الجلادون

هيلينا الحقيرة الوضيعة.
أبوها سكران كل ليلة.
ما كان هذا لأبكي بسببه؟ لا أعرف إن كنت قد بكيت حقًّا، فأنا لا أتذكر شيئًا. كنت قد تعودت على منظر أرصفة الشوارع، وعلى شكل الأرض أسفل الأشجار، تلك الأشياء التي لا ملامح لها كنت أراها وأنا ناظرة إلى أسفل. ولا أقصد بذلك أي إساءة. ولقد تعجبت من طريقة بعض كبار السن في عدم التأثر بأي شيء؛ لا بحول عينيَّ، ولا أخي الصغير الأحمق، ولا المنزل المتسخ الذي أعيش فيه بجوار السكك الحديدية. كنت أنا على النقيض تمامًا منهم، فكنت بالغة الحساسية كما قالت روبينا. كنت أتوقع اللوم في كل لحظة:
مع السلامة هيلينا.
مع السلامة هيلينا.
مع السلامة هيلينا.
مع السلامة هيلينا.

اعتاد الأطفال الاحتشاد خلفي وأنا راجعة من ربوة المدرسة. كانت لهم أصوات عذبة وصريحة، يتغنون ببراءة شديدة. ليتني كنت أعرف كيف أتصرف، ليتني كنت أعرف كيف أواجه الموقف. هذا شيء لا يمكن تعليمه. إنها موهبة، تمامًا مثل ملكة عزف الموسيقى.

ملابسي كانت غريبة، وكان هذا من جملة أشياء أخرى؛ فكنت أرتدي سترة كحلية اللون، تشبه ذلك الزي الذي يرتدونه في المدارس الخاصة (التي كان من الممكن أن ترسلني أمي إلى واحدة منها بكل تأكيد فقط لو كان لديها المال اللازم لذلك) وجوارب طويلة بيضاء، شتاءً أو صيفًا، دون أن أعبأ بالوحل الموجود على طريقنا. وفي الشتاء كانت تظهر الطيات المتكتلة من الرداء التحتي الطويل الذي كنت مجبرة على لبسه أسفل ملابسي. وأعلى رأسي شكَّل شعري قبة كبيرة، وكانت أطرافه شديدة الجفاف كالحديد، وتكونت تموجات صغيرة جراء تمشيطه بمشط مبلل بالماء. لم تكن تلك التصفيفة المفضلة لأي شخص آخر. ولكن ماذا عساي أن ألبسه ويبدو لائقًا؟ ذات مرة اشتريت معطفًا شتويًّا جديدًا، اعتقدت أنه جميل جدًّا، كانت له ياقة كبيرة من فرو السنجاب، فأخذ الأطفال يصيحون خلفي: «فراء الفأر، فراء الفأر، سلخت الفأر وارتدت فراءه!» كانوا يصيحون بهذا من خلفي وأنا ماشية. وبعد هذا لم أحب الفراء على الإطلاق، لم أحب ملمسه؛ فقد كان ناعمًا أكثر مما ينبغي، وشخصيًّا، ومهينًا.

تعودت أن أبحث عن أماكن للاختباء. في الأبنية، وفي الأبنية العامة الكبيرة، كنت أبحث عن نوافذ صغيرة عالية، أماكن مظلمة. كان لمبنى البنك التجاري القديم برج وكنت مولعة به. تخيلت نفسي مختبئة هناك، أو في أي حجرة صغيرة وعالية بعيدًا، آمنة في منتصف البلدة، مجهولة ومنسية، إلا من شخص يطل عليَّ في المساء ويحضر لي الطعام.

•••

كان هذا هو حال أبي بالفعل؛ إذ كان بعيدًا عني في معظم الأوقات، يتلقى العلاج، مقيمًا في مصحة لعلاج الإدمان، خارج البلاد. قبل ولادتي كان عضوًا في البرلمان، ولقد عانى من هزيمة ثقيلة في عام ١٩١١، العام الذي خرج فيه لورييه من البرلمان. بعد ذلك بكثير، عندما عرفت بأمر اتفاقية التجارة الحرة مع الولايات المتحدة، اكتشفت أن هذه الهزيمة كانت مجرد جزء من نكبة قومية (لو أنك في الواقع تميل إلى اعتبارها نكبة)، ولكن عندما كنت طفلة لطالما اعتقدت أن أبي جرى نبذه والاستهزاء به شخصيًّا بشكل مخزٍ. كانت أمي تشبِّه ما حدث بصلب المسيح، وقد حاول أبي الخروج إلى الشرفة في فندق كوينز هوتيل، لكي يلقي خطبة، يعترف فيها بهزيمته، ولكنه مُنع من ذلك، وتعرَّض للاستهزاء والسخرية من قبل أعضاء حزب المحافظين، حاملين مقشات تشتعل بها النار. لم يكن عندي أدنى فكرة، فقط سمعت عن هذا، تلك المشاهد كان على السياسيين مواجهتها أحيانًا. أرَّخت أمي سقوطه منذ هذا التاريخ، مع أنها لم تحدِّد الشكل الذي اتخذه هذا السقوط. لم تكن كلمة مدمن كحوليات لتقال في منزلنا، ولا أعتقد أنها كانت تقال كثيرًا في أي مكان آخر حولنا في هذا الوقت. سكِّير هي الكلمة التي كانت تستخدم كثيرًا في هذا الوقت، ولكن هذا ما كان يحدث في البلدة.

لم تعد أمي تذهب لتتسوق مرة أخرى في هذه البلدة، إلا لشراء البقالة فقط، التي تطلبها لها روبينا بالتليفون، ولم تَعُد تتحدث مع الكثير من السيدات، زوجات أعضاء حزب المحافظين الذين يسخرون من أبي.

لن أطأ عتبتها أبدًا.

هذا ما كانت تقوله عن الذهاب إلى كنيسة، أو المحال التجارية، أو بيت إحداهن.

ثم تعقِّب قائلة: «هو أفضل من أن يكون معهم.»

لم يكن لديها أي شخص آخر باستثناء روبينا لتقول له هذه الأشياء، ولكن روبينا كانت كافية على نحو ما. كانت امرأة لديها قائمة بأشخاص لا تتكلم معهم، ومحال تجارية لا تذهب إليها أبدًا.

«كلهم جاهلون في هذه الأنحاء، هم من ينبغي أن يُكنسوا بالمقشات.»

دأبت على استهلال كلامها بالحديث عن بعض الظلم الذي وقع على أخويها جيمي ودوفال، اللذين اتُّهما بالسرقة في حين أنهما كانا فقط يحاولان تجربة مصباح يدوي.

•••

تاركة المباني في البلدة من خلفي، كان لزامًا عليَّ أن أمشي ميلًا كاملًا على أحد الطرق الريفية. كان منزلنا في نهاية هذا الطريق، منزل كبير مبنيٌّ بالقرميد له نوافذ كبيرة بارزة علوية وسفلية. وهذه النوافذ كانت دائمًا تبدو كريهة في نظري، تبرز للخارج مثل عيون الحشرات. فرحت كثيرًا عندما هدموا هذا المنزل بعدها بسنوات، وقاموا ببناء مطار البلدة على أرضنا. على طول الطريق لم يكن هناك سوى منزلين أو ثلاثة منازل أخرى، واحد منها ملك لشخص يدعى ستومب تروي.

كان ستومب تروي يمارس التهريب، وقد فقد ساقيه في حادثة بمصنع رايان. ويُقال إن عائلة رايان ساندته في التهريب بعد هذه الحادثة وأبقته بعد ذلك بعيدًا عن أي مشكلات أو متاعب؛ لكيلا يرفع أي دعوى قضائية ضدهم للمطالبة بالتعويض. وبالتأكيد ازدهرت تجارته غير الشرعية ولم يجرؤ أي شخص على معارضته. كان لديه ابن اسمه هاوارد، وكان يذهب إلى المدرسة وينقطع عنها — كان يتصرف وفقًا لنزواته هكذا — وكان يوضع في أي فصل فيه مكان شاغر له، مع إجلاسه في الخلف وترك مقاعد شاغرة حوله إن أمكن؛ حتى لا تشتكي أي أم من وجوده في هذا الفصل. لم يكن الموظف المسئول عن غياب الطلاب — إن كان له وجود حينها — ليقلق بشأن هذه الحالة. في تلك الأيام كان المتوقع، وربما الضروري، أن يظل الناس كما هم مع عدم محاولة تقويم سلوكهم أو تغييره. أما المدرسون فكانوا يطلقون النكات على هاوارد تروي في حضوره وفي غيابه، ولم تكن تلك مسألة غريبة أو قاسية بالمرة، وفيما عدا ذلك يتركونه في حاله.

وخلال إحدى مرات حضوره إلى المدرسة كان في فصلي، جالسًا خلفي بشكل غير معتدل، وقد أسديت إليه معروفًا، وعرفت بعد ذلك — بل في ذلك الحين — أن ما قمت بفعله شيء خاطئ. كنا ننقل من على السبورة، ولم يكن هاوارد تروي ينقل. كان يجلس هناك بدون قلم أو ورقة، لم يكن يفعل أي شيء على الإطلاق؛ فقد جاء إلى المدرسة بدون أي أدوات مدرسية؛ إذ إن حمل أقلام الرصاص أو الورق أو الممحاوات أو أقلام الشمع يُعتبر عنده ضربًا من ضروب المستحيل. كان ينظر إلى الأمام مباشرة، ربما كان ينظر إلى السبورة محاولًا قراءة أو فهم معنى ما هو مكتوب عليها، أو ربما كان لا ينظر إلى أي شيء على الإطلاق. فيمَ كان يفكر؟ حاولت أن أفكر في هذا. لم أكُن أحب أن أشعر بأنه لا يزال هناك خلفي، يراقب، يتفحص خلال كل الأشياء، ولا يهتم بأي شيء، ذلك الغباء والقبح المطبوعان فيه واللذان يلقيان القبول من جانبه، وأصبح الآخرون يعتقدون اعتقادًا راسخًا فيهما بحيث لم تَعُد هناك أي أهمية الآن لوجودهما بداخله أو عدم وجودهما. لم أكُن أعتقد أنه كان يشبه حالتي، لم يشتطَّ بي التفكير إلى هذا الحد، كنت فقط خائفة منه لدرجة لم تحدث لي من قبل.

عيناه كانتا في نفس لون عيون القطة، وكانتا مستديرتين، دقيقتين، متقاربتين.

فتحت دفتري من المنتصف، حتى أستطيع فصل ورقة منه دون تمزيق أي شيء آخر، ومررتها إليه ومعها قلم رصاص حاد السن. لم يستطِع الوصول إليَّ لأخذهما، فوضعتهما على مكتبه. لم يكلِّف نفسه حتى توجيه الشكر لي أو إلقاء بال، ولكن بعد ذلك رأيته على الأقل يستخدم القلم على الورقة؛ ربما كان للنقل من السبورة أو لرسم صور أو لمجرد الشخبطة، ليس عندي أدنى فكرة عن ذلك.

ذلك كان الخطأ الذي ارتكبته، هذا هو الشيء الذي جذب انتباهه إليَّ، إضافة إلى المصادفة — لم تكن مصادفة، ولكن هذا ما بدا لي! — في كوننا نسكن بنفس الطريق. كان ينبغي أن أتعلم درسًا، لعله اعتقد هذا، بسبب العجرفة أو بسبب تصرفي بتسامح معه، أو ربما كان قد رأى فيَّ ضعفًا غير مألوف فاجأه وأثار اهتمامه.

•••

تراكم الجليد على جانبَي الطريق الذي بدا وكأنه نفق محفور بينهما، وتحت الثلج الحديث كانت هناك طبقات صلبة رمادية اللون من الثلج القديم، وعلى طول الممرات المجروفة كان بول الكلاب. أما ممر عضو حزب المحافظين ستومب تروي فدائمًا ما يتم نزح الجليد منه. لمصلحة من؟ على حد قول روبينا التي كانت تطرح أغلب أسئلتها بصوت ينمُّ عن معرفتها الإجابة مسبقًا. كنت أمشي ومعي سكين في جيبي، سكين تقشير كنت قد سرقتها من مطبخ روبينا، وقمت بخلع قفازي لكي أتحسسها. كان هاوارد تروي يختبئ خلف الجليد، في الدرب الخاص بمنزلهم، مرة أسبوعيًّا، مرتين أسبوعيًّا، لم أعرف قطُّ متى كان يحدث هذا، كان هاوارد ينتظرني، فيخرج من مخبئه لكي يعترض سبيلي في الطريق الضيق:
اللعنة.
لم لا تعبثين معي أيتها اللعينة.

كنت أمر أمامه منكسة الرأس وأنا ألهث من فرط الخوف كما لو كنت أجتاز جدارًا من النيران المشتعلة. كان من المهم ألا أنظر إليه مباشرة، وألا أسرع الخطى أيضًا، وأن أتحسس شفرة السكين التي في جيبي. لم أكُن أعتقد أنه سيجرؤ على تعقبي. إذا لم يَقُم بأي حركة خلال تلك اللحظة، إذن فلن يقوم بأي حركة على الإطلاق. الخطر كله كان يكمن في بشاعة هذه الكلمة.

كل هذا يتجاوز الشرح الآن. كنت أسمع الأطفال الصغار يقولونها بأريحية «اللعنة، ما أهمية ذلك؟» وهم يركبون دراجاتهم، كنت أسمع أيضًا أبًا يصيح في أبنائه: «أبعدوا آلة تجزيز العشب اللعينة بعيدًا عن طريق السيارة!» هذه الكلمة يمكن أن يوجهها أحدهم إليك وتصيبك بالجمود في مكانك. أما الإذلال فكان أكيدًا، وإن كان موجودًا من قبل بالفعل، في سماع هذه الكلمة، وإجبارك على التوقف مكانك، والاضطرار إلى التسليم لها، وما تسببه من عار له أن يشعرك بالاختناق. أعني أنه ليس خلال هذه اللحظة حيث لا شيء يشغل بالك إلا أن تبقى آمنًا وأن تتجاوز الموقف بسلام، ولكن بعد ذلك، حيث يعتريك شعور عارم بالخجل والعار، ويا لها من أسرار مؤرقة لا يمكن نسيانها! الضعف في حد ذاته عار. إننا مخلوقات يجللها الخزي والعار.

لم أكن لأخبر أحدًا عن هذا، ولم ألتمس من أحدٍ المساعدة قطُّ. كان بإمكاني أن أتحمل أي أخطار، أتحمل أي نوع من العنف، أو إهانة شديدة، بدلًا من ترديد ما قيل لي، أو الاعتراف به. ولقد رأيت في هذا الموقف أنني لا أستطيع التماس أي مساعدة، أو أي قوة تساندني. ولقد فكرت بالطبع أن هذا كل ما قد يُقال لي، وأن هاوارد تروي سيعرف ما يمكنه تهديدي به، وأن هذه كانت مجرد إشارة. ولذلك كان يجب أن أخفي الأمر وأخرجه من ذهني تمامًا، سريعًا، سريعًا، وكأنه لم يحدث لي قط، ولكني لم أستطِع عمل كل هذا في نفس الوقت، فهو عالق في ذاكرتي بشكل لا أستطيع طرده منها دفعة واحدة، كانت كأنها ذكريات مكبوتة ثم تدفقت كلها في مكان آخر في عقلي.

•••

اعتادت روبينا أن تصحبني إلى المنزل معها. كنا نسير عبر الغابة، خلف المكان حيث المطار حاليًّا، على بعد ميل أو ربما ميل ونصف من المزرعة الصغيرة التي كانت توجد بها أكوام من الحجارة في منتصف الحقول. كنا نذهب إلى هناك في الشتاء، وقد أرتني روبينا أيضًا ما أطلقت عليه طريق الذئاب. كانت تعرف حادثةً تعرَّض لها طفل صغير كان موضوعًا في مزلجة الجليد يجرها كلب، وعندما سمع الكلب الذئاب تعوي في الغابة، أسرع بكل قوته لكي ينضم إليها، وكان الطفل لا يزال معلقًا به في المزلجة. وعندما ذهب الكلب إلى المكان الذي كانت فيه الذئاب، تحول هو أيضًا إلى ذئب، وتجمعوا كلهم فأخرجوا الطفل من المزلجة ونهشوه نهشًا.

عندما كنا نمشي في الغابة كانت روبينا تزيد من سلطتها عليَّ، أو تكتسب نوعًا آخر من السلطة مختلفًا عما تتمتع به في مطبخ أمي، حيث كان كل ما تحمله هناك هو لقب الخادمة غير الملائم الذي يعطي عنها انطباعًا مضللًا تمامًا. جسدها الطويل المسطح كان يبدو متراخيًا، يتمايل مثل باب يتأرجح على مفصلاته، محكوم، ولكنه خطير جدًّا إذا اعترضت طريقه. أظن أنها كانت في العشرين من عمرها في ذلك الحين، ولكنها كانت تبدو بالنسبة لي أكبر سنًّا كما لو كانت في عمر أمي، كانت تبدو كبيرة كمدرسات المدرسة القويات الكبيرات في السن، والسيدات العجائز المسئولات عن المتاجر. كان شعرها مقصوصًا قصيرًا، داكن اللون، مسحوبًا بإحكام حول جبهتها وممسوكًا بدبابيس الشعر. كانت رائحتها كرائحة المطبخ، وملابسها معبقة برائحة العرق الجاف. كان هناك شيء قاتم مكفهر فيها؛ في بشرتها وشعرها وملابسها ورائحتها. ولكن لا شيء من هذا كله يمكن الاعتراض عليه. من ذا الذي يستطيع الاعتراض على روبينا؟ من ذا الذي بمقدوره أن يكون بهذا التهور؟

كان علينا أن نعبر جسرًا لم يكن مكونًا إلا من ثلاثة جذوع خشبية، موضوعة بغير انتظام. أخذت روبينا تلوِّح بذراعيها لحفظ التوازن، وكُم قميصها نصف المطوي يتخبط كجناح طائر مصاب فوق الماء.

كانت حكايتها الأكثر أهمية هي كيف اعتادت أن تتبع خطى أمها، التي كانت تعمل خادمة في منازل سيدات البلدة منذ سنوات مضت. في أحد المنازل كانت هناك غسالة وعصارة كهربائية، كانت اختراعًا جديدًا في ذلك الحين. كانت روبينا، التي كانت في الخامسة من عمرها في ذلك الوقت، تقف فوق كرسي لتضع الملابس في العصارة (ومن ذلك أيضًا فهمت أنه لم يكن بمقدورها أن تترك أي شيء على حالته، كان يجب أن تظهر نفسها أنها القائدة في أي عملية تجرى). بيد أن العصارة أمسكت بيدها، ثم بذراعها، وبُترت ذراعها من المنطقة بين المعصم والكوع. لم تُظهر هذا الجزء قط، وكانت دائمًا تلبس فستانًا أو قميصًا بأكمام طويلة، ولكن يخيَّل إليَّ أن هذا لم يكن نوعًا من الإحساس بالخجل، كان شيئًا تفعله لزيادة الغموض والأهمية حولها. أحيانًا في الطريق كان الأطفال الصغار يلاحقونها، قائلين: «روبينا، روبينا، أرينا ذراعك!» كانت طلباتهم تلك نابعة من رغبة حقيقية في الاكتشاف، وبمنتهى الاحترام، بيد أنها تتركهم يستمرون في التوسل إليها قبل أن تقوم بإبعادهم مثل الدجاج. كانت هي القائدة لكل هؤلاء الذين ذكرتهم. من ذا الذي يمكنه أن يحول الإعاقة إلى شيء محل حسد، والسخرية إلى إعجاب؟! أما أنا فلم أفكِّر في هذه الذراع المبتورة إلا كشيء قامت هي باختياره، كدليل على العناد والقوة.

لكم تُقت إلى رؤيتها، كنت أعتقد أنها قد قُطعت كلية، مثل قطعة خشب، كاشفةً العظم والعضلات والأوعية الدموية والأنسجة والغضاريف بوضوح. كنت أعرف أن فرصتي لرؤية هذه الذراع مثل فرصتي في النظر إلى الجانب المعتم من القمر.

بقية القصص كانت معنية بأفراد أسرتها.

«عندما كان دوفال صغيرًا كان يعتلي سطح المنزل طوال اليوم، حيث يساعدهم في كساء السطح بالأخشاب. كان من المفترض ألا يكون هناك؛ لأن بشرته كانت فاتحة وحساسة، أفتح بشرة في عائلتنا. كل عائلتي شقراء، إلا أنا وفيندلي، أكبر وأصغر أبناء الأسرة. لم يفكِّر أحدٌ في تأثير حرارة الشمس على دوفال أو أن يضع قبعة فوق رأسه. أنا الوحيدة التي كنت سأفكر في هذا، ولكني لم أكُن موجودة في المنزل. ولكن حتى لو قمت بوضع قبعة فوق رأسه كان هو سيقوم بخلعها، ربما لأنه يعتقد أنه أذكى من أن يلبس قبعة إذا كان الرجال الآخرون لا يلبسون قبعات. وبعد العشاء استلقى على الأريكة كالنائم، وبعد قليل فتح عينيه وقال بصوتٍ عالٍ جدًّا: «انزعي هذا الريش عن وجهي.» حسنًا، لم نرَ أي ريش، ومن ثم تعجبنا جميعًا، بعد ذلك جلس مكانه وأخذ يدقق النظر باتجاهنا، لم يستطِع التعرف علينا، قائلًا: «جدتي، أحضري لي كوبًا من الماء. أرجوكِ يا جدتي، أحضري لي كوبًا من الماء.» لم تكن جدتي هنا على الإطلاق، كانت متوفاة، ولكن لو سمعه أحدهم وهو يقولها لحسب أنها تجلس بجواره تمامًا ولم يكن معه بالغرفة أي أحدٍ منا على الإطلاق أو في أي مكان يستطيع رؤيته.»

فسألتها متأثرة: «هل أصيب بضربة شمس؟»

أجابتني: «بل شاهد رؤيا من السماء.»

كان صوتها نافيًا وصارمًا.

بالنسبة لأي من أفراد أسرتها، بدءًا من دوفال مرورًا بجيمي الذي أتى إلى الدنيا بعدها مباشرة نزولًا إلى فيندلي ذي الخمس سنوات، عندما كانت روبينا تتحدث عنهم فإنها كانت تتحدث دائمًا بجدية واحترام خاصين، لكي تعرفك أنه لا يمكنك الاستخفاف بأي شيء مما حدث لهم، سواء أكان مرضًا أو خلافًا أو مغامرة يومية أو قولًا اعتادوا قوله أو شيئًا دأبوا عليه. كانت تبرز أهميتها من خلالهم، أو تبرز أهميتهم من خلالها هي. لقد فهمتُ أني لم أكُن لأحظى بأهمية كبيرة بالمقارنة بهم، ومع ذلك كنت أنا الطفلة في المنزل الذي كانت روبينا تعمل به، وهذا كان يعني شيئًا واحدًا: لم أكُن أغار منهم قط.

بينما كنا نمشي عبر الغابة كنا نسمع أصوات تساقط ثمار الجوز والصنوبر من الأشجار، على مسافة منا، وكانت روبينا تقول عن هذا: «ربما كان هذا دوفال أو جيمي أو الاثنين معًا يهزان شجرة.» وكنت إلى حدٍّ ما متحمسة للتفكير في أننا داخل نطاق وجودهما، في المنطقة التي تقع بها جولاتهما ومغامراتهما. كنت أنظر إلى الأمام كما كانت تفعل روبينا إلى منظر المنزل المتداعي غير المطلي جزئيًّا، وغير المظلل بأشجار قريبة منه، المطل على الحقول العشبية، أما في الشتاء فيطل على الجليد، كان بعيدًا عن الغابة، مثل قارب بائس في مستنقع. كان الأطفال يهرعون خروجًا منه إذا رأونا قادمتين، فيما عدا فيندلي أبيض الشعر، الذي كان يمشي حافي القدمين إلى أن تتجمد الأرض بشدة في الشتاء. كانوا يصيحون بأصوات عالية ويتباهون ويتدلون من ذراع مضخة الماء، وقد يتعمدون إثارة عواصف من التراب وريش الدجاج في الساحة.

لم يذهبوا إلى المدرسة في البلدة. كانت مدرستهم على بعد ميل أو اثنين عبر الغابة، في اتجاه مختلف، ووفقًا لما كانت تقوله روبينا فهم يشكلون الجزء الرئيسي من تعداد المدرسة. كنت أستطيع تخيل أنهم قد جعلوا المدرسة امتدادًا آخر للمنزل بشكل أو بآخر، مشبكين أيديهم تحت المضخة لكي يحصلوا على شربة ماء، ثم الجلوس فوق السطح لكي يستمتعوا بالمنظر من أعلى.

هذا كان يعني أنني جئت إليهم بإرادتي الحرة، بوصفي شخصًا غريبًا وجديدًا عليهم. معهم لم أكُن نفس الشخص الذي كنت عليه من قبل. كنت ألبس معطفي الجديد، وسألوني إن كان بإمكانهم لمس الفرو، فاختلت أمامهم لدى سماعي ذلك. كان هذا كالسحر، كالشعور بالثمالة. ألقيت عليهم الألغاز، وعلمتهم قواعد الألعاب المختلفة، التي عرفتها من المشاهدة: القرصان المتجول الأحمر، خذوا خطوة كبيرة، التماثيل. كانت لديهم الجرأة والمشاكسة، ولكن كانوا لا يزالون خائفين من البلدة، كانوا رثِّي الثياب، ولكن لم يوغِر الحسد قلوبهم، اتخذوا مني قائدًا لهم، وقبلت هذا. كان هذا يبدو طبيعيًّا. لعبة الاستغماية، لعبة خالتي خالتي فوق العشة. كان معهم دائمًا حبل وإطار للتأرجح. وكان بمقدورهم تسلق أي مكان، وكذلك كنت أنا أفعل عندما أكون معهم. وضعنا لوحًا خشبيًّا على فوهة بئر مفتوحة، ومشينا فوقها. كنت سعيدة أيما سعادة، أو هكذا أعتقد الآن. المشكلة الوحيدة التي واجهتها كانت مع الطعام. كانت روبينا في مطبخ أمي تقدم لنا أنواعًا متعددة من حلوى الكاسترد والمعجنات التي لا مثيل لها، والبطاطس المهروسة بديعة القوام، ومختلِف الأطعمة التي تذوب في الفم، لكن هنا اقتصر الأمر على قطعة من الخبز بداخلها قطعة من اللحم المقدد المدهنة، باردة قليلة التسوية، يلتهمها الأطفال بسرعة بمضغها ثم ابتلاعها ثم يطلبون المزيد؛ كانوا دائمًا جوعى. كان من الممكن أن أعطي أي واحد منهم قطعتي، ولكن القواعد المتبعة كانت تقتضي منهم أن يرفضوا ذلك.

كان جيمي ودوفال ضخمَي الجسم، كما لو كانا رجلين كبيرين ولكنهما ما زالا متصابيَيْن، لا يمكن التكهن بتصرفاتهما؛ فلربما طاردانا ثم أمسكانا ثم أرجحانا عاليًا بين أذرعهما حتى نطير عاليًا. في بعض الأحيان لا يقولان أي كلمة، وتبدو عليهما الصرامة طوال الوقت؛ وفي أحيان أخرى كانا يأتيان إليَّ ويقف كلٌّ منهما على أحد جانبيَّ ويتساءلان: «أليست هذه هي الفتاة التي لا يمكن دغدغتها؟»

«لا أعرف. لا أتذكر إن كانت هي.»

«أعتقد أنها هي، أعتقد أنها هي الفتاة.»

ثم يومئان إيماءة كبيرة في اتفاق، ثم يتحركان نحوي، كلٌّ من جهة كما لو كانا سيُطبِقان عليَّ؛ مما يجعلني أنفجر بالصراخ من شدة متعتي الممزوجة بالذعر. لم أكُن أصرخ فقط من قيامهما بدغدغتي، أو من تهديدي بالدغدغة، بل كانت فرحتي تنبع من الاعتراف بوجودي، هذا التهديد كان يبدو لي نوعًا من الاعتراف بوجودي وإعطائي فرصة أخرى؛ لم أكُن خائفة قطُّ من دوفال وجيمي على الرغم من ضخامة جسميهما، لم أكُن أمانع عندما تفهمت من خلال رزانتهما أن ما يفعلانه كان من أجل التضاحك عليَّ. كنت أرى أنهما قويان، خيِّران، وغامضان أيضًا، تمامًا مثل المهرجين في السيرك. كانا في الواقع يستطيعان القيام بخدع كما يفعل المهرجون في السيرك. فكانا أحيانًا يؤديان عروضًا في صمت، بشكل عجيب، بالساحة المتربة، حيث يقومان بالتدحرج كالعجلات، ويقلدان وثبات الضفادع. قالت روبينا إنهما ماهران بما فيه الكفاية ليعملا بالسيرك، ولكنهما ما كانا ليتركا المنزل للعمل هناك، كانا يحبان المنزل جدًّا. لم يذهبا إلى المدرسة أيضًا. لم يعودا إلى هناك منذ اليوم الذي أقدمت فيه المدرِّسة على ضرب جيمي لقيامه برمي ممسحة الطباشير خارج النافذة، فما كان من جيمي ودوفال — على حد قول روبينا — إلا أن اعتديا بالضرب على تلك المدرِّسة. كان هذا منذ سنين مضت.

قال الاثنان: «حبيبة من هذه الفتاة؟» إنها لي. إنها لي. ثم مثَّلَا أنهما يتشاجران من أجلي، وأخذني كلٌّ منهما بين ذراعيه القويتين. لكم أحببت رائحتهما، التي علقت بهما من الحظائر والمحركات وتبغ فاين كات من باكنجهام.

كان لديهما أعداء لا يمكن التخلص منهم بسهولة مثل تلك المدرسة، فهناك أصحاب المحال الذين وجهوا لهما اتهامات بالسرقة، وهناك ستومب تروي الذي كان معروفًا لديَّ كعدو لجيمي ودوفال — وبكل تأكيد، عدو لروبينا أيضًا — منذ وقت طويل قبل أن يصبح ابنه هاوارد عدوًّا لي أيضًا. ولكني لم أكُن أعير هذا الموضوع أي اهتمام حتى ذلك الحين.

قالت روبينا إن ستومب تروي أبلغ الشرطة عن جيمي ودوفال متهمًا إياهما بسرقة البنزين من إحدى السيارات التي كانت مركونة أمام منزله مساء أحد أيام السبت. كانا قد سرقا البنزين فعلًا — إلا أنهما سرقاه من السيارة القديمة المعطلة التي تُترك دائمًا مفتوحة في الممر الجانبي — لكنهما سرقاه من سيارة رجل لم يعطِهما قطُّ أجرًا عن أي عمل قاما به من أجله، وكانت تلك هي طريقتهما الوحيدة في الانتقام منه. وحتى قبل هذا الوقت كان ستومب تروي ينشر الأكاذيب عنهما، على حد قول روبينا، وكان هو الشخص الذي دفع أموالًا لعصابة بأكملها قدمت من دنجانون لكي ينتظروا جيمي ودوفال ويضربوهما ضربًا مبرحًا — فحتى جيمي ودوفال لا يستطيع الواحد منهما أن يضرب أكثر من ثلاثة رجال منفردًا — وذلك خارج قاعة بارامونت دانس هول للرقص.

أعتقد الآن أنهما ربما كانا خصميه، أو شريكيه، قبل أن تدب بينهم خلافات، في عمله بالتهريب. كانت أمي من المعادين لشرب الخمور، وكان هذا طبيعيًّا في مثل حالتها، وكانت روبينا في مطبخ أمي على ما يبدو تشاركها وجهة نظرها. قالت إن عائلتها جميعها على العهد الذي أخذته عليهم جدتهم بعدم الاقتراب من الخمر. قد تكون هذه مجرد مبالغة منها. مهما كانت الحقيقة، فقد أوقع ستومب تروي كلًّا من جيمي ودوفال في الكثير من المتاعب، وكانت لديه الوسائل التي يستطيع بها إيقاعهما في المزيد من المتاعب، وكانا يكرهانه كثيرًا.

«أوه، إنهما يكرهانه جدًّا! إذا كانا بالخارج في ليلة مظلمة ووجدا ذاك العجوز على الطريق، فسيجعلانه يندم أشد الندم على معرفتهما في يوم من الأيام!»

«وأنى له الخروج إلى الطريق؟»

«من حسن حظه أنه لا يستطيع هذا.»

قالت روبينا متنهدة: «جيمي ودوفال! طيبان بالفطرة. إنهما ليسا من الشباب السيئ، ولكنهما لا يستطيعان النسيان عندما يدبر أي شخص مكائد سيئة ضدهما. وإذا أقدم أحدهم على فعلها، فلن يتهاونا معه أبدًا.»

•••

مختلف أنواع العقاب. تخيلت نفسي أمشي فوق عيون هاوارد تروي، وأضع المسامير فيهما، كانت المسامير أسفل نعل حذائي وأنا أمشي فوقه، وكانت هذه المسامير طويلة وحادة، وكانت مقلتا عينيه تجحظان للخارج، بدون أي وقاية لهما، كانتا كبيرتين جدًّا كطبقين مقلوبين، وكنت أمشي فوقهما، أثقبهما، أدهسهما، أدميهما، وأنا أتقدم بخطى ثابتة فوقهما. لم يكن هناك أي شيء جميل أو جيد مما تخيلته بشأنه، فلم أقُل له أي كلمات لائقة في تخيلاتي بل أقوم بتمزيقه إربًا في لحظة واحدة. كنت أحب أن أنزع رأسه من فوق كتفيه، مليئة باللحم وتقطر دمًا كالبطيخة، وأن أقطِّع أوصال جسمه، وأن أستعمل كل أنواع الأسلحة معه؛ الفئوس والمناشير والسكاكين والمطارق. لو كان بمقدوري مباغتته بهذه السكين، ليس لعمل شق صغير بجسده، بل فتحة كبيرة مثل التي يقومون بعملها في شجرة القيقب لاستخراج الشراب منها، كنت سأطعنه طعنة نافذة تُخرج منه كل أنواع الصديد والمواد السامة التي ستتدفق وتسيل منه، ثم يتسرب كل شيء بعيدًا.

•••

سرت النيران في منزل ستومب تروي كسريان النار في الهشيم. مع مرور كل دقيقة بدا كما لو أنه سينفجر، لكن ما زالت جدران المنزل وسقفه متماسكة. أتت النار على جدران المنزل فجعلتها هشة مثل عيدان الحطب.

كان الناس يتصايحون: «سوف تتحول النار إلى السقف بعد ذلك! من حسن الحظ أن الرياح لم تهبَّ اليوم!»

لم أستطِع فهم لماذا كان هذا المنزل محظوظًا، وكيف يمكن أن يكون هناك أي حظ في ذلك، المنزل الذي لم أجرؤ أو أرغب يومًا في رؤيته تحول إلى حطام بكل بساطة كما لو كان منزلًا في رسم على ورقة؛ ببابه الموجود في المنتصف ونافذتيه الصغيرتين على كلا الجانبين والرَّوْشَن الموجود فوق الباب. كلتا نافذتي الطابق السفلي تحطمتا تمامًا، ليس بفعل النيران ولكن حطمهما هاوارد تروي وهو يحاول دخول المنزل، ولكن الرجال سحبوه إلى الخارج مرة ثانية. وها هو الآن يجلس على الأرض في مواجهة المنزل المحترق. كان منهكًا بشدة، وعلى ما يبدو خارت قواه، كما كانت الحال وهو في المدرسة.

جاءت عربة الإطفاء التابعة للبلدية، ولكن في الوقت الذي جاءوا فيه لم يكن لدى رجال الإطفاء أي شيء ليفعلوه إلا أن يكونوا شاكرين لعدم هبوب الرياح. سحبوا سلالم الإطفاء ولكنهم لم يضعوها في أي مكان. كانوا قد استطاعوا بعد فترة من الوقت أن يحصلوا على بعض الماء من آخر صنبور إطفاء — وهذا كان بالطبع إلى خارج حدود البلدة — وقاموا برش بعض الأجنحة الملحقة بالمنزل التي كانت متهاوية بفعل النيران والسياج المحيط بالمنزل والحمام. كذلك سلطوا المياه على ألسنة اللهب المتصاعدة، ولكن كل هذا بدا مجرد سخف بلا طائل. وفجأة صاحت روبينا، التي كانت على درجة كبيرة من الإثارة: «ربما الأفضل أن تقفوا بعيدًا وتبصقوا عليه!» كانت تنتفض وتصيح بصوت حاد، كانت هي نفسها أشبه بجمرة مشتعلة. كانت واقفة عند بوابة المنزل، حيث كانت شجرة زيتونية مهملة قد نبتت بها براعم الأزهار، براعم ناشئة، مع بدء ذوبان الجليد. كانت روبينا تبقيني بجوارها، أما أمي، التي جاءت بنا بالسيارة، فمكثت في السيارة بعيدًا قليلًا على الطريق. على الأرجح كانت تتفرج على ما يحدث، لكنها لم تعبأ بالاختلاط مع الناس.

كنت أنا أول من رأى النيران من نافذة غرفتي بالدور العلوي، رأيت شيئًا جميلًا، توهجًا في أحد أركان المشهد الليلى الطبيعي، توهجًا مختلفًا عن إنارة أضواء البلدة، دافئًا وآخذًا في الانتشار. كان المنزل المحترق هو ما يطلق هذا الضوء، من خلال فتحاته ونوافذه.

المشكلة التي عانت منها روبينا، في اعتقادي، تمثلت في أنها لم تستطِع فعل أي شيء بالنسبة لهذه النيران، لم تستطِع أن تقود رجال الإطفاء. لقد حاولت هذا، ولكنهم بكل أسف استمروا في فعل ما كانوا يفعلونه، لم يكن أيٌّ منهم في عجلة. ولكن كان بإمكانها تصحيح المعلومات التي كان يتبادلها الناس حول المنزل.

هتف أحد القادمين متأخرًا لمشاهدة النيران، قائلًا: «لحسن الحظ لم يكن هناك أحدٌ بداخله.»

لكن روبينا ردت بصرامة: «ألا تعرف منزل من هذا؟»

على ما يبدو كان هناك أناس لا يعرفون هذا.

«ألا تعرف من يسكن هذا المنزل؟ إنه ستومب تروي.»

ولكن يبدو أنه لم يستوعب الأمر، لذلك أكملت شرحها، قائلة:

«ستومب تروي مقطوع الأرجل! أظنه لن يستطيع الإسراع بالخروج منه، أليس كذلك؟ إنه لا يزال هناك.»

قال الرجل بخشوع: «يا إلهي! يا إلهي! سوف يتفحم هناك!»

في هذه اللحظة أحدثت النيران دويًّا مفاجئًا، كان أشبه بصوت احتكاك قوي، كألواح خشبية، أو آلة لتجزيز الحشائش تُجر فوق أرضية خرسانية. لم أكن أتصور قط أن تُصدر النيران صوتًا كهذا، صوتًا غليظًا مختلطًا، الصوت الذي يطلق عليه الناس جَلَبة. داخل هذه الجلبة كان ستومب تروي يصرخ بشدة؛ ترى هل كان يصرخ طالبًا النجدة؟ لو فعل، فإن صوت النيران العالي كان سيغطي على صوته، ولن يستطيع أحدٌ هنا سماعه.

لم يكن منتصف الليل قد حل بعد، لذلك فإن معظم الناس لم يكونوا قد ذهبوا لكي يناموا بعد، أو نهضوا من سباتهم. الطريق كان ممتلئًا بالسيارات الآن. الكثير من الناس كانوا جالسين فقط في السيارات، يشاهدون، ولكن خرج عدد كبير من سياراتهم أيضًا، يتجولون خلف رجال الإطفاء أو واقفين خلف سياج المنزل، وكانت النيران منعكسة على وجوههم. حتى إن الأطفال لم يكونوا يجرون حولنا، حيث استحوذت النيران على اهتمامهم. رأيت إخوة وأخوات روبينا الصغار، بعضهم على الأقل. لا بد أنهم قد شاهدوا النيران من منزلهم — في هذا الوقت لا بد أن وهج النيران كان ظاهرًا في السماء — وساروا كل هذا الطريق إلى هناك، خلال الغابة في ظلام الليل. رأتهم روبينا أيضًا ونادت عليهم في الحال.

«فلورَنس! كارتر! فيندلي! ابتعدوا جميعًا بعيدًا عن هذا الحريق!»

كانوا بعيدين في الخلف على أي حال، ولم يكونوا قريبين من الحريق كما كنا نحن.

لم تسأل أين جيمي ودوفال، اللذان لم يكونا قط ليفوتا فرصة مشاهدة مشهد كهذا. طرحت أنا بدلًا منها هذا السؤال.

«فلورَنس! أين جيمي ودوفال؟»

وفجأة ارتفعت ذراع روبينا السليمة لتهوي بها على وجهي في لطمة طالت فمي، أشد ضربة أحسست بها على الإطلاق، أو يمكن أن أشعر بها. كانت هذه الضربة مفاجئة جدًّا لي، لدرجة أني تصورت أنها ذات صلة بهذه النيران (لأن الناس كلهم كانوا يقولون: «احترسوا، سوف ينفجر المنزل عن آخره، الجدران سوف تتطاير!») أو أن ذراع روبينا ارتفعت لمنع شيء آخر من الاصطدام بي. وفي نفس اللحظة، انهار السقف أخيرًا، وجرى الناس مبتعدين. ارتفعت ألسنة اللهب إلى عنان السماء، وانطلقت أيضًا — وتقريبًا في نفس الوقت — صيحة من الجانب الآخر من فناء المنزل، مع أنني لم أستطِع فهم سبب هذه الصيحة إلا فيما بعد، حتى إنني كنت قد اعتقدت، وأنا في حالة الارتباك، أن هذا الصوت له علاقة بضربة روبينا لي. في الحقيقة، كانت هذه الصيحة لهاوارد تروي، الذي اندفع من المكان الذي كان جالسًا به مباشرة إلى مدخل الباب المتداعي المشتعلة به النيران، وكان الأوان قد فات لينقذه أحدهم، إن كان هناك من سيفعل ذلك، وقد فات الأوان أيضًا لينقذ نفسه.

بعد ذلك ظهرت الكثير من التفسيرات لما حدث؛ أحدها أنه كان يقصد أن يجري في الاتجاه الآخر، بعيدًا عن النيران، ولكن بسبب جنونه المؤقت جرى مباشرة إلى داخل النيران. ثمة تفسير آخر يقول إنه سمع أباه يصرخ مناديًا عليه وكان لا يزال يعتقد أن بمقدوره إخراجه من المنزل، أو لعله اعتقد أنه سمعه يصرخ مناديًا عليه؛ فحينئذٍ لم يكن ستومب تروي بحالة تسمح له بالنداء على أحدٍ. من شأن ذلك التفسير أن يجعل من هاوارد تروي بطلًا، ولم يكن هذا مقبولًا من أي أحدٍ، مع أن بعض الناس المستغربين مما حدث تعلقوا بهذا التفسير، وكانت أمي من بين هؤلاء الناس.

هناك تفسير آخر يشير إلى أن هاوارد تروي هو من قام بإشعال النيران بنفسه، ربما حدث هذا بعد مشاجرة مع أبيه، ربما ليس بسبب معين، ولكن فقط لإظهار ما يمكنه فعله، كان منتظرًا كل هذا الوقت ومستعدًّا لفعل هذه الفعلة، فيما كان الناس محقين في ارتيابهم فيه. كان هناك تأييد كبير لهذا التفسير، بسبب العثور على صفيحة بنزين فارغة هناك. كان بعض الذين اعتقدوا أن النيران بفعل فاعل يرون أن ستومب تروي هو من قام بإشعال الحريق بنفسه، أو أوعز لأحدهم بهذا، خدعة منه لكي يحصل على التأمين. وكان من المفروض أن يكون خارج المنزل أو لعله اعتمد على هاوارد لكي يقوم بإخراجه في الوقت المناسب، ولكن هاوارد خذله بسبب جبنه أو توقيته السيئ. وبدافع الندم، أو لخوفه من مواجهة السلطات، أقدم هاوارد على اقتحام النار مباشرة.

ومع ذلك، في ذلك الحين، لم تكن هناك أي تفسيرات قاطعة. كان كل ما يستطيع هؤلاء الناس فعله هو الإسراع وإخبار الآخرين، الذين ربما لم يشاهدوا الحريق. لم أكن متفاجئة من هذا؛ فالنيران وحدها، واللطمة التي هوت على وجهي، منعت عني الإحساس بأي مفاجآت أخرى. ضغطتُ يدي على فمي بشدة، وتعجبت من أن أسناني لم تنخلع جراء الضربة، فلم تَسِل الدماء إلا من قَطْعٍ صغير بشفتي، بفعل احتكاكها بحافة سِنِّي.

بدا أن روبينا قد ملت فجأة من مشاهدة النيران؛ فسحبتني معها إلى خارج بوابة المنزل ثم على الطريق. لم نستطِع أن نرى سيارة أمي؛ فقالت روبينا:

«لقد سبقتنا إلى المنزل، ولا ألومها على ذلك؛ فهؤلاء الحمقى من الممكن أن يقفوا هناك طوال الليل إن أرادوا. أنا أعرف ما الذي يريدونه من انتظارهم هناك؛ إنهم ينتظرون لكي يروا استخراج الجثة.» ثم تداركت مصححة: «أقصد الجثتين.»

لم أردَّ عليها، أو حتى أُلقِ نظرة واحدة على النيران من خلفي. مشيت إلى الأمام مباشرة، فإذا بروبينا تجذبني لكي تحول دون وقوعي في قناة. عندما جذبتني جفلت فزعة؛ فبادرتني روبينا، قائلة:

«أنت تمشين كمن يمشي وهو نائم، ولم أجذبك إلا لكيلا تقعي في تلك الحفرة.»

عندما تجاوزنا المكان الذي تحتشد به السيارات، كان هناك مكان أوسع للمشي به، فتقدمت روبينا للمشي بجواري. وقد راودني إحساس بأنها تمشي في كل مكان حولي، فأحيانًا تكون في الأمام، وأحيانًا في الخلف، أو عن يميني أو يساري. كانت تسد عليَّ المنافذ من كل الاتجاهات، ثم تدقق النظر فيَّ حتى تعثر على ما تبحث عنه، ثم تعيد ترتيبه من جديد. في ذلك الوقت قالت لي: «إذا سمحتِ لشيء سيئ كهذا أن يزعجك، فسوف تحدث لكِ الكثير من المشكلات في هذا العالم.»

لم أكن أحاول مطلقًا معاقبة روبينا أو إثارة قلقها، غير أنني اعتزمت الرد عليها، حتى إنني اعتقدت في بعض الأحيان أنني قد رددت عليها فعلًا، تمامًا مثلما يحدث عند بدء الدخول في النوم حيث تقول لنفسك باستمرار إنك يجب أن تفعل كذا وكذا، أو أن تغلق النافذة أو أن تطفئ النور، وهكذا تقنع نفسك وأنت تغُطُّ في النوم أنك قد فعلت ما تريد بالفعل، وبعد استيقاظك لا تستطيع التأكد يقينًا مما حدث، أو مما قيل، أو مما حلمت به. لم أعرف قطُّ بعد ذلك ما إذا كانت روبينا قد تحدثت معي في الواقع من حين إلى آخر كما كان يفترض أن تفعل، على نحو لم تعهده بصوت هادئ ومهتم، لتحذرني أو تعدني بشيء ما، لتخيفني أو تطمئنني.

أو إن كانت قد قالت لي في أي مرة على الإطلاق: «اسمعي. سوف أريكِ ذراعي المصابة.»

لو قالت هذا، لَمَا كنت أجيب على الإطلاق أيضًا.

•••

عندما كنت في المدرسة الثانوية، أو كنت أعود إلى المنزل من الجامعة في الإجازات الأسبوعية، كنت أحيانًا أرى روبينا تمشي على الطريق الرئيسي، بأكمامها التي تخفق في الهواء، وبذراعها السليمة الوحيدة، بخطواتها الواسعة التي كانت تبدو دائمًا وكأنها تأخذها إلى المنحدر. لم تَعُد تعمل لدينا منذ وقت طويل، وذلك عندما عاد أبي إلى المنزل بشكل نهائي، وكانت معه ممرضة أرادت أن تطهو لنفسها، لم يكن هناك مكان لروبينا، ولا مال متبقٍّ لكي ندفعه لها أيضًا. عندما رأيتها حضرتني ذكريات طفولتي، التي كانت تبدو حينها وقد مر عليها زمن بعيد، والتي كانت حافلة بذكريات مفزعة ومخزية. نظرًا للتغييرات التي طرأت عليَّ؛ فقد تغيرت الأشياء كثيرًا من حولي، كنت أعتقد أنه بقليل من حسن الحظ والتصرف يمكنني أن أتغير لأكون مثل أي شخص آخر. وهذا في الواقع ما فعلته.

نظرت إليَّ روبينا باستغراب، نظرة سخيفة، نظرة ليست بريئة أبدًا؛ بيد أنني كنت سأتحدث إليها، كنت مستعدة للقيام بهذا، ولكنها أشاحت بوجهها إلى الاتجاه الآخر ولم تحدِّثني قطُّ، لتريني بهذا التصرف أنني قد أصبحت واحدة من هؤلاء الذين أساءوا إليها.

•••

لعل روبينا ماتت الآن، وربما توفي أيضًا كلٌّ من جيمي ودوفال، مع أن هذا صعب التخيل. أنا الآن على بعد بضع سنوات من التقاعد. أنا الآن أرملة، موظفة في الحكومة، أعيش في الطابق الثامن عشر ببناية سكنية. لا أجد غضاضة في أن أعيش وحيدة. في المساء أقرأ، وأشاهد التليفزيون. لا، هذا ليس صحيحًا دائمًا. أحيانًا أجلس في الظلام، وأشرب الويسكي والماء، أفكر دون جدوى وبلا حول أو قوة — ولكن في راحة — في أشياء مثل تلك التي نسيتها، أو لم أكُن لأتحمل التفكير فيها منذ زمن طويل.

عندما يموت الجميع من ذا الذي يستطيع تذكر هذه الأشياء، ثم سينسى الجميع أمر حادثة احتراق المنزل، وكأن شيئًا لم يحدث.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤