنا متأكدة من ذلك، ولكنني رأيته يقطفها ويبتلعها حفنة حفنة. كنت أجلس على الأرضية في الغرفة الزجاجية على الوسائد القرمزية، حيث كنت أنا وأنت …

نور عيني

حلمت بك الليلة الماضية. كان حلمًا غريبًا جميلًا. كنت تمسك شعري بين يديك وتقول: كل هذا الشعر ثقيل بالنسبة إليك، عليك أن تقصيه؛ لأنه سيستنزف قوتك. والطريقة التي قلت بها ذلك كانت جميلة جدًّا، عاطفية جدًّا، كما لو كنت تعني شيئًا آخر وليس شعري فقط. كيف يمكنني يا حبيبي أن أحكي لك ما تقوله لي في أحلامي إن لم تكتب لي؟ لذا أرجو أن تكتب وتحكي لي، تحكي لي ما تقوله لي في أحلامي …

حبيبي

أحاول جاهدة أن أكف عن الكتابة إليك؛ لأنني أعتقد أنني يجب أن أعطيك الخيار، لا أريد أن أطاردك وأعذبك بإلحاحي لكن اختفاءك هكذا فجأة أمر بالغ القسوة على نفسي، فأنا أشعر بشعور فظيع حينما تتركني وحيدة. ولو أنك أخبرتني أنك لا تريد رؤيتي أو حتى مراسلتك مجددًا لتقبلت الأمر، أعتقد أنني أستطيع، أما عدم معرفتي الحقيقة فهو الأمر المريع. يمكنني تدبر أمر مشاعري إن اضطررت إلى ذلك كما يمكنني الشفاء من حبك، ولكن يجب أن أعرف أولًا إن كنت تحبني وتريدني في حياتك بعد ذلك؛ لذا أرجوك، أرجوك قل لي نعم أو لا.

أما الرسالة الأخيرة فلم تكن رسالة في الواقع، بل شخبطات كبيرة على الورقة دون أي تحيات أو توقيع:

أرجوك اكتب لي أو هاتفني، فأنا أكاد أصاب بالجنون. أكره أن أكون هكذا ولكن الأمر يفوق قدرتي على الاحتمال؛ لذا أتوسل إليك.

«لم أكتب تلك الرسائل.»

«ألست أنت من كتبتها؟»

«كلا. لا أعرف من كتبتْها. لا أعرف.»

«فلماذا أخذتِ الرسائل إذن؟»

«لم أفهم الأمر. ولم أعرف عما كنتِ تتحدثين. لقد مررت بصدمة مؤخرًا وفي بعض الأحيان لا أستطيع … لا أستطيع الانتباه.»

«لا بد أنك اعتقدتِ أنني مجنونة.»

«كلا. كل ما هنالك أنني لم أعرف ما يجري من حولي.»

«لعلك رأيت إذن أن زوجي قد توفي. توفي في مارس. حسنًا، لقد أخبرتك بذلك من قبل، وما زلت أتلقى تلك الرسائل، ولا يوجد عليها عنوان لإرجاعها لصاحبتها عليه. فهي مغفلة التوقيع. خاتم البريد يعود إلى فانكوفر، ولكن فيما يفيدني ذلك؟ كنت أترقب حضورها؛ فقد استشعرت من رسائلها إقدامها على عمل متهور.»

«نعم.»

«هل قرأتِ كل الرسائل؟»

«نعم.»

«هل كان الأمر يستلزم قراءتها كلها لتعرفي أن ثمة خطأً؟»

«كلا، ولكن الفضول هو ما دفعني لقراءتها كلها.»

«تبدين مألوفة لي. الكثير من الناس يبدون لي كذلك، بسبب طبيعة عملي في المكتبة؛ حيث أرى الكثير من الناس.»

أخبرتها باسمي، اسمي الحقيقي، ولِمَ لا؟ فذلك لا يعني لها شيئًا.

«أرى الكثير جدًّا من الناس.» ثم أمسكت بكيس الرسائل ورفعته فوق سلة المهملات وتركته يسقط فيها، مضيفة: «لا أستطيع الاحتفاظ بها أكثر من ذلك.»

«صحيح.»

«سأكتفي بتركها تعاني.»

«في النهاية ستعرف الحقيقة.»

«وماذا لو لم تعرف؟ هذا أمر لا يعنيني في شيء.»

«صحيح.»

لم تعد لديَّ رغبة في مواصلة التحدث معها، لم تَعُد لديَّ رغبة في مواصلة سماع قصصها. يبدو لي الجو حولها خانقًا، كما لو أنها كانت تشع ضوءًا يتضاءل ويتخافت.

تفرَّست في وجهي، قائلة: «لا أدري لماذا خطرت لي فكرة أنك قد تكونين أنت صاحبة الرسائل، مع أنك لا تبدين أصغر مني سنًّا بكثير، ولطالما فهمت أنهن أصغر سنًّا.»

ثم تنهدت، مستطردة: «إن ما تعرفينه عن حياتي يفوق ما تعرفه الفتيات اللاتي يعملن معي أو أصدقائي أو أي شخص آخر، إلا أنني أرسم لها صورة في مخيلتي. أنا آسفة، ولكني حقًّا لا أود رؤيتك مجددًا.»

«أنا لا أعيش هنا، وسوف أرحل بعيدًا. في الحقيقة قد أرحل في الغد.»

«هكذا هي الحياة كما تعلمين، وهذا شيء معتاد وحسب. ليس الأمر أننا لم نكُن نعيش حياة سعيدة معًا. لم يكن لدينا أطفال، ولكننا فعلنا ما أردنا. كان رجلًا رقيق الحاشية، طيب المعشر، وناجحًا في عمله. لطالما شعرت أن بإمكانه أن يكون أكثر نجاحًا، لو ضغط على نفسه. ولكن مع ذلك إن قلت لك اسمه فلربما عرفتِه.»

«لا داعي لذلك.»

«أوه، حسنًا، لا داعي لذلك.»

كزَّت على أسنانها وبدا وجهها محتقنًا بشعور يشي بالإحساس بالمرارة، مطبقة شفتيها بشكل هزلي تعبيرًا عن رغبتها في التخلص مني. فاستدرتُ في ذات اللحظة تقريبًا حتى لا أرى منها ذلك.

خرجتُ إلى الشارع ولم تكن الشمس قد غابت تمامًا في رحم المساء الطويل. مشيت ومشيت. في تلك المدينة التي تسكن مخيلتي، أمشي متجاوزة الجدران الحجرية مع صعود وهبوط التلال المنحدرة، وأرى بعين عقلي تلك الفتاة باتريشيا. امرأة فتية، ذلك النوع من النساء الذي يسمي ابنته سامانتا؛ رشيقة جدًّا، سمراء، ترتدي ملابس عصرية، عصبية قليلًا، متكلفة قليلًا، شعرها أسود طويل غير ممشط، وجهها تعلوه البثور. تجلس في الظلام، تذرع كل الغرف جيئة وذهابًا، تحاول أن تبتسم لانعكاس صورتها في الزجاج، تحاول وضع مساحيق التجميل. تسر بما يجيش بداخلها لامرأة ما، لديها عشيق ما. تأخذ ابنتها إلى المنتزه، ولكن ليس نفس المنتزه. تتجنب بعض الشوارع، ولا تقرأ مجلات معينة. إنها باختصار تعاني وفق قواعد نعلمها جميعًا، قواعد لا معنى لها، لكنها مطلقة. عندما أفكر فيها أرى كل هذا النوع من الحب الذي رأيته أنت بكل تأكيد، أو أراه، كشيء يحدث على مسافة مني؛ تبديد غريب للجهد، لا يدعو حتى للرثاء؛ طقس غامض في عقيدة غير معروفة. هل أنا محقة، هل أقترب منك، هل هذا صحيح؟

ولكنك أنت، وهو ما أنساه دائمًا، أنت من قالها أولًا.

كيف لنا أن نفهك؟

لا تبالِ؛ فأنا من اختلقتها. أنا من اختلقتك، بقدر ما يخدم أغراضي. أنا اختلقت محبتي لك وأنا من اختلقت موتك. لديَّ ما يكفي من الحيل والفخاخ أيضًا. لا أفهم أفاعيلها في الوقت الحاضر، ولكن يجب أن أتوخى الحذر، لن أنتقدها أو أتحدث عنها بسوء.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤